مقدمة
أعلن رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، دونالد ترامب، في 20/12/2018، قرار انسحاب القوات الأمريكية من شرق سورية، بعد ما وصفه ” بإتمام النصر على داعش”، وقد أثار هذا القرار جدلاً واسعا داخل أميركا وخارجها، وتمثلت ردود الفعل، على قرار ترامب، بالاستقالة الفورية لكل من وزير الدفاع جيمس ماتيس والمبعوث الخاص الأمريكي للتحالف الدولي ضد “داعش” بريت ماكغورك.
ويعد هذا الإعلان نقطة تحول نوعية في سياق المشهد السوري ومعادلاته العسكرية والسياسية؛ وستشكل تداعياته المحتملة والمفتوحة رسمًا أوليًا لطبيعة الأدوار المحلية والإقليمية والدولية وحدودها، وبغض النظر عن أن القرار ارتجالي أو مخطط له، فإنه سيكون تحت الاختبار وسيترتب عليه إعادة تموضع لكل القوى المنخرطة في سورية.
أهمية منطقة شرق سورية
تشكل المنطقة التي تقع تحت سيطرة القوات الأمريكية، أو حمايتها، وفق الخطاب الأمريكي، حوالي ربع مساحة سوريا، لكنها تحوي معظم ثروتها من النفط والغاز، كما أنها منطقة مجاورة لتركيا والعراق.
وقد جعلت هذه الميزات للمنطقة، محط تصارع قوي بين القوى الموجودة في سوريا، وخاصة بين طرف النظام السوري وحلفائه ” روسيا وإيران” من جهة، وبين تركيا من جهة أخرى، على الرغم من أن الأطراف الثلاثة: روسيا وإيران وتركيا، تشارك في محادثات حول سوريا. فالنظام السوري وحلفاؤه يعدونها منطقة استراتيجية لما فيها من ثروات، كما أنها بالنسبة إلى إيران منطقة أمان وحماية للطريق البري من طهران لدمشق مرورًا ببغداد، ولروسيا أيضًا، للتأكيد على أنها الجهة الفاعلة الأقوى، ومن يحدد الأدوار والمساحات للقوى الأخرى. أما بالنسبة إلى تركيا فهي قضية أمن قومي كما تعدّها، وساحة لمحاربة لتنظيمات إرهابية مثلها مثل “داعش”.
ضمن هذه الخريطة من تشابك الصراعات في سوريا، جاء قرار ترامب سحب القوات الأميركية، ليزيد نسبة الإرباك والتوتر في المشهد السوري.
المشاكل التي ينطوي عليها القرار
يعكس هذا القرار تغيّرًا في الاستراتيجية الأمريكية، وهو دليل على الفوضى الخطيرة داخل الإدارة الأميركية، حيث يعارضه كثيرون وعلى جميع المستويات من أركانها، لكنه بالتأكيد يضيف تعقيدًا جديدًا على الوضع في سوريا، وهو الوضع غير المستقر أساسًا، ويشير إلى أن مدة التصارع طويلة في المنطقة، إن لم يكن نذيرًا بانطلاق شرارة صراع أكبر.
في عام 2018، بدأ المسؤولون الأمريكيون في إعادة صياغة الأهداف الأمريكية في سورية، وبالإضافة إلى هزيمة داعش نهائيًا، وضع الأمريكيون أهدافًا جديدة، أهمها: احتواء الوجود الإيراني وطرده من سورية في نهاية الأمر، بالإضافة إلى التوصل لتسوية سياسية في نهاية الأمر، وكان وزير الخارجية الأمريكية السابق ريكس تيلرسون قد حدّد ركائز هذه الاستراتيجية في خطاب ألقاه في جامعة ستانفورد منتصف يناير/ كانون الثاني 2018، وفي صيف 2018 تولى السفير جيمس جيفري، الذي تم تعيينه لقيادة الاستراتيجية الأمريكية لإعطائها دورًا أكثر فعالية، حيث أكد للحلفاء الغربيين والشرق أوسطيين أن الولايات المتحدة الأمريكية ستحافظ على وجودها في سورية وإحياء الجهود الأمريكية لتحقيق انتقال سياسي في سورية.
والغريب أن التيارات المختلفة في الإدارة الأمريكية، وخاصة في البنتاغون والخارجية والبيت الأبيض كانت متفقة على ضرورة بقاء طويل الأمد في شمال سورية قبل أن يفاجئها ترامب بقرار الانسحاب، وهذا القرار إضعاف لمصداقية أميركا تجاه حلفائها وشركائها في المنطقة .
مشاكل إدارية
توضح طريقة إعلان ترامب الانسحاب من سورية وجود فجوة واسعة بين رئيس يريد انتزاع بلاده من الحروب الخارجية والبيروقراطية الأمنية الوطنية المكلفة إدارة هذه الحروب، فقد اتخذ ترامب قراره بعد مكالمة مع أردوغان وجاء على شكل تغريدة على تويتر دون أن يسبق ذلك مداولات على المستوى الوطني ولا تبادل للآراء مع الحلفاء والشركاء. ولا إبلاغ الناتو، بعد أن كانت كل من فرنسا وبريطانيا قد نشرتا جنودهما في سورية واعتمدوا على الخدمات اللوجستية والمخابرات الأمريكية والمراقبة والاستطلاع للقيام بعملياتهم الخاصة.
وحاول المسؤولون الأمريكيون إدارة تداعيات قرار ترامب بتأجيل مدة الانسحاب ووضعوا الشروط المتعلقة بإيران، وإعادة طرح أفكار قديمة مثل منطقة آمنة تفرضها تركيا أو نشر قوات عربية.
صعوبات لوجستية
تعتبر إعادة الجنود الأمريكيين أمرًا ليس بالبساطة التي تصورها ترامب، فالانسحاب من وجهة نظر خبراء البنتاغون يمثل كابوسًا لوجيستيًّا. إذ يتعيَّن على الجيش الأمريكي تفكيك وشحن عددٍ من القواعد العسكرية، وسيارات الهامفي، ومكيفات الهواء، وأكشاك الوجبات السريعة. ويجب شحن كل الأسلحة والذخائر، أو منحها للحلفاء، أو تدميرها، لضمان عدم وقوعها في أيدي الأعداء. وفي حالة سوريا، سيتعيَّن على القوات الأمريكية أن تُغادر عبر أراضٍ محظورةٍ وسط منطقة حربٍ نشطةٍ، دون وجود ميناءٍ قريب. وحتى لو انسحبت القوات الأمريكية، فهي على الأرجح ستضطر للعودة سريعًا. فما يحدث داخل منطقة الشرق الأوسط سرعان ما يُؤثِّر في المصالح والقِيَم الأمريكية، وسط عالمٍ تسوده العولمة، وهو ما اضطر الرؤساء الأمريكيين السابقين للتدخل في صراعات المنطقة؛ لحماية الأمن والمصالح الأمريكية رغم نفورهم من ذلك.
إعادة تقييم
اضطر رئيس الإدارة الأمريكية دونالد ترامب، إلى التخفيف من حدّة قراره، بعد الحملة الداخلية عليه وخاصة في مجلس الشيوخ حيث تلاقت مواقف الجمهوريين والديمقراطيين على إدانة الخطوة واعتبارها ضارة بالأمن القومي للولايات المتحدة ومصالحها، فكانت أولى نذر التلويح بإعادة تقييم الموقف أو تطمين الحلفاء بالخارج، أو تهدئة ردّات الفعل في الداخل، أن غرد ترامب بأنه “أبلغ الرئيس التركي أن الانسحاب سيكون بطيئًا ومنسّقًا مع تركيا”، ثم جاءت الخطوة الأهم وذات الدلالة، وهي أن ترامب لم يتمكن بعد من حسم الصراع مع مرتكزات الدولة العميقة، حيث أكد السيناتور ليندسي غراهام بعد اجتماعه مع الرئيس لمدة ساعتين على ثلاث نقاط 1”- القضاء الكامل على داعش 2- عدم السماح لإيران بملء الفراغ الذي سيحدثه الانسحاب الأميركي 3- حماية الحلفاء الأكراد”، بل ذهب غراهام إلى أبعد من ذلك حيث أفاد بأن ترامب قال له “أشياء لم يكن يعرفها، جعلته يشعر بشكل أفضل لما تتجه إليه الأمور في سورية”، وقد أثارت تصريحات غراهام تساؤلات حول طبيعة ما قاله ترمب له وجعله يوقف حملته ضد قرار ترمب، واعتقد بعض المراقبين أنه قد تكون هناك تفاهمات مع بعض أطراف الصراع لم تظهر للعلن بعد على إخراج إيران من سورية، أو أن إيران قطعت وعودًا بالانسحاب، ذلك أنه من شبه المستحيل أن يتم التوصل إلى تسويات في سورية مع هذا العدد من الدول المتدخلة والتي لا تتطابق في أهدافها، ولا بد من أن تخرج أغلب هذه الأطراف بالتدريج من معادلات الصراع، حتى يمكن عقد صفقة مع طرف أو اثنين.
ماهي أهداف قرار ترامب؟.
لم يكن خافيًا أن قرار الانسحاب مع سورية يأتي في سياق استراتيجية ترامب القاضية بإخراج أميركا من حروب ونزاعات العالم التي يرى أنها تكلف أميركا كثيرًا بدون وجود عوائد حقيقية لانخراطها في هذه النزاعات، والتي غالبًا ما تذهب ثمارها لأطراف أخرى ومعادية لأميركا بنفس الوقت.
غير أن ترامب، سواء قصد ذلك أم لم يقصده، أوجد ديناميكيات جديدة للصراع في سورية وعليها، ذلك أن قراره غذى طموحات وقلق الجهات الفاعلة المحلية والإقليمية التي تتنافس على الشكل المستقبلي لسورية، فقد وضع قرار ترمب روسيا في مواجهة مباشرة مع كافة أطراف الصراع في سوريا، حلفاء كانوا أم خصوما، وبعد “اتفاق إدلب” أصبح الثنائي الروسي – التركي أمام 3 تحديات: حل مشكلات الشمال-الغربي السوري، وهي متنوعة ومتشابكة، محليًا وإقليميًا، المسؤولية المباشرة عن التأزم القديم-الجديد في العلاقات التركية الكردية، بخاصة مسألة المنطقة الآمنة، التي تريدها تركيا ويرفضها النظام السوري والأكراد في آن، وأخيرًا مشكلات ما بعد الحرب، من قضية النازحين واللاجئين إلى الإعمار، وفوق ذلك، سيكون على روسيا التعامل مع “العقدة الإيرانية” في امتداداتها السورية والإسرائيلية وجها لوجه، من دون أي وجود “للفزاعة الأمريكية” التي تتذرع إيران كي تحافظ على وجودها العسكري في سوريا.
ولكن ماذا عن خسارة أميركا لتأثيراتها في سورية نتيجة غياب حضورها العسكري، وهو الأمر الذي نبه منه خبراء الاستراتيجية الأمريكية، بقولهم إن وزن التأثير الأمريكي سيصبح صفرًا في أي مفاوضات قادمة حول سورية في حال انسحابها العسكري.
ويبدو أن الإدارة الأمريكية تنبهت لهذا الأمر، وفصلت بين انسحاب عسكري وانسحاب سياسي من الملف السوري، هذا الملف الذي لا تزال تمتلك أميركا فيه أدوات نوعية كأوراق للضغط، فضلاً عن ملف إعادة الإعمار التي تشترك فيه مع العديد من الفواعل برؤية موحدة، وقد حركت المؤسسات الأمريكية مؤخرًا قانون” قيصر” الذي يتبنى عقوبات اقتصادية ضد كل مؤسسة أو شركة أو دولة تساهم في مشروع إعادة الإعمار في سورية.
مواقف ومواقع اللاعبين من قرار الانسحاب
- تركيا
أربك القرار المفاجئ بالانسحاب تركيا وخططها إلى الدرجة التي دفعت الرئيس التركي رجب أردوغان أن يطلب من ترامب التريث في تنفيذه، وكأن ما تداولته وسائل الإعلام عما قاله ترامب لأردوغان بأن “شرق الفرات كله لك، وأن كل شيء انتهى”، تحمل في طياتها -إن صحّت- احتمالين متناقضين يستدعيان التريث الذي قرره الرئيس التركي، أولهما أن يكون الرئيس الأميركي قد أعطى تركيا غطاءً لتملأ الفراغ الذي ستخلفه القوات المنسحبة، وذلك لتخفيف التوتر الذي شاب العلاقات الأميركية التركية والعلاقة مع حلفاء تركيا الأطلسيين، ، كما يعزز هذا الاحتمال قرار ترامب بيع تركيا منظومة صواريخ باتريوت بديلًا عن صفقةS400 ، التي تتفاوض حولها تركيا مع الروس، إضافة إلى الإفراج عن صفقة طائرات F35 .
والاحتمال الثاني، وهو احتمال ضعيف، أن يكون ترامب قد عنى بكلامه أننا سننسحب، وإذا أردت الدخول شرق الفرات اعتمادًا على قواك الذاتية أو تفاهماتك مع الروس، فيمكنك فعل ذلك، وهذا نوع من التوريط تخشاه تركيا.
المهم أن كلا الاحتمالين يتطلب تريثًا ومفاوضات قد تكون قاسية مع الروس.
غير أن الوقائع تثبت أن تركيا والولايات المتحدة الأمريكية أصبحتا منذ مدة طويلة متنافرتين جيوسياسيًا، وقد أطلق القرار الأمريكي بالانسحاب من سوريا، سباقًا من أجل السيطرة على شمال شرق سوريا، حيث تهدف تركيا إلى الحد من المكاسب الإقليمية وإضعاف الهيكل الإداري لقوات سوريا الديمقراطية الكُردية. وهي استراتيجية تصطدم بالأهداف التي حددتها أميركا بشأن انسحابها: مواصلة القتال ضد تنظيم الدولة (داعش) وحماية الحلفاء الأكراد والتصدي للنفوذ الإيراني في سوريا.
إن عدم الاتساق الاستراتيجي والجيوسياسي كانا الخصائص المهيمنة على العلاقات الأمريكية- التركية في سوريا منذ البداية، من حيث الرؤية والأهداف، كما أن تصورهما للتهديدات مختلف، وقد تطوّر الانفصال الاستراتيجي وعدم التوافق الجيوسياسي بين البلدين قد تطور منذ فترة، إذ تقوم تركيا منذ عدة سنوات بتشكيل تحالفات مرنة مع روسيا وإيران. ومع ذلك كانت الولايات المتحدة دائمًا شريكًا ثالثًا غير مرئي، يقوم بتحديد طبيعة ونوعية الاتصالات بين الروس والأتراك، وبنفس الطريقة، فإنه من المرجح، أن تكون موسكو من الآن فصاعدًا الشريك الثالث غير المرئي الذي يحدّ من أي تفاعل أمريكي-تركي حول سوريا .
- إيران
تعاملت بحذر مع القرار الأميركي، وعززت مواقعها غرب الفرات استعدادًا لما قد يتركه الانسحاب من تداعيات تطالها، وليس أدل على قلقها ما بدر من ردّات فعل الميليشيات العراقية التي تتبعها بالعراق كـ (النجباء) أو (حزب الله) العراقي، وتهديدها باستهداف القوات الأميركية احتجاجًا على زيارة ترامب المفاجئة إلى قاعدة (عين الأسد) ليلة رأس السنة الجديدة، واعتبارها انتهاكًا للسيادة العراقية، لأن ترامب أكد منها أنه “لا توجد لدى الولايات المتحدة خطط للانسحاب من العراق”، وأضاف “أن العراق سيشكل قاعدة لنا، إذا أردنا القيام بشيء ما في سورية”.
وتُعَدُّ إيران من أكبر المستفيدين بوصفها الحليف الدولي الأكثر استثمارًا في سوريا والأكثر عرضةً للخطر. ففي خلال الحرب، ثبَّتت إيران أقدامها في سوريا وأعادت رسم خريطة الشرق الأوسط الاستراتيجية. وأرسلت آلاف القوات الشيعية التي حاربت على الأرض، ونشرت الطائرات بدون طيار والأسلحة الدقيقة للإبقاء على الأسد في السلطة. وأمدها ذلك بجسرٍ أرضيٍ يمر عبر سوريا لتُزوِّد حركة “حزب الله” بالأسلحة، ودرَّبت إيران المقاتلين الشيعة، في حين عزَّزت علاقاتها بحلفائها في العراق ولبنان أملًا في بناء جبهة قوية في حال وقوع حربٍ مع إسرائيل.
سيكون لتكتيك” تقويض إيران” كقاسم مشترك جديد، بين أطراف اللعبة في سورية، دور “ناجع” في اختبار مدى اتساق القرار مع الركائز الاستراتيجية لتعاطي الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة؛ وبالتالي قد يشكل ذلك قاسمًا مشتركًا لكل الفواعل ومدخلاً مهمًا في ملء الفراغ؛ إلا أنه لا يغفل حقيقة عدم إدراك أميركا للتموضع الإيراني النوعي في بنية النظام السوري وشبكاته الأمنية والسياسية والاقتصادية وخبرتها في ملء الفراغ سواء عبر تحالفاتها مع مجموعات محلية أو من خلال تعميق مجالات التأثير على نظام الأسد أو من خلال استثمار انتشارها على طرق الإمداد والمواصلات والبادية فضلاً عن قواعدها وثكناتها المنتشرة في معظم المحافظات والتي تقدر بـ (13) قاعدة وثكنة.
- روسيا
حاولت روسيا أن تخفف من وقع الصدمة عبر التشكيك بجدية الجانب الأميركي بالانسحاب، فقد نُسب إلى بوتين قوله: “منذ سبعة عشر عامًا وهم يقولون إنهم سوف ينسحبون من أفغانستان، لكنهم ما زالوا موجودين هناك حتى الآن”، لكنها بالمقابل تتصرف بما يخفف من تداعيات الانسحاب، أو تريد الإيحاء بذلك .
لقد وجدت روسيا نفسها بموقف مفاجئ من هذا القرار، فهي كانت تريده أن يكون نتيجة لمفاوضات مع الجانب الأمريكي يمكنها من نيل مكاسب سياسية في ساحات متعددة، لكنه أتى دون أي صفقة كما ترغبها روسيا، بل سيزيد هذا الانسحاب أعباء روسيا إذ سيكون لزامًا عليها التعامل مع التمدد الإيراني ومحاولة احتوائه بحكم الضرورات التي تمليها الترتيبات الناشئة، كما أنه سيجعل تحديات ثلاثي الأستانة عابرة للموجبات الأمنية
لكن لا شك أنَّ الانسحاب الأمريكي في المحصلة النهائية أمر مفيد للاستراتيجية، التي استفادت استفادةً كبيرة من استثمارها لمحدود داخل سوريا. لقد أعاد الروس تأسيس أنفسهم باعتبارهم لاعبًا دوليًّا في وقتٍ ظن فيه البعض أنَّ عصر مجد الاتحاد السوفييتي قد ولَّى.
ويسهم انسحاب الولايات المتحدة في توسيع نطاق النفوذ الروسي. وقد تجنبت روسيا حتى الآن الكشف عن أي خططٍ واضحة. لكن بالنظر إلى تصريحاتها بشأن الأمر حتى الآن، ووفقًا لسلوكها السابق داخل المنطقة، فالمرجح أن تحاول روسيا التلاعب بالأتراك والأكراد سعيًا لتحقيق هدفها الأساسي، وهو عودة نظام الأسد للسيطرة على سوريا بالكامل، بما في ذلك شمال شرق البلاد. ويتطلَّب ذلك الأمر أن تُوازن روسيا بين مصلحتها في توطيد علاقاتها مع تركيا وبين دعم حليفها في دمشق.
- إسرائيل
تعهدت “إسرائيل” منذ فترة طويلة ألا تدع إيران تؤسس قاعدة أمامية في سوريا، حيث يمكن أن تشن من خلالها هجومًا عليها، ووفقًا لذلك فإن الانسحاب الأمريكي يعني أن “إسرائيل” قد تفقد أقوى حائط صد للقوات الإيرانية ووكلائها في المنطقة.
وتبرز هنا مسألة قاعدة التنف، التي يعتبرها الخبراء الإسرائيليون أهم الأدوات في محاربة التمدد الإيراني في سورية، وتؤكد المؤشرات الأولية ازدياد تواتر الحديث عن مستقبل القاعدة الأمريكية في التنف؛ إذ تدفع واشنطن قوات المعارضة المتواجدة هناك (مغاوير الثورة وأسود الشرقية وبعض المجموعات الصغيرة) لتبني خيار الانسحاب نحو الشمال السوري؛ وبذات الوقت أنشأ الجيش الأمريكي قاعدتين عسكريتين جديدتين في محافظة الأنبار العراقية: الأولى شمالي ناحية الرمانة والثانية إلى الشرق من مدينة الرطبة غربي الرمادي، في نقطة التقاء طرق رئيسية قادمة من ثلاثة معابر حدودية؛ هي عرعر مع السعودية، وطريبيل مع الأردن، والوليد مع سورية؛ وذلك في إشارة واضحة لعدم نفاذ داعش من جهة والاستمرار في استهداف المشروع الإيراني من جهة ثانية.
وتعتبر التنف، إحدى العقبات الأساسية التي تقف أمام انسحاب القوات الأمريكية من سوريا، حيث يسعى بعض المسؤولين الإسرائيليين لإقناع الولايات المتحدة بالبقاء لقطع خطوط الإمداد الإيرانية القادمة إلى “حزب الله” في لبنان.
ورأى (آرون شتاين)، مدير “برنامج الشرق الأوسط” في “معهد أبحاث السياسية الخارجية الإسرائيلية” أن “الأمر برمته يعتمد على ترامب.. أمر القوات العسكرية بمغادرة سوريا. مع وجود جهود للتراجع عن القرار ومعاملة التنف كقضية منفصلة عن الشمال الشرقي، إلا أنه من غير الواضح ما إذا كان الرئيس مقتنعًا بذلك”.
ولكن يبقى من غير الواضح، كيف يمكن للولايات المتحدة الحفاظ على وجود صغير نسبيًا، لا يزيد عن بضع مئات من الجنود في التنف، وسط بيئة غير آمنة وخطرة إلى أبعد الحدود.
- الأكراد
يجد الأكراد، بتنظيماتهم العسكرية وقواهم السياسية، أكثر الفواعل تضررًا من الانسحاب الأمريكي بحكم الانكشاف الاستراتيجي الذي سيخلفه خروج القوات الأمريكية؛ مما سيجعلهم منفتحين على كل المفاوضات المحتملة سواء مع النظام والروس أو مع المعارضة وتركيا، وذلك ريثما يتضح التجلي العملي للقرار؛ وهذا لا ينفي أنهم سيقومون بإعادة تموضع عسكري وإداري تقلل من خسائرهم المحتملة.
خاتمة
على الرغم من أن قرار الانسحاب الأمريكي من سورية سيشكل عاملاً دافعًا لتنافسية القوى الفاعلة على ملء الفراغ الناجم واشتراكهم بقاسم مشترك يتمثل بتقليص مساحة فاعلية إيران المنتشرة بشكل نوعي في بنية الدولة والنظام وشبكاته؛ إلا أن أي إعادة ترتيب للمشهد وتموضع فاعليه ستبقى ضمن الأطر المؤقتة ريثما يتضح التعريف التنفيذي لقرار الانسحاب.
وثمة عناصر عديدة من المتوقع أن تحكم الاتجاهات المتوقعة في المرحلة القادمة، أهمها طبيعة الاتفاق الذي ستخرج به حول المنطقة الآمنة، والتي يبدو أنها ستضطر الولايات المتحدة الأمريكية إلى تأخير انسحابها، نتيجة اختلاف تصورات الأطراف المختلفة لهذه المنطقة، وخاصة مساحتها والقوى التي ستديرها، كما ستشكل الضمانات التي ستقدمها أميركا وروسيا لإسرائيل أحد العناصر التي ستحكم اتجاهات المرحلة القادمة، فهل ستبقى أميركا في قاعدة التنف لحراسة الطرق وشبكات المواصلات التي تربط إيران بسورية، عن طريق العراق؟، أم أن روسيا ستتكفل ضمان أمن إسرائيل من خلال ضبط الوجود الإيراني في سورية وإنهائه؟.