2019العدد 177ملف دولى

الأزمات الأوروبية وتداعياتها على الساحة الدولية والعلاقة مع أميركا

مقدمة

توترات داخلية، اقتصادية وسياسية عدّة تعرفها “القارة العجوز” الأوروبية من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها. يُضاف إلى ذلك بؤر الصراع العنيف سياسيًا أو عسكريًا القائمة على حدودها البحرية الجنوبية في دول شمال إفريقيا، كما ليبيا ومصر، وحدودها البرية شرقًا مع تركيا وما يحيط بها من ملفات صراعات وتجاذبات إقليمية ودولية تنعكس بشكل واضح على أمن واستقرار أوروبا وتؤثّر أيما تأثير في صعود التيارات الوطنية المتطرفة والشعبوية اليسارية أو اليمنية.

من جهة السياسات الداخلية وحوكمتها، يمكن اعتبار صعود التيارات السياسية ذات الصبغة الشعبوية والميول اليمينية المتطرفة، كأنه نوعٌ من التطور السياسي الذي يشهد “ازدهارًا” لم تعرفه هذه البلاد منذ عقود طويلة، خصوصًا بعد الانتهاء من الحرب العالمية الثانية سنة 1945 وبناء البيت الأوروبي بدءًا من خمسينات القرن المنصرم. ويكاد بالإمكان أن يعتبر المراقب للتطورات المختلفة، والتي تحمل تناقضات بنيوية ـ القائمة في السياسات الداخلية الأوروبية، بأن الاتحاد الأوروبي هو في طور عملية تحوّل مقلقة كي يصبح فيها ناديًا للدول المتطرفة على درجات مختلفة في شدة هذا التطرف.

اليمين المتطرف والشعبوية:

التسونامي اليميني المتطرف متجسّد في بعض الدول كالمجر والنمسا وإيطاليا، ولكنه أيضًا يغمر دولاً عديدة أخرى جزئيًا أو محليًا كما يحصل في إسبانيا وفي بعض الدول الإسكندنافية. فبودابست التي تدّعي حكومتها المتطرفة بأنها وسطية مُحذرة من وصول أحزاب أشد يمينية منها، تنعكس السياسات المحافظة على الملفات الأمنية وسياسة الجوار والتعامل مع ملف اللاجئين كما في عملية تعزيز “الوطنية” القومية الانعزالية على الرغم من استفادتها الكاملة من تمويل أساسي وفعال يأتيها من الاتحاد الأوروبي دون أن تجد نفسها ملزمة للتقيد بسياساته أو احترام قيمه ومعاييره. ومن خلال متابعة ممارسات الأجهزة الشرطية كما محاولات الحكومة السيطرة على أجهزة الإعلام بالتعاون مع رؤوس المال التي تميل لها، يمكن أن يعتبر الملاحظ بأن المجر تُشكّل عقدة أساسية في الميل السلبي لتقييم توجهات القارة العجوز. يُضاف أخيرًا، الميل التسلطي لدى فيكتور أوربان، رئيس الحكومة الحالية والمستمر في الحكم منذ سنة 2010، إلى التمثّل بفلاديمير بوتين، فكرًا وأداءً، وجعل روسيا مثالاً يُحتذى في مرحلة يعرف فيها القاصي والداني مدى سعي موسكو إلى زعزعة استقرار الأنظمة التقليدية في الاتحاد الأوروبي.

من جهة أخرى، وعلى الرغم من العداء التاريخي المستحكم بين وارسو وموسكو، إلا أن ذلك لا يمنع من الإقرار أيضًا بأن اليمين المحافظ الكاثوليكي يُسيطر على بولندا منذ عام 2015 بشكل ينتهك معايير الحياة الديمقراطية الأوروبية المتعارف عليها. فالإجراءات الاجتماعية كما الإعلامية كما القضائية وسواها، لا تلتزم بأي من المعايير التي توافق عليها المنتمون إلى الاتحاد الأوروبي القدماء والجدد. وفي تعزيز للشرخ الداخلي، قام عنصر متطرف في يناير الماضي باغتيال بافل اداموفيتش رئيس بلدية مدينة غدانسك عاصمة حركة التضامن التي أطلقت الثورة على الحكم الشيوعي سنة 1980 والذي ينتمي إلى المعارضة الليبرالية للحكومة المحافظة.

 وإلى جانبهما بلغاريا التي تتشارك مع جارتها رومانيا في مقاومة كل الإجراءات المفروضة من الاتحاد الأوروبي للتخلص من الفساد المزدهر فيهما وخصوصًا على مستوى الحكومات والأجهزة التنفيذية. ومجموع ما تقدم من دول دخل الاتحاد الأوروبي في مراحل متأخرة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي والمعسكر الشرقي، واستفادت كل منها بدعم اقتصادي هائل لإعادة تكوين البنى الاقتصادية فيها وذلك للتماشي مع متطلبات المشروع الأوروبي.

كما تعرف منطقة البلقان فشل نموذج الحل الأوروبي لصراعات دول ما بعد تفتت يوغوسلافيا الاتحادية. فالسلام حل من الناحية الحربية، فتوقفت المعارك بين الأخوة الأعداء من صرب وكوسوفويين وبوسنيين وكروات، دون أن يترافق ذلك مع تحقق أي تقدم ملموس على مستوى الملف السياسي أو الاقتصادي في أي من بلدان المنطقة. ويمكن الجزم بأن المنطقة تعتبر بالوعة للدعم الأوروبي حيث نسبة الفساد وصلت إلى مستويات قياسية.

وتشهد إسبانيا صعودًا مقلقًا أيضًا للتطرف على أنواعه. فهناك النزعة الانفصالية الكاتالانية التي طوّرها وساهم في تعزيزها التعنت الرسمي في التعامل مع ملف إدارة التنوع القائم في إسبانيا بين المكونات المتنوعة من كاتالان إلى باسك إلى غاليسيين إلى أندلسيين. حيث أدى هذا إلى شعور كل مجموعة بتميّز يدعو بعضها إلى المطالبة بالانفصال كما هي حال برشلونة التي تدعو إلى إقامة الجمهورية والخروج من سيطرة التاج الإسباني. يُضاف إليه صعودٌ مفاجئ لليمين المتطرف الذي يشعر بالحنان لمرحلة الديكتاتورية التي قادها الجنرال فرانكو لأربعين عامًا في البلاد من سنة 1936 إلى سنة 1975. وفي تجسيد حي لهذا التوجّه، فقد فاز يمين التطرف في الانتخابات الإقليمية الأخيرة برئاسة مجلس الحكم المحلي لإحدى أهم المقاطعات الإسبانية وأكثرها كثافة سكانية وهي الأندلس. وقد فشلت الحكومة الاشتراكية الشابة المركزية من الصمود أكثر من عدة أشهر وسقطت لدعوتها إلى الحوار مع الانفصاليين حيث استغله المتطرفون كقميص عثمان للانتقاص من وطنيتها ومشروعيتها، مما دفع برئيس الوزراء الاشتراكي بيدرو سانشيز إلى الدعوة لإجراء انتخابات برلمانية مسبقة في شهر أبريل القادم. ويرجّح المراقبون أن يعود فيها اليمينيون من حزب الشعب مع تحالفات متطرفة، للإمساك بزمام الحكومة في مدريد.

أما الحاضرة الأوروبية الأعرق في أثينا، فاليونانيون لا يتخلصون إلا بصعوبة من ارتهانهم الاقتصادي الذي قيّد من تصرفات حكومتهم بعد الأزمة المالية الأخيرة التي عصفت بالبلاد سنة 2010 وجعلتها تقع بشكل شبه كامل تحت الانتداب الاقتصادي الأوروبي عمومًا والألماني خصوصًا. كما تتحمّل البلاد عبئًا لا قدرة اقتصادية لها على القيام به فيما يتعلق بمسألة مرور اللاجئين من أراضيها. وعلى هامش المأزق الاقتصادي الداخلي، والذي يُعزّز بدوره من نمو تيارات التطرف يمينًا ويسارًا، تستمر خلافات أثينا مع أنقرة بخصوص احتلال تركيا للجزء الشمالي من جزيرة قبرص عام 1974.

كما وقعت إيطاليا في فخ التحالف بين تجمّع شعبوي كان محسوبًا على اليسار المتطرف وصار حزبًا باسم النجوم الخمس، إلى جانب رابطة الشمال اليمينية المتطرفة والتي تمثّل إعادة إنتاج للمفاهيم الفاشية في العداء للأجانب والوطنية المتطرفة والانعزالية على مستوى القارة الأوروبية. وعلى الرغم من العجز الهائل في ميزانية البلاد وحاجتها الحيوية للضخ المالي الأوروبي، إلا أن التطرف اليميني الذي يقودها اليوم قد أدى بها إلى تعجيز بروكسل المتمثّل في تأخير اتخاذ الإجراءات الإنقاذية المقترحة اقتصاديا والتمرّد على القوى التقليدية في القارة كألمانيا وفرنسا. كما أن النمسا، رغم هدوء أحداثها ظاهريًا، إلا أنها أيضًا وقعت فريسة ثمينة بين مخالب اليمين المتطرف الذي وصل عبر تحالف مع المحافظين إلى سدة السلطة التنفيذية سنة 2017.

الدول الأوروبية المؤثّرة

 من جهة القوى الأساسية في المشهد الأوروبي، أي بريطانيا وألمانيا وفرنسا، فكل من هذه الدول المفتاحية في وضع أسس السياسة الأوروبية، اقتصاديا وسياسيًا واستراتيجيًا، تعرف تحوّلات داخلية. وعلى الرغم من تفاوت هذه التحولات في أهميتها النسبية من دولة إلى أخرى، ولكنها تمثّل نموذجًا سلبيًا ومقلقًا لمآلات المشروع الأوروبي.

فبعد حملة شعبوية قادتها الأحزاب المتطرفة في بريطانيا للتصويت على الانسحاب من الحلم الأوروبي ومغادرة الاتحاد، فاز الرافضون للاستمرار في التواجد في الاتحاد. وبالمقابل، لم يتمكن من قاد الحملة “الانفصالية” المسماة بالبريكسيت، من تقديم أية خطة بديلة للذين صوتوا لمشروعهم. وقد وقع التاج البريطاني في مأزق شديد التعقيد قاد حكومة لندن لخوض عملية تفاوض ماراثونية مع بروكسل للوصول إلى نتائج مخففة لهذا الانسحاب على الاقتصاد البريطاني. وبعد أن جرى الاتفاق بين الاتحاد الأوروبي والتلميذ البريطاني المتمرد، رفض برلمان البلاد شروط أو قيود الانسحاب المتفق عليها وأعاد العملية إلى نقطة الصفر في ظلّ تمسّك بروكسل بشروط الطلاق ومطالبة البريطانيين بتغييرها لصالحهم. وتعزيزًا للوضع المتخبّط في المشهد الداخلي البريطاني، عرفت الأشهر الأولى من العام الحالي انقسامات هامة على مستوى التحالفات النيابية وانسحاب عدد من نواب اليمين واليسار من أحزابهم وسعيهم وراء تشكيل قوى سياسية جديدة يجمع فيما بينها المعاداة الكاملة لعملية البريكسيت ومحاولة العودة إلى الأسرة الأوروبية.

وتشهد ألمانيا مراجعة يمينية متطرفة لسياسات الانفتاح الإنساني التي تبنتها المستشارة أنجيلا ميركل بخصوص استقبال اللاجئين سنة 2015، وخصوصًا منهم القادمون من سوريا. وقد دفعت ثمنا باهظًا داخليًا حيث صعدت أحزاب اليمين المتطرف “بيغيدا” والـ AFD وحصلت على نسب عالية نسبيا في الانتخابات المحلية لبعض الولايات خصوصًا في ولايات ما كان يُعرف بألمانيا الشرقية. وصار التهديد اليميني المتطرف مبعث قلق حقيقي للحكومة الألمانية القائمة. وعلى الرغم من استقرار الوضع الاقتصادي على العكس من عديد من الدول الأوروبية الأخرى، إلا أن مسألة الهجرة واللجوء، تُشكّل عبئًا رمزيًا هامًا لتحميلها الكثير مما يُصيب الاقتصاد الألماني من ركود نسبي ومؤقت. بالمقابل، لا ينكفئ المختصون عن الإشارة إلى حاجة البلاد إلى المزيد من المهاجرين للحفاظ على مستوى متقدم من الإنتاجية، إلا أن الخطاب الشعبوي والمعادي للأجانب يكتسب بعضًا من المساحة العامة.

في فرنسا، تستمر الاحتجاجات المطالبية من قبل مجموعات ما يُسمى بالسترات الصفراء الذين لا تتبدّى بوضوح أية قيادة سياسية لهم، على الرغم من محاولات عديد من الأحزاب السياسية استقطابهم، ولا حدود جلية لمطالبهم التي انطلقت من طلب تخفيض أسعار المحروقات لتصل إلى تعديل دستور الجمهورية الخامسة واعتماد الاقتراع المباشر للشعب على القرارات السياسية والاقتصادية. حركة السترات الصفر هي تحرّك شعبي يضم عناصر من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. كما أنها تتجاوز الأطر الوسيطة من أحزاب ومن نقابات مما يُصعّب من جهود الحكومة للتعامل معها وإيجاد منصة حوارية منتجة. وهي تعكس انفجارًا كان منتظرًا لتراكم بعض الأوضاع الاقتصادية الصعبة لدى الطبقات الدنيا، كما أن هذا الحراك يثُبت نسبيًا فشل السياسيين التقليديين وأطرهم الناظمة كما عجْز الأحزاب والنقابات عن القيام بدورها التقليدي في عكس مطالب من ينتمي إليها وتأطيرها وتنظيمها.

إضافة إلى هذا التوتر الاجتماعي الداخلي، تطفو على السطح خلافات سياسية فيما يتعلق ببروز مستجد لرغبات قديمة تتعلّق بتجريم معاداة الصهيونية على أنها معاداة للسامية إثر تكرار مشاهد العداء لليهود. نقاش سياسي ومجتمعي متوتر ينعكس سلبًا على أداء الحكومة وتصريحات رئيس الجمهورية إرضاءً للمجلس التمثيلي للمنظمات اليهودية في فرنسا.

الحروب الباردة الجديدة

في ظل هذه التقلبات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي تشهدها أوروبا، يُراهن المتمسكون بالمشروع الأوروبي في قدرة المؤسسات العريقة على إيجاد أنجع السبل لتجاوز هذه العوائق والاستمرار في تحقيق الحلم الأوروبي. بالمقابل، يُعزّز المؤمنون بالانتهاء من هذا المشروع والقضاء عليه، وهم الأحزاب اليمينية المتطرفة كما الشعبويون، من جهودهم للدخول بقوة في البرلمان الأوروبي المقبل الذي ستجري انتخاباته في مايو 2019. كما يشهد الاتحاد الأوروبي تحديًا هامًا يتمثل بمحاولة التمسك بموقفه الصلب تجاه المطالب البريطانية بتعديل اتفاقية انسحاب التاج البريطاني منه. فالبريطانيون يحاولون تعديل الاتفاق لصالحهم اقتصاديًا وهذا ما يُحاول مفاوضو بروكسل الصمود أمامه.

من جهتها، “تستمتع” الولايات المتحدة الأميركية، وبالأحرى، الإدارة الأميركية برئاسة دونالد ترامب، بما يحصل في أوروبا من أزمات متعددة. وكما أن سعي واشنطن قد توضّح، وبشكل مباشر أو غير مباشر، إلى دعم الانقسام الأوروبي من خلال دعم بعض التوجهات المتطرفة في لدن حراكه السياسي. كما تدعو واشنطن الدول الأوروبية إلى التعامل معها بشكل فردي منعزل وتبتعد كل الابتعاد عن مؤسسات الاتحاد الأوروبي المُديرة للملفات في بروكسل. كما تواجه أميركا، بكل عنف وتعنّت، الرغبة الخجولة التي تعبر عنها بعض التصريحات الأوروبية لتعزيز الدفاعات القارية بمعزلٍ عن السيطرة الأميركية عسكريًا واستراتيجيًا. وفي آخر الخطوات الأميركية، تُطالب الإدارة الأميركية الأعضاء الأوروبيين في حلف شمال الأطلسي بسداد مبالغ طائلة تعويضًا عما أنفقته الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية لتعزيز دفاعات الدول الغربية. وبالمقابل، فهي تشعر بالفاجعة إن سعى الرئيس الفرنسي ماكرون إلى تشكيل قوة دفاعية أوروبية مستقلة عن إرادة واشنطن.

إن الإدارة الأميركية الحالية تناصب النموذج الأوروبي الاتحادي العداء السياسي والاقتصادي. وبالتالي، فهي لم تعد القطب الضامن الذي كانت عليه إبان الحرب الباردة قبل انهيار المعسكر الاشتراكي. بل وبالمقابل فهي تُعلن حربًا باردة من نوع جديد على حليفاتها الأوروبيات ما دمن لا ينصعن إلى توجهاتها السياسية إقليميًا ودوليًا على مختلف الأصعدة والملفات. وما الانسحاب الأخير المعلن للقوات الأميركية من شمال سوريا إلا محاولة ضغط واضحة على السياسات الأوروبية في مجال مكافحة الإرهاب. وقد صرّح أحد المقربين من ترامب أخيرا بأنه واعتمادًا على قاعدة انتماء أكثر “المجاهدين” لدى تنظيم داعش الإرهابي إلى أوروبا، فعلى أوروبا أن تتولى مهمة محاربتهم ولا يجد غضاضة في انفكاك أميركا عن الأمر.

الدب الروسي المتربّص

 إلى جانب الفردانية الأميركية والحرب الباردة الناعمة التي تشنها واشنطن على القارة القديمة، لدينا في شمال هذه القارة من يسعى حثيثًا ومنذ انهيار المعسكر الاشتراكي إلى الدفع في مسار انهيار الاتحاد الأوروبي. ففلاديمير بوتين، ومن خلال سياساته الأوروبية، فهو لا يُخفي هذا السعي ولا ينفيه، بل يتخذ الخطوات اللازمة لتأكيده. فتقربه من متطرفي القارة من اليمينيين واليساريين بدا منهجًا. كما أن دعم إدارته المالي والإعلامي لكل الحركات الانفصالية في الدول الأوروبية. وقد أنشأ جيشًا إلكترونيًا متخصصًا في نشر الإشاعات في أوروبا عبر مواقع الشبكة العنكبوتية وخصوصًا وسائل التواصل الاجتماعي فيها. وتبقى محاولات التلفزيون الروسي ووكالة سبوتنيك لزعزعة الانتخابات الرئاسية الفرنسية عام 2017 علمًا بارزًا في مسار الإعلام الحربي الذكي رغم فشلها.

والحرب على الاتحاد الأوروبي لم تتوقف بعد من قبل الكرملين. والروس يعدّون العدّة للانتخابات البرلمانية الأوروبية القادمة بضخّ الأخبار كما الأموال في مسارات دعم الشعبويين والمتطرفين من كل الاتجاهات لشغل أكبر عدد من المقاعد في هذه المؤسسة الأوروبية التشريعية الهامة. كما أن الإجراءات الروسية العسكرية وتحالفاتها الدفاعية في أكثر من إقليم في المناطق المحاذية للاتحاد الأوروبي تشير كلها إلى انعدام الرغبة في تعزيز الاستقرار وعلى العكس، فهي تنشر بؤر الصراع والتوتر.

خلاصة:

الاتحاد الأوروبي يتعرض إلى خطر انقسامات جادة وليس البريكسيت أهمها. ففي الهيكلية الداخلية للاتحاد، أساءت عملية توسيعه إلى الشرق من أوروبا للمشروع أكثر من إفادته. وعلى الرغم من رمزية هذا الانضمام والانفتاح المتمثلة بانتقال تاريخي صادم لدولٍ كانت تحت سيطرة موسكو إلى معسكر العالم “الحر”، إلا أن تكاليف هذا التوسع كانت باهظة وربما تجاوزت النتائج الإيجابية له. كما أن البنية السياسية لهذه الدول حديثة العهد بالديمقراطية لعبت دورًا مهمًا في التأثير على السياسات الأوروبية الداخلية من حيث تعزيز أحزاب اليمين المتطرف، كما تطوير مسار الرهاب من الإسلام خصوصًا ومن المهاجرين عمومًا وتحميلهم ما لا يُحتمل من مآسي الاقتصاد إن هي وقعت. كما يبدو أن التأثير الروسي سياسيًا على الأقل، ما زال قائمًا في الكثير من عواصم هذه الدول وقياداتها. وقد أثّر ذلك أيما تأثير في التصويت على مواقف أوروبية في السياسات الخارجية. وفي النهاية، فملف الفساد الممنهج في تلك الدول يبقى عائقًا أمام بروكسل في إنجاح السياسات الاقتصادية والمالية الموحدة للاتحاد.

ويجد الأوروبيون أيضًا أمامهم تحديين كبيرين يتمثلان بروسيا فلاديمير بوتين وأميركا دونالد ترامب، عدا عن الجزئيات الإقليمية المقلقة والتي هي مبعث على تطوير عملية اللجوء والهجرة إلى أوروبا أساسًا قبل أية منطقة في العالم. وكما استعرضنا، فسياسات موسكو ليست ودية تجاه المؤسسة السياسية الأوروبية. ويُنقل عن بعض المقربين من الكرملين أن هدف بوتين الأساسي من سياساته الأوروبية العودة بالأوروبيين إلى ما قبل إتمام عملية بناء البيت الأوروبي انتقامًا منه، ومن يُفكر مثله، من تفكيك الاتحاد السوفييتي، معتبرًا بأن الأوروبيين لعبوا دورًا أساسيًا فيه. كما يسعى دونالد ترامب إلى تحجيم القوة الاقتصادية الأوروبية متجاوزًا مسألة التحالف التاريخي والمصالح المشتركة كما في علاجه لمختلف الملفات انطلاقا من مصالح قصيرة الأجل لأميركا التي يتصورها كبائع عقارات متمكن.

ابتعد الأوروبيون أيضا عن “قيمهم” في العدالة الاجتماعية ودعم مسارات التحرر والدمقرطة والدفاع عن حقوق الإنسان. فصرنا نجد أن السياسات الأوروبية تميل أكثر إلى ما يسمونه “استقرارًا أمنيًا” و “وقف الهجرة” في علاقاتها مع دول الجنوب. فهي بالتالي ستتغاضى عن الانتهاكات المؤسسة لحقوق الإنسان في تلك الدول، لا وبل فستقوم بعض الدول الأوروبية كفرنسا وإيطاليا، ببيع الأسلحة الفتاكة إلى عدد من الأنظمة التي تقتل من المدنيين ما يمكن له أن يوقظ الضمائر النائمة في الحكومات الغربية ولكن لا حياة لمن تنادي.

في السنوات القليلة القادمة، هناك تحديات عدة تواجه وستواجه المشروع الأوروبي، فإن صمد البيت ولم ينهار خلال الأشهر القليلة القادمة، فديناميكيات مؤسساته وقدرات مجتمعاته المدنية الموحدة أو المنفصلة، ستكون حجر الأساس في عملية إنقاذ المشروع ودعمه في مواجهة من يسعى إلى تخريبه ولو سياسيًا. فما تتعرض له أوروبا في أوضاعها الداخلية وفي موقعها الدولي ليس نهاية العالم. ولا يمكن أيضا اعتبار الأزمات الحالية وكأنها من أقسى ما واجهته أوروبا، فقد سبق للمشروع الاتحادي أن واجه عوائق عدة في ماضيه القريب. كما أن انتكاسات متكررة عصفت بالبيت الداخلي الأوروبي واستطاع القائمون عليه ومن خلال العمل المؤسسي أن يتجاوزوها بأقل الخسائر.

إن تمسك الأوروبيون بمفاهيمهم المؤسسة وتعزيز استقلاليتهم السياسية والاقتصادية عن الأقطاب الخارجية المؤثرة سلبا على مشروعهم سيؤدي إلى إنقاذ البيت من الهدم. وهذه العملية تعود إلى وعي السياسيين الأوربيين، وهو متوفر، كما أنها ترتكز على إمكانيات اقتصادية هائلة لا يمكن إلا إبداء القلق من شحّها النظري أو العملي.

اظهر المزيد

د. سلام الكواكبي

باحــث سوري في العلوم السياسية - فرنسا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى