2019إعتراف أمريكا بسيادةإسرائيل على الجولانالعدد 178

الاعتراف الأميركي بسيادة إسرائيل على الجولان المعنى والتداعيات والنتائج

في 20/3/2019 كتب الرئيس الأميركي دونالد ترامب على موقع تويتر أنه “حان الوقت للاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على هضبة الجولان ؛ التي لها أهمية حيوية لدولة إسرائيل والاستقرار الإقليمي”. مؤدى هذه “التغريدة” أن تصور الرئيس ترامب لمصير الهضبة السورية المحتلة منذ عام 1967 ؛ الذي تحول إلى قرار أميركي منفرد، ملأ الدنيا وشغل الناس، كان يراوده منذ وقت سابق، وأنه وبطانته السياسية كانوا بصدد اختيار الوقت المناسب لتفعيله. وتتأكد صحة هذا التفسير عند تحري بعض الوقائع الموصولة بالسياق التاريخي للقرار ؛ التي انتهت بقناعة ترامب بأنه “حان الوقت” للخروج به على الخلق.

بدأت هذه المراودة في الأيام التالية مباشرة لتسلم ترامب مقاليد البيت الأبيض ( 20/ يناير 2017). ففي أول لقاء له مع بنيامين نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل ( 15 /فبراير 2017)، طالبه الأخير بالإقدام على خطوة الاعتراف، مستغلا حديثه عن انحيازه المطلق للرؤى الصهيونية التاريخية والروحية التي تلتقي مع القيم الأميركية، وقناعته بأن أمن إسرائيل له الأولوية على ما عداه من اعتبارات مهما كان شأنها ، وأن حل الدولتين ليس هو الطريق الوحيد للتسوية الفلسطينية ؛ وأن الأمم المتحدة عاملت إسرائيل بقسوة ؛ وأنه ينوي الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأميركية إليها. ويبدو أن نتنياهو حصل على تطمينات أولية من الرئيس الأميركي، شجعته لاحقا على عقد اجتماع لحكومته في الجولان (17/4/2018)، وهي سابقة تحدث للمرة الأولى .. ويومها، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي من هناك أن دولته ستبقى في تلك المنطقة ولن تتخلى عنها إلى الأبد.

وقبيل أيام معدودات من إعلان ترامب المشؤوم، اضطلع نتنياهو بمهمة الدليل السياحي لوفد من الكونجرس الأميركي كان في زيارة للجولان .. وهناك راح يشرح لهم الأهمية الاستراتيجية للهضبة بالنسبة لأمن إسرائيل ؛ ويردد المزاعم الصهيونية بأنها جزء من أرض إسرائيل التاريخية بدليل ” العثور على قطع أثرية يهودية هناك “. وقد علق البعض ساخرا من سخافة هذه الذريعة، بأنها لو طبقت عالميا لأعيد نصف القارات القديمة الثلاث إلى سيادة روما. ومع ذلك، فإنه حين عاد الوفد إلى واشنطن، قام بأداء المطلوب وهو حث الرئيس ترامب على الاستجابة لرغبة نتنياهو. وبالتزامن مع هذه النذر، تجنبت الدبلوماسية الأميركية في حديثها عن الجولان استخدام تعبير ” الاحتلال “، واستبدلته بمفهوم “السيطرة ” الإسرائيلية بكل ما ينطوي عليه هذا التغير من مضامين مضمرة تخالف الواقع القانوني والسياسي.

القصد، أن مؤشرات كثيرة كانت توحي بما يعتمل في ذهن الرئيس الأميركي وإدارته الجمهورية، وأن إعلان القرار في الوقت الذي أعلن فيه وفي حضور رئيس الوزراء الإسرائيلي، جاء عن حسابات بأن اللحظة مواتية لغير سبب، منها بلا حصر :

  • دعم فرص نتنياهو، صديق ترامب الصدوق وشريكه في نمطي التفكير والسلوك والقناعات الأيديولوجية والسياسية، إلى درجة أن كليهما يواجه داخليا تهما بالفساد السياسي والأخلاقي والغش والتوسل بالرشوة، بين يدي الحملة الانتخابية للكنيست الحادي والعشرين ؛ التي جرت بالفعل بعد أسبوعين من القرار (      9 إبريل 2019 ). والحق أن قرار ترامب الخاص بالجولان كان أثمن هدية يقدمها رئيس أميركي لمسؤول إسرائيلي في مقام نتنياهو وفريقه الحاكم ؛

الموصوفين جميعهم بـ ” التطرف ” اليميني الديني والعلماني. وعلى هذا الصعيد، حقق القرار غرضه إلى حد بعيد، وكان بمثابة صك غفران لرئيس الوزراء الإسرائيلي أمام جمهور الناخبين في إسرائيل.

  • تعزيز صورة ترامب وموقعه السياسي في الداخل الأميركي، وذلك عبر التوسل بجماعات الضغط الصهيونية بشقيها اليهودي والمسيحي. ولاسيما قطاعات الإنجيليين ؛ التي ترى في وجود إسرائيل وازدهارها تعجيلا للحظة الخلاص بكل حمولاتها ومرتكزاتها الدينية. ويذكر أن ترامب يطمع في مساهمة هذه القطاعات في دفع الأضرار المتأتية من التحقيقات القضائية التي يواجهها، على خلفية أكثر من اتهام ؛أبرزها السماح لروسيا بالتدخل لتعويمه في الانتخابات الرئاسية، ويطمع أيضا في إعادة انتخابه لولاية ثانية.
  • توجيه رسالة إلى النظام السوري ؛ فحواها أن تحالفه مع روسيا وإيران وحزب الله اللبناني ربما أدى إلى إنقاذه في دمشق ؛ لكنه لن يكون قادرا على إنقاذ الجولان واستعادة السيادة السورية عليها.
  • إشعار موسكو؛ التي رسخت نفوذها في سوريا، بأن الولايات المتحدة مازالت تستطيع التأثير هناك .. وهذا بالتوازي مع إشعار الإسرائيليين، بأن توجه حليفهم الأميركي إلى تخفيف وجوده في الميدان السوري، لا يعني تخليه عنهم في مواجهة إيران وحزب الله ،وذلك في ضوء تقدم الجيش السوري وتمكنه من دحر قوات المعارضين في الطرف الآخر من الجولان .
  • استغلال معطيات عربية عامة وسورية خاصة مشجعة إسرائيليا وأميركيا للانقضاض على الجولان. ومما يقال في ذلك أن الجولان لم يحظ بالاهتمام العربي ذاته ؛ الذي ناله مصير الضفة وغزة .. وألمح بعض المعلقين إلى أن ” قلة عدد سكان الهضبة المحتلة، وضعف التعبئة السياسة بينهم، جعلها تخرج إلى حد ملموس من الاهتمامات العربية”. وعلى الصعيد السوري، أدت الحرب الأهلية إلى بعثرة المجتمع السوري وانتشار الأحقاد السياسية وغير السياسية بين جماعاته وإنهاكه وانشغاله بأحواله الدامية .

من ثوابت قوانين العلاقات الدولية وأعرافها وتقاليدها السارية، عدم جواز ضم الأراضي بالقوة. هذه الثوابت، المبثوثة في متون القانون الدولي العام والقانون الدولي الإنساني ومعاهدات جنيف ولاهاي وميثاق الأمم المتحدة و قراراتها العامة ذات الصلة، كفيلة وحدها باعتبار قرار الرئيس الأميركي بحق الجولان خطوة خارج مألوف التعامل بين الأمم المتحضرة، وهي التي تفسر عدم إقرار أي دولة بضم إسرائيل لأي أرض استولت عليها جراء حرب العام 1967 .. لكن هذا الخرق يبدو أكثر جرأة وتبجحا، عندما نتذكر أن الجولان مشمول بذاته بقرارات الشرعية الدولية الخاصة بكيفية تسوية نتائج تلك الحرب، وفي طليعتها قرارات مجلس الأمن أرقام 242 لعام 1967 و 338 لعام 1973 و497 لعام 1980. وموجزها عموما ” عدم جواز القبول بالاستيلاء على أراض بواسطة الحرب، ودعوة إسرائيل إلى الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة، مقابل سلام يؤدي إلى الاعتراف بحق الجميع بالعيش في حدود آمنة ومعترف بها. وبطلان قرارات إسرائيل بضم الجولان واعتبارها بلا مفعول قانوني على الإطلاق..”.

قبل عهد ترامب، لم يسبق للسياسة الأميركية أن حلقت بعيدا عن هذا الإجماع، وذلك على الرغم من انحيازها ودعمها اللامقطوع واللاممنوع لإسرائيل .وعليه، يعد موقف هذا العهد انتهاكا لبعض موروث هذه السياسة تجاه الصراع الصهيوني العربي ؛ الذي ظل يعتبر الجولان أرضا محتلة تحل قضيتها بالمفاوضات، وكانت واشنطن بعينها أكثر الأطراف الدولية انغماسا في الوساطة وممارسة لدور الطرف الراعي لهذه المفاوضات. ومن جهة أخرى، يصح الاعتقاد بأن موقف إدارة ترامب المبتدع من الجولان يعبر عن استخفاف بالميراث الحقوقي المنظم للعلاقات الدولية في أوقات الحرب ؛ الذي طالما جهرت السياسة الخارجية الأميركية بالتزامها به .. حدث هذا في سياق تبرير معارضتها لكل من الغزو السوفيتي لأفغانستان عام 1979 والغزو العراقي للكويت عام 1990 وسيطرة روسيا على شبه جزيرة القرم عام 2014  .. والحال كذلك فإن إدارة ترامب تبدو وكأنها تؤسس لمبدأ مستحدث من عندياتها ؛ قوامه أن القوانين والقرارات الدولية ليست هي صاحبة الكلمة النهائية في تعيين العلاقات والحدود الجغرافية بين الدول.. وأن الغلبة بالقوة المسلحة يمكنها ممارسة دور فارق ومحدد في هذا الإطار.

هذا يعني، بكلام آخر، أن قرار ترامب بصدد الجولان، وكذا بشأن الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على مدينة القدس ومحاولة شطب حق العودة الفلسطيني، وتقويض وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين ( أونروا )، يؤسس للانتكاس بعالمنا إلى غياهب شرعة الغاب وما قبل استقرار القوانين والتنظيمات الدولية. وقد التقط بعض الإسرائيليين طرف هذا التحول غير الطبيعي، وراحوا ينسجون عليه، محاولين إسباغ مسوح قانونية ومنطقية عليه.. إذ اعتبر هؤلاء أن الدول العربية هي التي بادرت بالاستعداد للعدوان عام 1967، وأنه لا يحق للمعتدي الذي فقد في الحرب شيئا المطالبة به. مثل هذا التصور، يعني أن ثمة في إسرائيل من يجتهد لإعادة صياغة قصة عدوان 1967، بهدف تبرير استقطاع بعض الأراضي العربية التي احتلت في سياقها، على قاعدة أن ذلك مثل خسارة للعرب لصالح إسرائيل التي كانت في “حرب دفاعية”. 

خبراء الدعاية والإعلام وسواهم من القانونيين والحقوقيين والدبلوماسيين الصهاينة غير العدول، ومشايعيهم داخل إسرائيل وخارجها، ربما يسعون إلى مزيد من الترويج لهذه البدعة وما يتصل بها من فتنة حقوقية. ومع أن الإطاحة بمنطقهم ومحاججاتهم وسفسطاتهم ليست بالأمر العسير، في ضوء حقائق الرصيد القانوني والسياسي الموصول بسيرة الاحتلال الإسرائيلي لتلك الأراضي، ومن ضمنها أضابير ومحاضر التفاوض الإسرائيلي مع الطرف السوري، إلا أن مجرد الخوض في مثل هذه الغمار يشكل سابقة سلبية مثيرة .. فالأصل أن المجتمع الدولي، ناهيك عن المجموعة العربية، بصدد قرار يتعمد التشكيك في مبادئ وقوانين وقرارات، نتجت واستقرت عن خبرات متراكمة، ومنها عدم المساس بالحدود وتغييرها بالقوة. ويصح تماما في هذا الإطار ما جاء على لسان أمين عام جامعة الدول العربية السيد أحمد أبو الغيط ” إذا كان الاحتلال جريمة، فإن إضفاء الشرعية عليه جريمة لا تقل خطورة ” .

في كل حال، فإنه باستثناء الترحيب الإسرائيلي، وهو الموقف المقدر سلفا، تلقى القرار الأميركي ردود أفعال عربية وإقليمية ودولية مستنكرة وغاضبة.. فالاتحاد الأوروبي رفض الخطوة الأميركية بلا مواربة. وأصدرت الدول الأوروبية الخمس الأعضاء في مجلس الأمن بيانا، أكد على مخالفة القرار للقانون الدولي الذي يحظر ضم الأراضي بالقوة، وأن القرار مرفوض لأنه تغيير أحادي الجانب. وسخرت موسكو من القرار مؤكدة أن ” الجولان أرض محتلة طبقا لقرار مجلس الأمن رقم 497، ولو كان لدى واشنطن أحقية في موقفها، فلماذا لا تعترف بسيادة روسيا على القرم طبقا لمنطقها مع الجولان ؟ “. وأعلنت القمة العربية، التي انعقدت بعد بضعة أيام من صدور القرار الرفض المطلق لخطوة واشنطن ” وحذرت أي دولة تحذو حذو الولايات المتحدة في مثل هذه السياسة الشاذة عن الإجماع الدولي “. ومن جانبهم، أجمع أعضاء مجلس الأمن الدولي في الجلسة التي انعقدت بطلب من سوريا (27/3/2015)، عدا الصوت الأميركي بالطبع ،على رفض القرار واعتباره إجراء أحاديا لاغيا ولا يرتب أي جديد بالنسبة لوضع الجولان السوري كأرض محتلة ” يتحدد موقف الأمم المتحدة منها، وفقا لقرارات مجلس الأمن والجمعية العامة بهذا الخصوص “.

عندما صدر قرار الرئيس ترامب بالاعتراف بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل (6/12/2017)، وتم نقل السفارة الأميركية إليها بالفعل (14/6/2018)، واقترن ذلك بسلسلة من القرارات الأميركية المعادية للحقوق الفلسطينية، والمعاكسة لحل الدولتين ؛ الذي يعد في أصله مبادرة أيدتها واشنطن وسعت إلى رعاية التفاوض الإسرائيلي الفلسطيني حولها من قبل، عندما حدث ذلك ونحوه ، فقد الفلسطينيون ما تبقى لديهم من آمال محدودة في إنصاف الولايات المتحدة بين يدي حديث السلام والتسوية مع إسرائيل.. حتى أنهم أعلنوا نبذهم لانفرادها برعاية عملية التسوية ومقاطعتهم كليا للتعامل مع إدارة ترامب، ورفضهم القاطع لما عرف بـ ” صفقة القرن “، تلك الخطة التي راحت هذه الإدارة تعد بإطلاقها لوضع حد نهائي للقضية الفلسطينية. وبينما كان التناظر على أشده لدى كل المعنيين بالتسوية الفلسطينية، بشأن مضامين الحل الجاري تصنيعه أميركيا تحت عنوان الصفقة، كانت الدبلوماسية الفلسطينية أكثر الأطراف قناعة بأن هذه الخطة العتيدة ؛ التي تأجل كشف النقاب عن تفصيلاتها غير مرة، لا تنذر بغير السوء لحقوقهم التاريخية والقانونية ولمصيرهم، وبأنها تنطوي على مساوئ وعيوب جوهرية تتعلق بتصفيف خريطة الجوار العربي لفلسطين التاريخية على النحو الذي تريده إسرائيل. وهنا بالضبط جاء القرار الخاص بالجولان كي يؤكد مصداقية هذا التصور، ويهيل الكثير من التراب على دور الوساطة الأميركية، ليس فقط على صعيد التسوية الفلسطينية ،وإنما أيضا على بقية مفردات عملية السلام بين العرب وإسرائيل، وضمنها بالضرورة المسار السوري الإسرائيلي.

لامجال والحال كذلك لأي وعود مشرقة يمكن أن تأتي بها الصفقة الأميركية، ولامجال لمعقولية أو مقبولية الاعتقاد بأن منهجية إدارة ترامب، تسمح بتقعيد تسويات للقضايا العالقة بين أطراف الصراع الإسرائيلي العربي. تقع هذه النتيجة على رأس التوابع السياسية لقرار الجولان الأميركي .

رب مجادل هنا بأن العرب عموما، دون استثناء الفلسطينيين، كانوا دوما على دراية بالعلاقة الأميركية الإسرائيلية الخاصة، ومع ذلك ارتضوا بوساطتها بحكم كونها الفاعل الدولي الأكثر قدرة على لي ذراع إسرائيل والتأثير على سياساتها. هذا صحيح، لكن الجديد الفارق الذي أتت به إدارة ترامب هو قطعها لشعرة معاوية مع مفهوم الوساطة بشيء من اللياقة والاعتدال، بمجاهرتها للعداء مع ثوابت الحقوق العربية المكفولة بالشرعيتين التاريخية والقانونية، وقبل ذلك وبعده، اتجاهها إلى تفسير القوانين الدولية وقرارات التنظيمات الدولية وفقا للرؤى الصهيونية الإسرائيلية.  

لنا أن نلاحظ مثلا، كيف بررت هذه الإدارة قرارها بشأن الجولان  باحتياجات الأمن الإسرائيلي. هذا التبرير ليس مبتكرا ولا يمثل اكتشافا، فلطالما دفعت به إسرائيل ولم يؤمن به أي طرف دولي، ولا انصاعت له أي إدارة أميركية بالكيفية التي أقدمت عليها إدارة ترامب ،على مدار اثنين وخمسين عاما من احتلال الجولان. ومن نافلة التوقعات أن التوسل بذريعة الأمن الإسرائيلي، يعد سابقة من شأنها إيذاء المحيط الإقليمي العربي عموما، وتشجيع نخب الحكم والسياسة الإسرائيلية على مزيد من التنمر والسعي لقضم الأرض الفلسطينية، لاسيما في الضفة المحتلة .

والواقع أن هذه النخب لم تتأخر كثيرا في استخدام المنظور الأميركي المستحدث في مقاربة مصير الأرض الفلسطينية المحتلة، وأعلنت على لسان زعيمها الأكبر نتنياهو “أننا في الطريق إلى ضم الكتل الاستيطانية الكبيرة، وسوف نحتفظ حتى بالبؤر الاستيطانية العشوائية ولن ننقلها إلى السيادة الفلسطينية “.

بصيغة أخرى، ألقى قرار ترامب بظلال كئيبة على صورة السياسة الأميركية لدى الشعوب العربية، وحجب النزر اليسير من الثقة في احتمال اعتداله.. ترسخت هذه الصورة المشينة إلى الدرك الذي راح عنده البعض، يستحضر سيرة وعد أو تصريح بلفور الشهير قبل مئة عام، فقيل إن العرب إزاء نموذج آخر هو وعد ترامب، وكلاهما أعطى ما لا يملك لمن لا يستحق. وبالتداعي، فإنه كلما ورد حديث صفقة القرن  تم استحضار سيرة اتفاقية سايكس بيكو المنكودة، ولم تعد هناك حاجة عربية أو إقليمية أو دولية لمزيد من التكهن والتخمين حول محتوياتها، باعتبار أن ما أمسى معلوما عنها يكفي وزيادة لمعرفة ما بقي مخبوءا منها أو قيد الإعداد.

لا غبار على عقد المحاكاة بين وعدي بلفور البريطاني وترامب الأميركي، فكلاهما يتصل بإيمان الرجلين بالخطاب الصهيوني القح .. غير أن تصرف ترامب يبدو أكثر فجاجة واستدعاء للقيم العنصرية تجاه عوالم الآخرين طرا، علاوة على استخفافه بحقوق العرب. وإذا ما أخذنا في الحسبان بقية مواقف الرئيس الأميركي من القدس والاستيطان الصهيوني وحق العودة الفلسطيني .. جاز الاعتقاد بامتداد هذه الاستهانة إلى كل من الفلسطينيين والعرب والمسلمين وإرثهم الحضاري الإنساني الحاضن لبعض المقدسات المسيحية على حد سواء. ثم إن هذه المواقف الشاذة، صدرت في سياق تاريخي حقوقي دولي أكثر تطورا و تنظيما وعناية بأصول العلاقات الدولية .. سياق فارق إلى حد مذهل زمن ولاية القوى الاستعمارية الغربية على بقية خلق الله من الشعوب والدول.. هذا على حين كان بلفور قريب العهد من صناعة السياسة الدولية عملا بتلك الولاية الموهومة، ناهيك عما كان شائعا في ذلك الوقت من مزاعم سخيفة عن ” رسالة الرجل الأبيض وتفوقه الطبيعي إزاء الآخرين “. ونحسب أن الرفض الدولي الحازم لوعد ترامب وبقية سياساته “الشرق أوسطية ” ؛ والسخرية من خطابه الأيديولوجي الذي يمثل انتكاسة لأصول التعامل الحضاري بين الأمم، مقابل تبني قوى دولية متنفذة لصيغة بلفور، يجسد هذا الفارق بين زمنين وحقبتين وعالمين.

مؤدى هذه الخواطر، أن سياسة إدارة ترامب تجاه نتائج حرب 1967 ،وضمنها الموقف من مصير الجولان، أزالت قناعات وأنتجت قناعات وأهاجت عواطف وأحانين وذكريات طال الظن بخمودها أو أفولها في الرحاب العربية والإقليمية والدولية، وأحدثت زلزلة ذات مردودات وتوابع عاجلة وآجلة .. منها علاوة على ما أشرنا إليه :

إثارة صعوبات جمة أمام قضية تطبيع الدول العربية غير ذات العلاقة الرسمية مع إسرائيل، وقد يستطرد هذا التعقيد إلى الدول المعاهدة لها. وبذلك ربما خاب ظن الكثيرين بأن النظام العربي يوشك أن يتخلى عن أولوية التسوية السياسية، لصالح الاستهلال بهذا التطبيع وذلك بالمخالفة لمبادرة السلام الاستراتيجي العربية ؛ المعروضة على الملأ منذ العام 2002.

سبق لدمشق أن فاوضت إسرائيل على الرغم من قرار الأخيرة بضم الجولان عام 1981.وكان ذلك عن قناعة بالوساطة الأميركية المنطلقة من رفض خطوة إسرائيل الأحادية، والالتزام بالقوانين والقرارات ذات الصلة. لكن هذا التصور يبدو بعيد التكرار في ضوء مستجدات الموقف الأميركي، وميل النخب الصهيونية الحاكمة في إسرائيل للتأسيس على هذا الموقف، وصعوبة تجاوز الدور الأميركي من لدن الفواعل الدوليين المعنيين بعملية التسوية. وجماع ذلك كله دخول عملية السلام برمتها في دائرة محكمة الإغلاق .. فلا العرب بقادرين على تخطي سلبيات الانحياز الأميركي المطبق لصالح إسرائيل، ولا المجتمع الدولي بقادر على ممارسة الدور الأميركي أو استبداله، ولا الولايات المتحدة، لاسيما في عهد ترامب وجماعة الجمهوريين، بوارد العودة إلى جادة القانون والشرعية الدولية الخاصة بالتسوية. ولا يبقى كمخرج من هذه الدائرة اللعينة، سوى احتمال تراجع القطب الأميركي عن غيه.. ومع أن حدوث هذه الأوبة يبدو صعبا إلا أنه ليس مستحيلا ؛ فإدارة ترامب سبق أن سحبت شراكتها في الاتفاق النووي الإيراني ؛ الذي أقرته إدارة باراك أوباما الديمقراطية. جرى التراجع هنا رغم أن هذا الاتفاق لا يمثل خطوة أحادية كالقرار الأميركي المنفرد بشأن الجولان والقدس وغيرهما من الحقوق العربية .

على الرغم من استبشار المتطرفين الصهاينة بالخطوة الأميركية، وطمعهم في اعتراف أميركي مماثل بسياسات ضم أراض فلسطينية، وبخاصة في غور الأردن والمناطق غير المأهولة نسبيا في الضفة، إلا أن إسرائيليين آخرين يحذرون من انزلاق دولتهم بعيدا عن حل الدولتين باتجاه حل الدولة الواحدة ؛ سواء تم ذلك بصيغة الدولة ثنائية القومية أو دولة كل مواطنيها. وفى ظل إقرار ما يعرف بـ “قانون القومية اليهودية”، سوف تصبح إسرائيل على تماس مباشر مع صيغة الأبارتيد الممقوتة والمدانة في جهات الدنيا الأربع .

دق القرار الأميركي مسمارا كبيرا في نعش عملية السلام العربية الإسرائيلية، ويكاد يشكل عاملا أساسيا في ديمومة وضعية الحرب على واحدة من أخطر الجبهات. ولا مبالغة في الاعتقاد بأن مواقف كل من سوريا وحزب الله اللبناني وحركة حماس الفلسطينية، وسواهم ممن يوصفون جدلا بمحور الممانعة، قد تنال مصداقية أكبر في الرحاب الإقليمية. وربما تمكنت طهران من إقناع دمشق في الحصول على موطئ قدم لقواتها في سوريا، أو حتى بشن الحرب لتحرير الجولان. وبوجه عام أكسب القرار خطاب الصراع والمقاومة المسلحة طاقة قوية في البيئة الإقليمية، مقابل إضعاف خطاب السلام والتسوية الذي ساد خلال أكثر من ربع قرن. يتصل بهذه الملاحظة، إصابة أنصار التسوية والاعتدال العرب بشيء كثير من الإحباط إزاء الشريك الأميركي ؛ الذي يمارس دور العراب الآثم لصالح إسرائيل، و يبارك استيلاءها على أرض عربية احتلتها بالقوة العارية .. الأمر الذي لا يمكن تبريره بالمطلق.

سوف يشجع القرار أنصار الاستيطان وقطعان المستوطنين في إسرائيل، على توسيع أنشطتهم في الهضبة السورية وسواها من الأرض المحتلة في الضفة الفلسطينية.. إذ سيقتنع هؤلاء أكثر فأكثر من اقتراب حلمهم بالاستقرار ” الأبدي ” في هذه المساحات. هذا مع العلم بأن خمسين عاما وزيادة من احتلال الجولان لم تؤد إلى تدفق المستوطنين إلى هناك، رغم توفر المنطقة على طبيعة خلابة وموقع استراتيجي متميز وفرص اقتصادية مغرية ودعم حكومي دائم .. حتى أن عددهم هناك لا يزيد عن 18ألف نسمة ينتشرون في 32 مستوطنة.  

اظهر المزيد

د. محمد خالد الأزعر

كـاتب وأكــاديمي فلسطيني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى