تمر ليبيا بمرحلة هي الأكثر أهمية وخطورة منذ تفجر الأوضاع هناك قبل تسعة أعوام. على خلفية العملية العسكرية التي بدأتها قوات “الجيش الوطني الليبي” بقيادة خليفة حفتر في 4 أبريل 2019، بهدف دخول مدينة طرابلس وإنهاء سيطرة حكومة الوفاق على المدينة ومجمل مناطق الغرب الليبي.
وهو ما يتطلب التعرف على ملامح الوضع الراهن بمساريه (السياسي والعسكري)، وتحليل مواقف وحسابات الأطراف المعنية بالملف الليبي. ومن ثم، استخلاص النتائج المباشرة، والمآلات المُنتظرة للأزمة الليبية، على وقع السباق بين الحرب والسياسة..
أولاً: تطورات الأزمة الليبية:
منذ سقوط القذافي، لا سلطة مركزية تملك السيادة على الأراضي الليبية، وتعاني الدولة حالة انقسام رأسية وأفقية. رأسيا بوجود أكثر من كيان مؤسسي، خصوصا البرلمان في الشرق والحكومة في الغرب. حيث يتنازعان الشرعية وتمثيل الشعب الليبي([1])، ويتنافسان على استجلاب دعم الأطراف الخارجية، خصوصا القوى الكبرى في العالم.
أفقيا، يسيطر كل من تلك الكيانات والقوى السياسية والاجتماعية على مساحة جغرافية معينة. مع وجود مساحات خارجة عن السيطرة كليا وخاضعة لسطوة جماعات قبلية([2]) أو ميليشيات متفرقة([3]).
في ظل هذا الوضع المُعلق، جرت محاولات متتالية للتوصل إلى تسوية سياسية وتوافق على نظام سياسي يعبر عن خصائص ومكونات الشعب الليبي. وكان لمبعوثي الأمم المتحدة النصيب الأكبر في تلك المحاولات. كما بُذلت جهود إقليمية موازية لنفس الغرض. غير أن تلك المحاولات تعثرت لعدة أسباب، أهمها التحركات السلبية لأطراف خارجية، استغلت ضعف وتشتت القوى الداخلية.
ويمكن إيجاز هذا الوضع الليبي المستمر منذ عدة أعوام، بأنه مشهد “فراغ القوة وازدواج السلطة”. إذ لا توجد سلطة سياسية واحدة متفق عليها تحظى بشرعية طوعية كاملة، ولا قوة قاهرة تملك بسطوتها إجبار القوى الأخرى على الانصياع لها. ثم جاءت حملة خليفة حفتر على طرابلس، لتغير ملامح المشهد وتغير مسار الأزمة برمتها.
- الوضع الميداني:
ازدادت أهمية الوضع الميداني في ليبيا خلال السنوات الأخيرة، تحديدا بعد انقسام مؤسسات السلطة السياسية بين البرلمان في الشرق (طبرق) والحكومة في الغرب (طرابلس). وتبلور أوزان نسبية واضحة للقوى الداخلية واتجاهات محددة للأطراف الخارجية الداعمة لكل منها. وهو ما أفسح مجالاً أوسع للقوة المسلحة في التأثير على المعادلة الليبية ككل([4]).
أ-قبل عملية حفتر:
من النتائج المهمة التي ترتبت على الانقسام السياسي وفراغ القوة الحاصل في ليبيا منذ 2011، أن السلطة السياسية التي تحظى بشرعية دولية، وهي حكومة الوفاق الوطني في طرابلس، ظلت سلطة سياسية بلا ذراع عسكري. حيث افتقدت ليبيا وجود جيش نظامي موحد وموالٍ للسلطة السياسية المعترف بها ويخضع لها بشكل كامل. بينما تعددت الميليشيات المسلحة والقوى الأمنية الجهوية، من الشرق في طبرق وبنغازي، إلى الغرب في طرابلس والزاوية مرورا بمصراتة والزنتان. فضلاً عن سبها وإقليم فزان ككل في الجنوب. وهكذا صارت ليبيا ممزقة بين عدة قوى وجماعات مسلحة، ولم يعد الوضع الميداني يقتصر على فراغ القوة بالمعنى المركزي للقوة المسلحة النظامية، بل صارت ليبيا تعاني تعددا في مراكز القوة، وتشتتا عسكريا يتنافى مع مفهوم ومقومات الدولة الموحدة ذات السيادة. وهو ما سمح بثغرات نفذت من خلالها عناصر تتبنى العنف والإرهاب تحت شعار “الجهاد” تارة، أو إقامة “خلافة الدولة الإسلامية” تارة أخرى([5]).
وكرد فعل على تلك الحالة، ظهر فاعل ميداني جديد، هو اللواء العسكري المتقاعد خليفة حفتر([6]). الذي برز في المشهد بقوة عام 2014، وقام بتجميع أعداد من العسكريين السابقين، كوَّن بهم قوة عسكرية جديدة أضيفت إلى مراكز القوة التي تتنازع السيطرة الميدانية على الأرض. وفي العامين الأخيرين (2017 – 2019) تنامى الوزن النسبي لقوة حفتر، وفرضت وجودها على الساحة الليبية كرقم أساسي في المعادلة العسكرية، ومن ثَم السياسية. خصوصا بعد أن تبنى برلمان طبرق هذه القوة الجديدة واعتبرها الذراع العسكري الرسمي (الجيش النظامي) للدولة الليبية. ووجدت هذه القوة ترحيبا ودعما إقليميا وخارجيا بأشكال متعددة. مما ساعد قوات حفتر على تحقيق انتصارات عسكرية متتالية، كان أهمها السيطرة على مدينة بنغازي.
وهكذا، اتسمت الخارطة الميدانية لليبيا قبل 4 أبريل الماضي، باقتسام واضح وصريح للنفوذ ومناطق السيطرة. حيث يسيطر خليفة حفتر على الشرق. بينما تنتشر عدة ميليشيات مسلحة على امتداد المناطق المحاذية لساحل المتوسط من الوسط وحتى الحدود الليبية التونسية. تخضع بعض تلك الميليشيات لإمرة السلطة السياسية في طرابلس، فيما يحتفظ بعضها الآخر باستقلالية في التنظيم والحركة. وتتنوع أسس تشكيل ونشأة تلك الميليشيات، وأحيانا تتداخل، بين المقومات الاجتماعية (القبلية) والأيديولوجية (الإسلامية).
ب- بعد هجوم حفتر:
تغيرت الأوضاع الجيوستراتيجية، وبالتالي موازين القوة، بعد أسابيع قليلة من بدء العملية الهجومية التي قام بها “الجيش الوطني الليبي” على طرابلس ومدن الغرب. حيث وصلت قوات خليفة حفتر إلى طرابلس، بعد أن سيطرت في طريقها على عدة مدن ونقاط استراتيجية محيطة بها. فضلاً عن مدن ومناطق الشريط الساحلي الموازي للبحر المتوسط الممتد من الشرق إلى الغرب بطول حوالي 1000 كيلومتر. ورغم أن قوات حكومة الوفاق والميليشيات التي هبت إلى دعمها من مصراتة والزاوية وغيرها، نجحت في استرداد مدن ومحاور استراتيجية مهمة، إلا أن الموقف العسكري في محاور القتال لم يرتد إلى ما كان عليه قبل بداية العملية في 4 أبريل الماضي([7]).
- المسار السياسي:
حتى الرابع من أبريل الماضي، كان المسار السياسي في ليبيا يتسم بدرجة عالية من الوضوح. كانت هناك خارطة طريق تشمل استحقاقات سياسية محددة مثل إجراء انتخابات وتشكيل مؤسسات سياسية جديدة وفق أسس وقواعد تضمنها اتفاق “الصخيرات”. الذي شاركت في بلورته معظم القوى والأطراف الداخلية في ليبيا.
وكما اتسم هذا المسار السياسي بالوضوح، اقترن أيضا بالنسبية. فقد حظي بقبول ومشاركة “معظم” وليس “كل” القوى الليبية. فارتهن تفعيل الاتفاق وتنفيذ بنوده بميزان القوة القائم بين أطرافه، والقوى الأخرى المتحفظة عليه. وقبل أسبوعين فقط من بدء الهجوم على طرابلس، التقى خليفة حفتر وفائز السراج رئيس حكومة الوفاق في العاصمة الإماراتية أبو ظبي، وبدت بعد اللقاء إشارات إيجابية لجهة التوصل إلى أرضية مشتركة حول أسس العملية السياسية، وإيجاد تفاهمات لتجسير الفجوة بين الطرفين.
في خط موازٍ، كانت البعثة الأممية تستعد لعقد مؤتمر يضم الغالبية العظمى من القوى الليبية، بما فيها بعض القوى التي لم تكن طرفا في اتفاق الصخيرات. وكان يفترض أن ينعقد المؤتمر تحت عنوان “الملتقى الوطني الجامع” في منتصف أبريل الماضي. غير أن العمليات العسكرية التي بدأت في 4 أبريل (قبل موعد انعقاده بأيام) حالت دون عقد المؤتمر، وفرضت واقعا جديدا.
من جانبها، أعلنت حكومة طرابلس وقف كل أشكال التواصل والحوار مع خليفة حفتر. وبعد أربعة أسابيع من استمرار العمليات الهجومية على طرابلس، طالب فائز السراج المكونات الاجتماعية في شرق ليبيا، بترشيح ممثلين سياسيين آخرين، بدلاً من خليفة حفتر.
ومع استمرار العمليات العسكرية لأكثر من شهرين، دون أفق واضح للحسم في أي اتجاه. بدأ الطرفان حركة دبلوماسية نشطة في اتجاه الأطراف الخارجية القادرة على التدخل وتغيير مسار الأزمة. ففي أسبوعين متتاليين، قام كل من فائز السراج وخليفة حفتر بجولة خارجية شملت عواصم إقليمية وعالمية. وبدا واضحا أن الهدف من الجولتين وتتابعهما زمنيا، هو محاولة كلا الطرفين الاستقواء بالحلفاء واستمالة الخصوم أو تحييدهم. لتأمين مواقف وتحركات سياسية داعمة. سواء لحفتر، بمباركة الهجوم على طرابلس ومنحه غطاء سياسيا. أو للسراج، بإدانة عملية حفتر العسكرية ودفعه إلى التراجع والعودة إلى مرحلة ما قبل 4 أبريل.
وكانت نتيجة الجولتين، شبه إجماع بين مختلف الدول التي استقبلت الرجلين، على ضرورة وقف القتال والدخول في حوار وتفاوض سياسي([8]). أي استجابة منقوصة لمطالب الجانبين، استنادا إلى الوضع الجديد على الأرض.
ثانياً: مواقف وتحالفات الأطراف:
شأن كل أزمة أو مشكلة في منطقة الشرق الأوسط، تتداخل مصالح وأهداف وسياسات أطرافها بين المستويات الثلاث (الداخلي، الإقليمي، العالمي)، على النحو التالي:
- مجموعة غرب ليبيا (طرابلس وحلفاؤها):
مركزها طرابلس، وتضم من الداخل الليبي كيانات مؤسسية معترف بها داخليا وخارجيا. تبدأ بالمؤتمر الوطني، ومجلس رئاسة الدولة، وحكومة الوفاق الوطني التي يترأسها حاليا فائز السراج. كما تضم مجموعات مسلحة وميليشيات بعضها تابع مباشرة لتلك السلطة السياسية، وبعضها الآخر موالٍ لها، وإن لم يكن جزءا من التشكيلات المسلحة الرسمية التابعة لها. وفضلاً عن الشرعية التي تحظى بها الحكومة، تتمتع أيضا بعلاقات قوية ومميزة تصل إلى حد الدعم المباشر من جانب بعض الدول الإقليمية([9]). وقد أعلنت تركيا دعم السلطة السياسية في طرابلس بشتى الوسائل في مواجهة هجوم حفتر([10]). وخارج الإقليم، سارعت إيطاليا إلى رفض عملية حفتر العسكرية بعد أيام قليلة من بدايتها. ولم تقف روما عند إعلان رفضها العملية ذاتها، بل وجهت انتقادات علنية لدول أوروبية دعمت تلك العملية، في إشارة إلى فرنسا خصوصا.
غير أن الموقف الإيطالي المبدئي، لم يحل دون استقبال حفتر رسميا ولقائه برئيس الوزراء الإيطالي. كما لم تغلق روما الباب أمام وجود حفتر طرفا في المسار السياسي مستقبلاً، بل والتنسيق مع باريس في استعادة هذا المسار والعمل على إنهاء عسكرة الملف الليبي([11]).
- مجموعة شرق ليبيا (طبرق):
تضم من الداخل البرلمان الليبي، وهو المؤسسة السياسية. كما أن لها ذراعا عسكريا يتمثل في القوة المسلحة التي يقودها خليفة حفتر وتحمل اسم “الجيش الوطني الليبي”. والذي يسيطر فعليا على معظم مناطق الشرق الليبي، واستطاع في الأشهر الأولى من عام 2019 مد نفوذه إلى بعض مناطق الجنوب، بتفاهمات وتوافقات قبلية أحيانا([12])، وبمواجهات مسلحة أحيانا أخرى([13]). وبعد أن بزغ نجم حفتر على الساحة الليبية عام 2014 كقائد عسكري لقوة مسلحة متماسكة ومنظمة، تحول خلال السنوات الست الماضية إلى رقم أساسي وصعب في حسابات الأزمة الليبية. وانعكست القوة العسكرية التي يتمتع بها في دور سياسي يتجاوز المؤسسة السياسية التي نشأ تحت مظلتها وهي البرلمان. ويتمتع حفتر بدعم وتأييد بعض الدول الإقليمية، مثل مصر والإمارات والسعودية، إذ تعتبر أنه يقوم بمحاربة “الإرهاب”، وترى في القوة المسلحة التابعة له تجسيدا لجيش ليبي وطني.. ومن نفس المنظور، يحظى حفتر بقبول وتأييد دول كبرى، وصل إلى حد دعم بعضها لحملته العسكرية على طرابلس. فبعد أيام من بدء زحف قوات حفتر نحو غرب ليبيا، جمعته مكالمة هاتفية بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب، أيد الأخير خلالها ما وصفه بجهود حفتر في “محاربة الإرهاب”. جاءت الخطوة الأمريكية مناقضة لمواقف رسمية سابقة، حيث كانت الإدارة الأمريكية تؤيد سلطة طرابلس وتعتبرها شريكا في محاربة الإرهاب ومواجهة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”. دول أخرى، مثل فرنسا وبريطانيا، تراوحت مواقفها بين الحياد الغامض والتأييد الصريح لأحد الأطراف. خصوصا بالنسبة لباريس، حيث واجهت اتهامات مباشرة من جانب طرابلس، بدعم حملة حفتر العسكرية. ما دفع الحكومة الفرنسية إلى محاولة تبرير موقفها ونفي الانحياز لأي جانب. غير أن باريس قررت لاحقا الكشف رسميا عن دعمها لحفتر. فقد وصف جان إيف لودريان، وزير الخارجية الفرنسي، خليفة حفتر بأنه مقاتل ضد الإرهاب، وهو ما يصبّ “في مصلحة باريس وجيران ليبيا، وبلدان الساحل”. واعتبر لودريان أن انخراط بلاده في الملفّ الليبي يدخل في إطار مكافحة الإرهاب، والحرص على تجنب “انتقال العدوى” إلى الدول المجاورة([14]). غير أن الخطوة الأهم من جانب باريس، تجسدت في استقبال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لحفتر، قبل نهاية شهر مايو الماضي. بعد أسبوع واحد من لقاء مماثل جمع ماكرون بفائز السراج رئيس حكومة الوفاق الليبية. وبذلك، فإن باريس توازن بين الاعتراف بحكومة الوفاق في طرابلس بصفتها السلطة السياسية المعترف بها، ودعم خليفة حفتر كقائد عسكري لجيش شبه نظامي، تراهن عليه باريس في ضبط الوضع الأمني ومواجهة مخاطر تواجد جماعات إسلامية مسلحة في ليبيا.
- أطراف شبه محايدة:
تتمثل هذه المجموعة بشكل أساسي في معظم مكونات وقبائل الجنوب داخل ليبيا. ومن خارج ليبيا مثل الجزائر وتونس في الجوار المباشر، وبعض الدول الأوروبية مثل ألمانيا([15])، إضافة إلى المنظمات الإقليمية والدولية. ويتلخص موقف تلك المجموعة في الحرص على عدم انزلاق ليبيا إلى حالة الفوضى الشاملة، أو الخضوع إلى سيطرة بعض القوى والمكونات السياسية والمجتمعية وإقصاء أخرى. لذا، تحتفظ تلك المجموعة من الدول بعلاقات متوازنة مع كل أطراف الملف الليبي، سواء المتحاربة حاليا داخل ليبيا، أو الدول الخارجية متعارضة المصالح. أما موقف المنظمات الدولية والإقليمية، فأكثر وضوحا ومباشرة في تغليب هدف الاستقرار في ليبيا على أي مصالح أو حسابات ضيقة سواء الخاصة بدول معينة، أو بأطراف ليبية داخلية. فكان موقف الاتحاد الأوروبي واضحا في إدانة العملية العسكرية التي قام بها خليفة حفتر. وإن اكتفى البيان بالدعوة إلى وقف إطلاق النار، دون المطالبة بعودة قوات حفتر إلى مواقعها السابقة كما كانت تطالب حكومة طرابلس. وفي الأمم المتحدة، اجتمع مجلس الأمن الدولي بعد أسبوعين من بدء عملية حفتر، لكن منعت روسيا والولايات المتحدة صدور قرار يدعو إلى هدنة([16]).
بتحليل تلك المواقف وتركيبة التحالفات المعنية بالملف الليبي، يمكن استخلاص أن أول الدوافع والمحركات الحاكمة لها، يتمثل في الهاجس الأمني لدى بعض دول الجوار ومعظم القوى الخارجية. تحديدا، الخشية من تواجد التنظيمات الإسلامية (سواء السياسية أو المسلحة) في ليبيا، فضلاً عما يشكله وجود نظام حكم إسلامي من تهديد مباشر لها. وضمن الهاجس الأمني أيضا، تأتي المخاوف من حدوث فوضى شاملة أو حرب أهلية، ستنعكس بدورها في زيادة معدلات الهجرة غير الشرعية عبر المتوسط شمالاً إلى أوروبا.
المحرك الثاني اقتصادي بامتياز، حيث تمثل موارد ليبيا النفطية مطمعا لدول إقليمية وخارجية. فالاختلاف الفرنسي الإيطالي، هو في أحد جوانبه، تنافس بين شركتي النفط “توتال” الفرنسية و”إيني” الإيطالية([17]). وينعكس هذا السباق الاقتصادي على النفط، في تنازع على النفوذ السياسي والتأثير في المسارين السياسي والميداني داخل ليبيا، مباشرة أو عبر وكلاء([18]). وهذا التنازع قائم منذ سقوط القذافي.
داخل ليبيا، تنقسم الدوافع بين أيديولوجية ونفسية. تتمثل الأولى في المرجعية الدينية لدى الجماعات الإسلامية سواء السياسية أو الحركية. وتتجلى الثانية في الطموح الشخصي لخليفة حفتر، الذي يتجاوز سقف قيادة جيش ليبيا، ربما إلى اعتلاء قمة الحكم في ليبيا.
ثالثاً: نتائج ومآلات:
أحدثت التطورات الجديدة على الساحة الليبية تحولاً مهما في معادلات الأزمة وتفاعلاتها. يمكن إيجاز أبرز ملامحه فيما يلي:
- ليس جديدا أن المسار السياسي الذي كان يُفترض استمراره خلال العام الجاري (2019) لم يكن مقبولاً من جانب بعض الأطراف، تحديدا المجموعة الأولى المكونة من خليفة حفتر والمعسكر الداعم له داخل وخارج ليبيا. الجديد الذي حملته مستجدات الأزمة الليبية خلال الأشهر القليلة الماضية، أنها كشفت عن انتقال ذلك الرفض من مربع المواقف السياسية والتعاطي الدبلوماسي المرن، إلى نطاق الخطوات العملية في أقوى صورها، التحرك العسكري. فلو لم يشن حفتر حملته العسكرية، لانعقد “الملتقى الوطني الجامع” الذي كان يُعتقد أنه مدخل لتلافي ثغرات اتفاق الصخيرات، والشروع في تسوية سياسية محل إجماع أو على الأقل توافق من معظم القوى والمكونات الاجتماعية الليبية، في مناطق الغرب والجنوب الليبي، وربما بعض مكونات الشرق.
وسواء نجح حفتر في دخول طرابلس والقضاء على السلطة السياسية القائمة فيها، أو ظلت طرابلس محاصرة دون نصر أو هزيمة لأي طرف، فقد تم بالفعل تعليق المسار السياسي وتأجيل الاستحقاقات المرتبطة به. وبعد أن كانت الجهود الأممية تتركز في محاولة تأمين توافق بين مختلف القوى الداخلية وتلافي بعض التحفظات على اتفاق الصخيرات، والانتقال إلى مرحلة إجراء انتخابات وتشكيل مؤسسات سياسية وأجهزة للسلطة تحظى بإجماع أو على الأقل توافق عام، انتكس هذا المسار السياسي ولم يعد عمليا التفكير في أي استحقاقات مستقبلية في ظل حرب جارية وأوضاع ميدانية غير مرشحة للثبات في المدى القريب.
- بعد أن كانت الحلول والتسويات، سواء التي بدأ تطبيقها بالفعل أو المقترحة، مثار تحفظ وانتقاد بعض الأطراف الداخلية والخارجية([19]). فإن توقف المسار السياسي وتغير المعادلات التي استندت إليها تلك الحلول، من شأنه أن يُنشئ موقفا سلبيا لدى الأطراف المتضررة من الوضع الجديد، أي السلطة السياسية القائمة في طرابلس والجماعات المسلحة التابعة لها أو الموالية، إضافة إلى الأطراف الإقليمية والدولية الداعمة لها من الخارج. وسيترتب على ذلك استمرار الرفض والتمنع إزاء الحلول السياسية، مع تبادل المواقع بين الأطراف. فبعد أن كان حفتر هو الذي يرفض الانضمام إلى المسار السياسي ولا يقبل الانضواء تحت مظلة السلطة السياسية في طرابلس. انتقل الرفض إلى طرابلس، وأعلن فائز السراج وكبار المسؤولين في حكومة طرابلس، أن العملية العسكرية التي قام بها حفتر واستهداف قواته مدينة طرابلس وضواحيها، قد قطعت الطريق على أي حوار معه.
وفي هكذا وضع، لا ضمانة بأن الأوضاع الميدانية ستظل قابلة للتحكم والاستدراك. إذ لا يوجد ما يمنع اتساع نطاق العمليات العسكرية وارتفاع حدة الصراع المسلح، إلى درجة تصعب معها العودة إلى الحل السياسي. وكان المبعوث الأممي غسان سلامة صريحا ومباشرا في ذلك، عندما حذر بعد شهرين من بدء عملية حفتر، من انزلاق ليبيا إلى حرب أهلية مدمرة قد تُفضي إلى تقسيمها([20]).
- من المتوقع، أن تشهد المنظومة الداخلية للسلطة السياسية في طرابلس، تغيرات سلبية وربما انقساما داخلها. فقد نجم عن الأزمة إضعاف دور ومكانة فائز السراج، لأسباب متعددة أهمها ضعف إدارة الأزمة من جانبه، سواء لبطء الاستجابة وعدم استباق هجوم حفتر خلال فترة التحضير للعملية ثم الزحف من الشرق إلى الغرب لمسافة طويلة. أو لافتقاده الحلول والتصورات والبدائل الممكنة والمطلوبة، عند طرح موقف طرابلس على القوى الكبرى التي تواصل معها السراج. فبدا ضعيفا كرجل دولة، ولا يملك حلولاً أو أفكارا لتقديمها كقائد في حالة حرب([21]). وفي المقابل، تعاظم دور فتحي باشاغا وزير الداخلية الذي تولى أيضا وزارة الدفاع مع انطلاق عملية حفتر ضد طرابلس.
وأيا كان ما ستؤول إليه العمليات العسكرية على الأرض، فإن التركيبة السياسية والمؤسسية لحكومة الوفاق ستشهد تغيرات مهمة، هذا إن بقيت السلطة في طرابلس قائمة. وهو ما سينعكس بدوره على إمكانية استئناف الحوار وتفعيل المسار السياسي للملف الليبي مجددا، حيث سيخضع الأمر لتوجهات المجموعة التي ستهيمن على القرار في طرابلس لاحقا.
- من المرجح أن تعود الأطراف إلى مائدة التفاوض، لكن بفعل تغير موازين القوى على الأرض، ستنطلق أي عملية سياسية جديدة من أسس مختلفة وبشروط مغايرة تراعي اختلاف الأوزان النسبية للأطراف الليبية. وذلك سواء استمر وجود قوات حفتر على مشارف طرابلس، أو تمكنت قوات حكومة الوفاق من استعادة السيطرة الكاملة على طرابلس وضواحيها وأبعدت قوات حفتر عنها، سيبقى الملمح الأساس للمشهد أن نفوذ حفتر وتواجده العسكري قد امتد من المنطقة الشرقية إلى اختراق المنطقة الغربية حتى طرابلس، إضافة إلى بعض المناطق في الجنوب. بما يعني تغير ميزان القوة العسكرية على الأرض لصالحه، وبالتالي اكتسب حفتر بالفعل موقفا تفاوضيا أقوى يتيح له رفع سقف مطالبه السياسية. أو بالأحرى تعظيم “حصته” في أي صيغة مستقبلية للحكم.
- حال دخول حفتر إلى طرابلس، فلا مجال لأي حوار، حيث سينتهي دور بل وتواجد السلطة السياسية القائمة الممثلة في حكومة الوفاق. ومكمن الخطورة في هذا الاحتمال، أن المأخذ الجوهري على المسار السياسي السابق، كان عدم استيعاب كل المكونات الليبية وتأمين قبول القوى الخارجية خصوصا الإقليمية. وهو الوضع ذاته الذي سينجم عن استيلاء حفتر على طرابلس واستئثاره بالسلطة، حيث سيعني ذلك إخضاع كل المكونات الليبية الأخرى لسلطة حفتر وحلفائه من شرق ليبيا، وربما إقصاء بعضها كلية. الأمر الذي سيعيد إنتاج الانقسام السياسي، وبالتبعية صراعات مسلحة تستنزف قوة وسيادة الدولة الليبية.
- ترتب أيضا على المستجدات الأخيرة، تبلور وانكشاف المواقف الخارجية، سواء الإقليمية أو العالمية. فحتى ما قبل عملية حفتر الهجومية ضد طرابلس، كانت بعض المواقف الإقليمية والدولية غير واضحة، وتجاري ولو ظاهريا، المساعي الرامية إلى تسوية وحلول سياسية. غير أن العمل العسكري على الأرض واستمرار العمليات لعدة أسابيع دون حسم سريع، جعل سلوك بعض الأطراف كاشفا لمواقفها الحقيقية. وبالتالي صارت تلك الأطراف تتحمل مسؤولية مواقفها ليس فقط أمام الليبيين، لكن أيضا أمام المجتمع الدولي والقوى الكبرى في العالم. خصوصا في ظل معاناة المدنيين من العمليات العسكرية، والأضرار المادية والبشرية الكبيرة المترتبة على استمرار العمليات العسكرية في مناطق آهلة بالسكان أو في تخومها. وتتضح أهمية هذا الانكشاف بالنظر إلى حالات محددة، منها فرنسا، التي تعرضت إلى اتهامات مباشرة وصريحة من حكومة الوفاق الليبية ومن دول أوروبية، بتقديم دعم مباشر وغطاء سياسي لخطوات حفتر العسكرية. وارتباك باريس بين تعديل موقفها خصوصا على مستوى الخطاب الرسمي، والتمسك بضرورة وجود حفتر وقواته كرقم مهم في المعادلة. وينطبق الأمر ذاته على الولايات المتحدة الأمريكية، وبدرجة أقل على بريطانيا.
وعلى الجانب الآخر، فإن العمليات العسكرية ضد طرابلس دفعت أنقرة إلى التخلي عن الدبلوماسية في التعاطي مع الملف الليبي، وتأكيد موقفها المساند بمختلف الأشكال إلى مجموعة الغرب وحكومة طرابلس.
ورغم أن مواقف الدول الأجنبية لم تكن خافية بشكل
كامل، وكذلك تدخلاتها بل ووجودها العسكري على الأراضي الليبية، إلا أن إعلان
المواقف أو انكشافها، يفرض أعباءً وقيودا على تلك الدول، خصوصا الأوروبية منها.
فمثلاً، تسبب الموقف الفرنسي في حرج بالغ لحكومة ماكرون على المستوى الأوروبي،
واستغلتها أطراف أخرى مثل موسكو لتأجيج الانقسام الأوروبي حول ليبيا([22]).
خاصة أن الاتهامات بتأييد عملية حفتر لم تقتصر على سلطات طرابلس، بل صدرت أيضا
وبشكل شبه صريح من دول أوروبية في مقدمتها إيطاليا. كما أن انكشاف مواقف الدول
المنحازة لأي من طرفي الصراع داخل ليبيا، سيحد كثيرا من قدرة تلك الدول في الملف
الليبي على لعب دور سياسي في أي مسار تفاوضي لإنهاء الأزمة الليبية. وستعاني
علاقات ليبيا الخارجية مع تلك الدول من أزمة ثقة، لفترة قد تطول.
([1]) ليبيا: بين صراع “الشرعيات” ومخاوف الجوار، دوتش فيلا “موقع الإذاعة والتلفزة الألمانية”، 25 أغسطس 2014. https://p.dw.com/p/1D10r
([2]) رصد الخريطة الكاملة لقبائل ليبيا ومواقفها من معركة طرابلس، وكالة “سبوتنيك” الروسية للأنباء، 9 مايو 2019.
([3]) حول طبيعة خارطة السيطرة الميدانية ومناطق النفوذ بين الجماعات المسلحة والقوى العسكرية بعد عامين من سقوط القذافي، انظر:
خارطة القوى المتصارعة في ليبيا، بوابة إفريقيا الإخبارية، 17 يوليو 2014. https://www.afrigatenews.net/a/22078
([4]) حول الخارطة الحالية القوى المسلحة المتصارعة في ليبيا، انظر: أبرز القوى المسلحة المتصارعة على النفوذ في المشهد الليبي، دوتش فيلا “موقع الإذاعة والتلفزة الألمانية”، 5 أبريل 2019.
([5])الحل السياسي يحتضر في ليبيا مع تمدد “داعش” وصعود حفتر، 27 فبراير 2015.
([6])لخليفة حفتر سيرة ذاتية ومهنية مثيرة للاهتمام، كان قريبا من القذافي وقائدا للقوات الليبية في تشاد. وبعد أسره هناك عام 1987 تخلى القذافي عنه فأعلن انشقاقه وأخرجته مروحيات أمريكية من تشاد إلى الولايات المتحدة وبقي عشرين عاما، قبل أن يعود إلى ليبيا عام 2011. له كتاب واحد صدر عام 1995 بعنوان: “رؤية سياسية لمسار التغيير بالقوة”.
لمزيد من التفاصيل: خليفة حفتر: القائد العسكري القوي في ليبيا، بي بي سي، 6 أبريل 2019.
ولبعض المعلومات غير المتداولة عن حفتر، انظر: 10 حقائق قد لا تعرفها عن المشير حفتر، أصوات مغاربية، 4 أبريل 2019.
([7])حول التسلسل الزمني للعملية وتطوراتها حتى نهاية مايو، انظر:
([8])هل فشلت الجولة الأوروبية لفايز السراج؟، موقع “أخبار ليبيا”، 9 مايو 2019.
([9]) يوجه حفتر اتهامات لقطر وتركيا، بتقديم الدعم بأشكال متعددة ليس فقط لحكومة طرابلس، لكن أيضا لجماعات وميليشيات مسلحة في غرب ليبيا. ومن أحدث التقارير في هذا الخصوص، انظر: https://bit.ly/2EbgoZx
([10]) تركيا ودعم حكومة الوفاق.. هل تتغير موازين القوى في ليبيا؟، دوتش فيلا “موقع الإذاعة والتلفزة الألمانية”، 30 أبريل 2019.
([11]) روما تعود من باب “الدبلوماسية” لكسب ود حفتر، ميدل إيست أونلاين، 16 مايو 2019. https://bit.ly/30zUTv6
([13]) حفتر يطلق حملة عسكرية لـ”تطهير” الجنوب الليبي من الإرهابيين، جريدة “الاتحاد” الإماراتية، 17 يناير 2019.
([14]) باريس: نتحمل جزءا من المسؤولية في أزمة ليبيا ولا ننحاز لحفتر، موقع “روسيا اليوم”، 3 مايو 2019.
([15]) ليبيا ـ مثال آخر على تذبذب السياسة الخارجية الألمانية، دوتش فيلا “موقع الإذاعة والتلفزة الألمانية”، 26 أبريل 2019.
([16])https://ara.reuters.com/article/topNews/idARAKCN1RV01R
([17]) سيلين جريزي، تضارب المصالح النفطية بين فرنسا وإيطاليا في ليبيا، الميادين نت، 29 أبريل 2019.
([18])لماذا تهتم فرنسا وإيطاليا بليبيا؟،عربي بوست، 27 أبريل 2019. https://bit.ly/2wlyy6F
([19]) حول تطور المسار السياسي منذ 2011 وتعثراته حتى ما بعد اتفاق الصخيرات، انظر:
د. أحمد موسى بدوي، مخاطر تفكيك الدولة: ليبيا بين إرهاصات التحول الديمقراطي، المركز العربي للبحوث والدراسات، 14 يناير 2016.
([20]) مبعوث الأمم المتحدة: يجب وقف الدول التي تغذي الصراع في ليبيا بالسلاح، رويترز، 21 مايو 2019.
([21]) طارق المجريسي، التأقلم مع ليبيا الجديدة، مؤسسة كارنيجي، 2 مايو 2019.
([22]) المصدر السابق