2018التطورات الإقليمية والدولية للمشكلة السوريةالعدد 174

الانسحاب الأمريكي من سورية وتداعياته المحتملة

وضع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، سورية ومنطقة الشرق الأوسط، بإعلانه نيته سحب قواته من شرق سورية، أمام متغيرات خارجة عن سياق ومجرى الأحداث، والترتيبات التي تمت صياغتها في السنوات الأخيرة، بعد مرور أكثر من سبع سنوات على الأزمة التي حوَلت سورية إلى ساحة معقدة لتقاسم النفوذ والأدوار بين اللاعبين الإقليميين والدوليين.

وكان ترامب قد كشف، في خطاب محلي، عن رغبته في سحب القوات الأمريكية من سوريا قريبًا جدًا، وتسليم المسؤولية الأمنية لـ”الآخرين”، وهو ما أثار لغطًا، ليس فقط لدى الأطراف المعنية بالملف السوري، بل كذلك ضمن أروقة البيت الأبيض. وفي حين رأى بعض المتابعين أن هذا الإعلان هو مجرد مناورة، وأن كلمة “قريبًا” قد تمتد لسنوات، فإن آخرين وجدوا فيها سعيًا أمريكيًا لانتهاج سياسة جديدة في الشرق الأوسط لم تتضح معالمها بعد.

فوضى أمريكية على مستوى صنع القرار

يمثل، قرار الرئيس ترامب، نقطة تغير واضحة في مسار الاستراتيجية التي تتبعها واشنطن إزاء المعادلة السورية، فالقرار، عدا عن كونه مفاجئًا، ليس بالنسبة لحلفاء أمريكا فقط، بل للمؤسسات المختصة بتنفيذ السياسات الأمريكية، في سورية والشرق الأوسط، وزارتي الخارجية والدفاع “البنتاجون”، ذلك أنه في الوقت الذي كان فيه ترامب يعلن عن قراره هذا، كانت تلك المؤسسات منهمكة في ترتيب بقاء طويل الأمد في سورية والقيام بإجراءات تسند هذه المهمة.

لم يكن قد مضى وقت طويل على تصريح لوزير الخارجية، السابق ريكس تيلرسون، 17 كانون الثاني/ يناير، جاء فيه أن القوات الأمريكية ستبقى في سورية لمواجهة (داعش) ونظام الأسد وإيران، وأنها لن ترتكب “خطأ 2011 العراقي”، حين خرجت من العراق فاسحة المجال للهيمنة الإيرانية وتوسّع تنظيم القاعدة، واعتبر ذلك “مصلحة وطنية”. وتُعدّ هذه أول مرة تُصرّح فيها واشنطن بأن هناك مصالح أمريكية كبرى في سورية وأنها مستعدة للدفاع عنها.

وتحدث أيضًا عن قوات لبلاده قوامها ألفا مستشار عسكري، ستبقى في الأراضي السورية شرقي الفرات، إلى أن يختار السوريون حكومة جديدة تحوز على صدقية دولية.

وأتى تصريح تيلرسون في إثر ضغوط من الكونجرس على إدارة ترامب، لتوضيح أبعاد استراتيجيتها السورية، فأصبح هذا الخطاب أول وثيقة رسمية عن السياسة الأمريكية. وبدت تصريحات تيلرسون تحولاً في الاستراتيجية الأمريكية في سورية، وقد استندت أساسًا إلى خمسة أسس هي:

– أولاً : قرار الولايات المتحدة بالبقاء في سورية عسكريًا للقضاء على (داعش) والجماعات المتطرفة الأخرى.

– ثانيًا: الرفض الكامل للوجود الإيراني على كامل الأرض السورية.

– ثالثًا: تحقيق انتقال سياسي حقيقي وكامل يذهب بموجبه رأس النظام السوري وعائلته.

– رابعًا: عدم امتلاك سورية مستقبلاً لأسلحة دمار شامل.

– خامساً: عودة النازحين إلى سورية بشكل طوعي وآمن.

وقبل ذلك بأيام، 14 كانون الثاني/ يناير 2018، أعلن التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة أنه يعمل، مع فصائل سورية حليفة له، على تشكيل قوة عسكرية في سورية قوامها 30 ألف مقاتل، أكثر من نصفهم من الأكراد، من ميليشيات (قوات سورية الديمقراطية- قسد)، لتنتشر على طول الشريط الحدودي مع تركيا شمالاً، وعلى الحدود العراقية إلى الجهة الشرقية الجنوبية وبموازاة نهر الفرات، وأشار إلى أن عملية تطويع وتجنيد النصف الآخر قائمة على قدم وساق.

الدولة العميقة ترفض

صدرت العديد من المؤشرات عن تخبط وفوضى في مستويات صنع القرار الأمريكي، حيث تواجه الدولة العميقة في أمريكا قرار ترامب، الذي اضطر إلى تأجيل تنفيذ قراره إلى مواعيد لاحقة، ولم يجد ترامب من يدعم قراره بخصوص سحب القوات الأمريكية من سوريا، حيث يخشى قادة البنتاجون ووزارة الخارجية ووكالة الاستخبارات المركزية “من فراغ السلطة في سوريا في حال تم التسرع في سحب الجنود الأمريكيين”.

وقد أثار هذا الإعلان مخاوف بعض مسؤولي الأمن القومي من أن الانسحاب في الوقت الحالي من الممكن أن يقوض مصداقية الولايات المتحدة في المنطقة، بالإضافة إلى أنه قد يتسبب في تصعيد الصراع في سوريا. وأكد العديد من المسؤولين في وزارة الدفاع الأمريكية، أن الوقت الحالي غير مناسب تمامًا للانسحاب من سوريا لما سيثيره من العديد من التداعيات.

احتمالات الانسحاب ودوافعه

وعلى الرغم من تأكيدات ترامب بأن بلاده ستنسحب “قريبًا” من سوريا، فإن هذا الاحتمال يبقى مستبعدًا ميدانيًا في الوقت الحاضر لما سيعنيه من انتصار لروسيا وإيران، ويعتبر الدبلوماسيون الأوروبيون الذين فوجئوا بقرار ترامب، أنه لا يمكن للغربيين الانسحاب طالما لم يتم القضاء كليًا على تنظيم الدولة الإسلامية ولم يصار إلى تنفيذ حل سياسي.

ولأن الائتلاف الدولي، أو “الغربي” بالأحرى، ضد “داعش”، سينفرط عقده في حال مغادرة القوات الأمريكية سورية، أو حتى الإبقاء عليها في شكل رمزي، خصوصًا أن الدول الغربية الأخرى لا تستطيع فرض سيطرتها على الأراضي السورية، الشرقية والشمالية الشرقية، الغنية بالنفط والغاز، وقد عبرت هذه الدول عن موقفها هذا من قيام التحالف الغربي “أمريكا وفرنسا وبريطانيا” بضرب مواقع إنتاج الأسلحة الكيماوية في سورية، عقب حادثة استخدام هذه الأسلحة في مدينة دوما “الغوطة الشرقية” وقد كان من ضمن أهداف هذه الضربة، تبيان الحضور الغربي في الأزمة، وفي مسارات تسويتها المستقبلية، نظرًا إلى ارتباطها بما يتجاوز الأراضي السورية، نحو قضايا دولية خلافية بين الغرب وبين روسيا.

ولقد ظهرت عدة تفسيرات، أو احتمالات، تقف خلف قرار ترامب الانسحاب من سورية:

الأول: أن يكون الرئيس الأمريكي قرر فعلاً تنفيذ سياساته وبرامجه الانتخابية التي أوصلته إلى السلطة وعنوانها الأبرز الانطواء داخليًا، والانسحاب من التدخلات العسكرية الخارجية ووضع مصالح الشعب الأمريكي فوق كل اعتبار وفق شعاره “أمريكا أولاً”.

الثاني: حدوث نوع من اتفاق المقايضة بين القوتين العظميين، أي روسيا وأمريكا، على “مقايضة ما” بتبادل مناطق النفوذ، أي تترك أمريكا سوريا لروسيا التي تملك اليد العليا فيها، مقابل صمت الأخيرة على تواجدها في العراق أو دول أخرى في المنطقة.

العامل الإيراني: أما التفسير الثالث فهو أن يكون ترامب يخطط لفتح جبهة عسكرية أخرى ربما تكون في إيران بعد إعلانه الانسحاب من الاتفاق النووي، ولهذا لا يريد أن تتحول قواته في سوريا، وربما العراق إلى لقمة سائغة للميليشيات الوكيلة لإيران في حال اندلعت الحرب مع هذه الأخيرة.

والواقع، أن ما يرجح هذا التفسير، حقيقة وجود دوافع ومحفزات لدى ترامب باستهداف إيران، وتتميز هذه الدوافع بجمعها بين الشخصي والإستراتيجي، وعلى الصعيد الشخصي، يواجه ترامب مخاطر خسارة الحزب الجمهوري لانتخابات الكونجرس بمجلسيه (النواب والشيوخ) في 6 نوفمبر/تشرين الثاني المقبل. فهذا الوضع سيخلق له مشكلات ضخمة لأنه سيحقق للديمقراطيين السيطرة على الكونجرس ويتيح لهم بدء عملية عزله بأغلبية ثلثي الأعضاء إن توصل المحقق روبرت مولر لأشياء خطيرة تدين الرئيس الأمريكي.

لكن إن تمكّن ترامب من التأثير على ديناميكية الانتخابات بتضخيمه الخطر النووي الإيراني وسعى لمواجهة مع طهران، فمن شأن هذا أن يغير نتيجة الانتخابات لصالحه وحزبه الجمهوري، وحصوله هو على تأييد شعبي واسع. وفي التاريخ الأمريكي أمثلة مشابهة التفّ فيها الأمريكيون حول الرئيس فيما يعرف بـ”الجري حول العلم”، وجورج بوش الابن لم يخسر أصوات انتخابات الكونجرس عام 2002 بعد أن حرك الجبهة الداخلية الأمريكية بحربه على الإرهاب.

وبغض النظر عن هذه التحقيقات، فإن تنفيذ هذه الضربة ضد إيران سيفيد ترامب ولن يضره، لأن للولايات المتحدة أيضًا أسبابًا أخرى تدفعها لتنفيذ هذا الهجوم من بينها تحجيم التوسع الإيراني الجيواستراتيجي، وتحجيم الصين الممثلة لخطر رئيسي لأمريكا، ذلك أن الصين تعتمد بشكل رئيسي على النفط والغاز من الشرق الأوسط، وضرب إيران سيساعد الولايات المتحدة بإطباق الخناق على الصين بالشرق الأوسط الذي تحوّل لساحة رئيسية لواشنطن بصراعها الجيواستراتيجي مع الصين.

ويترافق ذلك مع تقدير أمريكي أن مخاطر ضرب إيران ستكون منخفضة، ذلك أن احتمالات تأييد روسيا لإيران – إن وقع هجوم أمريكي عليها – أمر مشكوك فيه لأبعد الحدود، لأن هذا الهجوم العسكري سيؤدي لارتفاع أسعار النفط، والتأثير على حصول الصين على النفط من إيران وتوجهها للنفط الروسي ما يعني أن ضرب إيران يشكل فرصة لروسيا للاستفادة من إيرادات النفط التي تبدو الخزائن الروسية بأمس الحاجة لها في الوقت الراهن.

البدائل ” الرهانات”

يقف خلف قرار الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، الانسحاب من سورية، رهانات أمريكية تشكّل، باعتقاد صانع القرار، بدائل عن الحضور العسكري في سورية، وهي بدائل، بالإضافة إلى انخفاض تكلفتها بالمقارنة مع مخاطر استمرار الوجود العسكري الذي ينطوي على احتمالات صدام مباشر، فإنها بدائل ممكنة وقابلة للتحقّق في المرحلة المقبلة، وأهم هذه البدائل:

إعادة الإعمار: تراهن إدارة ترامب على اضطرار روسيا، في مرحلة ليست بعيدة، على القبول بالرؤية الأمريكية لتسوية الصراع في سورية، انطلاقًا من حاجتها لاستقرار البلاد وإعادة بناء ما هدمته الحرب، ذلك أن روسيا بعد أن تنهي حروبها الصغيرة المتبقية على المعارضة، بعد السيطرة على أهم المناطق ذات الثقل الإستراتيجي في سورية، وخاصة حلب والغوطة الشرقية ووسط سورية، ستجد نفسها في خضم بلد مدمّر يصعب إعادة الحياة له وتحقيق الاستقرار في ظل هذا الحجم الكبير من الدمار.

وبما أن الخزائن الروسية، ونظيرتها الإيرانية، مفلسة ولا تملك ما يكفي من الأموال لإعادة الإعمار، فإن الحاجة لأمريكا وحلفائها، الأوروبيين والخليجيين، ستكون ماسة وملحة، وحينئذ تستطيع الولايات المتحدة فرض نفوذها على مائدة المفاوضات وتحقيق ما لم تستطعه من خلال تواجدها العسكري، وإلا فإن سورية ستجد نفسها أمام تحمل عبء بلد فاشل.

إحلال قوات ثانية بدل الأمريكية في شرق سورية: وذلك للحفاظ على النفوذ الأمريكي ومنع حصول فراغ تستغله القوى الحليفة لروسيا وإيران، وقد كان اقتراح الإدارة الأمريكية في البداية ينصب على تشكيل قوّة محلية، من مكونات المنطقة، عرب وأكراد، مكونة من ثلاثين ألف عنصر، تتركز مهمتها على حماية حدود المنطقة الشرقية، التي تحتوي على جزء كبير من ثروات سورية من النفط والغاز، وتشكّل معظم إنتاج سورية من القمح والقطن، غير أن هذا الاقتراح لم تستطع أمريكا ترجمته على أرض الواقع بسبب معارضة تركيا وقوى أخرى وتهديدها بتدمير هذه القوى.

دفعت هذه التعقيدات برئيس الإدارة الأمريكية، إلى اقتراح إرسال قوات عربية لتحل بديلاً عن القوات الأمريكية، حيث إن هذه القوات ستتعامل مع بيئة عربية ما يجعل مهمتها سهلة وتتمتع بظروف أمان أكثر من القوات الأمريكية، بعد حصول القيادة العسكرية الأمريكية على معطيات تفيد بأن القبائل العربية في المنطقة ربما تنقلب على القوات الأمريكية الموجودة، نتيجة انحياز وميل هذه القوات للمكون الكردي، وخوفًا من اختراق هذه القبائل من قبل إيران ونظام الأسد، كما أن الدول العربية ستتولى نفقات هذه القوى، الأمر الذي سيخفّف عبء الإنفاق على أمريكا، وخاصة وأن العملية تستلزم إعادة بناء مناطق شرق سورية المدمرة وبعث الحياة فيها.

لكن لا يبدو أن أيًا من البدائل التي تطرحها إدارة ترامب يحظى بفرص واقعية للتطبيق، ذلك أن حسابات إدارة ترامب نظرية إلى درجة بعيدة، فضلاً عن وجود معوقات كثيرة تقف في وجه تسييل هذه البدائل إلى أرصدة أمريكية على طاولة التفاوض حول مستقبل سورية. أول تلك العوائق، أن إعمار سورية ليس هدفًا ملحًا لا لروسيا ولا إيران، مقابل تأمين سيطرتهما الإستراتيجية على سورية، وبالتالي فإن كليهما سيتحايل على إعادة الإعمار ولا بأس من تأجيلها طالما أنها تضمن لهما بقاء الأكثرية السورية لاجئة أو نازحة، أما عن القوات العربية، فلا يبدو أنه سيحصل على توافق بين الأطراف العربية التي تمتلك رؤى مختلفة للصراع في سورية وليس لديها تاليًا الاستعداد للانخراط في صراع شكّله الآخرون ولا يمكن إيجاد مخارج حقيقية له بدون توافق إقليمي ودولي على أسس سليمة، وهو ما لا يبدو أنه متوفر في هذه المرحلة.

تداعيات الانسحاب

انعكاسه على العلاقات مع روسيا:

تشكل الأزمة السورية أحد ركائز الخلاف بين روسيا وأمريكا، ومرّت لحظات توتر بين الطرفين، كادت أن تؤدي لتصادم بين قواتهما العاملة في سورية، وذهب الدبلوماسيون والمختصون بشؤون المنطقة إلى تشبيه الوضع بأزمة خليج الخنازير، بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية، في عام 1962، والتي كادت تؤدي إلى حرب عالمية ثالثة.

وإذا كان من المفترض أن الانسحاب الأمريكي سيؤدي إلى تحسن العلاقات بين الطرفين، نظرًا لأن روسيا تحاجج بلا شرعية الوجود الأمريكي في سورية وتعريضه وحدة البلاد للخطر واحتمالات التقسيم، وكون هذا الانسحاب سيلغي احتمالات الاحتكاك بين القوتين، والتي أدت في أحد المرات إلى مقتل أكثر من مائة عنصر من المرتزقة الروس في دير الزور، إلا أنه من غير المرجح أن يكون لهذا الانسحاب تأثير ذو وزن على العلاقات بين الطرفين، إذ عدا عن كون خريطة الصراع بين الطرفين تمتاز بالتعقيد والتشابك، ولا تتوقف عند جغرافية محددة ولا أزمة بعينها، فإن الانسحاب الأمريكي المفترض لن يتضمن اعترافًا بالدور الروسي وهو ما يحرم روسيا من تحقيق عوائد سياسية للمكاسب الميدانية التي حققتها في سورية، وستبقى روسيا معرضة لخطر الغرق في الأزمة السورية ما لم تستطع تحقيق صيغة سياسية للحل.

من جهة أخرى، ورغم الأهمية الإستراتيجية لسورية في الحسابات الروسية، إلا أن روسيا تراهن على تأثير الورقة السورية في علاقاتها الدولية، وهو ما لا يبدو أن الأمريكيين والأوروبيين لديهم استعداد لتوفير فرصة لروسيا من أجل فرض مطالبها سواء في محيطها الأوروبي أو على مستوى الحد من العقوبات التي باتت تثقل على الاقتصاد الروسي.

أثره على التوازنات في المنطقة:

سيعني الانسحاب من سوريا أن الولايات المتحدة سلمت بالهزيمة أمام روسيا وإيران وتركيا، وهي الدول الثلاث التي شكلت ما يشبه التحالف للإمساك بمفاتيح الحل السياسي في سوريا وفق مصالح الدول المعنية، وسيجعل انسحاب الولايات المتحدة من مواقع نفوذها الوقتية في سوريا الدول الثلاث تطمع في تنازلات أكبر خاصة في العراق، الذي يسير بشكل شبه نهائي ليكون تحت النفوذ الإيراني، فيما تنفرد تركيا بتصفية الحسابات مع الأكراد في سوريا والعراق. في خضمّ هذا المزيج الخطر، سيسمح الانسحاب من سوريا بإنشاء هيكلية أمنية تطغى عليها روسيا في المنطقة وبتسريع هيمنة إيران. ومع أنّ الهيمنة الإيرانية ستكون غير مقبولة في أرجاء المنطقة، تبقى دول أخرى في الشرق الأوسط ضعيفة جدًا لتواجه إيران بفعالية من دون دعم وقيادة أمريكيَّين.

ففي أفضل الحالات، وفي حال تركت الولايات المتحدة حلفاءها يقاتلون بدون دعم، سيتمكّنون من إدامة الحرب بالوكالة لكنّهم لن يشكّلوا سوى صداعٍ لا أكثر لإيران وروسيا. ولن يتمكّنوا من تغيير ميزان القوى أو إحداث أيّ تغيير على الأرض. باختصار، سيشكّل هذا طريقة لإبقاء سوريا غارقة في حالة حرب مستمرّة.

إن أي انسحاب لأمريكا، سيمنح روسيا الفرصة “لتكون اللاعب الأكبر” في سوريا وعموم ‏المنطقة، نتيجة الفراغ «المفترض» أن تتركه الولايات المتحدة، ونتيجة للتغيرات التي أحدثتها روسيا وإيران في موازين القوى، فإن الانسحاب الأمريكي في هذا الوقت سيحدد ليس مستقبل سوريا وحدها، بل مستقبل كل المنطقة لعقود مقبلة.

وواحدة من تداعيات الانسحاب الأمريكي ستكون ظهور إيران بمظهر المنتصر، والتي يمكن أن تقود المنطقة إلى حافة حرب أخرى.

ليس من شك بأن قرار الانسحاب الأمريكي وتراجع دور الولايات المتحدة في المنطقة، سيساهم ‏في فرض المزيد من الضغوط على الدول الحليفة والصديقة في المنطقة، التي تواجه تهديدي ‏تنظيم «داعش» والنفوذ الإيراني في المنطقة، حيث سيسهم هذا الانسحاب في عودة التنظيم المتطرف الذي يرتكز وجوده حاليًا في المناطق الصحراوية بين العراق وسورية، ومع غياب القدرات التقنية الأمريكية عن ساحة المعركة سيكون من الصعب ضبط تحركات داعش والسيطرة عليها.

تداعيات الانسحاب على مسيرة الحل النهائي:

ما تشير إليه الوقائع، ووفق تقديرات الكثير من المطلعين على مسار صناعة التسوية في سورية، فإن قرار الانسحاب الأمريكي سيؤدي إلى دفن مسار الحل النهائي، القائم على بيان جنيف والقرار الأممي 2254، الذي كان يمثل ذات يوم موطئ القدم السياسي الوحيد للغرب في المعادلة السورية.

لا شك أن وجود القوات الأمريكية يعزز النفوذ الأمريكي الدبلوماسي في مقابل روسيا وإيران، ولاشك أن ذلك سيكون حاسمًا في المفاوضات المستقبلية لإنهاء الحرب، و في حال نفذت الولايات المتحدة قرار الانسحاب من سوريا، فإن دورها في التسوية الأممية ‏للحرب السورية في مرحلة ما بعد تنظيم “داعش” سيكون دورًا ضعيفًا، حتى على مستوى ‏القوى الحليفة لها، التي ستتجرد من الكثير من أوراق الضغط لصالح روسيا وإيران والنظام. ‏

‏وسيجد رأس النظام في سورية في الانسحاب الأمريكي “المفترض” فرصة لإعادة بناء سلطته في ‏الدولة السورية، واستعادة ما تبقى من مناطق تسيطر عليها قوات المعارضة، وخاصة في المناطق الشرقية، سواء بالقتال أو ‏بالاتفاقيات الثنائية بعد رفع “مظلة” الحماية الأمريكية عنهم.

وستطوي التسوية السياسية في سوريا صفحاتها الأخيرة، وتنتهي فكرة بناء نظام سياسي جديد يحقق رضاء جميع السوريين عنه، لصالح مشروع تقاسم النفوذ على الأرض السورية، بانتظار التوصل إلى خارطة سياسية واستراتيجية، تلبي مصالح خارجية، وبعد ذلك قد يشكل مستقبل النظام السياسي عنوانًا للبحث ومجالاً لإسقاط الحسابات والمصالح الإقليمية على معادلة السلطة والحكم.

وبذلك، تكون الولايات المتحدة الأمريكية قد استكملت مسيرة تخريب، ليس سورية وحسب، وإنما النظام العربي برمته، فما بدأته إدارة باراك أوباما تكون قد استكملته إدارة دونالد ترامب، وإن كان بطرق وأساليب مختلفة، وفي مثل هذه الظروف، لا يمكن إلا لإرادة عربية جادة تستخدم كافة عناصر قوّتها للخروج من الأزمة الحالية، التي لا تهدّد سورية وحدها، بل الجناح المشرقي العربي بأكمله، وبانتظار ذلك، فإن الوضع سيبقى في حالة نزف مستمر.

اظهر المزيد

غازي دحمان

كــاتب ســـوري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى