2018التطورات الإقليمية والدولية للمشكلة السوريةالعدد 174

الدور الروسي – الأمريكي في الأزمة السورية

تقديم

أصبح من المستقر لدى الباحثين والمحللين للأزمة السورية على مدى السنوات السبع الماضية، أن تدخلات القوى الكبرى وبشكل خاص روسيا الاتحادية والولايات المتحدة الأمريكية، فضلاً عن قوى إقليمية، كانت من أسباب تفاقم الأزمة وامتدادها وإعاقة التوصل إلى تسوية سياسة شاملة.

لن يناقش هذا المقال كيف بدأت الأزمة منذ اندلاع ثورة الشعب السوري ضد نظام وحكم بشار الأسد، ولكن سنركز على الدور الروسي – الأمريكي وتدخلاته ودوافعه، وكيف تفاوت ما بين التعاون الذي سيطر عليه، مع نهاية إدارة أوباما حيث اعتبرت أن روسيا تريد أن تفرض حلاً وفقًا لشروطها.

وكما نعرف بدأ الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترمب في يناير 2017، عهده بإشارات في إمكان التعاون الأمريكي الروسي، غير أن التطورات الداخلية في واشنطن كبلت أيدي الرئيس بفعل القوى التقليدية المتربصة بروسيا.

وسوف نلاحظ، في ما يتعلق بالدور الروسي، أن هذا الدور بدأ بالتدخل العسكري الحاسم والشامل لصالح النظام السوري، واستمر بثبات على هذا الموقف والذي من خلاله حقق النظام ليس فقط مكاسب عسكرية، كان في قمتها الصراع على حلب، بل وكذلك المحافظة على بقائه في السلطة. ومن خلال الدور الروسي المتماسك، بدأت روسيا تمسك ليس فقط بأوراق اللعب، وإنما لكي تكون سوريا مركزًا لدورها في الشرق الأوسط. وبذلك أصبحت سوريا ساحة للتنافس بين واشنطن وموسكو.

أولاً: الدور الروسي

رغم اختلاف العهود، فإن روسيا الاتحادية، وريثة الاتحاد السوفيتي السابق، وبشكل خاص بعد تولي فلاديمير بوتين السلطة عام 2000، بعد حقبة من التفكك، ورغم إعلانه أن الحرب الباردة قد انتهت، وعدم تبنيه داخليًا، النظام الاشتراكي الاقتصادي والاجتماعي، إلا أنه كان حريصًا على أن يستعيد مكانة روسيا الدولية وأن يكون لها تواجد وصوت مسموع في القضايا العالمية، بهذا التوجه، كانت منطقة العالم العربي والشرق الأوسط، التي تمثل الفناء الخلفي لروسيا، والذي استثمر فيه الاتحاد السوفيتي استثمارات ضخمة خلقت له مكانًا في 10 دول عربية، وهي المنطقة الأقرب والأجدر أن يستعيد فيها بوتين مكانة روسيا. وكان من أبرز هذه الدول سوريا التي كان للرئيس الأب حافظ الأسد علاقات وطيدة مع الاتحاد السوفيتي الذي دعم سوريا خلال حرب أكتوبر، ومن ناحيته قدم حافظ الأسد تسهيلات للاتحاد السوفيتي في ميناء طرطوس.

وعندما اندلعت الأزمة السورية عام 2011، ألقى بوتين ثقل روسيا وراء النظام الذي بلغ مداه بالتدخل العسكري الشامل عام 2015، ولعلنا نلاحظ في إطار العلاقات الأشمل بين روسيا والغرب بما فيه الولايات المتحدة، أن خطوات بوتين في سوريا، جاءت في لحظة من تصاعد التوتر، وضغوط الولايات المتحدة والعقوبات الاقتصادية الصارمة التي فرضتها على بوتين عقب تدخله في أوكرانيا، ومحاولة عزل روسيا.

فمنذ البداية شاركت المقاتلات الروسية مقاتلات النظام في ضرب مراكز قوى المعارضة، وتوازى مع ذلك تمدد منظمة داعش من العراق إلى الأراضي السورية وتواجدت بقوات كثيفة وأسلحة متقدمة في محاربة النظام، وهو التطور الذي ضاعف من التدخل العسكري، وأصبح يجادل بأن من أهدافه الرئيسية محاربة إرهاب داعش، وقد استثمرت روسيا هذا الدور واعتماد النظام الكامل عليها، لكي تطور وتثبت وجودها في قاعدة طرطوس البحرية التي تعطيها مدخلاً إلى البحر الأبيض المتوسط، ووضعت أنظمة وصواريخ S400، وأضيف إلى ذلك قاعدة حميميم الجوية، وفي مراحل متقدمة قنن هذا الوجود لكي يستمر إلى 49 عامًا قابلة للتمديد.

ومع هذا التواجد والوجود الكثيف لم يهمل بوتين العمل الدبلوماسي من أجل تسوية سياسية، ففي نفس العام 2015، الذي تدخلت فيه روسيا عسكريًا استدعى الكرملين بشار الأسد لكي يبلغه أن العمل العسكري يجب أن يتوازى مع العمل الدبلوماسي. في هذا الإطار انخرطت روسيا في جولات المحادثات السياسية في جنيف، ثم اصطنعت جولات استثنائية في أستانة عاصمة حليفتها كازاخستان، وفي المنتجع الروسي، وخلال جولات أستانة وسوتشي حرصت روسيا على أن تضم مع ممثلي النظام، فصائل المعارضة السورية بما فيها الفصائل المسلحة، ولكن خلال هذه الجولات لم يبدِ ممثل النظام أي مرونة، ولم يقترب من القضية المركزية وهي مرحلة الحكم الانتقالي، والتي كانت المعارضة تركز عليها، والتي نص عليها مؤتمر جنيف 1، وقرار الأمم المتحدة 2254 الذي دعا إلى إجراء انتخابات والتحضير لدستور جديد، واكتفى ممثلو النظام بالتركيز على قضايا جانبية مثل تبادل الأسرى، والمساعدات الإنسانية، بل إن أثناء اجتماع الأستانة الذي دعا إلى وقف إطلاق النار، كانت قوات النظام تقصف مواقع المعارضة خاصة في حلب حيث انتهي الأمر بتقدم قواته ورحيل قوات المعارضة.

ويمكن اعتبار حسم معركة حلب لصالح النظام نقطة تحول في تعامل روسيا مع الأزمة السورية، ففي الاتصال الهاتفي مع بشار الأسد لتهنئته أقرن ذلك بأن الوقت قد حان لتسوية سياسية. وأعقب ذلك عقد الكرملين مؤتمر موسكو في 29 ديسمبر 2017، كان أهم ما تميز به مشاركة فصائل مقاومة مسلحة سورية وانتهى المؤتمر إلى إعلان وقف إطلاق النار، أعلنت الفصائل التزامها به وإن كانت الاشتباكات استمرت خاصة في وادي عربة. وتوافق مع اجتماع مؤتمر موسكو الإعلان عن اجتماع موسع آخر في الأستانة، يومي 23-24 يناير 2018، سوف تتوسع فيه مشاركة الفصائل السورية المقاتلة، ويهدف أساسًا إلى تثبيت وقف إطلاق النار والتمهيد لمؤتمر جنيف في 29 فبراير وبرعاية الأمم المتحدة. وقد واصل بوتين تذكير الأسد بضرورة انخراطه في العملية السياسية.

وقد شجع ما أسمته روسيا “الانتصار” على داعش أن يعلن رئيس الأركان الروسي في 30 نوفمبر 2017 عزم روسيا سحب فرقها العسكرية من سوريا باعتبار أن الحرب ضد الإرهاب قد انتهت، وأعقب ذلك زيارة بوتين لقاعدة حميميم الجوية بوجود بشار الأسد، حيث أعلن بوتين أن القوات الروسية حققت مهمتها وخاطب جنوده أنه قد آن الأوان “للعودة إلى الوطن”.

غير أنه في أجواء “النصر” هذه وقبل أسبوعين من المؤتمر الذي تعد له روسيا في يناير 2018 حول الأزمة السورية، ولكي تمهد لمؤتمر جنيف، واجهت روسيا حدثين معاكسين: الأول حين أعلنت وسائل الإعلام الروسية أن المقاتلين الإسلاميين شنوا هجومًا بقذائف الهاون على قاعدة حميميم الجوية مما أدى إلى تضرر عدد من القاذفات والمقاتلات، الأمر الذي يعني أن المقاتلين الإسلاميين أرادوا أن يذكروا أن الحرب في سوريا لم تنتهِ ولن تنتهي في وقت قريب، أما الحدث الثاني فكان احتمالات فرط عقد محور روسيا، إيران، تركيا، الذي تدور حوله مؤتمرات أستانة، فقد دعت تركيا روسيا إلى الضغط على النظام السوري لوقف انتهاكاته لاتفاق خفض التوتر في أدلب، واعتبرت أن النظام لم يكن يجرؤ على ذلك دون دعم من روسيا وإيران، أضيف إلى هذا الحرج عندما طلبت تركيا غطاءً جويًا روسيًا لعملياتها التي تخطط لضرب وحدات قوات حماية الشعب الكردي، التي تعتبرها تركيا منظمة إرهابية في منطقتي عفرين ومنبج شمال سوريا، وترافق هذا مع إعلان الولايات ألمتحدة عن دعمها لقوة حدودية قوامها 30 ألف عنصر بينهم 15 ألفًا من المقاتلين الأكراد ويجمعهم حزب الشعب الكردي وهو ما لن تسمح به تركيا على حدودها، ونسب لوزير الخارجية الروسي لاﭭروف قوله إن موسكو حاولت ضبط التحرك التركي والتنسيق العسكري بشكل لا يعيق المؤتمر الذي تعد له في 24 يناير، وانتقد لاﭭروف السلوك الأمريكي وقال إنه يناقض الالتزام الأمريكي للحفاظ على وحدة الأرض السورية، ومع بدء تركيا تنفيذ تهديدها لضرب القوى الحدودية حين شن الجيش التركي هجومًا جويًا على مقاتلين أكراد أعلنت وزارة الدفاع الروسية سحب قواتها من منطقة عفرين لضمان أمن الجنود الروس الذين كانوا منتشرين في منطقة عفرين.

في 30 يناير انطلق من منتجع سوتشي الروسي مؤتمر تحت شعار “السلام للشعب السوري” قاطعته الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا، كما قاطعته “هيئة التفاوض” المعارضة و “هيئة التنسيق الوطني” وفسرت الولايات المتحدة مقاطعتها بأن روسيا تسعى لتفصيل حل على مقاس النظام السوري ووفقًا لرؤيتها الخاصة، ونلاحظ أنه نفس السبب الذي أنهت به إدارة أوباما المحادثات مع موسكو حول سوريا، وخلال المؤتمر نقل وزير الخارجية لاﭭروف رسالة من الرئيس الروسي قال فيها “إن الظروف مأساوية في التاريخ السوري وفي ظل المؤشرات المتبلورة نحتاج إلى الحوار السوري-السوري الفعال في الواقع حتى يمكن التوصل إلى تسوية سياسية شاملة ودور متقدم للأمم المتحدة وعلى أساس قرار مجلس الأمن 2254″، ولعل أهم ما خرج به مؤتمر سوتشي تشكيل لجنة دستورية تسعى إلى وضع دستور جديد يؤدي إلى تسوية سياسية ترعاها الأمم المتحدة. بينما اعتبر مراقبون أن روسيا فشلت في سوتشي باعتبار المقاطعة الواسعة من أمريكا وأوروبا، الأمر الذي مهد لدور عسكري روسي أكبر في سوريا انتقامًا من فشل سوتشي، فضلاً عن أستانة، وتزامن مع ذلك تدهور الوضع على الأرض وخاصة في عفرين والغوطة الشرقية، الأمر الذي أثار المجتمع الدولي بفعل الخسائر البشرية التي أوقعها قصف قوات النظام، والتي جعلت الأمين العام للأمم المتحدة يصف الوضع في الغوطة بأنه “جحيم على الأرض” ودفع كلاً من السويد والكويت أن يتقدما إلى مجلس الأمن بمشروع  قرار يدعو إلى وقف إطلاق النار في منطقة الغوطة لمدة 30 يومًا وإتاحة منافذ لدخول المساعدات الإنسانية. وفي البداية وصف لاﭭروف الدعوة إلى وقف إطلاق النار بأنها غير واقعية لأن “المتشددين” لن يلتزموا به، غير أنه تحت ضغط المجتمع الدولي وافقت روسيا على مشروع القرار في جلسة مجلس الأمن في 24 فبراير، على أن لا يطبق على “داعش” و “جبهة النصرة” غير أنه خلال الأيام الثلاثة التي استغرقتها مناقشة مجلس الأمن، واصلت قوات النظام قصف الغوطة الشرقية مما دفع قوى أوروبية مناشدة موسكو للضغط على دمشق للالتزام بوقف إطلاق النار.

وفي 17 مارس 2018 وفي قلب أزمة الغوطة الشرقية تعرضت روسيا لنكسة عسكرية جديدة حيث سقطت طائرة أنطونوف وهي متجهة إلى قاعدة حميميم وراح ضحيتها 39 جنديًا روسيًا. الأمر الذي دفع موسكو إلى إرسال أربع مقاتلات أخرى من طراز سوخوي 27 المعروفة باسم “الشبح” وتعد أحدث الصناعات في مجال الطيران الحربي.

وقد دفعت التحولات التي حدثت في الاستراتيجية الأمريكية والروسية المحللين إلى اعتبارها مؤشرات لصدام أمريكي روسي أوسع في سوريا، وإن كان البعض الآخر اعتقد أن ترامب متردد في الانخراط في مثل هذا الصدام، وأن القضية الأكثر التي تشغله “بشكل يومي” هي كوريا الشمالية. غير أنه، وكما سنوضح في عرض الدور الأمريكي، وتوازيًا مع الحرب في الغوطة الشرقية وتداعياتها وأهمها اتهام النظام باستخدامه السلاح الكيماوي وهو ما هدد ترامب بضربة أمريكية وحذرت منه موسكو، وظهرت تصريحات عسكريين روس أن روسيا سوف ترد خاصة إذا تعرضت قواتها وقواعدها للضرب ومع هذا وفي قلب الأزمة وقبل حدوث الضربة سحبت روسيا بواخرها وطائراتها من قاعدتي طرطوس وحميميم تفاديًا لتعرضها لضربة أمريكية ومن ثم صدام أمريكي روسي.

خلال هذا نبه المراقبون أن مكتب التنسيق العسكري الروسي الأمريكي الموجود في الأردن ما زال قائمًا. وخلال هذا أيضًا بدت البيانات الروسية تتجه إلى التهدئة ودعا بوتين إلى تغليب العقل لصالح البشرية. ومن ناحيته أبدى ترامب بعض المؤشرات التصالحية تجاه موسكو، حيث رفض زيادة العقوبات الاقتصادية عليها كما وجه دعوى لبوتين لزيارة واشنطن وهي الدعوة التي قبلها بوتين.

ثانيًا: الدور الأمريكي

كانت الأزمة السورية وأسلوب إدارة أوباما لها من القضايا التي تعرض لها أوباما للنقد، وحيث وصف دوره بالتردد والضعف الذي مكن روسيا وإيران خصوم الولايات المتحدة من التمكين لوجودهما في سوريا والمنطقة. وكان أوباما قد امتنع عن الزج بقوات أمريكية واسعة في سوريا متأثرًا بتجارب أمريكا في فيتنام والعراق، وإن كان قد سمح بوجود 600 أمريكي “كمستشارين، وليسوا كمقاتلين”، وقد تدرجت إدارة أوباما في علاقات تعاون سياسي ودبلوماسي مع روسيا من خلال جولات مؤتمر جنيف، بل والتنسيق العسكري معها لتفادي اشتباك المقاتلات الأمريكية والروسية في سماء سوريا، غير أن هذا التعاون الدبلوماسي انهار في الأسابيع الأخيرة من إدارة أوباما حيث اتهمت واشنطون روسيا بأنها تسعى لفرض حل وفق الشروط الروسية، وازداد التدهور حين قررت إدارة أوباما طرد 30 دبلوماسيًا روسيًا من واشنطون.

جاء فوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2016، وما أثاره من توقعات خلال حملته الانتخابية من إمكانية تعاونه مع الرئيس الروسي، لكي يثير التوقعات نفسها لدى موسكو، غير أن الرياح تغيرت في واشنطن بفعل تصاعد الأزمات لروسيا بالتدخل في الانتخابات الأمريكية لصالح ترامب، وهو ما أدى إلى تدهور جديد في العلاقات بين القوتين، ورغم هذا تكررت اللقاءات بين وزيري خارجية البلدين، وخلالها صرح تيلرسون وزير الخارجية الأمريكي عندئذ أن واشنطن وموسكو تتعاونان من أجل تسوية سياسية في سوريا واستمر التنسيق العسكري الذي كان قد بدأ في عهد أوباما لمنع الصدامات في أجواء سوريا.

وفي لقاء ترامب وبوتين في قمة فيتنام، وفي قمة مجموعة العشرين في هامبورج، ورغم أن ترامب وصف الاجتماع بأنه “رائع” إلا أنه ومعه الكونجرس الأمريكي فرض عقوبات اقتصادية مجددة على روسيا.

وبعد قمة سوتشي التي جمعت بين بوتين ورؤساء تركيا وإيران في نوفمبر 2017، جرت اتصالات مكثفة بين بوتين والرئيس الأمريكي، وأذاع البيت الأبيض في 22 نوفمبر أن الرئيسين تحادثا لأكثر من ساعة، وأن الملف السوري كان جزءًا حيويًا من النقاش، وأشار البيان أنهما أكدا أهمية تنفيذ قرار مجلس الأمن 2254 ودعم عملية جنيف التي تقودها الأمم المتحدة لإيجاد تسوية سياسية للحرب الأهلية في سوريا، وإنهاء الأزمة الإنسانية والسماح للسوريين النازحين بالعودة إلى ديارهم وضمان استقرار سوريا الموحدة الخالية من التدخل المؤذي، وألا تكون ملاذًا آمنًا للإرهاب، وأعقب اتصال الرئيسين اتصالاً بين تليرسون ولاﭭروف دار حول النقاط نفسها، وإن كان لاﭭروف قد أدخل الأزمة الأوكرانية وضرورة تنفيذ السلطات الأوكرانية بنود اتفاقية منسك، وفي تحول ملحوظ لإدارة ترامب تجاه الأزمة السورية، اتخذت الإدارة خطوة تمثل جوهر سياستها المقبلة في سوريا، وتستهدف الضغط على موسكو وتحجيم دورها.

فقد أعلنت عن دعمها العسكري لقمة حدودية في شمال سوريا من قوات سوريا الديمقراطية قوامها 30 ألف جندي بينهم 15 ألفًا من مقاتلي وحدات حماية الشعب الكردي التي تعتبرها تركيا منظمة إرهابية، الأمر الذي أثار توترًا بين واشنطون وأنقرة. كما تبلورت إستراتيجية أمريكا الجديدة في سوريا، وفي خطاب شامل ألقاه وزير الخارجية تيلرسون في معهد هوﭭر بجامعة ستانفورد حيث اعتبر أن الوجود الأمريكي في سوريا ضرورة لحماية الأمن القومي الأمريكي.

وبلور تيلرسون أهداف السياسة الجديدة في سوريا في خمسة مبادئ: الأول أن تعمل بعد هزيمة داعش في سوريا أن لا تمثل أي تهديد محتمل على الأرض الأمريكية، وأن لا تظهر هي والقاعدة تحت مسميات أخرى تعمل على التحضير لهجمات أخرى ضد مواطنين أمريكيين في الولايات المتحدة أو خارجها أو ضد حلفائها، وثانيًا، أن الصراع بين نظام الأسد والشعب السوري يجب أن يحل عبر عملية سياسية بقيادة الأمم المتحدة كما هو مذكور في قرار مجلس الأمن 2254 يقود إلى سوريا موحدة مستقرة ومستقلة تحت قيادة جديدة بعد الأسد، وثالثًا، يجب القضاء على التهديد الإيراني في سوريا ومنع إيران من تشكيل قوى الشمال الذي يربط سوريا بالعراق بلبنان، رابعًا، يجب خلق الظروف الملائمة لعودة اللاجئين والنازحين بشكل طوعي إلى سوريا، وخامسًا، يجب أن تكون خالية تمامًا من أسلحة الدمار الشامل.

وقد لاحظ المراقبون أن تيلرسون لم يوضح كيف ستنفذ واشنطون هذه الأهداف، التي وصفها بعضهم “بالخيالية”، وأنها إستراتيجية مفخخة ستعمل في بيئة معادية.

بعد الإعلان عن هذه الإستراتيجية أرادت الولايات المتحدة أن تشرك حلفاءها الأوربيين لخلق توازن مع الدور الروسي، فقد عقد وزير الخارجية الأمريكي اجتماعًا في باريس في 23 يناير 2018 ضم وزراء خارجية فرنسا وبريطانيا إلى جانب السعودية والأردن، وفهم أن هذا الاجتماع بقصد بلورة أفكار لتقديمها إلى ممثل الأمم المتحدة ستيفان دي ميستورا لعرضها على محادثات جنيف في 24 يناير، وكان الهدف الرئيسي هو إعادة مفاوضات جنيف إلى قلب المسألة السورية، بمعنى انتزاعها من روسيا وإيران وتركيا، وتأكيد أن الدول الخمس ترفض بقوة أن تكون اجتماعات أستانة وسوتشى بديلاً عن مسار جنيف، ونقلت مصادر عن تيلرسون قوله خلال الاجتماع أنه يريد أن تكون أمريكا واسطة العقد في كل ما يتعلق بالمسألة السورية، كما يريد في الوقت نفسه التأكيد على العمل الجماعي، ورغم هذا، فإن مجموعة الخمسة ما زالت تراهن على “تفهم” روسيا وحاجتها للتفاوض ووعيها أن الانتصار العسكري لن يكون كافيًا لصنع السلام وإعادة الإعمار والقضاء النهائي على الإرهاب فضلًا عن تفهم أن بقاء الأسد والنظام على حاله لن يكون الحل.

خلال هذا كان ترامب قد أعلن أن القوات الأمريكية في سوريا سوف تنسحب قريبًا وقريبًا جدًا، الأمر الذي أدى إلى انعقاد مجلس الأمن القومي الأمريكي حيث استمع ترامب إلى آراء ماتس وزير الدفاع وبومبيو وزير الخارجية الذين حذروا من انسحاب سريع في سوريا سوف يمكن داعش من العودة، ونصحوا بالاستفادة من دروس العراق حيث أدى الانسحاب السريع إلى التمكين لداعش، وعندما سأل ترامب عن المدة التي ستبقى فيها القوات الأمريكية قالوا إنها ليست لسنوات ولكن مبدئيًا 6 شهور وهو ما قبله ترامب على مضض. وفي هذا السياق، كرر ترامب أن الولايات المتحدة قد تحملت 7 تريليون دولار في العراق وسوريا ولم تحصل على شيء في المقابل ولذلك إذا ما أريد للقوات الأمريكية أن تبقى، فعلى دول المنطقة، يقصد تحديدًا الدول الخليجية، أن تتحمل تكلفة هذا الوجود، كما ظهرت اتجاهات إلى تشكيل قوة عسكرية عربية تقوم بالمهمة في سوريا، وتولى جون بولتون جس نبض عدد من دول المنطقة عن إمكان مشاركتها في مثل هذه القوة.

غير أن الموقف الأمريكي شهد تحولاً جديدًا، فبعد أسابيع من خطة تيلرسون التي من المفترض أن ترامب قد اطلع عليها، أقال ترامب وزير خارجيته وعين بدلاً منه بومبيو، الأقرب إلى فكره. وقد تداخلت أزمة جديدة حين ظهرت تقارير تتهم النظام السوري باستخدام أسلحة كيماوية في الغوطة الشرقية، والتي كان النظام قد تمكن منها وجرى ترحيل العناصر المسلحة للمعارضة خاصة جيش الإسلام القريب من المملكة العربية السعودية، والأكراد القريبين والمؤيدين من الولايات المتحدة، وترافق مع هذه الاتهامات مطالبة الرئيس الأمريكي في 7 إبريل روسيا والنظام السوري أن ينتظروا صواريخ أمريكية ذكية وجديدة، وترافق مع هذا تحركات لحاملة الطائرات الأمريكية “ترومان” قبالة سوريا، الأمر الذي خلق إمكانية مواجهة مع روسيا وقواتها الموجودين بين القوات السورية، فضلاً عن قواعدها البحرية في طرطوس والجوية في حميميم، وظل العالم ينتظر الضربة الأمريكية التي كان ترامب وعد بها قريبًا وقريبًا جدًا، وفسر المراقبون هذا التأخير بأن البنتاجون يدرس حجم ومدى هذه الضربة، وبشكل خاص تفادي أن تتعرض للوجود العسكري الروسي، وكان هذا هو جوهر الاجتماع غير المقرر سلفًا، بين جيمس ماتس وزير الدفاع وترامب في البيت الأبيض يوم 10 إبريل 2018، وقد جاءت هذه الضربة العسكرية فجر يوم الجمعة 15 أبريل وشاركت فيها فرنسا وبريطانيا، وجاءت محددة ومركزة على منشآت ومراكز بحثية سورية يفترض أنها تحوي مواد كيماوية، وأعلنت الدول الثلاث أن الضربة حققت أهدافها وأنها سوف تتكرر إذا ما عادت دمشق إلى استخدام أسلحة كيماوية، غير أن ما استوقف المراقبون فيما يتعلق برد الفعل الروسي أن روسيا لم تتدخل خلال الضربة، ولم يتحقق ما كان سفيرها في بيروت قد قال إنه إذا ضربت الولايات المتحدة دمشق فإن روسيا سوف تعترض صواريخها كما سوف تعترض المنصات التي انطلقت منها في أعقاب الضربة العسكرية ضد سوريا فضلاً عن استباحة إسرائيل للأجواء السورية، أعلنت رئاسة الأركان الروسية في 25 أبريل أن روسيا سوف تزود سوريا بمنظومة متطورة من الصواريخ، لم يحددها، ولكن كان مفهومًا أنها صواريخ S300 في القريب العاجل، وأن ضباطًا سوريين يتدربون في روسيا على إدارتها. وفي توقع هذا كان وزير الدفاع الإسرائيلي ليبرمان قد هدد بتدمير هذه الصواريخ إذا تم استخدامها ضد الطائرات الإسرائيلية، ونقل عن مسؤولين في الحكومة الروسية أنه إذا هاجمت إسرائيل S300 فسيكون لذلك نتائج كارثية، ومن ناحيته قال وزير الدفاع الأمريكي جيمس ماتس أنه إذا زودت روسيا سوريا بهذه الصواريخ، فإن الأمر سينتهي بشكل مأسوي.

ثالثًا: خاتمة

يؤكد تتبعنا لكل من الدور الروسي – الأمريكي منذ اندلاع الأزمة السورية عام 2011 حتى الآن – إبريل 2018 – حقيقة أن التدخلات الروسية والأمريكية، والتي كانت مدفوعة في المقام الأول بمصالحها الذاتية وتنافسها في المنطقة، بل وفي الإطار الأشمل لتنافسهما الدولي والذي رأينا أنه بدأ يتبلور مع مجيء فلاديمير بوتين إلى رئاسة روسيا وتصميمه على استعادة مكانتها الدولية، ومقاومته اعتبار أمريكا والغرب، أن روسيا ليست إلا قوة إقليمية، وقد اتخذ هذا الطابع قوة أكبر حين تمدد حلف الأطلنطي إلى مناطق تعتبرها موسكو فناءها الخلفي روسيا، جورجيا، أوكرانيا، وبلدان البلطيق، فضلاً عن بلدان أوروبا الشرقية وإقامة نظم للصواريخ المضادة مما اعتبره بوتين تهديدًا لأمن روسيا القومي، ومنذ التدخل العسكري الروسي في جورجيا، عام 2010، ثم في أوكرانيا عام 2014، وضمها لشبه جزيرة القُرم، وما تلاه من عقوبات اقتصادية أوجعت الاقتصاد الروسي، والتنافس يأخذ طابعًا عالميًا ذكَّر بعهد الحرب الباردة بين الغرب والاتحاد السوفيتي، فالصين تعد نفسها لكي تكون أكبر قوة عسكرية عام 2050، وترامب يصل بالميزانية العسكرية الأمريكية إلى 700 مليار دولار، وتركز إستراتيجية الأمن القومي على دعم وتحديث قوة أمريكا النووية، وبوتين يعلن عن نظم صواريخ جديدة تذهب إلى أبعد مدى ولا يمكن اعتراضها، تداخل مع هذا قوى إقليمية: إيران، تركيا، إسرائيل، تؤكد كل يوم نفسها، وأصبح لها في الواقع اليد الطولى في المنطقة. من الضروري أن نتذكر هذا الإطار الأشمل للعلاقات بين روسيا والولايات المتحدة بوجه خاص، وأن إدارتها للأزمة السورية يقع في هذا الإطار.

ويوحي المنحى الجديد للسياسة الأمريكية في سوريا، خاصة إذا أخذنا في الاعتبار الاستراتيجية التي أعلنها تيلرسون، والتي لم ينفصل عنها وزير الدفاع الأمريكي وكذا وزير الخارجية الجديد من تأكيدهم  للوجود العسكري الأمريكي، وحيث أفصح جيمس ماتس مؤخرًا أمام الكونجرس أنه إذا انسحبت أمريكا من سوريا فسوف تندم على ذلك كثيرًا، وعلى هذا أصبحت سوريا مسرحًا لنوع من الحرب الباردة بين القوتين، وفي هذا السياق، وحتى الآن، فإن من الواضح أن الدور الروسي في سوريا جعل لها مكانًا على اتساع الشرق الأوسط، وبدت كبديل للفراغ الذي تركته إدارة أوباما، وشهدت إقبالاً من دول المنطقة على روسيا وإدراكًا أنها أصبحت لاعبًا رئيسيًا، ولعل هذا ما جعل دولاً في المنطقة تقبل على روسيا وتؤسس معها علاقات تعاون في عدد من المجالات الهامة مثل التسلح والطاقة.

غير أن ما حققته روسيا من خلال دورها السوري لا يعني أن بوتين يريد انخراطًا عسكريًا طويل الأمد في سوريا، ولعله في هذا يتذكر تجربة الاتحاد السوفيتي في أفغانستان وتأثيرها على النظام السوفيتي، ولهذا نرى موسكو تؤكد على أهمية التسوية السياسية، وتحاول من خلال آليات مثل أستانة وسوتشي أن تجمع الفصائل السورية المختلفة، كما تنفي أنها تريد الانفراد  بالحل وتؤكد دور الأمم المتحدة وقرارات جنيف 1 ومجلس الأمن 2254. ومع هذا فإن روسيا لن تقبل أي تسوية سياسية لا تضمن لها الاحتفاظ بقواعدها البحرية والجوية في طرطوس وحميميم فهما يمثلان الجائزة الكبرى التي حصلت عليها من الانخراط في الصراع السوري وما استثمرته فيه.

أما الولايات المتحدة فقد أثارت استراتيجيتها الجديدة كما أعلنها تيلرسون ردود فعل حول الدور المستقبلي لأمريكا في سوريا، وأنها تسعى إلى تواجد أمريكا لا يقل عن عشر سنوات له أهداف إقليمية أوسع مثل حماية إسرائيل، واحتمال عمل عسكري ضد إيران. وهذا يعني أن فصلاً جديدًا قد انفتح في الأزمة السورية لا ينبئ بتسوية قريبة للصراع. ولعل هذا ما يفسر ما عبر عنه المبعوث الأممي إلى سوريا ستيفان دي ميستورا خلال مؤتمر ميونيخ للأمن الدولي، 17-19 فبراير، عن مدى انخراط القوى الكبرى في سوريا بقوله” لم أرَ في السابق دولًا كبرى متورطة بهذا الشكل المباشر”، وهو ما جعل أمين عام جامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط يقول في جلسة خصصت للشرق الأوسط في نفس المؤتمر “أرى صراعًا بشعًا جدًا في سوريا وقوات كبرى تتقاتل فيما بينهما، وقوات إقليمية تتدخل في الشؤون السورية ما سوف يؤدي إلى عدم تسوية هناك لأن الروس والأمريكيين والإسرائيليين موجودون هناك”.

اظهر المزيد

د.السيد أمين شلبي

باحث وكاتب مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى