2020العدد 184فكر وإعلام

هبة الثقافة … نحو جسور عربية متينة

تعلو السياسة في الحالة العربية على ما عداها، ويزاحمها الاقتصاد، ويجلجل صوتهما في مختلف المسارات، وتصنعان معًا تفاصيل الحياة اليومية الجارية بلا هوادة، وتتعمقان لترسما ملامح المقياس الأبرز للتوافق أو الاختلاف، التقارب أو التباعد، بل النجاح والفشل. ويبدو أنّ الإزاحة إلى السياسة في مستواها الأعلى، أي المرتبط بالسلطة، سمة للتفكير العربي العام، ولذا تنشغل أذهاننا دومًا بأداء الحكام، بدءًا من الخلفاء الراشدين وانتهاء برؤساء الجمهوريات والملوك، مرورًا بحكام بني أمية وبني العباس وبني عثمان وولاتهم في كل البلدان، وننسى في غمرة هذا الاهتمام الجارف، كيف كان العرب يرتبون أحوالهم المعيشية، ويقيمون شروط التحضر والتقدم، وهو السلوك الذي حافظ على بقاء الإمبراطورية الإسلامية قرونًا طويلة، رغم فساد السلطة واستبدادها،  ولو كانت السياسة  هي العنصر الوحيد الذي قامت عليه الحضارة العربية، لما عاشت كل هذا الزمن المديد.

ومع هذا تتغول السياسة في العالم العربي المعاصر على الثقافة، وتحتكر في الخطاب السائد علامة الحكم على الصواب والخطأ، فكلما اقترب العرب سياسيًا في لحظة ما، أو توافقوا على قضية معينة، اصطخبت الساحة بحديث مستفيض عن النجاح، ومنحت تعليقات النخب وتصرفاتها الناس أملًا عريضًا في مستقبل عربي زاهر- وعلى النقيض من هذا- إن تلبدت الحياة السياسية العربية بغيوم الخلاف والصراع، دار حديث مضاد عن الخيبة والفشل، الذي بلغ حدًا أن عَنْوَنَ نزار قباني قصيدة شعرية له مطلع التسعينيات من القرن الماضي بسؤال مفاده: متى يعلنون وفاة العرب؟

لكن قبل أن نقف على الدور الذي يمكن أن تلعبه الثقافة في ترسيخ قواعد التقارب والتجانس، وربما الوحدة العربية، يجب أن نقف على تصاعد الاهتمام بالثقافة في تحليل الظواهر الإنسانية عامةً، والسياسية خاصةً.

التحليل الثقافي للظواهر السياسية:

لم تحظ (الأحوال الفكرية) للتجمعات البشرية بنصيبٍ وافرٍ من اهتمام واضعي الحوليات، وراصدي الأحداث، ومصنفي الوقائع، الذين انصرفوا مباشرةً إلى ما ترتبه الصراعات السياسة، والتفاعلات الاجتماعية، والمنافسات الاقتصادية من يوميات تظهر عيانًا بيانًا للقاصي والداني، وتفرض نفسها على إيقاع الحياة، الذي يتسارع بلا هوادة.

ويعود الطغيان السياسي والاقتصادي والاجتماعي على الفكري من زاوية المتابعة والرصد إلى عدة أسباب:

 أولها: الشعور العام بأنّ الأحداث المرتبطة بكل من السلطة والشركة والهيئة الاجتماعية أشد تأثيرًا على معيشة الناس من عملية إنتاج الأفكار ونقلها.

ثانيها : أنّ السياسي والاقتصادي أكثر بروزًا وأسهل تتبعًا من الفكري الذي يسري في أغلب الأحوال سريانًا ناعمًا وخفيًا، حتى في أقصى حالاته ضجيجًا، فنحن نستطيع أن نرصد بكل سهولة تأثير تراجع سعر الدولار أو برميل النفط أو أسهم البورصة على أوضاع الناس، ويمكننا أن نقيس في يسر رد فعل الجمهور حيال قرار إجراء انتخابات أو اعتقال معارضين أو إبرام اتفاق مع دولة خارجية، بينما يصعب أن نعرف بدقة وإحكام ما فعله كتاب في العلوم الإنسانية أو رواية أو ديوان شعر في أذهان الناس وأذواقهم ومشاعرهم.

 وثالثها: أنّ تأثير الفعل السياسي والاقتصادي والاجتماعي أسرع من تأثير الأفكار المجردة والآداب والفنون.

لكن هذا لا يعني أبدًا الاستهانة أو التهوين من دور الأفكار فى صناعة مسارات البشر ومصائرهم، فتاريخ النهضة في أي زمان ومكان يبين بجلاء أن التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي سبقه ارتقاء فكري، حدد الإطار المعنوي العام لمشروع التقدم الإنساني، ورسم ملامح القيم أو الأيديولوجيا التي تمنح السلوكيات والتصرفات في المجال المادي تبريرًا، وتُعَيّن لها أهدافها وغاياتها.

ولهذا فإنّ الوقوف على حركة الفكر العربي في وقت معين ينطوي على أهمية قصوى في تحديد ما إذا كان العرب على عتبة الخروج من مأزقهم الراهن، وما إذا كان بوسعهم أن يُحصّلوا مشروع نهضة جديد من عدمه.

لقد توقع كثيرون أنّ أهمية الثقافة ستتراجع في مشروع النهضة الأوروبي، وأنّها لن تكون متغيرًا أصيلًا في تحليل الظواهر الإنسانية، لكن ما جرى في الواقع سار عكس هذه التوقعات، فبعد أن خفَّ الحديث عن دور الثقافة سواء في بناء المعرفة الإنسانية أو في تفسير ما يجري في الواقع المعيش، جاء العقد التاسع من القرن العشرين؛ ليشهد عودة المحددات الثقافية؛ لتحتل موقعها اللائق في العلوم الاجتماعية- لاسيما على أكتاف الدراسات التي ربطت بين الثقافة المحلية والتنمية، ودراسات الماركسيين الجدد، التي لم ترقَ لها تمامًا ما ذهب إليه “ماركس وأنجلز” من اعتبار الثقافة جزءًا من “البنية الفوقية” التي لا تؤثر في حركة الحياة بالقدر نفسه الذي تمارسه العناصر المادية المكونة للبنية التحتية.

ولعل ما كتبه” فوكاياما ” عن الدور الإيجابي للروابط العائلية في ازدهار الاقتصاد الصيني والكوري الجنوبي، يقدم دليلًا واضحًا على هذا الأمر، ويطرح “فوكوياما ” سؤالًا: هل العوامل الثقافية مثل رأس المال الاجتماعي والترابط الاجتماعي التلقائي ليس لها أهمية؛ نظرًا لأن الدولة بوسعها أن تستطيع التدخل لسد الثغرة التي تركتها الثقافة؟ ويُجب: لا، ثم يقول: ” ليست لدى كل دولة الكفاءة الثقافية التي تمكنها من انتهاج سياسة صناعية فعالة مثلما فعلت كوريا”([1])

ووصل الأمر إلى ذروته مع اعتراف” دانييل باتريك موينيهان” بأنّ : ” الثقافة، وليست السياسية، هي التي تحدد نجاح أي مجتمع”.([2]) ورغم أنّ البعض يرى أنّ الثقافة توجه السياسة في الرؤى المحافظة، وليس في التصورات الليبرالية التي تُعلِي من شأن السياسة أصلًا، فإنّ كثيرًا من الباحثين والمفكرين الغربيين لم ينكروا الدور المتعاظم للثقافة، فها هو ” صمويل هنتنجتون ” يتحدث في كتابه “الموجة الثالثة للديمقراطية”([3]) عن أن هناك ثقافات تساعد على قيام النظم الديمقراطية، وأخرى تفتقر إلى هذا. أمّا علماء الأنثروبولوجيا ، فلم يتأثروا بكل المحاولات التي رمت إلى تهميش دور الثقافة في تفسير وتحليل وتغيير ما يتلاحق في الواقع ويلمسه النَّاس، ويشعرون بتأثيره المباشر في حياتهم.

ورغم أنّ المدرسة الليبرالية أعلت من شأن الجوانب السياسية والاقتصادية على حساب الثقافة، فإنّها لم تلبث أن عادت لتصحح خطأها هذا، وهو ما ظهر في الرؤى التي قدمها “جاري بيكر” حول التفاعلات الاجتماعية، “ودوجلاس نورث” عن المؤسسات كمنتجات ثقافية، وتحليلات ” آماراتيا سن” لقضية الاختيار الاجتماعي والرؤى كافة التي نظرت إلى التنمية باعتبارها عملية إنسانية قبل أن تكون مجرد نشاط اقتصادي.

والثقافة بشقيها) المعنوي والمادي( بات ينظر إليها باعتبارها تلعب دورًا مهمًا في عملية التنمية، عبر اشتراكها في تشكيل أو صياغة السياق العام الذي تتفاعل داخله المشروعات الاقتصادية- لاسيما في جوانبها البشرية، التي تتعامل مع التنمية من منظور أوسع بوصفها عملية تعزز الحرية الفعالة للشعب، وتتيح متابعة ما يراه ويدركه من قيم، وليست منصبة فقط على النمو الاقتصادي وزيادة الإنتاج وارتفاع مستوى الدخل.

والعنصر الثقافي كان حاضرًا دومًا في دراسات التنمية، إلى درجة أن البعض فسر قضية التنمية على أنّها مسألة ثقافية، وتم توسيع كلا المفهومين؛ ليشمل الواحد منهما الآخر، وبات هذا أمر محسوم في الدراسات الغربية، ولم يبقَ أمام الباحثين سوى مشكلة واحدة تتعلق بصعوبة القياس الكمي؛ لتأثير عنصر الثقافة في عملية التنمية، وتعامل البعض معه باعتباره الركن البعيد الذي تحال إليه الظاهرة إن عجزت العناصر الأخرى عن تفسيرها، وأنّه الذريعة التي يلجأ إليها الكُسالى والفاشلون من الباحثين؛ للهروب من مشقة تتبع العوامل والعناصر الأصيلة.

لكن هذا الأمر لم يؤدِ مع تقدم مناهج المعرفة، إلى التقليل من دور العامل الثقافي في صناعة التنمية، بل ثبت حضوره في القضايا الاقتصادية الجزئية، ويُظهر مجال مثل السياحة حجم هذا الدور، نظرًا لارتباط حركة السائحين بأنماط ثقافية وسلوكيات اجتماعية ورغبات معرفية واقتناع بحق الإنسان في الترفيه، أو شوقه إلى الإلمام بأحوال المجتمعات الأخرى. كما أن مجال مكافحة الفقر يقدم مثالًا آخر ناصعًا على علاقة الثقافة بالتنمية، إذ تم تجاوز النظرة التقليدية إلى العوز باعتباره نقصًا في الموارد الاقتصادية، وبؤسًا في الأحوال الاجتماعية، إلى تناول الآثار السيئة التي يتركها على حرية الإنسان وكرامته ومكانته، وكيف يؤدي تعزيز شعور الفرد بهذه القيم وتلك المعاني إلى مساعدته في الخروج من دائرة الفقر الجهنمية؟

وقد أثبتت بعض التجارب الميدانية في مجالي ( التغير الاجتماعي والتقدم التقني ) في العديد من الدول النامية أن العوامل الثقافية، لها دور كبير وفاعلية واضحة في مسألة قبول أو رفض البرامج الخاصة التي تقدمها المؤسسات الخارجية؛ ولذا حرصت الكثير من هذه المؤسسات على تصميم برامج تتماشى مع الثقافة السائدة في المناطق المراد تنميتها.([4])

وهناك ثلاثة اتجاهات أساسية تبين دور الثقافة في عملية التنمية:

 الأول : يتعلق بكون الثقافة متغير فاعل في عملية التحديث، لاسيما من الزاوية التي ترى أن التحديث يمكن أن ينتقل من المجتمعات المتقدمة إلى المتخلفة بعد الانتقال المتدرج أو الانتشار المتتابع للأنماط الثقافية من الأولى إلى الثانية، بما يؤدي إلى تفكيك الأبنية الثقافية التقليدية التي تعوق التحديث.

 والثاني: يتمثل فيما أنتجته مدرسة التبعية، التي كانت جذورها الماركسية -اللينينية ، قد جعلتها لا تعطي الثقافة كامل دورها في عملية التنمية، فإنّها اعتبرت المنتج الثقافي أحد أدوات دول “المركز” في إلحاق دول “المحيط” بها، وبينت كيف أن الجماعات التي تشكل “مركز المحيط” تتماهى مع ثقافة “المركز” وتتمثلها.

أما الثالث: فيرتبط بثقافة العولمة التي “تسعى إلى فرض نفسها على الثقافات القومية، بهدف تأسيس تجانس اجتماعي وثقافي عالمي، تشكل هذه الثقافة قاعدته، في مواجهة ثقافة العمل الأهلى والتطوعي التي تنشأ من أسفل، وتسعى إلى إحياء ثقافة الفقراء وتطويرها بحيث تكون قادرة على إشباع حاجاتهم وتنمية واقعهم”([5]).

عملية تحليل الأفكار … نماذج إرشادية:ـ

هناك العديد من الاقترابات التي تساعد في تصنيف الأفكار وتحليلها، والإحاطة بأطراف المعارك والقضايا الفكرية، وهذه الاقترابات منها ما يذهب مباشرة إلى معالجة هذا الأمر، ومنها ما يهتم بجوانب أخرى لكن عطاؤه وفوائده يمكن أن تمتد إلى ما نحن بصدده في هذا المقام. ويمكن توضيح ذلك في النقاط التالية:

  1. نظرية الثقافة: وتنطلق من أن الثقافة هي الكل المعقد الذي يشمل المعارف والفنون والقيم والتصورات والمعتقدات والمعايير والرموز والأيديولوجيات والطقوس وأنماط المعيشة، والتي يمكن في خاتمة المطاف أن تتوزع على ثلاثة مفاهيم رئيسية هي: ( التحيزات الثقافية، والعلاقات الاجتماعية، وأساليب العيش)، التي تدور حول خمسة مسارات هي التدرجية والمساواتية والقدرية والفردية والانعزالية، التي تتنافس أحيانًا وتتفاعل وتتساند ويتعايش بعضها مع البعض الآخر أحيانًا.([6]) وهذه النظرية لا تمتلك القدرة على تفسير كل شيء، لكنها ضالعة في تحليل وتبيان الكثير من الظواهر الإنسانية.
  2. النقد الثقافي:([7]) وهو يعني نقد الخطاب وكشف أنساقه، والبحث عما وراء “الأدبية”، أو ما خلف جماليات النص وبلاغته، للوصول إلى المضمر الأيديولوجي والقيمي، ويعني أيضًا استعمال المعطيات النظرية والمنهجية في علوم الاجتماع والسياسة والاقتصاد والتاريخ والنفس وغيرها في تحليل النص من دون التخلي عن مناهج النقد الأدبي، وعدم الاقتصار على المنتج الثقافي النخبوي وتجاوزه إلى الثقافة الشعبية بمختلف تجلياتها المكتوبة والشفاهية والطقوسية.
  3. التاريخ الثقافي: ويستلهم مناهج علم التاريخ في رصد حركة الثقافة، بما يساعد على عدم الإغراق في التفاصيل الصغيرة والدقيقة التي لا يمكن حصرها، ويؤدي الزعم بتتبعها جميعًا إلى التشتت والتبعثر، ويقضي هذا الاقتراب بالارتفاع فوق الصغائر والإمساك بالخيوط الرئيسة والخطوط العريضة للظواهر الثقافية المتتابعة، أو النظر إليها نظرة كلية، تشبه نظره الطائر إلى الغابة، إذ لن تقوم لدراسة التاريخ الثقافي قائمة إلاَّ حين يتجه العلماء والنقاد إلى تحديد أنماط الحياة والفن والفكر مجتمعة.([8])
  4. التحليل الثقافي: وهو اقتراب معرفي يمنحنا نظرة أكثر شمولية وإحاطية للظواهر، ويسد عجز المناهج السياسية والاقتصادية والاجتماعية السائدة في سبر أغوار الكثير من الظواهر الإنسانية الجديدة مثل “الصحوة الإسلامية” و”الانبعاث القومي”، ويتوزع هذا الاقتراب -حتى الآن- على أربعة مداخل،([9])
  5. أولها ذاتي: ويركز على المعتقدات والاتجاهات والآراء والقيم التي يعتنقها أفراد المجتمع، وينظر إلى الثقافة باعتبارها صياغة ذهنية ذاتية، تساعد الفرد على تحديد رؤية للعالم وتفسير للواقع المعيش.
  6. ·         والثاني بنيوي: وينصرف إلى الأنماط والعلاقات القائمة بين عناصر الثقافة ذاتها، ويرمي إلى التعرف على القواعد التي توفر قدرًا من التجانس على ثقافة ما، أو تمنحها صفة بارزة عما عداها من صفات، وكذلك التعرف على الحدود الرمزية للثقافة، ونوع الخطاب الذي تنتجه.
  7. الثالث فتعبيري: ويركز على الصفات الاتصالية للثقافة سواء من زاوية المعلومات أو الرسائل والشفرات، وكيفية إدراكها في حال تفاعلها مع البناء الاجتماعي بوصفها ظاهرة جمعية وليست تجربة فردية.
  8. ·         والرابع هو المدخل المؤسسي: ويَنْظُر إلى الثقافة باعتبارها تتشكل من فاعلين وتقوم على أكتاف منظمات وهيئات في حاجة إلى موارد بشرية ومادية.
  9. المذهب الثقافي: وهو مصطلح موزع بين( الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع)،([10]) يرمي إلى بناء نموذج إرشادي، أو إطار للتفكير، ورؤية للعالم، مثل: (البنيوية والوظيفية وغيرهما)، وأهم زاوية للمعالجة يمنحها لنا هذا المصطلح هي أن المجتمعات المتماثلة في درجة نموها الاقتصادي يمكن أن تكون متمايزة تمامًا من الناحية الثقافية، فكل مجتمع يميل إلى أن يكون “كل ثقافي” فريد وأصيل. كما أنّ أي ثقافة تنطوي على قيم مهيمنة وأخرى ثانوية، وقيم راسخة وأخرى متغيرة- علاوة على ذلك فإنّ بالإمكان أن ننظر إلى الثقافة باعتبارها مقياس كل شيء، وأن نفهم أنّ أي واقع يتم إدراكه عبر منظومة ثقافية.
  10. الأزمة الثقافية: وتنطلق هذه النظرية التي رسم ملامحها الأساسية الألماني “هانز بيتر درايتزل” في دراسة أسماها بـ”في معنى الثقافة”([11])، من أن الثقافة لا تحلق في فراغ إنّما هي تتفاعل طيلة الوقت مع مختلف ركائز القوة في المجتمع، وتسعى إلى الحفاظ على أنماط الإنتاج المتواجدة، عبر إمدادها بتبريرات ترسخ شرعيتها، وتوفر أساليب ومضامين التنشئة الاجتماعية، معرفيًا وقيميًا وتوجيهيًا، والتي بدورها تجعل الفرد مرتبطًا بهذه الأنماط، ومدافعًا عنها- علاوة على تقديمها تفسيرات محددة لمسار الحياة الإنسانية، وحسب “درايتزل” فإنّ الثقافات تعاني دومًا من ثلاث أزمات محددة هي: أزمة الهُوّية، وأزمة الشرعية، وأزمة العقلانية، ويظل القائمون على الثقافة في تعبئة دائمة من أجل الخروج من الأزمات، التي تتجدد بأشكال ودرجات مختلفة.
  11. علم اجتماع المعرفة: يتجاوز هذا العلم مسألة إخضاع التفكير إلى قواعد منطقية محددة؛ للكشف عن مدى تناقضه أو تكامله من وجهة نظر عقلية بحتة، إلى النظر إلى وظيفة التفكير في الحياة عامة، وفي المجال السياسي خاصة، على أساس أنّه أداة تتوسل بها مختلف الجماعات؛ لتحقيق ما تبتغيه من أهداف.

ويُعنى علم اجتماع المعرفة بتتبع التطبيق العملي للأفكار النظرية المطروحة،([12]) وهو ينظر إليه إما كنظرية تهدف إلى تحليل العلاقة بين المعرفة والوجود، أو كمبحث (تاريخي – اجتماعي) يرمي إلى رصد وتحليل الأشكال التي تتخذها العلاقة بين المعرفة والوجود.

وينبني هذا العلم على أنّ أنماط التفكير لا يمكن فهمها على وجه دقيق من دون تحديد أصولها الاجتماعية، وأن التفكير ليس فعلًا فرديًا إنّما هو صناعة اجتماعية، أو نتاج عناصر عدة متفاعلة، وحاصل سلسلة لا تنتهي من الاستجابات لمواقف نمطية معنية، يغلفها سياق محدد، يؤثر فيها تأثيرًا جليًا، وهي في خاتمة المطاف إسناد الفكرة أو نسق من الأفكار والمفاهيم والتفسيرات المنهجية إلى فلسفة حياتية معينة، أو إلى مراحل زمنية معينة، أو جماعات وشرائح وطبقات اجتماعية معروفة.

  • رأس المال الاجتماعي:([13]) ظهرت الإرهاصات الأولى لهذا المفهوم في القرن الثامن عشر حين أشار” ديفيد هيوم ” إلى أثر (الحس الأخلاقي على النشاط الاقتصادي)، ثمّ جاء ” آدم سميث”؛ ليؤكد أن السوق في حاجة إلى شعور أخلاقي لتضبطها، وأخذ المفهوم يترسخ مع رواد علم الاجتماع بدءًا من حديث” كارل ماركس” عن (تضامن الجماعة) إلى مصطلح (الثقة المتبادلة الملزمة) عند ” ماكس فيبر”، وبعدها ظهر مفهوم (رأس المال الإنساني)، وتم تداوله إلى أن ظهر مفهوم( رأس المال الاجتماعي) في أعمال” بيير بورديو”، الذي رأى أنه إحدى صور رأس المال – بصفة عامة، ثم يعرفه بأنّه “مجموعة الموارد المتحققة والممكنة، التي تتوافر للشخص بفضل حيازة شبكة من العلاقات، المؤسسية بدرجةٍ أو بأخرى، للتعارف والقبول بين الأشخاص، أو حيازة عضوية جماعة معينة”.

وأخذ المفهوم دفعة أكثر مع  ” جيمس كولمان ” و”روبرت بوتنام”، إذ يبين الأول أن رأس المال الاجتماعي لا يوجد في الأشخاص ولا في الواقع المادي وإنّما في العلاقات الاجتماعية، ثم يعرفه بأنَّه “مجموعة متنوعة من العناصر تشترك في خصلتين، الأولى: أنَّها تشكل جانبًا من البناء الاجتماعي والثانية: أنَّها تيسر العمل لمن يعتمد عليها أو يلجأ إليها”. أما الثاني فيرى أن رأس المال الاجتماعي يتمثل في الارتباطات بين الأشخاص والشبكات الاجتماعية، ومعايير التبادل والثقة التي تترتب عليها، وهو ملكية جماعية ذات مضمون سياسي. 

نماذج من محاولات التحليل الكلي للفكر العربي

هناك من حاول أن يقف على المعاني الأساسية والقيم الأصيلة والتصورات الكبرى في الفكر العربي كله، وهناك مشروعات متكاملة الأركان مثل ما سطره “محمد عابد الجابري” ووسمه بـ(نقد العقل العربي) و”حسن حنفي” وأعطاه عنوان (التراث والتجديد) وما كتبه “أدونيس” وأطلق عليه (الثابت والمتحول)، وهناك ما أنتجه” قطسنطين زريق ، الطيب تيزيني ، فؤاد زكريا ، محمد جابر الأنصاري ، علي حرب ، نصر حامد أبو زيدو عبد الله العروي… وغيرهم”.

لكن هذه المشروعات الكبرى ليست ما يهمنا في هذا المقام، إنَّما المحاولات الجزئية التي رمت إلى تحليل الفكر، وتوجد ثلاث حالات لهذا المسلك المعرفي الكلي، هي:

  • الكتاب الذي ألَّفه الدكتور” حسين مؤنس” ووسمه بـ( تاريخ موجز للفكر العربي)([14]) ووصفه بأنه “محاولة؛ لإعادة النظر في التراث العربي الفكري كله، منذ العصر الجاهلي، وحتى عصرنا الحديث، وهو ليس تاريخًا للأدب العربي أو أدباء العربية، إنَّما هو تاريخ للفكر العربي”، ثمّ يوضح مسار الكتاب قائلًا: “عنيت هنا بتتبع الأفكار والحركات وتطوراتها، واهتممت بالجوانب الإنسانية والصدق وأمانة الفكر ومسئوليته، ورأيت أن أساس أي فكر نافع هو الحرية والعدل .. لقد كانت غايتي أن أعيد تقييم الفكر العربي ووزن رجاله وثمراته بالميزان الصحيح .. نحن هنا نبحث عن الأفكار الأصيلة النابعة من الإسلام أولًا، ومن العروبة ثانيًا، والآراء التي تعطي الفكر العربي قيمته الحقيقية”. وقد طاف المؤلف عبر مقالات عديدة في مسيرة الفقه والتصوف والأدب والعلوم الإنسانية والتطبيقية التي أنتجتها القريحة (العربية – الإسلامية).
  • المحاولة التي قدمها الدكتور” محمد عزيز الحبابي” ؛ للقضاء على الإبهام الذي يشوب بعض المفاهيم في الفكر العربي المعاصر، ووصفها هو قائلا: “يتناول هذا العرض مفاهيم تروج كثيرًا على الألسنة والأقلام ولم تتبلور بعد حتى تصل إلى الوضوح. كما يهتم بمباحث أحدثت ضجات صحافية وسياسية، ولكنها وقفت عند الضجيج دون أن تحك الأذهان بنسق إجرائي … ستبرز هذه الصفحات، من وجهة نظر واقعية، كيف أن مضامين بعض المفاهيم العمدة تسبح في الضباب، ويتبحر معها في الغموض النسق الفكري العربي عند أغلبية الكتاب، بل حتى عند البعض من قادة التفكير فلا محالة أنَّ مناقشة تلك المفاهيم ستساعد على توضيحها، وبالتالي على إزاحة الضباب عن التفكير، أو على الأقل على لفت النظر إلى وجود الضبابية مع ضرورة مواجهتها”([15]).

ولم يتناول” الحبابي” المفاهيم من وجهة نظر معجمية، ولا الألفاظ في حقولها الدلالية، من وجهة نظر لسانية، بل يتناول كل مفهوم في محيط من المباحث بصفته عنصرًا في تركيب نظرية أو رؤية، فمثلا لفظ “عربي” ينظر إليه في سياق العروبة وما يرتبط بها من مفاهيم مثل (أمة، وطن، قومية ، ـفئة، قبيلة، طبقة) وكذلك التعريب وما يلتصق به من كلمات مثل (لسان، كلام، لغة) وما في الكلام من مفاهيم مثل (لهجات، دارجات، عاميات).

  • كتاب (الفكر العربي ومكانه في التاريخ) الذي ألَّفه المستشرق” ديلاسي أوليري”، ويعرض في صياغة كلية نشأة الحضارة (العربية – الإسلامية)، والظروف التي اكتنفت تكوينها وجذورها، والمؤثرات التي عملت على تشكيل مسارها، ويبدأ هذا العرض بتحليل المقدمات التي قادت إلى الفكر العربي، من فلسفات سريانية وهيلينية، والتي تم نقلها إلى العربية، ثم نشأة الحركات الفكرية والفلسفية، والتفاعل بين مختلف تيارتها، التي تأثرت بالثقافة الوافدة والنزعة العقلانية التي سادت في العصور الأولى، وتلك التي نزعت إلى الحفاظ على الموروث، ويتتبع الكتاب تطور الفكر العربي في العصر العباسي، ودور المعتزلة، وفلاسفة المشرق العربي، والمتصوفة، ومسار السلفية الإسلامية، وفلاسفة المغرب، ودور اليهود في الحضارة العربية، ثمَّ أثر الفلسفة العربية في الثقافة اللاتينية.

في حقيقة الأمر فإنَّ هذه التصورات الكلية ما كان لها أن تقوم إلاَّ بتتبع الجزئيات والتفاصيل واليوميات التي تراكمت حتى صارت حوليات، وهنا تأتي أهمية إفراد جزء من من تقرير “حال الأمة” عن الفكر العربي.


([1])  فرانسيس فوكوياما، “الثقة: الفضائل الاجتماعية والازدهار”، (أبوظبي: مركز الإمارات للدراسا ت والبحوث الاستراتيجية” الطبعة العربية الأولى، 1998 م، ص: 181.

([2])  لمزيد من التفاصيل حول هذه النقطة أنظر: د. باكينام الشرقاوي، “إشكالية الثقافة والتنمية في الاتجاهات الفكرية الغربية” في د. عبد الحميد سليمان (مقدمًا) “الأمة وأزمة الثقافة والتنمية” (القاهرة: دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة) الطبعة الأولى، 2007، المجلد الأول، ص: 101 – 152.

([3])  أنظر:

– Samuel p. Huntington, The Third Wave: Democratization in late Twentieth Century, Oklahoma – University of Oklahoma Press, the First Edition, chapter three, p.p.72:84 and chapter six, p.p.228:316.

([4])  د. كامل عبد المالك، “ثقافة التنمية: دراسة في أثر الرواسب الثقافية على التنمية المستدامة”، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب)، الطبعة الثانية، 2008 م، ص: 40.

([5])  د. علي ليلة، ” الثقافة في تصورات نماذج التنمية: رؤية من منظور النظرية الاجتماعية”، في د. عبد الحميد أبو سليمان، المرجع السابق، ص: 193.

([6])  لمزيد من التفاصيل أنظر: مجموعة من الكتاب، “نظرية الثقافة” ترجمة: د. علي الصاوي ، مراجعة: د. الفاروق زكي يونس، (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب) سلسلة عالم المعرفة، العدد رقم (223) يوليو 1997 م.

([7])  أنظر في هذا الشأن، د. عبد الله الغذامي، “النقد الثقافي: قراءة في الأنساق الثقافية العربية”، (بيروت/ الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي) الطبعة الأولى 2000 م.

([8])  يوهان هويزنجا، “أعلام وأفكار” ترجمة: عبد العزيز توفيق جاويد، مراجعة: د. زكي نجيب محمود، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب) سلسلة (الألف كتاب الثاني) الطبعة الثانية، 1999 م، ص: 19 ـ 90.

([9])  السيد يس، “الخريطة المعرفية للمجتمع العالمي”، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب) مكتبة الأسرة، سلسلة العلوم الاجتماعية، الطبعة الثانية، 2008 م، ص: 61 ـ 66.

([10])  حول تفاصيل هذا المصطلح أنظر: ريمون بودون، فرانسوا بوريكو، (المعجم النقدي في علم الاجتماع)ترجمة: وجيه أسعد، ( دمشق: الهيئة العامة السورية للكتاب) 2007، الجزء الثاني، ص: 311 ـ 322.

([11])  أنظر في هذا الصدد:

Drietzel,H.P., On The Meaning of Culture, in: Norman Birnbaum. Editor,Beyond the Crisis, New York, Oxford University Press, 1977.

([12])  لمزيد من التفاصيل حول هذا المفهوم أنظر، السيد يس، “شبكة الحضارة المعرفية: من المجتمع الواقعي إلى العالم الافتراضي”، (القاهرة: دار ميريت) الطبعة الأولى، 2009م، ص: 123 ـ 153.

([13])  أنظر: عزت حجازي، “رأس المال الاجتماعي كأداة في العلوم الاجتماعية”، القاهرة، المجلة الاجتماعية القومية، المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، المجلد (43) العدد الأول، يناير 2006 م، ص: 1 ـ 28.

([14])  د. حسين مؤنس، “تاريخ موجز للفكر العربي”، (القاهرة: دار الرشاد) الطبعة الأولى، 1996 م.

([15])  د. محمد عزيز الحبابي، “مفاهيم مبهمة في الفكر العربي المعاصر”، (القاهرة: دار المعارف)، ص: 5.

اظهر المزيد

د. عمار على حسن

روائي وباحث في علم الاجتماع السياسي - القاهرة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى