2019العدد 177ملف دولى

الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة

إلى حين كتابة هذه السطور لم يتم بعد حسم الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة، تلك الحرب التي تتصاعد تارة وتتهاوى تارة أخرى، وتُحدث معها زلزالاً مدويًا في صعودها وسقوطها في الاقتصاد الدولي، قد لا ينجو منه الكثيرون في النهاية. وابتدع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب هذه الحرب بعد أشهر قليلة من توليه الحكم، معتبرها صفقة جديدة ضمن صفقاته ومعتقدًا أنه لا مناص الفائز في النهاية. ولعله يكون محقًا، ولكن المشاهد هو أنه مرت سنة تقريبًا على هذه الحرب، ومازالت البلبلة والحيرة تشوش عقول الاقتصاديين ويبقى مصير هذه الحرب مجهولاً بالنسبة للكثيرين.

فالمحاولات مازالت يائسة لتحجيم أبعاد هذه الحرب وتداعياتها ما زالت جارية دون جدوى ملموسة. فبعد خلفية مقتضبة نقدمها من خلال هذا المقال توضيحًا للأسباب الرئيسية وراء هذه الحرب، سوف نسعى إلى تدارس وتحليل موقف كل من الدولتين الولايات المتحدة والصين وردود فعل كل منهما آخذين في الاعتبار الظروف والأوضاع التي تتحكم في كل منهما. وأخيرًا، وعلى الرغم من أن ذلك قد يبدو صعبًا، فإننا سوف نجتهد لتحليل الآثار المحتملة لهذه الحرب على الاقتصاد الدولي، وما إذا كنا بصدد فترة كساد قد تفوق تداعيات كساد الثلاثينيات من القرن الماضي أو أن النظام الذي نعمل في إطاره سوف ينقلب رأسًا على عقب، الأمر الذي قد يستغرق سنوات طويلة لإعادة بنائه.

الأسباب الرئيسية وراء الحرب التجارية:

بدأت الولايات المتحدة التمهيد لهذه الحرب عندما تقدمت بطلب للمشاورات مع الصين في أوائل عام 2018 في إطار منظمة التجارة العالمية بحجة أن الأخيرة تقوم بانتهاك حقوق الملكية الفكرية.

بعدها قليلاً وبدون سابق إنذار أو اكتمال المشاورات بين الدولتين في المنظمة، قامت الإدارة الأمريكية بفرض رسوم جمركية إضافية بنسبة 10% على الصين، اعتمادًا على الفصل 301 من قانون التجارة الأمريكي لعام 1974 الصادر من الكونجرس لمنع ممارسات التجارة غير العادلة وسرقة الملكية الفكرية. ولم تهتم الإدارة الأمريكية كثيرًا بأن هذا القانون غير معترف أو معمول به في منظمة التجارة العالمية، ومن ثم الاستناد إليه لا يبرر فرض الإدارة رسومًا جمركية إضافية بل يعتبر انتهاكًا صريحًا لالتزامات الولايات المتحدة في المنظمة. فما يمنحه الكونجرس الأمريكي من حق وسلطة للرئيس الأمريكي لفرض عقوبات أو رسوم جمركية على الدول فرادى، لا يعني ولا يمثل حقًا مكتسبًا للرئيس في إطار منظمة متعددة الأطراف تقوم على توافق الآراء بين دولها وآليات متفق عليها لحسم النزاعات فيما بين الدول الأعضاء بها. فالقانون الذي يستند إليه الرئيس الأمريكي يبقى إجراءً من جانب واحد على شريك تجاري عضو في المنظمة، منتهكًا بذلك القواعد الأساسية لمنظمة التجارة العالمية. فإجراءات الحماية الأحادية في الأصل غير مسموح بها وهي تخرق قواعد النظام التجاري الدولي المعمول به والمتفق عليه بين جميع أطرافه.

ارتكزت إدارة الرئيس ترامب في حربها التجارية ضد الصين على خرق الصين لاتفاقية أوجه حقوق الملكية الفكرية المتصلة بالتجارة في إطار منظمة التجارة العالمية من خلال ما تقوم به من تحايل للحصول على التكنولوجيا الأمريكية. وتدفع الإدارة الأمريكية وبقناعة تامة بأن الصين لا تسمح للشركات الأمريكية بالعمل في الصين أو الدخول في مشاريع مشتركة مع الشركات الصينية إلاّ بعد إجبار الأولى على نقل التكنولوجيا الأمريكية المتقدمة. في حين ترى الصين أن هذا حقها مقابل ما تقدمه لهذه الشركات من عمالة مدربة ومنخفضة الأجور وسوق كبير يسمح لهذه الشركات بتحقيق أرباح طائلة من جراء العمل في السوق الصيني.

واستبعدت الإدارة الأمريكية تمامًا ما يرجحه الاقتصاديون من إرجاع هذه الحرب إلى العجز المتفاقم في ميزان المدفوعات بين البلدين لغير صالح الولايات المتحدة. وعلى الرغم من أن عجز الميزان التجاري للولايات المتحدة مع الصين، الذي وصل إلى 375 مليار دولار في العام المنصرم، يعتبر مبلغاً ضئيلاً إذا ما قورن بحجم الاقتصاد الأمريكي الإجمالي، والذي يبلغ ما يقرب من 20 تريليون دولار، فإننا نتفق وما يرجحه كبار الاقتصاديين من أن السبب الرئيسي بالفعل هو معاقبة الصين وفرض رسوم إضافية عليها لاستمرارية تعزيز فائضها مع الولايات المتحدة وتفاقمه.

غير أن في ذلك كله تناست الولايات المتحدة أنها أصبحت اقتصادًا خدميًا في الأساس وتشكل الخدمات 83% من اقتصادها الوطني وأنها المصدّر الرئيسي للصين في مجال الخدمات. فإذا كانت صادرات الصين السلعية ستتأثر بموجب رفع التعريفة الجمركية على واردات الصين، فإن الصين تعتبر من كبار مستوردي الخدمات من الولايات المتحدة، فإذا ما اتخذت الصين إجراءات انتقامية وأغلقت سوقها أمام الخدمات الأمريكية، فسوف تتأثر صادرات الولايات المتحدة الخدمية، وتصبح هي الخاسر الأكبر.

مواقف كل من الولايات المتحدة والصين من اندلاع الحرب التجارية:

هذا، وبدأت الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة تأخذ أبعادًا صارمة منذ الوهلة الأولى. وتعاملت الصين مع الولايات المتحدة على أساس من الندية. وكان واضحًا حينئذ أن الصين على استعداد للذهاب إلى أبعد مدى مع الولايات المتحدة، فهي لم تكتف بمعاملة الولايات المتحدة الند بالند، فيما فرضته من رسوم جمركية مماثلة على وارداتها من الولايات المتحدة، ومعظمها على السلع الزراعية الأمريكية التي تضرب في العُمق الأمريكي ولايات الوسط المؤيدة للرئيس ترامب. ففور فرض الإدارة الأمريكية على الصين رسوما إضافية بموجب الفصل 301 أو بحجة حماية أمنها القومي، لجأت الأخيرة إلى جهاز فض المنازعات بالمنظمة في 9 أبريل 2018 لمقاضاة الولايات المتحدة على قرارها المخالف لتعهداتها وإلزامها بالتعويض، لما قد ينجم عنه من خسائر على الصين. فاستناد الولايات المتحدة على استثناء تداعيات الأمن القومي (المادة 21 من اتفاقية الجات 1994) لزيادة التعريفة الجمركية غير سليم، لأنه جرى العرف على استخدام حجة الأمن القومي وقت الحروب أو حالات الطوارئ فقط. ومن ثم، فإن تفعيل هذا الاستثناء في ضوء الظروف الراهنة بين الدولتين غير مُبرر.

أضف إلى ذلك، وفي غضون أشهر قليلة وبالتحديد في مؤتمر قمة دول الـBRICS، المنعقد بين رؤساء دول وحكومات كل من البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا في الفترة ما بين 25 و27 يوليو 2018 في جوهانسبرج بجنوب أفريقيا، شن الرئيس الصيني Jinping Xi هجومًا طاحنًا على الولايات المتحدة وتنبأ أن السنوات القادمة سوف تشهد إعادة تشكيل جذري للنظام التجاري الدولي وطالب قادة المجموعة برفض السياسات الأحادية وسياسات الحماية العدائية بين الدول، التي قد تقودها إلى حرب تجارية أكثر شراسة من تلك التي عاشتها الدول في فترة الكساد العالمي.

لا يشك أحدٌ من أن الصين تمثل اليوم خط الدفاع الأول لنظام متعدد الأطراف تشرف عليه منظمة التجارة العالمية والتي تقوم على أسس العولمة وحرية التجارة. ومن المتوقع أن تصبح الصين من أقوى اللاعبين داخل منظمة التجارة العالمية في مواجهة تراجع الولايات المتحدة عن التجارة متعددة الأطراف ورفضها للعولمة، على اعتبار أنها تضر بالمصالح الأمريكية وتقوض تطبيق مبدأ الرئيس الأمريكي: “الولايات المتحدة أولاً”. وإن كان الرئيس ترامب لم يضف على نحو ما قام به ملك فرنسا لويس الخامس عشر في القرن الثامن عشر “ومن بعدي الطوفان”، فإن تقييم نصف المدة لسياساته الخارجية والداخلية تبشر بأنه يمضي في هذا الاتجاه. وتفضل الإدارة بموجب توجيهات ترامب التفاوض من خلال أطر ثنائية، لما يعنيه ذلك من نفوذ أكبر وقدرة أفضل للمفاوض الأمريكي على المناورة من موقع قوة وتحقيق صفقات أفضل لخدمة المصالح الأمريكية.

وعلى الرغم من البداية الحسنة بين الرئيسيين الأمريكي والصيني عند تولي ترامب الرئاسة، وهو ما أفرج أسارير العالم اعتقادًا من أن العملاقين سوف يتعاونان للنهوض بالاقتصاد العالمي، فإن العلاقات ما لبثت أن تدهورت بشكل كبير خلال العام الماضي، لما تعتبره الإدارة الأمريكية من تقاعس الصين في الاستجابة لمطالب الولايات المتحدة، الأمر الذي دعاها إلى زيادة التعريفة الجمركية بشكل منفرد. كما تعيب الولايات المتحدة على الصين سياسات القمع التي تتبعها إزاء الشركات الأمريكية وإلزامها بنقل التكنولوجيا المتطورة إذا ما أرادت الاستثمار في الصين، وهو ما تعتبره الإدارة الأمريكية سرقة للتكنولوجيا الأمريكية وانتهاكًا لحقوق الملكية الفكرية، على نحو ما سبق أن أوضحناه.

بيْد أن أحدًا لا ينكر أن لدى الولايات المتحدة مشكلة، ولكن هذه المشكلة ليست مع الصين، كما أنها لم تكن منذ عقود مضت مع اليابان أو ما بعدها مع ألمانيا عندما غزت سلع ومنتجات هاتين الدولتين في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي السوق الأمريكي وارتفع عجز ميزان المدفوعات الأمريكي معهما إلى ذروته. إن المشكلة تكمن داخل الولايات المتحدة نفسها، فهي دولة مستهلكة وتنفق ببذخ. كما أن الشعب الأمريكي لا يعرف الادخار، فهو يعيش على مستوى فوق طاقته. فمشكلة الولايات المتحدة هي أنها تتباهى بطريقة عيشها وتلزم العالم على سداد ديونها. وتحجيم أو احتواء الصين اقتصاديًا غير ممكن، كما أنه لن يحل المشاكل الأمريكية بالداخل.

وعلى الإدارة الأمريكية أن توقن، خاصة قياسًا بتجاربها السابقة، أن الإجراءات المنفردة لا تعدو أن تكون قرارات مؤقتة، سوف تضطر إلى التراجع عنها إن عاجلاً أم آجلاً. فقد سبق أن فشلت محاولة الرئيس نيكسون في أوائل السبعينيات في فرض تعريفة جمركية بشكل منفرد على واردات شركائه من أوربا واليابان تبلغ 10% واضطراره إلى التراجع عنها تحت ضغوط أوروبية ويابانية. كما حاول الرئيس جورج بوش الابن في عام 2002 مرة أخرى فرض تعريفة جمركية على واردات الولايات المتحدة من الصلب واضطر إلى سحبها في غضون سنة واحدة، لما قامت به من رفع أسعار الصلب داخل الولايات المتحدة بنسبة 3%، بما أضر بالصناعة الأمريكية وأفقدها في النهاية نحو 200 ألف وظيفة، وهو ما يحذّر منه رجال الاقتصاد على اعتبار أن فرض التعريفة الجمركية على الواردات من الصين سيعود بالضرر أساسًا على الصناعة والمستهلك الأمريكي.

ويتعين على الولايات المتحدة أن تقر بحاجتها إلى الإصلاحات الاقتصادية الهيكلية في الداخل، أسوة بما فعلته الصين قبل أربعة عقود. فبدلاً من استمرار إلقاء لوم عجزها التجاري الضخم على الممارسات التجارية التي يفترض أنها غير عادلة في الدول الأخرى، ينبغي على الولايات المتحدة أن تعيد النظر في سياساتها الاقتصادية وتدهور قدرتها الصناعية، وتراجع الاستثمار في البنية التحتية والتعليم والتدريب.

المهادنة أفضل من التصعيد

نلاحظ اليوم تراجعًا واضحًا في مواقف الصين ومرونة أكبر في الموقف الأمريكي. فبينما تعيد الصين حساباتها بالنسبة لمواجهة الولايات المتحدة، تتحرك الولايات المتحدة نحو التفاوض وتفضيل إبرام اتفاق ثنائي خارج نطاق النظام التجاري متعدد الأطراف. وظهر تراجع الصين جليًا في إعلان قمة مجموعة العشرين في أول ديسمبر عندما ارتضت الإصلاح وفقًا للمعايير الأمريكية بعيدًا كل البعد عمّا طالب به الرئيس الصيني قبيل شهور قليلة في يوليو 2018 في قمة الـBRICS ورفضه للسياسات الأحادية وإدانة إجراءات الحماية المنفردة. كما توصل الرئيسان الأمريكي والصيني إلى اتفاق هدنة لمدة ثلاثة أشهر ينتهي في مارس 2019 لإعطاء فرصة للمفاوضات الثنائية.

فالرئيس الصيني بعدما كان يدافع عن النظام التجاري القائم، أصبح على أتم استعداد بأن يتوصل إلى حل ثنائي مع الولايات المتحدة حتى لو كان هذا الحل خارج نطاق منظمة التجارة العالمية، في محاولة منه لتهدئة الوضع. وأوضح البيت الأبيض أنه إذا لم يتم التوصل لاتفاق في غضون 90 يومًا مع الصين بشأن قضايا تجارية من بينها نقل التكنولوجيا والملكية الفكرية والحواجز غير الجمركية والسرقة الإلكترونية والزراعة سيتم رفع التعريفات الجمركية تلقائيا من 10% إلى 25 %

وأيقنت الصين أن إغضاب الإدارة الأمريكية لن يحقق مصلحة أي من الطرفين. فعلى الرغم من صمود الصين أمام الولايات المتحدة، فإن لديها مخاوفها المشروعة إزاء تصرفات الإدارة الأمريكية. وتشعر الصين أنها المستهدف الأول من سياسات الرئيس الأمريكي وتعلم جيدًا أنها في موقف لا تحسد عليه. فالسوق الأمريكي هو السوق الرئيسي للصادرات الصينية، فضلاً عن أن الصين تمتلك أكثر من 3,5 تريليون دولار كاحتياطي عملة صعبة في خزائنها. وأن إغضاب الإدارة الأمريكية ليس في مصلحة الصين في النهاية. كما أن الصين تعلم جيدًا أنها لا تخلو من خطأ فيما تنتهجه من سياسات دعم مستتر وغير مشروع لصناعاتها، وهو إجراء تحظره منظمة التجارة العالمية، لما تعتبره منافسة غير شريفة وإغراق الأسواق الدولية بمنتجات مدعمة منخفضة السعر.

وعلى صعيد آخر، لم يكن هناك أي بوادر تدل على احتمال تراجع الرئيس الأمريكي عن استمرار ممارسة الضغط على الصين حتى ترضخ، خاصة وأنه على قناعة تامة بأن الصين تقوم بممارسات تجارية غير عادلة، ويؤمن بأن ما يقوم به من إجراءات للضغط على الصين هو أمر ضروري لإعادة التوازن بين الولايات المتحدة والصين. وبدا جليًا أن محاولة الصين معاملة الولايات المتحدة الند بالند لم تحقق المرجو منها، خصوصًا أن الولايات المتحدة كانت على أتم استعداد للتصعيد مرة أخرى وتطبيق زيادة جديدة في التعريفات الجمركية تصل إلى 25% اعتبارًا من أول يناير 2019 على 200 مليار دولار منتجات صينية واردة للسوق الأمريكي. ويبدو أن الرئيس الصيني أبدى استعداده لتقديم تنازلات حيال بعض الموضوعات العالقة مقابل وعود ترامب بتجميد التعريفات الجديدة، حيث تأتي قائمة الطلبات الأمريكية على النحو التالي:

  • معالجة التعريفات الجمركية والحواجز غير الجمركية.
  • معالجة قضية الملكية الفكرية والشكاوى المتعلقة بالنقل القسري للتكنولوجيا.
  • شراء المزيد من المنتجات أمريكية الصنع، بما في ذلك السلع الزراعية والصناعية، كوسيلة للحد من العجز التجاري الثنائي بين الولايات المتحدة والصين.
  • تخفيض الرسوم الجمركية على واردات السيارات الأمريكية، والتي كانت الصين رفعتها ردًا على الولايات المتحدة الأمريكية، حيث إن التعريفات الجمركية الصينية على واردات السيارات الأمريكية تبلغ حاليا 40٪ مقارنة بـ 15٪ فقط بالنسبة لوارداتها من الدول الأخرى.

الآثار المحتملة لهذه الحرب على الاقتصاد الدولي ولا مناص من البدء في إصلاح منظمة التجارة العالمية

فيما يخص الهدنة التجارية بين الرئيس الأمريكي والرئيس الصيني في أعقاب قمة مجموعة العشرين في ديسمبر 2018 في الأرجنتين، فمن المتصور أن هذه خطوة إيجابية، إلاّ أنه ليس متوقعًا أن تكون مؤثرة بالشكل الكافي. فإن هناك احتمالاً قائمًا بألاّ يتوصل الطرفان إلى اتفاق خلال الفترة المحددة 90 يومًا وعندئذ تكون كل البدائل مطروحة للبلدين. أمّا إذا توصل الطرفان إلى اتفاق، فإن تأثيره على منظمة التجارة العالمية سيظل محدودًا، حيث إنه يتم في إطار ثنائي وبمعزل عنها. فمن المتخيل أن يحقق مثل هذا الاتفاق بعض الهدوء المؤقت في النظام الاقتصادي الدولي، غير أنه لن يكون حاسمًا، بل إنه قد يعطي فرصة أكبر للإدارة الأمريكية لفرض قبضتها على النظام الدولي تارة بالتهديد وتارة بالمراوغة وفقًا لمبدأ العصا والجزرة.

ويتبادر إلى الذهن في ظل هذا التوتر بين العملاقين التجاريين السؤال عمّا إذا كانت مستجدات التجارة الدولية ستعصف بالنظام الاقتصادي الدولي وإضعاف منظمة التجارة العالمية حامية النظام. فإن منظمة التجارة العالمية، التي كانت أحد أهم إنجازات القرن الماضي، تواجه العديد من التحديات والتي ترجع أساسًا إلى مخاوف الولايات المتحدة من الصين سواء كانت هذه حقيقية أم احتمال، بما تشكله من تهديد صريح لدور الولايات المتحدة الريادي في المجتمع الدولي. فإن الاعتقاد السائد اليوم هو أن النزاع التجاري بين عملاقي التجارة قد يؤدي إلى انهيار دور ومصداقية منظمة التجارة العالمية وبالتالي النظام التجاري مُتعدد الأطراف ككل، بيْد أنه ليس هناك بديل للنظام متعدد الأطراف ولا بديل من تعافيه وإصلاحه. فلا مناص من البدء في إصلاح منظمة التجارة العالمية وإعادة مصداقيتها، بما يجعلها قادرة من جديد على الإشراف العادل على النظام التجاري متعدد الأطراف وحمايته.

ولنا أن نتذكر أن سياسة إضعاف النظام متعدد الأطراف وتفريغه من مضمونه بدأت من قبل وصول الرئيس ترامب إلى الحكم. فإدارة أوباما السابقة بدأت في إضعاف النظام التجاري متعدد الأطراف من خلال شروعها في إبرام اتفاقيات تجارة حرة خارج نطاق المنظمة، بحجة أنها تلقى مقاومة شديدة لمطالبها داخل المنظمة، لا سيما من الدول النامية مثل الهند والبرازيل. وجاءت إدارة ترامب لتؤكد على مزيد من تباعد الولايات المتحدة عن النظام الذي قامت بتأسيسه في أعقاب الحرب العالمية الثانية وإلزام العالم بقواعده. وتُجدر الإشارة إلى أن جهود إدارة ترامب لتقويض منظمة التجارة العالمية من خلال منع تعيين القضاة في محكمة الاستئناف الفريدة من نوعها والتابعة لآلية فض المنازعات بالمنظمة، التي تعالج النزاعات التجارية، يمكن أن تتوج بأزمة خطيرة إذا فشلت جهود إصلاح الهيئة. كما سبق أن هدد ترامب بسحب الولايات المتحدة من جانب واحد من منظمة التجارة العالمية. ومع ذلك، فحتى إذا لم يحدث انهيار كامل، فإن استمرار تآكل قواعد منظمة التجارة العالمية سيقوض الرغبة عامة وبين مختلف الدول في الحفاظ على نظام تجاري قائم على القواعد. وإذا لم تَشرع الدول الأعضاء في الحفاظ على منظمة التجارة العالمية والنظام متعدد الأطراف، فإن الولايات المتحدة قادرة على تخريبها لعدم انصياعها للمطالب الأمريكية.

تخشى مصر مثلها في ذلك مثل كثير من الدول النامية والمتقدمة على حد سواء انهيار النظام التجاري متعدد الأطراف إثر الإجراءات المنفردة التي يتخذها الرئيس الأمريكي والانتقادات الصريحة الموجهة من الإدارة الأمريكية إلى المؤسسات والاتفاقيات متعددة الأطراف على أساس أنه عفا عليها الزمن والدعوة إلى إعلاء السيادة الوطنية. ومصر على قناعة تامة بضرورة احترام الدول كبيرها قبل صغيرها قواعد هذا النظام، الذي ارتضته الدول وتفاوضت عليه. وإن توجهها العام هو الحفاظ على النظام القائم وحمايته من حرب تجارية وأن يتم حسم النزاعات بين الدولتين عن طريق اللجوء إلى آلية فض المنازعات بمنظمة التجارة العالمية بعيدًا عن تبادل الإجراءات العقابية، التي قد تعود بالضرر على الدول النامية والصغيرة قبل المساس بعمالقة التجارة. كما يجب تفادي اللجوء إلى الصفقات الثنائية كتسوية للنزاعات بكل حسم وقوة، فهي ولا شك سوف تعمل على ترجيح طرف على آخر، الأمر الذي يقلل من شأنها ويضعف من احتمالات دوامها.

وعلى الرغم من التوتر القائم بين عملاقي التجارة والتصدع في النظام التجاري الدولي، الذي يستدعي إعادة الهيكلة، فمن غير المرجح الانزلاق إلى الهوية، طالما أن الولايات المتحدة وصانعي السياسة بها مدركون وقابلون “الوضع الطبيعي الجديد” للصين، التي تمتلك أكبر ناتج محلي إجمالي في العالم (من حيث تعادل القوة الشرائية). ومثلما كانت الولايات المتحدة هي أكبر اقتصاد في القرن العشرين، فقد تصبح الصين أكبر اقتصاد في القرن الحادي والعشرين، مع بقاء الولايات المتحدة بالطبع قوة اقتصادية عظمى يعتد بها، بما يؤدي تدريجيًا إلى التحول السلمي للنظام من نظام القطب الواحد إلى نظام متعدد الأقطاب قد يتسع ليضم إلى جانب الصين أوربا وروسيا الاتحادية في فترة لاحقة.

اظهر المزيد

د. ماجدة شاهين

مدير مركز الأمير الوليد بن طلال للدراسات والأبحاث ...

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى