2018العدد 173ملف خاص

خمسمائة عام على الإصلاح الديني .. مخاض الفردية والقومية والروح الرأسمالية

في الحادي والثلاثين من أكتوبر عام 1517م، أي قبل خمسمائة عام تقريبًا، دشن مارتن لوثر حركة الإصلاح الديني التي بلغت من الأهمية قدرًا جعلها أحد الأحداث الأكثر تأثيرًا في تاريخ العالم الحديث لا المسيحية فقط، وذلك عندما قام المصلح الكبير بتعليق عريضته الشهيرة على باب كنيسة فيتنبرج، متضمنة خمسة وتسعين قضية جدلية، أهمها بيع صكوك الغفران، التي ادعى البابا أنها تغفر الخطايا، واضعًا سلطة الكتاب المقدس في مواجهة التقاليد المتعلقة بأسرار الكنيسة، مفجرًا حركة الإصلاح الديني البروتستانتي.

انطلق لوثر من فهم يرفض ادعاء الكنيسة بامتلاك السلطة الإلهية، ما لم تكن مؤيدة بالكتاب المقدس؛ ولذلك أعلن مبدأه الأثير “الكتاب المقدس وحده”، أي أن الكتاب المقدس هو مركز الحقيقة وموضع التقديس، وليس اجتهادات كبار الباباوات ولا أعمال كبار القديسين، مؤكدًا على أن رجلاً عاديًا مسلحًا بهذا الكتاب يعد أعلى من البابا أو المجمع المقدس بدونه. وما دام القسيس البابوي، أي رجل الدين المنتمي إلى الكهنوت الكاثوليكي الذي يقف البابا على رأسه، يمثل عقبة على طريق حركة الإنسان نحو الرب فلنتخلص منه، وليكن كل فرد قسيس نفسه؛ فمن الزعم الباطل افتراض أن الله، القادر علي كل شيء، العليم بكل شيء، يرضى عن تدخل الكنيسة في العلاقة بينه وبين مخلوقاته. ثم إن الله أوضح نواياه في الكتاب المقدس، الذي يستطيع كل شخص أن يطالعه بنفسه دون وساطة القسس الذين اعتبرهم مجرد أدلاء بسطاء حتى لو كانوا أكثر علمًا من غيرهم؛ وعليهم أن يعيشوا كسائر الناس ويتزوجوا ويؤسسوا عائلة، ومن ثم ألغى الأكليروس النظامي وحياة الدير، بهدف تطهير الدين، والعودة بالكنيسة إلى حياة البساطة الأولى.

سعى لوثر إلى إباحة زواج الأكليروس تحقيقًا لأمرين أساسيين: أولهما تحرير الرجل المنتمي إلى هذه الطبقة من نير الحرمان الجنسي، حيث الغريزة الجنسية أساسية في الإنسان، والتعالي عليها لا يفضي إلا إلى الوقوع في أسرها: إما بالانصياع للحرمان ظاهرًا والوقع في الإثم باطنًا، وهو ما كان يقع أحيانًا، وإما بهدر الطاقة الإنسانية في خيال جنسي معذب وهو ما كان يحدث كثيرًا. وثانيهما هو تأكيد الطابع الإنساني لهذه الطبقة، إذ من شأن الحرمان الجنسي الذي كان القديس بولس قد حبذه معتبرًا أن التبتل بمثابة حياة في المسيح وللمسيح، وليس للدنيا أو الشهوة، أن يرفع من شأن هؤلاء الرجال قياسًا إلى غيرهم، على نحو قد يبرر ادعاءهم حقًا حصريًا في الوساطة بين الله والناس. كما حاول لوثر أن يشذب الكاثوليكية مما علق بها من إضافات على مر العصور، فلم يؤمن إلا بسرين فقط من أسرار الكنيسة، اللذين أقر بهما المسيح نفسه وهما التعميد والمناولة بعرضيها: الخبز والخمر، بينما أبطل عبادة العذراء والقديسين والإيمان بالمطهر.

المؤكد أن لوثر أراد تقويض سلطان البابا الذي كان مختلفًا معه بحدة، ولكنه قطعًا لم يهدف إلي هدم الكنيسة الكاثوليكية، ولا تقويض الإيمان المسيحي كما ادعى عليه البابا في المقابل، بل كان يعتقد، مثل جون كالڤن، أن الكنيسة ذات أصل مقدس، واستشهد كثيرًا بتراثها ولاهوتها في دفاعه عن مواقفه التي اعتبرها تصحيحية. كان لوثر مثل أي معارض فكري أو سياسي ينشد تعديلاً في قضايا جدلية، غير أن مسارات الأحداث في جل الوقائع التاريخية سرعان ما تذهب بالمصلح إلى نقطة أبعد كثيرًا عما كان ينتويه أو يخطط له. لقد وجه مطالبه أولاً إلى الطبقة الأعلى من الأكليروس، أملاً في كسب مواقفهم لصالح رؤيته، على نحو يحفز البابا لقبولها في النهاية، فيجري الأمر وكأنه إصلاح داخلي، وعندما فشل في إقناعهم سمح بإنشاء مؤسسات كنسية منفصلة عن سلطة البابا، على أساس أن المسيحية الأولى قد عبرت عن نفسها بإخلاص دون هذه السلطة البطريركية، التي لم يكن لها وجود أصلاً، ومن ثم وقع الانفجار وولدت البروتستانتية كحركة دينية انشقاقية، من رحم الكنيسة الكاثوليكية/ العالمية التي جسدت المسيحية مرارًا حتى صارت كأنها هي، ومن ثم لم يكن غريبًا أن تعتبر البروتستانتية محض هرطقة.

والواقع أن لوثر نفسه كان متدينًا أقرب إلى التزمت، يخشى العقاب بعد الموت، الذي يراه تعبيرًا عن غضب الله من الإنسان، ونتاجًا مأساويًا لخطيئة آدم، ولم يفعل أكثر من الاستناد إلى القديس بولس في رسالته إلى أهل روما، التي يقول فيها: البار بالإيمان يحيا، ليبني مذهبه على أساس أن التبرير (أي الخلاص من إثم الخطيئة الأولى/الأصلية) إنما يتم بالإيمان وحده وليس بالأعمال، وهو الاعتقاد الذي تشترك فيه الكنائس البروتستانتية جميعًا، وفحواه أن الأعمال الصالحة تفيد المؤمن فقط في تعويده على النظام والتهذيب ولكنها لا تكفي لخلاصه أمام الله، ما لم يؤمن بأن المسيح هو المخلص، وأن الخلاص عطية من الله للمؤمنين به، ما يعني أن البشر عاجزين عن المساهمة في تحقيق الخلاص لأنفسهم، وأنهم يعتمدوا اعتمادًا كاملاً على رحمة الله ونعمته، وأن خلاصهم رهن إدراكهم لعجزهم. ولا شك أن دافع لوثر الأساسي إلى هذا الفهم يتمثل في الكشف عن لا جدوى صكوك الغفران، التي تبدو في سياق هذا الفهم عملاً لا جدوى منه في تحقيق الخلاص أو ضمان التبرير.

لم يكن لوثر إذًا مارقًا على الإيمان المسيحي، ولا حتى نتاجًا مباشرًا لحركة النهضة الأوروبية التي بدأت تنمو قبيل اندلاع حركته، ومن ثم لم يكن رسولاً للعقلانية، ولا داعية للحرية الإنسانية، وإذا كان قد احتج على كبح الآراء وإحراق الملحدين فقد كان هذا يوم كانت حركته وليدة، يخشى عليها من الاضطهاد الكنسي، فلما قوي مركزه وتوطد نفوذه أوجب على الدولة أن تفرض ما يبدو لها رأيًا سليمًا، وأن تستأصل الهرطقة لأنها رجس من عمل الشيطان، وأوجب على الناس أن يطيعوا أميرهم في أمور دينهم وليس فقط في أمور دنياهم على السواء، وصرح بأن غاية الدولة هي حماية الدين من المارقين، وجاهر بإعدام طائفة “الأناباتيست” بعد انسلاخها عنه. ولما تبين له أثناء ثورة الفلاحين أن الرجال الأحرار إنما كانوا يريدون المساواة الاجتماعية والاقتصادية، ويريدون النعيم على هذه الأرض، رفض ذلك وأخضعهم إلى نوع من الوساطة مع الله عبر كنيسته هو “اللوثرية” التي صار لها قوانينها الخاصة، ومعتقداتها، وأساقفتها. لكن المفارقة الكبرى أن حركته قد أفضت إلى توسيع وتعميق الطريق الذي أفضى إلى تلك المسارات جميعها، ولعل هذا هو دهاء التاريخ، الذي يسير إلى مقصده الأسمى عبر كوات صغيرة ونوافذ ضيقة يتم فتحها في لحظة مناسبة فإذا بضوء نافذ فريد يعم الأركان ليبدد ظلام الكهوف، حيث أفضت جهود لوثر وكالفن وزونجلي، رواد حركة الإصلاح الكبار، إلى تفكيك السلطة البابوية، وبذر حبوب النزعة الفردية، ثم الدولة القومية وصولاً إلى العلمانية السياسية، وأخيرًا صوغ أخلاق عملية أكثر إيجابية أسهمت في تدشين الرأسمالية كنظام اقتصادي مثل الأساس البنيوي للنظام العالمي الحديث.

الحركة الإصلاحية والنزعة الفردية

على عكس الهجاء الذي يمارسه كثيرون للعصور الوسطى، باعتبارها قيدًا على الحرية الفردية والإنسانية، إذ أفضت، بفعل سطوة الأديان السماوية خصوصًا المسيحية والإسلام، وهيمنة النص الديني الفائق المركزية، إلى بروز نمط التقليد والاتباع، يضفي المفكر السوري د. برهان غليون على تلك العصور قيمة إيجابية، ففي تصوره أن الديانات التوحيدية هي التي تمكنت من تحييد الدولة كما كانت سائدة من قبل؛ أي كمبدإ للقهر والقوة في الداخل والخارج، ومن ثم الحد من عبادتها على النحو الذي جرى للإمبراطوريات الفرعونية والبابلية والفارسية والرومانية، حيث حل الدين التوحيدي بديلاً عن هذه الإمبراطوريات التي أصبحت محنطة وغير عملية، كمصدر للقيم وأساس لصياغة الإنسانية كجماعة، أي كمصدر لقوة أخلاقية ومعنوية وروحية مجسدة في تضامن وتآلف وتراحم ذاتي وأخوة طوعية تتجاوز حدود الملك الإله في الدولة إلى أفق الألوهية في الكون، وهو ما صار يسمى اليوم بالمجتمع العالمي. ولعل هذا هو ما يفسر انتصار تلك الأديان، وبانتصارها دخلت الإنسانية في عصر جديد، حيث ولد الإنسان كفرد حر، أي ولد العقل، أو النور الذي وضعه الله في كل فرد ليهديه سواء السبيل، وكقوة حية وروحية مفكرة تنزع نحو الفضيلة والمثال الأعلى، تجاوزًا لقوة الجسد الغريزية، كما ولدت الجماعة الإنسانية كبناء بما هي جماعة إيمان واعتقاد، في مقابل انهيار مفهوم العبودية للسلطة المقدسة التي مثلت مركز الثقل في حضارات العصر القديم، وهكذا تأخذ العصور الوسطى المسيحية لديه معنى إيجابيًا قياسًا إلى ما سبقها.

غير أننا نبدي تحفظًا على بعض ما أشار إليه د. غليون هنا، فرؤيته تلك تبقى صحيحة فقط فيما ذهب إليه في إطار الرؤية المثالية/الاعتقادية للدين التوحيدي، ولكننا نخالفه فيما ذهب إليه على صعيد الواقع التاريخي، فالقرون الوسطى التي حررت الضمير من الملك الإله هي نفسها التي أخضعته للكهنة ورجال الدين والإقطاع المتلبسين بالإقطاع والمتمرغين فيه أحيانًا، ولا يمكن فهم تلك العصور من دون تذكر الكنيسة الكاثوليكية، واتهامات الهرطقة ومحاكم التفتيش وغير ذلك مما هو معروف ويوحي به مباشرة مصطلح (العصور المظلمة). فنحن وإن كنا نتفهم بل ونثمن حماسته لفكرة أن يكون الله هو الروح واللحمة التي تربط بين الناس، والتي تمنحهم هويتهم وتضامنهم وتفردهم، بدلاً من شخص الملك الإله، فإننا نذكر بأن تلك اللحمة نفسها قد تم اختلاسها من قبل الكهنوت الديني ورجاله الكبار خصوصًا الباباوات، خصوصًا الذين ادعوا العصمة، وتاجروا في صكوك الغفران.

ومن ثم ينبع تقدير الدور الذي لعبته الحركة البروتستانتية في توكيد النزعة الفردية، حيث تعين على المسيحي الآخذ بمذهب الإصلاح الوقوف وحده أمام الله، من دون سند سوى الكتاب المقدس، بعيدًا عن سلطة الكنيسة وأساليب التفسير المعهودة والمقننة بمقولات الباباوات السابقين، وكبار القديسين، الأمر الذي أدى إلى بروز إيمان فردي باتت معه الحقيقة الدينية مسألة ذاتية، تعتمد على قرائح وأذواق المؤمنين المختلفين في القراءة والتفسير، على نحو سمح بتدشين النقد الرفيع للكتاب المقدس، وأدخل النص الديني إلى فلك العقل والتاريخ.

وحسب سبينوزا، الفيلسوف ذي الأصل اليهودي، صار كل فرد ملزمًا بأن يهيئ عقائده في الإيمان على قدر فهمه الخاص، وأن يفسرها بحيث يسهل عليه الاقتناع بها دون أي تردد وبقلب صادق، حتى تؤتي طاعة الله ثمارها عندما تكشف عن رغبة صادقة في الإيمان بالخالق، فمثلما أوحى بالإيمان قديمًا على قدر فهم الأنبياء والعامة في عصورهم القديمة، وطبقًا لمعتقداتهم المختلفة، يتعين كذلك على كل فرد أن يبلور إيمانه وفقًا لآرائه، حتى يمكنه اعتناقه دون أدنى مقاومة من عقله، ودون أي تردد، فالإيمان لا يتطلب من الحقيقة بقدر ما يتطلب من التقوى. وهو لا يكون باعثًا على التقوى، ولا يؤدي إلى الخلاص إلا بقدر حثه على الطاعة. وعلى ذلك فأفضل المؤمنين ليس بالضرورة من يعرض أفضل الحجج على صدق دينه، بل هو الذي يقدم أفضل أعمال العدل والإحسان التي يدعو إليها هذا الدين أو ذاك. ولعل هذا الفهم الذي يقدمه سبينوزا هو الذي يصبغ الإيمان الديني بنزعة فردية، تستعصي على التنظيم، وأبعادًا جوانية تمتنع على التقنين، وهو المعنى الذي نجح في بلورته توماس جيفرسون، أحد الآباء المؤسسين للإمبراطورية الأمريكية، الذين صاغوا نمط العلاقة الإيجابية والفعالة بين الدين والحرية فيها، عندما قال: “أنا بحد ذاتي فرقة دينية”، وهو المعنى الذي كرره توماس بين بعد عقود عندما قال: “فكري هو كنيستي”، وهي رؤى تعكس ذروة النزعة الفردية في الدين، وتكشف عن عمق العلاقة بين أمة المؤمنين بالإنجيل، ودولة الإيمان بالحرية، وعن الطفرة التي أفضت إليها الحركة البروتستانتية على صعيد النزعة الفردية.

إنه الفهم الذي وصل إليه كانط في الوقت نفسه تقريبا، وبلغ به نقطة الذروة، ولكن باسم فلسفة التنوير، حيث سعى الفيلسوف النقدي الأعظم إلى تخليص الإنسان (المسيحي) من كل أشكال الوصاية والتسلط سواء على العقل أو على الإرادة، كي يتمكن من فحص الإيمان السائد والتصرف تجاهه قبولاً أو رفضًا، مؤكدًا: “أن مملكة الله ليست مملكة من القساوسة تفقهوا في قراءة الكتاب المقدس، فخيل إلى الناس أنهم بذلك قد تفردوا من دون الخلق بالاتصال بالله، بل إنه عالم مفتوح لجميع من صفت قلوبهم”. وهكذا أصدر كانط إعلان استقلال يطالب الناس بأن يتسلحوا بالشجاعة الكافية للتخلص من اعتمادهم على المعلمين والكنائس والسلطات، وأن ينشدوا الحقيقة بأنفسهم، حيث التنوير لديه هو خروج الإنسان من الوصاية التي جلبها لنفسه، والوصاية معناها عجز الإنسان عن الانتفاع بقدرته على الفهم دون توجيه من شخص آخر.

البروتستانتية والدولة القومية

كانت المهمة الأساسية لحركة الإصلاح البروتستانتي تتمثل في تقديم خيار الإيمان الفردي بعد طول سيطرة من الروح الجمعية، فلم تكن البابوية، ولا عصمتها، ولا ادعاءاتها بالقداسة، سوى محاولة هيمنة على النص / الحقيقة / الجماهير / السلطة. ولم تكن الكنيسة الكاثوليكية بالنسبة إلى مارتن لوثر سوى بابل “الدنيوية المتوحشة”، حيث كتب عام 1520م: “ليس مُستغربًا أن يجعل الله السماء تمطر نارًا، وأن يغرق روما في الهاوية، كما فعل بسدوم وعمورة في الأمس القديم، فالبابا هو المسيح الدجال”. ويضيف متحديًا: “إذا لم يكن المسيح الدجال فليقل لي أحد من هو إذًا ؟”. وعلى هذا تمثلت المهمة الثانية للحركة في كسر سلطة روما، مثلما كسرت شوكة الكاثوليكية والبابا، وتأسيس الدولة القومية مثلما تم التأسيس للحرية الإنسانية، وهو ما تحقق عبر طريقين أساسيين:

الطريق الأول هو ميلاد مفهوم التسامح الديني، بفعل انقسام البروتستانتية ذاتها إلى طوائف كبرى وفروع صغرى، على نحو مهد السبيل لنزعة الشك الدينية؛ فالعقل النزاع بطبيعته إلى التساؤل، حين يرى مشهدًا يضم معتقدات متناقضة، كل منها يزعم احتكار الحقيقة، لابد أن يتخذ من هذا المشهد ذاته بينة على أنه لا وجود هناك لحقيقة واحدة مطلقة حتى يحتكرها هؤلاء. إنه الطريق الذي سار عليه جون لوك في رسالته عن التسامح، متجاوزًا المفهوم المسيحي للخلاص قائلاً: “إن الطريق الضيق الذي لا طريق سواه، والذي يؤدي إلى السماء، لا يعرفه القاضي بأفضل مما يعرفه كل إنسان لنفسه؛ لذلك لا أستطيع أن أتخذ من هذا القاضي هاديًا يهديني لأنه قد يكون على جهل بالطريق مثل جهلي، والمؤكد أنه أقل اهتمامًا بنجاتي مني بنجاة نفسي. لهذا كان روح الفرد من شأن صاحبه وحده دون سواه، ولابد أن يُترك وشأنه فيه”. وعلى هذا الأساس يتساءل لوك: كيف يجوز للسلطان المدني أن يتدخل في عقيدة أي فرد من الأفراد مع أن لهذا الفرد عنصرًا عقليًا خاصًا به لا يشاركه فيه إنسان آخر؟.

وأما الطريق الثاني فهو تمزيق الوحدة الشكلية التي أبقت عليها المسيحية الكاثوليكية لنحو ألف عام، تمتد بين القرنين الخامس والخامس عشر الميلاديين، عاشت خلالها أوروبا ما اصطلح على تسميته بالعصور الوسطى، في حالة من التجانس الثقافي العام كحضارة مسيحية تحت إمرة الإمبراطورية الرومانية. نعم استمر الله رب الأوروبيين أجمعين، بعد حركة الإصلاح كما كان قبلها، ولكن من خلال الممارسة العملية ومباشرة الشئون الدينية في الحياة اليومية كفت الكنائس القومية الجديدة، التي تخضع لسلطان الحاكم الإقليمي أو الوطني، عن الإسهام في الحياة الدينية العالمية التي كانت الكنيسة الكاثوليكية قد رسختها، حيث عملت البروتستانتية، خصوصًا في صورتها اللوثرية، كدعامة لتعزيز المشاعر الوطنية لأبناء الدول الإقليمية الجديدة. ففي تلك المناطق التي انتصر فيها الإصلاح الديني، اعتبر الأمير الذي أصبح رئيسًا للكنيسة، رجال الدين مجرد مساعدين له؛ وتحولت الممتلكات الكنسية جزئيًا إلى ملكية الدولة، ولم تعد تنهض بمهمة جمع الضرائب لصالح البابوية في روما. وقد أفضى غياب الرئاسة العالمية / البابوية عن المذهب البروتستانتي، إلى التفاف المؤمنين به في كل إقليم حول حاكمهم، ومن ثم تطابق المذهب مع الشعور القومي الوليد آنذاك؛  ففي بريطانيا، على سبيل المثال، كان الملك هو رأس الكنيسة الأنجليكانية (كنيسة نشأت في أعقاب مجمع لاترانت، على سبيل التوفيق بين العقائد الكاثوليكية الأساسية وبين جوهر الحركة البروتستانتية، خصوصًا مفهوم الكنيسة القومية). كما كان المذهب البروتستانتي أكثر توائمًا مع حركة الفكر العقلاني، حيث كان رجال الدين البروتستانتي يتعلمون في الجامعات المدنية ومن ثم كانوا أكثر تأثرًا بالتفكير العقلي من أسلافهم الكاثوليك، وإن كان بعض المتدينين من بينهم عارضوا هذا التطور. وقد زاد الفكر الحر من تعدد الطوائف التي وافقوا على وجودها، وإن لم يصل الحال إلى الحرية التامة للعقيدة، واستمر الكاثوليك يعانون من الاضطهاد بعض الشيء، ولم تكن الروابط الاجتماعية تتم بسلاسة ملحوظة إلا فيما بين المسيحيين، أما اليهود فكانوا على جانب، بينما كان الملحدون مبعدين بشكل شبه تام.      

ورغم أن الحروب الدينية التي اختتمت بحرب الثلاثين عامًا (1618-1648) حتى انعقاد معاهدة وستفاليا، قد مثلت نتيجة سلبية لحركة الإصلاح البروتستانتي أُريق في سياقها كثير من الدماء خصوصًا لطوائف مثل الأناباتيست والهوجونت والجزويت وغيرهم، إلا أن النتائج النهائية لها كانت بالغة الإيجابية، حيث فتحت الطريق لبناء الدولة القومية على قاعدة التسامح الديني، بعد أن باتت فكرة الوحدة السياسية والفكرية للعالم المسيحي الكاثوليكي من الماضي البعيد الذي صار يطلق عليه منذئذ لقب “العصور المظلمة”. نعم لم تكن هذه الحروب ترمي في البداية إلى إقرار الحرية بل كانت نزاعًا بين معتقدات دينية استغرق أكثر من قرن، وولد العديد من المآسي التي أصابت الناس بالشك في جدوى إيمانهم، ولكن المعاهدة التي نتجت عنها هي التي وضعت الأساس للدولة القومية الحديثة وأعادت، من ثم، صوغ المجال السياسي الحديث لعالمنا، عندما اعترفت بأن كل دولة “صاحبة سيادة” على أراضيها بحيث يصبح أي تدخل في شئونها الداخلية خرقًا للقانون الدولي، ومن ثم حدثت النقلة الكبيرة في أوروبا على صعيد علاقة الإنسان بالأرض، والأرض بالسلطة، والسلطة بالدولة، والتي أفضت تاليًا إلى نظريات العقد الاجتماعي التي سعت إلى إعادة تأسيس السلطة السياسية، باعتبارها أرضية لا تنبت من حق إلهي مقدس، وديمقراطية تقوم توازن الحقوق والواجبات بين الحاكم والمحكوم، خصوصًا لدى جون لوك، الذي ألهم البشرية نموذج الديمقراطية التمثيلية الذي لا يزال قائمًا وفعالاً في عالمنا المعاصر.

الطهرانية الكالفينية والروح الرأسمالية

كان السيد المسيح قد ألهم أتباعه وحوارييه مفهومًا عن دين روحاني صرف “مجرد” ينبذ أي توجه لتغيير العالم الخارجي، باعتباره نوعًا من خداع النفس؛ لأن العالم الحقيقي هو ملكوت السماء، وعلى الإنسان أن يرتقي إليه تاركًا خلفه عالمنا الخاوي، الذي لا سبيل إلى إصلاحه، للشيطان وحده، يهيمن عليه أو حتى يتورط فيه!. إذ يُروى عن المسيح قوله لشاب أراد عظته: لا تقتل، لا تسرق، لا تزن، لا تشهد الزور. أكرم أباك وأمك، وأحب قريبك كنفسك.. فقال له الشاب: هذه كلها حفظتها منذ حداثتي فماذا يعوزني بعد ذلك. فقال له يسوع: “بع أملاكك وأعط ثمنها للفقراء وتعال أتبعني. فلم يقبل الشاب، فقال يسوع: يعسر أن يدخل غني ملكوت الله .. ولدخول الجمل في ثقب إبرة أيسر من دخول الأغنياء ملكوت الله”. (متى، 19: 18-23). الأمر الذي يبدي المسيحية، وكأنها تحارب العمران وتكره المال. ومن ثم نمت الكنيسة الكاثوليكية في ظل علاقة مراوغة بين الإنسان كوجود واقعي، تتناوشه الغرائز وتداعبه الطموحات، وتضغط عليه الحاجات، وبين الإنسان كمفهوم مسيحي، مهموم بالمثال، مطالب بالاستغناء. وهكذا ظل المسيحي “المؤمن” يحيا في عالمين منفصلين.. المثل الأعلى الروحي المنشود، المتناقض مع الواقع، غير المكترث بحركة التاريخ من ناحية. والواقع الدنيوي الصعب، الذي انفلتت فيه الإرادة إلى حد الطغيان، بحجة السيطرة على التاريخ من ناحية أخرى. هذان الخطان يسيران في نفس الاتجاه متجاورين ولكن على غير اتصال، ومن ثم فالمسيحي المؤمن مطالب بالاختيار بين أمرين: فإما امتلاك التاريخ وفقدان الإيمان، وإما تجسيد الإيمان والنفي من التاريخ!.

مع حركة الإصلاح بدأ نوع من المصالحة بين المسيحية والحياة الدنيوية، عندما أكد المصلح البروتستانتي جون كالفن على نوع من (الزهد النشيط)، يربط بين المسيحية، والواقع الأوروبي. ففي سياق الأخلاق الكالفينية جرى تحطيم المفهوم المراوغ عن الإنسان، ككائن يمزقه التناقض الوجودي بين روحانية نظرية ودنيوية عملية، لصالح مفهوم موضوعي يرى الإنسان كـ “زاهد نشيط”، لديه دوافع إيمانية، روحانية وربانية، للعمل والكفاح والثراء، فالنشاط الدنيوي لم يعد أمرًا مؤثمًا في ذاته، طالما كانت نوايا صاحبه خدمة الله وعباده ضمن الملكوت الدنيوي، كما لم يعد الزهد الدنيوي مطلبًا حتميًا لتأكيد ولاء المؤمن للملكوت الأخروي، وذلك على المنوال الذي كان قائمًا في اليهودية والإسلام، حيث الحافز الدنيوي للنشاط قائم وموفور من دون تعارض “حتمي” مع روحانية الإيمان.

وعلى هذا كانت الكالفينية في جزء منها تناغمًا مع مطالب العصر الحديث، عندما جعلت النجاح المادي أمرًا، ليس فقط مشروعًا ما دام مؤسسًا على الرغبة في تنمية الثروة مع الزهد في الاستمتاع بها، بل ومرغوبًا أيضًا كطريق للخلاص الأخروي وعلامة على النجاح في تحقيقه. وفي الجزء الآخر منها كانت محاولة لصياغة إنسان جديد، أكثر توازنًا وتكاملاً، له دوره الفعال في حفز حركة التاريخ ولكن دون الوقوع في أسر المادية المفرطة: إنسان ينطوي على شعور عميق بالمحبة لخلق الله والإيمان به، لكنه دائم التطلع إلى بلوغ المعرفة وتنمية الثروة. إنسان لا يطمح إلى روحانية الزاهد، ولكنه لا ينفلت من الجوهر الأخلاقي للمسيحية، نعم لديه دوافع العمل والرغبة في الكفاح، ولكن من دون أن تورطه تلك الدوافع والرغبات في نزعات لاكتناز الثروة أو التسلط على الآخرين.

وقد ذهب عالم الاجتماع الديني الألماني الأشهر، ماكس فيبر، بهذه الصيغة إلى مداها، مجسدًا تغلغل النظرة التنويرية المتفائلة في المسيحية، وذلك في أطروحته الكلاسيكية “الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية” التي مزجت بين المسيحية والرأسمالية مزجًا خلاقًا، وأعادت اكتشاف الطهرانية الكالفينية، باعتبارها الفكرة التي صاغت عقلية الربح والفائدة، كخاصيات أساسية للرأسمالية الحديثة. وهكذا استخلص فيبر في بداية القرن العشرين فهمًا جديدًا للروح البروتستانتية، جوهره أن على المسيحي المخلص أن يتبع النداء الداخلي بالاستفادة من الفرصة التي منحها الله له، فإذا أراه الله طريقًا يستطيع أن يحصل منه قانونيًا على أكثر مما يحصل عليه من طريق آخر، من دون أن يظلم روحه أو أي روح أخرى، ورفض ذلك واختار الطريق الأقل ربحًا، فإنه يعارض واحدًا من أهداف عمله ويرفض أن يكون خليفة الله في الأرض، إذ يرفض قبول عطاياه واستخدامها من أجله عندما يطلب ذلك، إذ يتعين عليه أن يكدح ليكون غنيًا من أجل الله، وليس من أجل متعة الجسد أو الملذات الآثمة.

وهنا أكد فيبر على نوع من النفعية الاقتصادية “الحكيمة” كقبول الاقتراض بالفائدة، والتأكيد على المقولة الأساسية بشأن “المسيحي النشيط” الخادم لله ولإخوانه بفضل نشاطه، استنادًا إلى رفض كالفن الصارم لذلك التصور الأسطوري التقليدي عن دائن واسع الثروة ومدين بائس، وإلى أنه لا يمقت مبدأ البحث عن الربح، إذا ظل ربح هذا الإنسان المسيحي، الموجود بفضل العناية الإلهية، غير مضر للآخرين. فالثروة إذا، وحسب الأخلاق البروتستانتية الجديدة، سيئة فقط لو كانت إغراء بالكسل والتمتع بالحياة الآثمة، واكتسابها سيئ عندما يكون بهدف العيش فيما بعد في اللهو واللامبالاة، ولكنها عندما تكون أداء لواجب في العمل، لا تكون فقط مقبولة أخلاقيًا بل مفروضة فعليًا. وقد أدى هذا النوع من التفكير إلى عقلنة الحياة الاقتصادية، فاتخذ الزمن أو الوقت دلالة جديدة معادلة للقيمة والمال، ولم يعد التاجر الناجح هو حتما مسيحي ماكر، بل صار مسيحيًا نشيطًا، وهو الإدراك الذي بات محبذًا لدى البرجوازيين المتدينين، أو غير المعادين للإيمان على الأقل، بديلاً عن الكهنوت الكاثوليكي المضني للعقل، أو التأمل الشارد في الملكوت الإلهي. وهكذا قدم فيبر، تأسيسًا على عمل كالفن، حلاً ناجزًا لمعضلة العلاقة بين المسيحي والحرية، بين الإيمان والحداثة، بين الروحانية الدينية والإيجابية التاريخية، فلم يعد المسيحي زاهدًا وعاجزًا بالضرورة، بل نشيطًا وحرًا أيضًا، الأمر الذي مكن الوعي الأوروبي من تجاوز مأزقه التاريخي الكامن في التناقض بين المسيحية والرأسمالية.

لكن، وعندما كان فيبر يُنظِّر لأطروحته هذه بداية القرن العشرين، كانت الرأسمالية الغربية قد تخطت بالفعل تلك النقطة التوازنية التي نظَّر لها، ابتعادًا عن صيغة الإنسان التكاملي “الزاهد والنشيط”، وافتراقًا تامًا مع الإنسان المتسامي “الزاهد”، اقترابًا من الإنسان الوظيفي “النشيط فقط”، والذي كان هربرت ماركوزا يستعد لتسميته بـ “الإنسان ذو البعد الواحد” راسمًا معالم شخصية إنسانية فقيرة في أبعادها، تفتقر للثراء الداخلي القادر على صوغ تكاملها، وإلى الطموح الروحي الدافع إلى تساميها، إذ  تقترب في أقصى حالاتها الاختزالية من واقع آلة تؤدي دورًا مخططًا على نحو مسبق لا تتجاوزه، فيما تثرى وجوده فقط عن طريق السعي إلى زيادة سيطرتها بحيازة المزيد من السلطة أو الثروة.

لقد أخذ الشرط الإنساني، الذي أسست له الكالفنية، في التراجع والتردي، حتى انهار تمامًا في عصر ما بعد الصناعة، الذي شهد انعكاسًا جذريًا في العلاقة بين النظامين: التكنولوجي/ الاقتصادي، والأخلاقي/ الاجتماعي. ففي عصور طويلة مضت كانت الحاجة هي أم الاختراع، أي أن الفن الإنتاجي كان يقوم على تلبية حاجات إنسانية قائمة فعلاً، وملحة أيضًا. لكن ومع التقدم التكنولوجي المطرد صار الاختراع هو أبو الحاجة، القادر على توليدها وتنميتها في الوعي عبر الإلحاح بشتى الصور حتى تستحيل مكونًا أساسيًا في حياة الإنسان، وعندها يهرب الاختراع إلى ابتكارات جديدة، وممارسة إلحاح أشد محولاً إياها إلى حاجات فعلية جديدة، وهكذا يتم تطويع الإنسان واستلابه في المجتمع المعاصر الذي يصير تدريجيًا أسيرًا لأزمة معنى هائلة، تكاد تجسد إقطاعًا روحيًا، نحتاج معها إلى استعادة بعض السحر القديم إلى داخل عالمنا الذي صار جافًا سواء بعقلانيته الأداتية أو فوضويته الزاعقة.

اظهر المزيد

صلاح سالم

كــاتب ومفــكر بجريدة الأهرام

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى