طالما اتسمت العلاقة بين) العالم العربي الإسلامي، والغربي المسيحي( بطابع إشكالي، فهما بالأساس حضارتان شقيقتان اعتمد كلاهماــ ولو بنسب مختلفةــ على التراث المشترك للوحي الإبراهيمي وعلى الفلسفة اليونانية، وتغذّيًا على تراث الشرق الأدنى وأساطيره القديمة ولكنهما في المقابل كانا الأكثر تحاربًا عبر التاريخ في سياق سعيهما إلى الهيمنة على البحر المتوسط ــ قلب العالم القديم ــ من خلال دول لا يزال بعضها حيًا كـ(البرتغال، وأسبانيا، وهولندا، وفرنسا وإنجلترا) من جانب، و(تركيا وإيران، والعراق، وسوريا ومصر) من جانب آخر، أو عبر تشكيلات تاريخية متحللة كـ (الإمبراطورية المقدونية والرومانية المقدسة، ثمَّ البيزنطية) من جانب، و(قرطاجنة وفارس ثمَّ الخلافتين الأموية، والعباسية، والإمبراطوريتين المغولية والعثمانية ) من جانب آخر، حتى ولو كانت بعض أشكال تلك الهيمنة قد تمت تحت مظلة أفكار محفزة مختلفة عن ثنائيتي شرق ــ غرب، أو إسلامية ــ مسيحية.
تفسير ذلك؛ أنَّ تلك المواجهات كانت نتاجًا للشعور بالغيرة التي يثيرها التشابه أكثر منها نتاجًا للشعور بالتناقض الذي يثيره الاختلاف، فعلى عكس الديانة اليهودية المغلقة، تملك المسيحية ،الإسلام رسالة إنسانية تسعى لتبليغها إلى العالم. وقد بلغ التشابه حدًا نجد معه أن الانقسام الثقافي داخل العالم العربي بين تيارات تقليدية وأخرى حديثة، وما يصاحبه من اتهام التيارات التقليدية للنخب الحديثة بموالاة الغرب والتفريط في أصالة الأمة، هي نفسها التي كانت تدور على ألسنة التيارات الرجعية بين الأوروبيين في العصور الوسطى، الذين كانوا يتهمون النخبة الأكثر ثقافة وتذوقًا للفنون والآداب العربية ــ خصوصًا في الأندلس ـــ بالإفتتان بالعرب والتفريط في الهوية المسيحية، وكانت الكلمة الأكثر إفصاحًا عن هذا الاتهام هي “الاستعراب” والتي تكاد توازي اليوم كلمة “التغريب” في قاموس الوعي السلفي العربي.
بل إنَّ ما يزخر به عالمنا العربي من تطرف ديني وإرهاب أصولي نتيجة انفجار التوتر بين ( الثقافة التقليدية والثقافة الحديثة ) المتعاركتين معًا حول ضرورة وكيفية الخروج من كهف التقليد، ومشروعية النقد التاريخي للتراث، يكاد يشبه تلك الأجواء التي مرت بها أوروبا في عصر الإصلاح الديني الذي أخرجها من الكهف الكاثوليكي المغلق، وأدخلها في “أتون” صراعات دامية بين الكنيسة الكاثوليكية والكنائس البروتستانتية، ثمَّ داخل هذه الأخيرة نفسها، خصوصًا بين الكنائس اللوثرية والكالفينية، أو بينهما معًا وبين الطائفتين الجنسينية والأناباتيستية، ثمَّ بين كل تلك الكنائس وجماعات الهرطقة المتعددة. وهو الأمر الذي فجر صراعات سياسية بين الدول الإقليمية الناشئة آنذاك، خصوصًا بين فرنسا كدولة صاعدة وبين الدويلات الألمانية، وأيضًا السويسرية التي انقسمت بين الإصلاح الكالفيني والنفوذ الفرنسي من جانب “جنيف” وبين الإصلاح اللوثري والنفوذ الألماني في قلب “زيورخ”، وهو المسار التاريخي الذي أفضى إلى حرب استمرت ثلاثين عامًا، وانتهت بتوقيع معاهدة “وستفاليا” ومن ثمَّ انبلاج الدولة القومية الحديثة.
بالقطع لا يمكن قبول تفسير الانقسام داخل العالم الغربي بالأمس، والعالم العربي اليوم بخيانة تيار داخل هذه الثقافة أو تلك فلم يكن المستعربون خائنين للهوية المسيحية، وليس الحداثيون العرب خائنين للهوية الإسلامية، بل هي تباينات الوعي الإنساني واختلاف قدرة البشر على التكيف مع متغيرات العصور؛ فثمة وعي منفتح قادر على استقبال الإشارات المختلفة في كل وقت ومن غير مكان، إذ يرى في هذا الاستقبال حب المغامرة وأَلْقُ الاكتشاف وممكنات التطور. وثمة وعي منغلق تروقه أجواء الكهف وطبيعته المنكفئة يخشى من أجواء الفضاء المفتوح على العوالم الخارجية. ومن ثم لا يرى في القادم جديدًا يشكل إضافة، بل غريبًا يمثل خطرًا ،عامل تهديد يفضي إلى الفناء أكثر منه رافد يحقق الثراء.
تلك الميول المتناقضة تتغذى على رافد فطري، وآخر ثقافي؛ فالكائن الإنساني يولد بذهنية مركبة من عاملي (التفتح والانغلاق، المغامرة والمحافظة)،ولكن بنسب جد مختلفة، فالشخصية المنفتحة: تنطوي على مكون محافظ يقوم بأدوار دفاعية تعمل على حفظ الذات وضمان توازنها واستمرارها رغم التغيرات، وهي تخوض في غمار الزمن. وعلى العكس فإن الشخصية المحافظة ــ المنغلقة :إنَّما تنطوي على بعض مقومات التجدد ولو كانت محدودة، وهي المكونات التي تسمح لها بالاستمرار على قيد الحياة، حيث الجمود الكامل يفضي إلى الموت البيولوجي وليس فقط الثقافي.
هذا التفاوت على مستوى الوعي الفردي هو المفترض أن تمارس الثقافة سلطتها في مواجهته، فالثقافات الحية، والأمم الناهضة تعمل على تهذيب الوعي الفردي وتزيد من تفتحه. ومن ثم تقلل من وطأة الحضور الجمعي لأرباب الوعي الرجعي إلى حد يصبحون معه مجرد هامش على متن تيار عام يتسم بالتفتح. أمَّا الثقافات الراكدة ــ خصوصًا تلك التي لديها شعور عميق بالهزيمة الحضارية قياسًا إلى أزمنة سابقة كان لها فيها السبق، فغالبًا ما تصيبها عقدة نقص تكتسي بطابع الخوف والتشاؤم، وتدفع بالوعي الفردي فيها إلى الاتجاه الأكثر سلبية، فيستحيل الشخص المنفتح أصلًا أقل تفتحًا، والشخص المنغلق أكثر انغلاقًا. وبالتدريج مع استمرار تخلف الثقافة وضعف الأمة، يصير التفتح محض هامش نحيف على متنٍ واسع من الانغلاق والرجعية، وهو ما تعيشه الثقافة العربية الإسلامية اليوم، رغم تاريخها الرائق الذي يكاد يكون اليوم عبئًا على كاهلها؛ لأنَّه يمنحها ثقة كبيرة بالذات، يدفعها إلى ادعاء القدرة على الفعل، فيما تغيب القدرة الحقيقية عليه أو تغيم طرائقه، ومن ثمَّ تنفجر هذه الثقافة من داخلها بفعل الفجوة بين القدرة والرغبة.
أنثروبولوجيا التعايش الإنساني:
تعني الثقافة هي أنماط الاستجابة التي واجهت بها الجماعات البشرية مشكلات وجودها الاجتماعي، ويرتبط هذا التعريف بالمدخل الأنثروبولوجي كما هو لدى المدرسة الاجتماعية الفرنسية بزعامة “إميل دوركهايم”، والثقافة حسب هذا الإدراك نمط عيش وأسلوب حياة تسقط فيه الرموز على الوقائع مباشرة وتندمج فيه حركة الصور والشخوص وتنتفي فيه إلى حد كبير المسافة الفاصلة بين الرؤى والسلوك، وهنا يصبح فعل “المعاش” هو المؤسس لفعل “التأمل” في حياة البشر إذ أنَّ حركتهم هنا لا تصدر عن رؤية سابقة بالضرورة، وإن أمكن استخلاص هذه الرؤية من حركة الجماعة الإنسانية بعد أن تكون قد تقررت في واقعها التاريخي بشتى جوانبه.
ثمة مداخل أخرى لظاهرة الثقافة يبقى أهمها الإدراك السيكولوجي، والثقافة حسب هذا الإدراك بناء عقلي شامل ونظام صارم للأفكار يفسر نفسه بنفسه، تستطيع أن تجد داخله كل الحقيقة إذا ما حاولت وكانت أكثر إيمانًا (الدين)، أو وعيًا (الفلسفة)، أو ثورية (الإيديولوجية). أمَّا الحقيقة لديه فليست خبرة حيَّة تُكتشف في التجربة بل رؤية تصدر عن تأمل ذاتي سابق على التجربة، والتأمل نفسه قد يكون فعلًا إنسانيًا خالصًا، أي إبداعيًا محكومًا في سقفه الأعلى بوعي البشر وإلهاماتهم التي تجدها في فكره فلسفية أو تعبير أدبي، وقد يكون فعلًا تأويليًا فقط ينطلق من، أو يستند إلى نص مقدس ابتداء ويخضع فقط لتفسيرات البشر عندما يحاولون أن يصوغوا به ومن خلاله رؤاهم الفكرية والسياسية بأقدار متباينة من التفرد والخصوصية، والفارق بين هذين التعريفين: (الأنثروبولوجي، والسيكولوجي) هو أنَّ الأول يجعلها معطى واقعي يتداوله الإنسان من دون قصد أو سعى باعتباره خبرة حياتية مباشرة يعيشها جموع الناس. بينما يحيلها الثاني إلى منتجات جمالية يقصدها بعض البشر بغية التعرف على العالم أو فهم الوجود والهوية كتعبير عن خصوصية أى ثقافة ليست أحادية البنية، ولا تتشكل من مقوم واحد فحسب سواء (الديني أو القومي أو العرقي أو اللغوي، أو المقوم الثقافي والوجداني والإبداعي، أو حتى الخبرات المجتمعية المشتركة وحدها)، وهي أيضًا ليست إيجابية في كل عنصر من عناصرها، بل فيها من الإيجابي كما فيها من السلبي، ونحن نصف الهوية بـ (الموجبة) عندما تكون منفتحة على غيرها ومستوعبة لمعطيات عصرها، إذ تنطلق من التعرف على ذاتها نحو معرفة الآخر، فيكون إدراك المكونات الأساسية للذات (اللغوية والعرقية والدينية) بمثابة عملية مستقلة سابقة على التعرف إلى الآخر، بمعنى أن الأمة وحدها هي التي تصوغ خصوصيتها في ضوء قسمات تاريخها المتميز بكل حرية وثقة، ومن هذه النقطةــ أي بعد إدراك الذات ــ تبدأ محاولة التعرف على الآخر، الذي يحوز في كل الأحوال تكوينًا مغايرًا لها بنسب مختلفة، ولكن من دون أن يكون هذا الاختلاف عائقًا عن التواصل معه أيَّا كانت درجة تغيره طالما كانت الذات واثقة بنفسها، واعية بمقوماتها، ناجحة في توكيدها في الواقع، ومتفائلة بدرجة نموها في المستقبل. فهنا تسود رؤية إيجابية للتاريخ، تنعكس في رؤية ثقافية متفتحة تستطيع قبول الآخر والتواصل معه؛ لأنها تؤمن بيقين أنَّه، مهما كانت نصاعة مقومات وأشكال وجوده، غير راغب بالضرورة وربما غير قادر على تهديد مكونات وأشكال وجودها.
تستند تلك الهوية إلى الإدراك الأنثروبولوجي لظاهرة الثقافة كونه المدخل الأصلح ؛ لتحقيق التعايش فيما بين الجماعات والدول والأمم، إذ ينبع من المشترك الذي تفترضه وحدة الجنس البشرى، ويتغذى على الخبرة التاريخية للمجتمعات الإنسانية، ورغم انطلاقه من روافد موضوعية وليس من معطيات مثالية كـ (الإيمان الدينى أو العقيدة القومية أو الأيديولوجيات السياسية) إلاَّ أنَّ انفتاحه على التجربة البشرية والخبرة العملية، يجعل منه أساسًا للنزعات الفكرية ذات الطابع الإنساني والكوني.
إذا ما اعتمدنا هذا الإدراك (الأنثروبولوجى)، يمكننا الاعتراف بمحورية مفهوم (التقدم) ولكن كمنطق تاريخي إنساني وليس كأيديولوجية غربية استعلائية، حيث تتبدى لنا حركة التاريخ تقدمية صاعدة ــ شرط أن نلاحظها في جغرافية العالم كله ولا نُقصرها على حلقة ضيقة أو تجربة تاريخية واحدة (دولة / حضارة) فما انهزم التقدم لدى أمة إلاَّ وكان ينتصر في أخرى تجاورها في المكان أو لاحقة تتلوها في الزمان، ورغم صخب الاحتكاك الجارِ بين العالمين العربي الإسلامي والمسيحي الغربي، يمكننا تعميم منطق التاريخ التقدمي على العلاقة بينهما باعتبارها علاقة تثاقف مزدوجة الأوجه والسياق تتطور نحو الأرقى في خط طويل صاعد وإن حدث بعض الانقطاع ففي هذا الإطار ـ التقدمي الصاعد ـ ثمة عوامل جذب وتعاون، وثمة عوامل قطيعة وتنافر، غير أنَّ عوامل الجذب في كل مرحلة تاريخية تبدو أعمق مما كانت في سابقتها، كما أنَّ عوامل القطيعة والتنافر تبدو في كل مرحلة من المراحل أبسط من سابقتها، وهذا هو معنى التقدم الصاعد في هذه العلاقة.
ولا يتنافي مع هذا الفهم اعترافنا بوجود لحظات تأزم تبدو صداميه على نحو يفوق السياق التاريخي الممتد فيما قبلها، يمكن اعتبارها (عقد حضارية) على منوال ما كان مثلًا إبان الحروب الصليبية، أو الهجمة الاستعمارية، أو فوبيا صدام الحضارات بعد أحداث 11 سبتمبر، ولكن ما يحفظ لفهمنا التقدمي مصداقيته هو أن كلًا من هذه اللحظات الصدامية تبدو أقل تعقيدًا من اللحظة السابقة عليها رغم كونها أكثر تعقيدًا من السياق الطبيعي الممتد فيما قبل كل منها، إذ يمكن الكشف عن نزعة تبسيطيه في جوهرها تمتد بين العقد الحضارية المتوالية تاريخيًا:
فأولًا: تنطوي لحظة الحروب الصليبية على تناقض مركب ديني ـ سياسي ـ اقتصادي، إذ انطلقت باسم الصليب نحو أرض الهلال ولو على المستوى التبريري، كما أنَّها تتضمن وبالأساس أهدافًا عملية سياسية من قبيل السيطرة والتحكم وبناء المجد للنبلاء الأوروبيين وخاصة في الممالك الصاعدة آنذاك، إضافة إلى الهدف الاقتصادي حيث الطمع في الموارد العربية وخاصة في القدس أو أورشليم التي ذاع عنها في أوربا أنَّها الأرض التي تفيض عسلًا ولبنًا، فضلًا عن كونها الأرض المقدسة.
وثانيًا: تنطوي الهجمة الاستعمارية على تعقيد أقل، إذ تأتي في سياق تاريخي أوروبي تجاوز مركزية الدين الذي بقى حبيس الكنيسة وصدور المتدينين يثير الأشواق ويحرك المشاعر دون أن يحفز السياسات أو يوجه الجيوش، إلى مركزية الدولة القومية التي تحفز هذه وتوجه تلك، بل صار يناقض الدين على مستوى الوعي الفلسفي وخاصة في مرحلة الوضعية بشتى تياراتها التي إن لم ترفض الدين نهائيًا ـكمكون ميتافيزيقي ، فإنها تزيحه عن مركز وعيها، بينما ظل الدافعان السياسي والاقتصادي مهيمنين حيث الطموح إلى السيطرة والازدهار محركين للظاهرة الاستعمارية التي تغطت بأردية كثيفة فكرية وأخلاقية دارت جميعها حول أفكار المركزية الغربية ذات الطبيعة العنصرية الاستعلائية كرسالة الرجل الأبيض في ترقية العالم.
وثالثًا: تجسد مقولة صدام الحضارات تناقضًا ثنائيًا أيضًا، ولكن في مجال جغرافي أضيق ذلك أنَّها لا تأخذ الدين ــ حقيقةــ على محمل الصدق وإن تدثرت بغطائه أو رأت في ظواهره السياسية تجليات يمكن توظيفها لها قابلية الحضور ونجاعة التأثير في تحقيق هدفها الحقيقي ( الاستراتيجي) في تكتيل الغرب خلف الولايات المتحدة والتي كانت مراكز التفكير السياسي لديها بدعم مثقفيها العضويين أمثال “دانيال بابيس”، “روبرت كاجان”، “وليم كريستول”، “فرانسيس فوكوياما”، فضلًا عن الراحل “صامويل هانتنجتون” ، قد اضطلعت في ظل سيطرة اليمين المحافظ بمهمة البحث في كيفية اغتنام الحدث الكارثي في إعادة صياغة النظام العالمي بما يكرس التفوق الأمريكي، ويضمن إطالة عمره إلى قرنٍ جديدٍ.
ويعني هذا أنَّ التناقض في هذه اللحظة لم يعد مركبًا (دينيًا ـ سياسيًا ـ اقتصاديًا) كما كان إبان الحروب الصليبية بل ثنائيًا فقط (سياسي ـ اقتصادي). كما لم يعد بين العالم العربي الواسع والغرب كما كان إبان الهجمة الاستعمارية، بل صار مع الولايات المتحدة الأمريكية فقط هذه المرة، وهو ما فطن إليه الضمير الأوروبي شرق الأطلسي، وأدركه البابا “يوحنا بولس الثاني” علي رأس الفاتيكان عندما رفض بشجاعة وباسم الكاثوليكية العدوان على العراق بذريعة الحرب على الإرهاب، وهو ما فعله اتحاد الكنائس الإنجيلية بالولايات المتحدة نفسها، ما أظهر الحرب كمحض اختيار أمريكي لا غربي، قومي لا حضاري، نفعي لا قيمي, سياسي لا ديني. الأمر الذي جعل عقدة الصدام في هذه اللحظة الثالثة أخف وطأة من اللحظة الأولى لأنَّها أبسط في تركيبها، وأقل تمدُّدًا من اللحظة الثانية لأنَّها أضيق في مجالها الجغرافي، وهو ما يؤكد على فهمنا العام المتفائل للحركة التاريخية والقائم على مفهوم التقدم بمعناه الإنساني، وفي فضائه الواسع.
وهنا نستطيع أن نجرد ما يشبه قانون فحواه: أنَّ التناقضات الثقافية المركبة “العقد الحضارية” إنَّما تسير دومًا نحو التبسيط داخل التاريخ الممتد، بينما يصير هذا العالم نفسه نحو تعقيد بنيوي داخل التاريخ نفسه، حيث ترتبط درجة التقدم الحضاري بتزايد في مستوى تركيب ودرجة تعقيد البنية التاريخية. وهنا نصبح بحاجة إلى إجابة على تساؤل من قبل: كيف تنتج بنية حضارية تزداد رقيًا ومن ثمَّ تركيبًا في التاريخ، عقدًا حضارية تزداد بساطة أو تقل تعقيدًا في التاريخ نفسه؟ ثمة تناقض ظاهري يزول مع إدراكنا لطبيعة المنطق المزدوج لحركة التاريخ:
فهي من ناحية: تسير إلى تعقيد على مستوى البنية بتأثير دوافع موضوعية من قبيل الثورات المعرفية المتوالية، والموجات الديمقراطية المتنامية. فهذان المعلمان (العلم والحرية) قد صنعا العالم الحديث في كتله تاريخية، وأنماطه الإنتاجية، وطبقاته الاجتماعية، وهياكله السياسية، وحتى نشاطاته وانشغالاته الفكرية. وجميعها في تداخلها وتكاملها هي ما يحرِّك جدلية التقدم والتخلف، وهي تزداد تعقيدًا كلما ابتعدت سواء عن الركائز الأولية التي صاغت العالم البدائي كـ(الخرافة والسحر والعرق والتكوين البيولوجي)، أو الركائز التقليدية التي صنعت العالم قبل الحديث كـ(العقيدة الدينية، والانتماءات القومية، وهكذا).
وهي من ناحية أخرى : تسير إلى تبسيط على مستوى الأهداف التاريخية التي تثير التناقض والصراع بين الجماعات البشرية. فمع الانتقال من ركائز أولية فطرية إلى أخرى حديثة، يتم الانتقال تدريجيًا على صعيد الصراع التاريخي من أهداف مثالية ذات طابع أخلاقي، وجوهر ميتافيزيقي كالانتصار لله، أو تحقيق المجد للأسرة الحاكمة المفوضة بالحق الإلهي المقدس، أو الثأر لكرامة الأمة القومية، وجميعها أمور لا يمكن التوافق حولها أو التنازل عنها إلاَّ بجرح المشاعر الدينية، أو إهدار الكرامة العائلية، أو التنازل عن الكبرياء القومي، إلى أهداف عملية سياسية واقتصادية وإستراتيجية ذات طابع نسبي إذ تقوم على تبادل المصالح والمنافع، يمكن التفاوض حولها والمساومة عليها للوصول إلى حلول وسط بشأنها دون إهدار للكرامة أو جرح للمشاعر أو تنازل عن الكبرياء.
وعلى سبيل المثال لو أنَّنا حاولنا إقامة حوار حول أي من الركائز الأساسية للدين، وخاصةً حول عقيدة الذات الإلهية فالمؤكد أنَّه سوف يفشل في تقريب المواقف إن لم يفجرها تمامًا فلدى كل دين، كـ (المسيحية والإسلام ) مثلًا نقاط جوهرية صلبة لا تطرح للمناقشة ناهيك عن إمكانية الحسم فيها. وبمعنى آخر فإنَّ طرفًا من الأطراف لا يمكن أن يتنازل عنها أو يرضي المساومة عليها من قبيل إلوهية المسيح أو إنسانيته على سبيل المثال. وفي المقابل لو أجرينا بنزاهة وتجرد ودونما هيمنة من طرف على آخر، حوارًا حول إحدى القضايا السياسية أو الاقتصادية التي تنتمي إلى واقعنا المعاصر كإنشاء المحكمة الجنائية الدولية أو قبل ذلك منظمة التجارة العالمية لوجدنا قدرة أعلى على التوافق رغم وجود مظالم أو تحيزات تضر بالبعض أو تُقلِّص من مصالحهم، ولكن من دون إهانتهم أو جرح كبريائهم سواء على صعيد النظام السياسي الذي جسد الدولة كفاعل سياسي، أو على صعيد الوجدان الفردي للبشر من الشعوب التي تمثلها هذه الأنظمة، فلم يشعر العرب والمسلمون مثلًا، بإهانة من قيام منظمة التجارة العالمية حتى وإن كانت تمثل تحيزًا اقتصاديًا ضدهم كجزء من العالم النامي أو المتخلف كالإهانة التي شعروا بها عند قيام الكاتب البريطاني من أصل هندي “سلمان رشدي ” بانتقاد الرسول محمد (ص) والتشكيك في قدسية القرآن الكريم وذلك في روايته المعروفة (آيات شيطانية) قبل ثلاثة عقود، أو عند نشر الرسوم الدانمركية المسيئة للنبى الكريم قبل عقد ونصف العقد، أو إعادة نشرها فى صحيفة “شارلي إبدو” الفرنسية قبل خمسة أعوام ثم قبل عامين وصولًا إلى الأزمة الراهنة بين فرنسا وجماهير غفيرة فى العالم الإسلامى سواء؛ لأن مدرس التاريخ الفرنسي الراحل “صامويل باتى” قد استدعى تلك الرسوم فى أحد دروسه، أو لأن الرئيس الفرنسي “ماكرون” دافع عن حق الصحف الفرنسية فى نشر تلك الرسوم باعتباره قرينًا لحرية التعبير، بعدما كان صرح بأنَّ الإسلام (كدين) يعانى من أزمة بنيوية فى العالم الحديث.
المهم في هذا السياق هو أنَّ تراجع مركزية الانتماءات الأولية للعرق والدين والطائفة ــ التي لا يمكن التفاوض بشأنها ــ في مقابل الانتماءات الحديثة للطبقة الاجتماعية والحزب السياسي، والدولة الوطنية، إنَّما يزيد مساحة التوافق ويزيل بعض أعقد أسباب التناقض بين العالمين ويبقى بعضها الآخر قابلًا للحلول الوسط، الأمر الذي يجعل العقدة الحضارية الدافعة إلى الصدام أكثر بساطة وأقل تعقيدًا في كل مرحلة عنها في المرحلة السابقة، وهي البساطة التي تكاد تكون المعادل الموضوعي؛ لتعقيد التركيب التاريخي.
على أساس الإدراك الأنثروبولوجي للثقافة إذن، تبقى الحضارتان الغربية والعربية، قادرتين على النهوض بحوار بناء ينجز تعايشًا حقيقيًا وينفي كل مبرر لحديث صدام الحضارات الذي لا يمثل حتمية من أي نوع، ويفتح الطريق واسعًا أمام تجاوز خلاق للصياغة الأحادية (شرق ـ غرب) قبل أن تتحول إلى ثنائية أقنومية راسخة ونهائية. بل إنَّ الأمر لدينا يتجاوز مجرد مقولات أو مفهومات نظرية إلى تمثل التجربة التاريخية نفسها، إذ يمكننا الإدعاء بأنَّ القطبين الحضاريين، كلًا في لحظة صعوده، استطاع أن يقدم الآخر إلي نفسه من خلال اكتشاف تراثه هو( أي تراث الآخر) وتعريفه به على نحو يتيح له أن يبدأ في مرحلة إعادة البناء: العرب فعلوا ذلك مع أوروبا في العصر الوسيط عندما قام “ابن رشد” و”الفارابي” وغيرهما بترجمة ودراسة الأعمال الكبرى في الفكر اليوناني والإضافة إليها عبر محاولة التوفيق بينها وبين الإسلام، ومن خلال تلك الترجمات والدراسات تم وصل العقل الأوربي بجذره اليوناني القديم، وفي المقابل قام الأوروبيون بالمهمة نفسها في العصر الحديث من خلال أعمال المستشرقين الجادين والأكثر نزاهة، وجهود الأثريين الكبار التي أسهمت في تعريف العرب المعاصرين بجوانب مهمة من تراثهم؛ فقيام “شامبليون ” بفك رموز (الهيروغليفية) هو ما فتح كهف الحضارة الفرعونية وعرف مصر بنفسها، فليس ثمة هوية نقية إذن ولا بنية متعالية على التاريخ، إلاَّ في وعي أسطوري مغلق يدور حول نفسه، ويتغذي على عقده وأوهامه.
الهوية السالبة والآخر العدو :
نصف الهوية بـ (السالبة)، عندما تأخذ حركة سيرها مسارًا معكوسًا، أي من التعرف على الآخر إلى إدراك الذات. بمعنى أنَّ الأمة لا تستطيع أن تحدد مكوناتها هي إلاَّ بالتعرف على مكونات الآخر أولًا قبل أن تقوم في مرحلة ثانية بوضع نفسها موضع السلب الكامل لكل ما يمثله؛ لتصبح مجرد نقيض له على صعيد الرؤى والمواقف والأدوار التي تصورها الآخر لنفسه تستند تلك الهوية إلى الإدراك الرمزي ــ السيكولوجي لظاهرة الثقافة، والذي يتحدد بمكونات فكرية يتوفر لها الشمول كـ(الدين)، أو تدعي هذا الشمول كـ(الأنساق الفلسفية المغلقة، والإيديولوجيات السياسية الراديكالية ) أو حتى تخضع له كـ( الأصول العرقية واللغوية أو الانتماءات القومية).
تبدأ مشكلة هذا الإدراك عندما ينشغل فقط بتأكيد مبدأ الخصوصية غير مكترث بالمشترك الإنساني، ويسعى إلى إبراز الهوية كتعبير محض عن الخصوصية والاستثنائية والتفرد، فينتج وعيًا استبعاديًا وإقصائيًا، ورغم أنَّه قد ينزع إلى طموحات عالمية، ويمتلك دعاوى ذات طابع رسالي بحكم روافده المثالية (الرغبة في التبشير بالدين، أو نشر الأيديولوجية، أو الدفاع عن الوحدة القومية)، إلاَّ أنَّه غالبًا ما يصل إلى نتائج نقيض لطموحه؛ إذ يفتقد لتعددية وسائل التعبير عن رسالته، ولا يتصور لها سوى وسيلته هو مهدرًا الجزء الأكبر من الخبرة الإنسانية (التاريخ) التي تمثل مرجعًا له وإطارًا لتجربته، إذ لا يمكن الحكم على أي نظام للأفكار بالصلاحية أو العكس إلاَّ بمقدار ما يثمره في حركة الواقع، مهما كانت جاذبيته اللفظية أو هندسته العقلية، فمن دون معيار الصلاحية العملية والقدرة على التحقق في الواقع يكون هذا الإدراك الثقافي بابًا لا للحفاظ على الخصوصية أو إثرائها، بل إلى الانغلاق والتقوقع في كهوف الزمان، وسراديب المكان، ما يمثل وصفة للتخلف ــ ناهيك عن القطيعة مع الآخر، ومن ثمَّ تواجه الهوية السالبة أو الذات الثقافية المتمركزة حول نفسها مشكلتين أساسيتين:
المشكلة الأولى : هي المبالغة في إبراز التناقض مع الآخر، فهي إذ تنطلق من تصور طهراني للثقافة وخلاصي للهوية، فإنَّها لا تتصور وجود مشترك إنساني مع الآخر ولو بأقدار بسيطة نتيجة ــمثلًا؛ لتواصل تاريخي أو لجذر ديني ولو بعيد، أو لانتماء عرقي ولو فرعي، أو قربى لغوية ولو جزئية، فطالما وجد عامل مشترك فلا معنى لوجوده غير أنَّها قد ذابت في الآخر وتأثرت به أو انسحقت أمامه، وهذا أمر يفزعها ويدفعها إلى نفي هذا العامل والنأي بنفسها عنه من خلال تحديد ذاتها بنقيضه، فتكون لغتها مجرد سلب للغة الآخر، ودينها مجرد سلب للدين الآخر. ….إلخ، وهنا يصبح إعلاء الشعور بالتناقض هو الطريق الوحيد لتأكيد الذات، التي غالبًا ما تلجأ بدورها إلى اختزال نفسها ( هويتها) في المركب الأكثر أولية في كينونتها كالدين والأخلاق، مانحة لهما الأولوية على السياسة والمجتمع والاقتصاد بهدف صياغة الخصوصية باعتبارها أمر مطلق، وهوية نقية لم تتلوث بسواها، ولعل هذا هو جوهر التفكير الأسطوري حيث تتم أقذمة المتغيرات وتحويل الأزمنة والأماكن إلى مثاليات متعالية على التغير والحركة.
أمَّا المشكلة الثانية : فهي الإغراق في كراهية هذا الآخر كلما زاد تقدمه، واستطاع الولوج إلى فضاءات جديدة ومستويات أرقى على صعيد التجربة الإنسانية؛ ذلك أن الذات الحضارية هنا تقع بين شقي رحى ، فإمَّا مماثلة الآخر في هذه الآفاق جميعًا ما يعنى لديها الذوبان فيه، وإمَّا النأي بنفسها عنه، واعتبار هذه الآفاق مساحات غريبة على ما تعتقد أنَّه أصالتها، وربما غير أخلاقية قياسًا إلى ما تتصوره فضيلتها غير أنَّها لا تقوم بهذه العملية عن ثقة بل عن خوف، وليس عن اتسام أخلاقي بل عن اغتراب نفسي، وليس عن زهد حقيقي بل عن شعور بالحرمان، وإزاء كل تلك المشاعر السلبية بالخوف والاغتراب والحرمان، وبتصور أنَّ الآخر هو من فرض تلك المشاعر عليها، لا يكون ثمة طريق سوى كراهيته والنزوع إلى القطيعة معه.
ومع استمرار تفوق الآخر عليها، وتمكنّه من السيطرة طويلة الآجل على حركة الواقع، تبدأ الذات الحضارية في كراهية حاضرها والتشاؤم إزاء مستقبلها، فلا يبقى لها من أبعاد الزمن سوى الماضِ؛ لتلوذ به بدعوى وجود تجربة سابقة فيه تَنُمُّ عن السبق، وتشير بغير العجز، فإذا بها تمعن في تبجيله حتى تُحِيله إلى أسطورة متعالية على التاريخ، وربما كانت هذه التجربة محض أوهام في بعض الحالات، وربما كانت حقيقية أو حتى فذة في ريادة الإنسانية في حالات أخرى، ولكن المشكلة التي تبقى قائمة في كلا الحالين أنَّ تجربة الماضِ غير قادرة لا على ملء فراغ الحاضر، ولا على زيادة الأمل في المستقبل، لأنَّها ببساطة غير قابلة للاستعادة ولا فائدة حقيقية لها إلاَّ في حالة واحدة هي النجاح في تفكيكها والنفاذ إلى القيم الإيجابية المؤسسة لها بقصد إعادة إنباتها في تربة العصر.
غير أنَّ المفاجأة المدوية التي سرعان ما تتبين لهذه الذات التعسة، أو للتيار الغالب فيها أنَّ تلك القيم الإيجابية التي صاغت تجربتها الزاهية في الماضِ، هي نفسها العناصر الديناميكية التي تصنع تقدم الآخر في الوقت الراهن، ولو صيغت في أشكال حديثة ومسميات معاصرة، وأنَّها جميعًا محض سنن يودعها الله في التاريخ حاكمة لحركة البشر تكاد تشبهه، ولكن من دون حتم تلك القوانين التي يبثها في الطبيعة، حاكمة لحركة الكون. أمَّا الأمر الصادم حقًا، فهو أنَّ اكتشاف هذه الذات الحضارية لتلك الحقيقة الأساسية لا يسعدها إذ ترى في هذا الاكتشاف انتقاصًا مما تعده خيريتها الخاصة، ومن ثم تتنكر له؛ لأن التفاعل مع معطياته سوف يماهي بينها وبين الآخر، ويذيب هويتها فيه فلا تعدو قادرة على التعرف على نفسها، ومن ثمَّ فهي غالبًا ما تتنازل عن الكشف الجديد حفاظًا على هوية قديمة، وتتخلى عن الحاضر والمستقبل حتى لا تغترب عن ماضيها الذي تصورته أصالتها وهو في الحقيقة، لا يعدو غربتها في الزمن وهلعها المرضي من الآخر.
يمكن الإدعاء هنا بأنَّ التيار السلفي في الفكر العربي قد وقع في فخ تلك الهوية السالبة، عندما أمعن في إبراز التناقض مع الآخر (الغربي) إلى حد المطالبة بالقطيعة، خشية على هوية نقية متوهمة، بغض النظر عن إمكانية تحقيق ذلك من الأصل، مدفوعًا ربما بثلاث خبرات أساسية من قبيل المركزية الأوروبية والنزعة الكولونيالية، التحيز الغربي للاستيطان الصهيوني، والنزعة التدخلية الأمريكية، والتي جسدت من ناحية مظهرًا لمشاعر الانتصار ونزعة الاقتحام لدى الحداثة الغربية، ومن ناحيةٍ أخرى مظاهر لانكسار العالم العربي، إلى الدرجة التي ستولد لدى ذلك التيار مشاعر خوف عميق ونزوع دائم إلى الانكفاء.