أولا: بداية الأزمة وخلفياتها
بدأت الأحداث الليبية في 17 فبراير 2011، وهي الأحداث التي عُرفت بما سمي بالربيع العربي والتي تطورت بسرعة إلى تصعيد عسكري ومواجهات مسلحة بين فصائل مختلفة، وكانت هذه الأحداث تتميز عن غيرها من الأحداث التي سبقتها في كل من جارتي ليبيا تونس ومصر، وذلك لاختلاف الطبيعة المؤسسية والبنيوية للدولة الليبية، فلم تكن في ليبيا مؤسسات بالمعنى المعروف حتى أن المؤسسة العسكرية لم تعرفها ليبيا بالشكل المتعارف عليه في الدول، ناهيك عن عدم وجود تنظيمات سياسية ولا حتى منظمات مجتمع مدني، يضاف إلى ذلك عدم وجود تكتلات إثنية أو عرقية أو دينية، وهي التكتلات التي يمكن أن تمد من أجل الصراع أثناء الأحداث- (لكن في مرحلة ما بعد الأحداث تم بناء مؤسسات على أسس جغرافية وسياسية) وهو ما خلق وضعا شاذا، حتى وصل الأمر إلى وجود حكومتين متصارعتين يمولهما مصرف مركزي واحد.
ثانيا: تطور الأحداث
إذًا فكانت الأحداث تتطور بشكل سريع ومعقد، وفى غضون أيام قليلة، أقل من أسبوع، تم استدعاء القوات المسلحة (كتائب القذافي) للتعامل مع المحتجين المدنيين.
هذه الكتائب تعاملت مع المحتجين بعنف مفرط، وقد رد المحتجون عليه بعنف مماثل، ثم توالت الاستقالات والانشقاقات من وعن النظام من داخل كوادره السياسية والبيروقراطية والعسكرية والأمنية، ما أدى إلى تصدع الوحدة المؤسسية للنظام، ومكّن المحتجين من فرض سيطرتهم على رقعة جغرافية شاسعة في فترة وجيزة، كما لم يلجأ النظام الليبي لتقديم أي حلول سياسية للأزمة، ولم يشرع في تنفيذ أية أعمال إصلاحية تهدف إلى تهدئة الأوضاع، واحتواء الغليان في الشارع، فلم يتجاوز التعامل السياسي مع هذه الأحداث من قبل النظام، حيز التصريحات التي أدلى بها نجل الرئيس “سيف الإسلام” والتي تعهد فيها بالكثير من التعهدات التي لم تشهد أي تفعيل، وبسرعة كبيرة تطور المشهد الليبي تطورا سياسيا ملفتا للنظر، حيث ظهر كيان سياسي بديل للنظام القائم تحت مسمى “المجلس الوطني الانتقالي” في بنغازي ومن ثم توالت الاعترافات الدولية بهذا المجلس كممثل شرعي للشعب الليبي، وبالتالي تطورت الأحداث لكي تنتج كيانات سياسية بديلة، وقوى عسكرية موازية، مضافا إلى سيطرة ميدانية للمحتجين على مناطق جغرافية واسعة حتى وصل تطور الأحداث إلى التدخل الدولي من قبل حلف الناتو، من خلال عملية “فجر أوديسا”، حيث قام الناتو بفرض حظر جوي فوق سماء ليبيا بالكامل، وما تلاه من استهداف الدفاعات الأرضية، مما جعل النظام في حالة شلل تام أمام هذه الأحداث، وعليه أصبحت الأحداث تشهد معدلات عالية من العنف والمواجهات المسلحة، ومع ازدياد تطور الأحداث تمكن المحتجون من قتل الرئيس الليبي معمر القذافي الذي تربع على عرش السلطة قرابة الـ 42 عاما.
ثالثا: النتائج المترتبة على الأحداث وتطورها
- ظهور نخب سياسية جديدة تسيطر على السلطة، هذه النخب لم تكن موجودة أصلاً في المشهد السياسي من قبل وهي تكونت من قوى المعارضة التي كانت بالمهجر، والتي عادت مع بداية الأحداث، أو من القوى التي انشقت عن النظام أو تلك القوى المهمشة أثناء فترة الحكم السابقة (حكم القذافي)، وبالتالي عرفت هذه القوى المهمشة التنظيم والعمل السياسي للمرة الأولى، ومن هنا حدث الانقسام السياسي الكبير، فظهرت أكثر من حكومة وكذلك حدث الانقسام الجغرافي شرقا وغربا، إذًا فظهور هذه النخبة السياسية الجديدة التي سيطرت على السلطة كان أثرا مباشرا لسرعة تصاعد الأحداث وزيادة حدة العنف، وظهور قوى جديدة لم تكن مطروحة من قبل على الساحة الليبية.
- ظهور مليشيات عسكرية متعددة، في ضوء غياب مؤسسة عسكرية نظامية حرص القذافي على تغييبها لخوفه من أن تكون مصدر قوة وسلطة قد تشكل تهديدا للنظام، فقد كان سبق له في ثمانينات القرن الماضي أن حل الجيش الليبي بعد هزيمته في حرب تشاد، ومن ثم أعاد تشكيله على أسس الولاء الشخصي والقبلي والعشائري، فضلاً عن قيامه – القذافي- بخلق كيانات عسكرية موازية للقوات المسلحة النظامية، خاصة ما تعارف عليه “بكتائب القذافي” والتي اعتمد عليها في حماية نظامه، وكانت تحت قيادة نجله “خميس”. لكل ذلك تمكن بعض المنشقين من إنشاء كيانات عسكرية بديلة مثل ما سمي بـ “جيش الثوار” الذي كان تحت لواء المجلس الوطني الانتقالي بقيادة “عبدالفتاح يونس” وزير داخلية القذافي المنشق عليه.
- تطور الموقف الإقليمي والدولي حيث اجتمع وزراء الخارجية العرب في الأول من مارس 2011 تحت مظلة جامعة الدول العربية ورفضوا مناشدة البعض الذين يطالبون بالتدخل الدولي بحجة حماية الشعب الليبي من بطش نظام القذافي، إلا أنه مع تطور الأحداث، تطورت مواقف الدول داخل الجامعة العربية حيث قرر وزراء الخارجية العرب دعوة مجلس الأمن الدولي لفرض حظر جوي على ليبيا، معتبرين أن نظام القذافي فقد شرعيته، كما قرر التعاون مع المجلس الوطني الانتقالي والاعتراف به كممثل شرعي للدولة الليبية، وبالتالي تمكن مجلس الأمن من استصدار القرار 1973 في 17 مارس بفرض حظر الطيران، ومن ثم بدأ حلف الناتو عملية “فجر أوديسا” بحجة حماية الشعب الليبي من معمر القذافي، وكان المحدد الرئيسي لتدخل المجتمع الدولي في أحداث ليبيا، هي حجم المصالح المهددة، خاصة المصالح المتعلقة بالنفط وبالذات حينما هدد سيف الإسلام القذافي في خطابة الأول بإحراق آبار النفط.
- تفاعلات النخب السياسية وانقسامها إلى شق سياسي وشق عسكري، في ضوء حرص النظام الذي حكم ليبيا لأكثر من أربعين عاما على القضاء على أية نخب معارضة لضمان الولاء والانفراد بالحكم، وبالتالي فقد تم تفريغ المجتمع من النخب السياسية، فلم تكن هناك سوى بعض النخب السياسية المعارضة التي تعيش في المهجر، لذلك كان الدور القيادي منتظرا من النخب الموجودة من مسئولين سابقين منشقين من وعلى النظام، بالإضافة إلى شيوخ قبائل، أو قوى الإسلام السياسي وخاصة جماعة الإخوان المسلمين، وبالتالي فإنه مع تبلور نخبة من المنشقين من وعلى النظام، وعودة معارضة مهاجرة من الخارج، وبدء التيار الإسلامي في تنظيم عناصره، وظهور عدد من الكيانات السياسية غير المؤسسية، بدأت هذه النخب بتقسيم المشهد السياسي الليبي إلى تيارين رئيسيين منذ عام 2012، تيار سياسي وتيار آخر عسكري، فكان الأول “التيار السياسي” يتكون من المنشقين عن النظام ومعهم بعض المعارضين العائدين من الخارج، أما الثاني “التيار العسكري” فيتكون من تيار الإسلام السياسي بتنوعاته المختلفة.
انقسام النخب إلى تيارين بالشكل السابق ذكره، أدى إلى الاحتكام للمواجهات العسكرية كأحد أدوات الخلاف السياسي، وبالتالي كانت تفاعلات هذه النخب، أحد أهم أسباب إطالة أمد الصراع السياسي والعسكري.
بعد إسقاط القذافي وقتله أصبح بليبيا سلطة انتقالية، اعتمدت على معادلة “تشظي القوة” بأشكالها السياسية والميليشياوية والمناطقية، وأصبح هناك توزيع للسيادة الجغرافية بين الفواعل المسلحة، والمثال الحي لذلك كانت ميليشيات درع ليبيا التي خاضت عملية فجر ليبيا، فهذه المليشيات كانت تملك علاقات وثيقة مع قوتين أساسيتين، هما الإخوان المسلمين، وفصائل مصراتة، ويساندها الجماعات الجهادية خاصة جماعة أنصار الشريعة.
معادلة “تشظي القوى” التي اعتمدتها السلطة الانتقالية، نتج عنها الجماعات المسلحة والميليشيات الإرهابية، هذا وقد أصدر مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشئون الإنسانية في عام 2015 تقريرا يفيد أن هناك نحو 1700 مجموعة مسلحة نشطة في ليبيا ومن المعروف أن هذه المجموعات كانت قد تكونت أثناء الأزمة اعتبارا من أوائل عام 2011ـ والبعض الآخر قد تشكل في مراحل تالية، ونتيجة لازدياد الفوضى التي عمت البلاد، تهيأت الفرص لنمو جماعات أكثر تطرفا وأكثر عنفا مثل أنصار الشريعة، وفجر ليبيا، ومجموعات تابعة للقاعدة وأخرى تابعة لتنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، وكان هذا التشظي في هذه المجموعات هو حجر العثرة في عدم التوصل إلى التوافق الوطني على رؤى مشتركة لكيفية إدارة وحكم البلاد وترتيبات تقسيم السلطة.
ويرجع السبب الرئيسي في سرعة وجود هذه المجموعات أيضا إلى أن نظام القذافي لم يكن به نظام أمن رسمي متبلور، حيث كانت أجهزته الرسمية تضم هياكل مختلفة تعمل بكفاءات متباينة، في توقيتات معينة وأماكن مختلفة فقد كانت السلطات والمهام تتحول بموجب توجيهات القذافي وجماعته –في بعض الأحيان- من كيان أمني إلى كيان آخر يتبع القوات المسلحة، أو اللجان الثورية والحرس الثوري.
لذلك فإنه نتيجة لكثرة الجماعات المسلحة والتنظيمات الإرهابية وجماعات الإسلام السياسي، ومع تشظي هذه الجماعات وعدم الاحتكام لقيادة واحدة تحولت ليبيا إلى “معبر ناقل للإرهاب العابر للدول”.
فليبيا على سبيل المثال تعتبر أحد أهم المناطق الفاصلة بين مصر ونيجيريا، والتي يمكن من خلالها أن تمتد التأثيرات الإقليمية لتنظيم مثل “بوكو حرام”، وهو أحد أهم وأخطر التنظيمات الإرهابية في أفريقيا”، إلى الشمال الأفريقي بالكامل وخاصة مصر، فالمناطق الفاصلة بين مصر ونيجيريا مثلا، خاصة ليبيا وتشاد تشهد حالة من ضعف الدولة، والحدود الرخوة، بما يجعلها وسيطا “حاضنا وناقلا”، في آن واحد لتهديدات الجماعات الجهادية، فالمثلث الحدودي بين مصر والسودان وليبيا، يرتبط بحدود تشاد، والتي تمثل بدورها خاصرة أساسية للصراعات في شمال نيجيريا ومعبرا في الوقت نفسه لأراضي ليبيا ودارفور غربي السودان اللتين تتماسان مع الأمن القومي المصري، وما ينطبق على مصر يمكن أن ينطبق على كل دول جوار ليبيا خاصة تونس والجزائر.
ومن هنا بدا أن مكمن التأثير غير المباشر لأخطر الجماعات الإرهابية في أفريقيا على الشمال الأفريقي وخاصة مصر وتونس والجزائر يمر عبر البيئة الليبية المضطربة أصلاً والتي باتت مخزنا للسلاح وموئلاً لوجستيا وتدريبيا للجماعات الإرهابية، علاوة على ما أحدثه الصراع الليبي على السلطة والثروة في هذا البلد من آثار متداعية على الإقليم ككل.
من هنا بدأت أهمية الجنوب الليبي كمصب للجماعات الإرهابية في الساحل والصحراء، وكملاذ للإرهابيين الفارين من ضغوطات السلطات في المنطقة، هذا الجنوب الذي يمكن أن يسهل الانتقال إلى الشمال الليبي شرقا وغربا ومنها إلى دول الجوار، فقد ثبت اختراق جماعات إرهابية إفريقية لليبيا ودعمها للجماعات الإرهابية بها.
مما سبق كانت أهمية أن يكون للدولة الليبية جيش وطني موحد، لذا فقد تم تكوين ائتلاف عسكري بقيادة المشير خليفة حفتر، يضم تشكيلات من الجيش الليبي السابق سواء برية أو جوية أو بحرية، بالإضافة إلى مقاتلين من جماعات قبلية معادية للجماعات الإسلامية المسلحة مثل قبائل الزنتان. ويستمد الجيش الوطني الليبي شرعيته من ولائه للمجلس النيابي برئاسة المستشار عقيلة صالح، وكان الهدف الرئيسي لهذا الجيش هو توحيد البلاد وإعادة إقامة سلطة مركزية قوية تحفظ الأمن والنظام، مع توحيد الأجهزة العسكرية والأمنية، وقد بدأ الجيش الوطني الليبي بعملية عسكرية كبرى في 16 مايو عام 2014 تحت مسمى “عملية الكرامة” وذلك لتحرير مدينة بنغازي ثاني أكبر المدن الليبية بقوات قوامها 317 ضابطا وجنديا (وصل الآن عدد الجيش الوطني الليبي أكثر من 80 ألف) في مواجهة ما يزيد عن 15 ألف من مقاتلي الجماعات والتنظيمات الإرهابية المدعومة بالسلاح والمال من دول خارجية على رأسها قطر وتركيا، وقد بدأت العملية في الشرق الليبي وامتدت منها إلى الجنوب، كما تحالف الغرب الليبي مع مقاتلي قبائل الزنتان التي تسيطر على حقول النفط في الجنوب الغربي، وقد تحقق لهذا الجيش النصر نتيجة التلاحم الشعبي الضخم، واستمرت عملية الكرامة بعد تحرير بنغازي لتحرر الشرق الليبي بالكامل، ثم الموانئ النفطية، ثم الحقول النفطية بوسط الصحراء الليبية، ورغم مساحة الجنوب الليبي الشاسعة اتجه الجيش الوطني الليبي بعملية عسكرية خاطفة لتحرير والسيطرة على كامل مدن ومناطق الجنوب، وقبل انتهاء عام 2018 تم تحرير مدينة درنة التي تتميز بصعوبة تضاريسها وجغرافيتها بجانب تحصن أشرس العناصر الإرهابية بها، وبالتالي تمكن الجيش الوطني الليبي من السيطرة على كامل الشرق الليبي والهلال النفطي حتى خط الحدود مع مصر بالإضافة إلى كل مدن ومناطق الجنوب، كما سبق وأن ذكرنا.
وبالرغم من هذا التقدم الذي أحرزه الجيش الوطني الليبي ومن الحفاظ على أكبر مساحة ممكنة من الأراضي الليبية خالية تقريبا من التنظيمات والجماعات الإرهابية، وبالرغم من حفاظ الجيش الوطني الليبي على الهلال النفطي، كان المشهد السياسي الدولي يذهب في اتجاه عرقلة تقدم الجيش الوطني الليبي، في مقابل الاتفاق على حكومة وحدة وطنية بالتعاون مع فايز السراج وقائد الجيش الليبي خليفة حفتر، فتوالت المبادرات والمقابلات والاجتماعات والمباحثات بدءا من اجتماع الصخيرات إلى اجتماعي باريس(1) وباريس(2)، إلى اجتماع باليرمو بإيطاليا إلى اجتماع أبو ظبي، وأخيرا إلى دعوة الأمم المتحدة لعمل الملتقى الوطني الشامل لجميع القوى السياسية العاملة في الأراضي الليبية والذي كان محددا له منتصف إبريل 2019.
ويستلفت النظر في هذا الصدد موقف القوى الإقليمية المتماسة مع الجوار الليبي خاصة مصر وتونس والجزائر، فهذه القوى بالإضافة إلى موقف جامعة الدول العربية، هي جميعا غير مرحبة بالتدخل الدولي، خاصة بعد ما حدث من تدخل حلف الناتو، فهذه القوى تفضل حل الأزمة الليبية عبر التنسيق الإقليمي، ومن خلال دفع القوى الكبرى للضغط على أطراف الصراع دون اللجوء للخيار العسكري بحيث يتم منع تسرب التهديدات العابرة للحدود من الداخل الليبي لذلك اجتمعت قوى الجوار الليبي في يوليو عام 2014 بتونس لبحث مسألة الحدود وانتهت إلى تشكيل لجنتين الأولى أمنية تقودها الجزائر والثانية سياسية تقودها مصر.
لكن كل هذه الجهود فشلت في إقناع حكومة فايز السراج المتمترسة في الغرب الليبي بمدينة طرابلس في التوصل لاتفاق لإخراج الميليشيات المسلحة من العاصمة الليبية. وهو ما يعكس ضعف موقفه، وعدم قدرته على السيطرة على هذه المليشيات.
ومن هنا يمكن تقدير مجمل الوضع في وجود مشروعين متصارعيين على الأراضي الليبية، الأول مشروع تركي قطري يقف وراءه التنظيم الدولي للإخوان المسلمين وبعض الدول الأوروبية خاصة بريطانيا، ويهدف إلى سيطرة قوى الإسلام السياسي بالنموذج التركي الإخواني على ليبيا. وتتلخص أدواته في الأراضي الليبية لتحويل ليبيا إلى محطة للميليشيات المسلحة المدعومة بالمال والسلاح والإعلام المكثف من تركيا وقطر، بهدف محاصرة مصر في عمقها الإقليمي، وتهديد استقرارها وأمنها القومي مع استغلال ثروات ليبيا في السيطرة على القرار السياسي فيها من خلال وكلاء يدينون بالولاء لتركيا. ويتمركز هذا المشروع في غرب ليبيا وبالتحديد في العاصمة الليبية طرابلس ويقوده “شكلا” فايز السراج الموجود على رأس الحكومة الليبية والذي جاء نتيجة اتفاق دولي وليس نتيجة اختيار شعبي.
وبالنسبة للمشروع الثاني، فهو مشروع الدولة الليبية الواحدة، المعادية للتنظيمات والميليشيات الإرهابية، ويستمد هذا المشروع مشروعيته من ولائه للمجلس النيابي المنتخب برئاسة المستشار عقيلة صالح، وهو يعمل على توحيد ليبيا، وإعادة إقامة سلطة مركزية قوية تحفظ الأمن والنظام مع توحيد الأجهزة العسكرية والأمنية، ويدعم هذا المشروع كل من مصر والإمارات وبعض دول أوروبا، وتحافظ أمريكا على علاقتها بهذا المشروع على أمل التخلص من التنظيمات الإرهابية في الغرب الليبي.
أما القوات الفاعلة في المشهد الإقليمي والدولي للأزمة الليبية فتتمثل فيما يلي:
أولا: دول الجوار مصر وتونس والجزائر. وهي تتفق على أهمية الحل السلمي للأزمة عبر الأمم المتحدة، إلا أن مواقفها تختلف من الطرفين بين التأييد والحياد. حيث تميل مصر مع مشروع المشير حفتر، بينما تفضل الدولتان الأخريان أن تكون لهما علاقات متعادلة بين الطرفين.
ثانيا: إيطاليا التي تعتبر ليبيا أهم مستعمراتها القديمة ولها مصالح في قطاع النفط في الغرب الليبي وخاصة شركة إيني، وهي تميل لتأييد حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دوليا، بقيادة السراج. وإن كانت لا تمانع في الاتصال بالمشير حفتر اعترافا بدوره في محاربة التنظيمات الإرهابية، وتحسبا لاحتمالات تغير الموقف لصالحه في ليبيا.
ثالثا: فرنسا التي لها استثمارات كبيرة في الجنوب الليبي، فضلا عن اهتمامها بملف الهجرة الشرعية إلى أوربا –مثل إيطاليا- وهي تدعم معسكر المشير حفتر سرا، بينما تتخذ موقف التوازن في استقبال السراج على أراضيها باعتباره رئيس الحكومة المعترف بها دوليا، اتساقا مع موقف الاتحاد الأوروبي.
رابعا: الولايات المتحدة التي ضعف اهتمامها بالمشكلة الليبية، لتركيزها على مشكلة إيران وصفقة القرن، ومع ذلك فقد أوضحت اتصالات الرئيس الأمريكي بالمشير حفتر تقديرا أمريكيا لدوره في محاربة الإرهاب، واعترافا بالمجلس الوطني الليبي وبوجود مليشيات إرهابية في المعسكر الآخر.
خامسا: روسيا التي لها رؤية مزدوجة في الصراع الدائر في ليبيا فهي ترى حفتر حليفا محوريا لها في الشمال الأفريقي، خاصة في ملف تسليح الجيش الليبي في مرحلة ما بعد الحصار، وإعادة الإعمار بعد تهدئة الأزمة. فضلا عن أهمية نفوذها للشمال الأفريقي كورقة تفاوضية مؤثرة مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
سادسا: بريطانيا صاحبة الموقف المعروف من تأييد الإسلام السياسي وبعض تنظيماته المسلحة، لذلك فهي تؤيد معسكر السراج في محاولاتها استصدار قرارات لصالحه في مجلس الأمن.
سابعا: الأمم المتحدة التي أثبتت فشلا متكررا في رؤيتها الكلية للوضع في ليبيا، حيث تتغير مواقفها بتغير ممثليها عن الأزمة، وآخرهم غسان سلامة الذي طرح خارطة طريق لم يتمكن من تطبيقها على أرض الواقع، وفقد حياده لصالح معسكر دون آخر في تقرير لمجلس الأمن.
نتيجة لكل ذلك بدأ المجتمع الدولي متفسخا في الشأن الليبي، فيما يتعلق بخصوص التسوية السياسية، وقد انعكس ذلك جليا على الوضع الميداني في ليبيا، ولذلك لم يجد الجيش الوطني الليبي أمامه سوى الزحف لتحرير آخر بقعة من الأرض الليبية (العاصمة وما حولها) من التنظيمات والميليشيات الإرهابية والتي تتراوح أعدادهم ما بين ستة إلى سبعة آلاف شخص مسلح وهم عبارة عن مجموعة من الميليشيات الإرهابية متعددة الأسماء بأسماء أفرادها والبعض منها مؤدلج، وممولين من كل من تركيا وقطر وخزينة الدولة الليبية “مصرف ليبيا المركزي”، فقد بدأ الزحف بأعداد كبيرة من المنطقة الشرقية والجنوبية لتتمركز على تخوم منطقة مصراتة من الجهة الشرقية لعدم تقدم الميليشيات في اتجاه طرابلس مع تجهيز قوات بأعداد كبيرة لدخول العاصمة من الجنوب والغرب وبالتالي تكون خطة الجيش الوطني الليبي هي استدراج أغلب الميليشيات بجميع آلياتها ومعداتها الثقيلة لأطراف طرابلس ومن ثم الهجوم عليها من داخل المدينة بالعناصر والقوات التي لم تعلن حتى الآن تبعيتها للجيش لتكون معركة طرابلس هي المعركة الحاسمة والأخيرة أو كما سماها الجيش الوطني الليبي معركة “طوفان الكرامة”.
ومع احتدام المعارك وعدم استطاعة أحد الطرفين من تحقيق نصر واضح فالجيش الليبي لم يستطع حتى الآن من دخول طرابلس، وقوات الغرب لم تستطع رد الجيش إلى أماكنه السابقة في شرق وجنوب ليبيا، حتى أن كثيرا من القوى الدولية الفاعلة أصبحت تطالب بإيقاف إطلاق النار مع تثبيت خطوط القتال الحالية، وهو ما يعني مؤشرات لبداية تقسيم ليبيا.
وبالرغم من كل ما تقدم فإن الموقف الدولي وثبات القوات والتأييد المتصاعد للحرس الوطني الليبي هو ما سيقرر النتيجة النهائية للمعركة.