2018العدد 173ملف عربي

الاحتجاجات الشعبية في إيران بين المطالب الداخلية والتفاعلات الخارجية

في الوقت الذي كانت القيادة السياسية في إيران منشغلة بمصير الاتفاق النووي بعد التهديدات الأمريكية بإلغائه، خرجت تظاهرات شعبية في أكثر من مدينة إيرانية لم تكن متوقعة، احتجاجًا على رفع أسعار الوقود وبعض السلع الغذائية الأساسية.

كان من المفاجئ أيضًا، أن تبدأ مثل هذه التظاهرات من مشهد، قبل أن تنتقل إلى مدن أخرى، مثل كرمانشاه والأهواز وقزوين وكرج وأصفهان وقم وزاهدان، وبعض مناطق العاصمة طهران. ما دفع بعض المحللين والمراقبين إلى الاعتقاد بأن ما يجري هو بداية تغيير في مزاج الشعب الإيراني تجاه النظام الإسلامي الذي يقود البلاد منذ أربعة عقود.

لكن سرعان ما تبين أن سبب بداية هذه الاحتجاجات من مشهد كان له علاقة بإفلاس بعض الشركات التي أودع فيها كثيرون أموالهم للاستثمار في مشاريع سياحية في ضواحي هذه المدينة (ضاحية شانديز). كما أن هذه المشاريع لم تحصل في الوقت نفسه على التراخيص المناسبة لاستكمال أعمال البناء، ما أدى إلى خسارة المودعين لأموالهم. وقد تزامن الأمر مع رفع الحكومة لأسعار بعض السلع، فكان ذلك كله محرضًا وحافزًا للخروج إلى الشوارع للاعتراض على سياسات الحكومة وللمطالبة بالتعويض المالي الذي خسرته آلاف العائلات في المشاريع السياحية التي لم يتم إنجازها. ما يعني أن الدوافع للاحتجاج كانت دوافع داخلية بالدرجة الأولى ولم تكن مشروعًا تآمريًا خارجيًا.

خلفيات الاحتجاج

لم يقتصر أمر التظاهرات التي خرجت إلى الشوارع على المطالب الاقتصادية المتعلقة برفع الأسعار. فقد نقلت وسائل الإعلام بعض الشعارات ذات الطابع السياسي التي تنتقد سياسات إيران الداخلية والخارجية، واستعاد بعضها تلك التي أطلقتها الحركة الخضراء عام 2009 “لا غزة لا لبنان، روحي فدا إيران”. كما انتقدت شعارات أخرى دور إيران في سوريا، بالإضافة إلى من انتقد الرئيس روحاني، ومرشد الثورة، ومن أشاد بالمقابل بنظام الشاه السابق.

عززت هذه الشعارات ذات الطابع السياسي المباشر الذي ينتقد الحكومة وسياسات النظام الاعتقاد بأن ما يجري قد تحول إلى أكثر من مجرد اعتراض مطلبي على زيادة الأسعار، وأن اتساع رقعة الاحتجاجات إلى مدن عدة قد يكون تكرارًا لتجربة عام 2009  التي أدخلت إيران في أزمة صعبة وخطيرة هددت الاستقرار الداخلي، بعدما خرج مئات الآلاف من المتظاهرين دعمًا للمرشح مير حسين موسوي، واحتجاجًا على فوز أحمدي نجاد رئيسًا للجمهورية.

الاحتجاجات بين 2009 و 2017

تختلف أوجه الشبه بين ما حصل في عام 2009 وبين احتجاجات الأيام الأخيرة من عام2017 ففي 2009 تحولت “الحركة الخضراء” التي قادت الاحتجاجات إلى مئات آلاف المتظاهرين الذين لم يتركوا الشوارع أيامًا متواصلة كادت تدخل إيران في أزمة سياسية واجتماعية اعتبرها البعض مقدمة “الربيع” الذي سيقلب حكومات المنطقة وأنظمتها رأسًا على عقب.

وفي عام 2009 كان الهدف السياسي الموجه ضد النظام واضحًا، وهو رفض نتيجة الانتخابات التي أدت إلى سقوط زعيم الحركة الخضراء وفوز أحمدي نجاد. وكانت هذه الحركة تتلقى دعمًا مباشرًا من أركان النظام الإصلاحيين مثل مير حسين موسوي، وهو رئيس حكومة سابق في سنوات الثورة الأولى، ومهدي كروبي، وهو رئيس برلمان سابق، ومحمد خاتمي وهو رئيس سابق للجمهورية. وكذلك وقف خلف هؤلاء شخصية أساسية من شخصيات النظام هو الشيخ هاشمي رفسنجاني. ما يعني أن الانقسام حول ما جرى كان تهديدًا بالانقسام في قلب النظام نفسه. أي أن الحركة الخضراء كانت حركة معروفة الأهداف ولها قيادات ورموز تدافع عنها وتتبنى شعاراتها.

أما احتجاجات 2017 فقد افتقدت لأي شخصية بارزة. ولم يعرف عن أي زعيم سياسي وقوفه إلى جانبها، كما أنها افتقدت إلى الحشد الشعبي الواسع الذي عرفته حركة 2009 التي امتدت أسابيع وشارك فيها مئات الآلاف. فبقيت حركة 2017 حركة محدودة على الرغم من بعض الشعارات السياسية التي رافقتها. كما ارتكب بعض المشاركين في هذه الاحتجاجات أخطاء غير مبررة ساهمت في عزلها وفي سرعة تطويقها. فقد عمد بعض المتظاهرين إلى إحراق العلم الإيراني، وإلى تحطيم واجهات محلات تجارية وإلى الاعتداء على مراكز للشرطة وللحرس الثوري، ما أثار القلق الشعبي من هذه التصرفات، وعجل في التدخل الحكومي لمحاصرتها، علمًا بأن مواقف وتصريحات كثيرة ومن مواقع رسمية دافعت في بداية الأمر عن المتظاهرين وعن المطالب التي رفعوها، وعن انتقادهم لحكومة الرئيس روحاني، ولسياساته الاقتصادية. 

كان الدفاع عن هذه الاحتجاجات في  بداية الأمر رسالة اعتراض وانتقاد موجهة إلى حكومة الرئيس روحاني من اتجاهات أصولية لم تكن موافقة لا على نهج الرئيس الاقتصادي ولا على سياسات الحوار مع الغرب التي لم تؤد، بالنسبة إلى الأصوليين، إلى أي  تغيير ملحوظ على المستوى الاقتصادي. ولذا تشير بعض  المصادر الإيرانية “أن الدعوات الأولى للتظاهر على قنوات تليغرام، الأكثر انتشارًا في إيران، خرجت من دوائر التيار الأصولي، ومن مواقع محسوبة على الرئيس السابق، أحمدي نجاد. كما حظيت الاحتجاجات بتأييد آية الله علم الهدى، خطيب جمعة طهران”. (فاطمة الصمادي، احتجاجات إيران: هل بدأت انتفاضة الخبز الإيرانية ؟ مركز الجزيرة للدراسات 31/12/2017).

المشكلة الاقتصادية

راهن الرئيس روحاني بقوة على ما سينجم عن توقيع الاتفاق النووي مع الغرب من تحسن في الاقتصاد الإيراني الذي يعاني مشاكل كثيرة ويواجه مشكلة بطالة الشباب ونسبة تضخم مرتفعة. لكن هذا الرهان اصطدم بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي وقف منذ البداية ضد هذا الاتفاق ودعا إلى إلغائه، ثم استمر في إجراءات التضييق على انفتاح الشركات العالمية على الأسواق الإيرانية. فكان أن انقضت سنة على توقيع هذا الاتفاق من دون أي  تغيير ملحوظ في الاقتصاد الإيراني، وفي مستوى حياة الإيرانيين. لذا كان فشل الرهان على هذا الاتفاق مثابة ضربة قوية تلقاها الرئيس روحاني أمام منافسيه وخصومه من التيار المحافظ في داخل البلاد.   

وقد أقرَّ الرئيس روحاني وهو يدخل دورته الرئاسية الثانية بأهمية البعد الاقتصادي لحكومته الجديدة، وها هو يؤكد في مقدمة برنامجه الحكومي عقب فوزه في انتخابات 2017: “نحن بحاجة إلى اقتصاد مبتكر، ولكن للأسف لم نتمكن من تحقيق هذا الإنجاز في القرن الماضي. لقد حققنا تقدمًا في مجالات كثيرة، ولكننا بصراحة، ما زلنا بعيدين عن الوصول إلى موقع قوة اقتصادية إقليمية واقتصادية مؤثِّرة على مستوى العالم”.

لا يعني ذلك أن الرئيس روحاني لم يحقق شيئًا خلال ولايته الأولى التي امتدت أربع سنوات. بل دافع الرئيس عن تحسن الاقتصاد، واعتبر أن حكومته نجحت في السيطرة على التضخم ورفع النمو الاقتصادي بعد تراجع العقوبات الاقتصادية عن إيران بفعل الاتفاق النووي. وقد زاد الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 7.4%، وتراجع التضخم بعد عودة النفط الإيراني إلى السوق الدولية. كما نجح روحاني في إحداث تغيير تمثَّل في تحقيق نمو اقتصادي بنحو 5 في المائة، ويرجع ذلك أساسًا إلى تضاعف الصادرات النفطية خلال الفترة التي واكبت بدء تطبيق الاتفاق النووي مطلع عام 2016.

وقد استطاعت إدارة الرئيس روحاني خفض معدل التضخم من مستوى يقارب 40% في النصف الثاني من عام 2013 إلى متوسط 9% في السنة المالية المنتهية وفق التقويم الإيراني، بما يتزامن مع 20 مارس/آذار 2017، وتبعًا لأرقام البنك المركزي الإيراني، كانت هذه المرة الأولى التي تتمكن إدارة اقتصادية في إيران من خفض معدل التضخم إلى معدل ذي رقم واحد منذ عام 1990. في مقابل هذا الإنجاز الذي استطاعت إدارة روحاني تحقيقه، ارتفع معدل البطالة؛ فبينما كان معدل البطالة 10.4% في عام 2013، وصل هذا الرقم في عام 2015 إلى 11%. ووصل معدل البطالة في عام 2016 إلى 12.4 في المائة. ووصل في صيف 2016 إلى 12.7 في المائة، وسُجِّل أعلى معدلات البطالة في الفئة العمرية 20-24 سنة، ووفقًا لمركز الإحصاء، فإن معدل البطالة في هذه الفئة العمرية وصل إلى 31.9 في المائة. (الجزيرة للدراسات، مرجع سابق).

لكن هذا التحسن الجزئي للاقتصاد الإيراني، لم ينعكس تغييرًا في أوضاع المواطنين المعيشية، وبقي الريال الإيراني متراجعًا أمام الدولار، وما ترتب على ذلك تلقائيًا من تراجع في القيمة الشرائية للعملة الوطنية. فبعد مُضي عام كامل على سريان الاتفاق، ورغم وفاء إيران بتعهداتها وفق ما تؤكده وكالة الطاقة الذرية، إلا أن الثمار التي جنتها تكاد تكون “لا شيء” وفق ما صرَّح به مسؤولون إيرانيون، في مقدمتهم ولي الله سيف، مدير البنك المركزي. ووفقًا لما صرَّح به سيف في إبريل/نيسان 2016 فإن إيران ليس بمقدورها حتى الآن الحصول على أموالها المجمدة في الخارج التي تُقدَّر بـ100 مليار دولار ولا تزال تبحث عن آلية للاستفادة من الدولار لتسديد فاتورتها المالية في المبادلات الخارجية.

وبحسب محافظ البنك المركزي الإيراني “كان من المقرر أن تكون الأرصدة الإيرانية في البنوك الأجنبية في متناول الأيدي، إلا أن البنوك الأوروبية لا تزال قلقة من خرق القوانين الأمريكية وفرض عقوبات عليها من قِبل الإدارة الأمريكية”. وترى إيران أن “مكتب مراقبة الأرصدة الخارجية في وزارة الخزانة الأمريكية”، مطالَب بإصدار تعليمات إلى البنوك الأوروبية كي يتم تسهيل الحصول على الأموال الإيرانية وعمليات التبادل الأجنبي..”.

والأمر ذاته أكَّده سيف في حوار مع مجلة المونيتور، “فالولايات المتحدة الأمريكية لم تَفِ بتعهداتها التي ينص عليها الاتفاق النووي، ولذلك لا تستطيع طهران استخدام أموالها في الخارج؛ لأنها تضع العراقيل في طريق العلاقات المصرفية، في حين أن ما تتوقعه الجمهورية الإسلامية من الإدارة الأمريكية هو إلغاء القيود التي تفرضها على التبادل المالي بين طهران والدول الأخرى والالتزام بالاتفاق النووي بشکل کامل”.

وتطول الصعوبات البنكية الجزء المفرج عنه من الأصول الإيرانية في الخارج نتيجة الاتفاق النووي، والمقدرة بما بين 30 و50 مليار دولار؛ إذ تعجز الحكومة الإيرانية عن استرداده، بسبب إحجام البنوك عن التعامل معها ماليًّا.

وربما يفسر هذا الركود، وعدم رفع العقوبات بشكل كامل انتقادات مرشد الثورة الحكومة، التي دعاها إلى اتباع سياسة ما وصفه بـ “الاقتصاد المقاوم” المبني على تحفيز الإنتاج الداخلي بدل التعويل على الاستثمار الأجنبي. واعتبر خامنئي أن سياسة الحكومة تبتعد عن تلبية توقعات الشعب في حل مشكلات البطالة والتمييز والتهديدات الاجتماعية.

كان من الصعب عمليًا أن يشهد الاقتصاد الإيراني تحسنًا سريعًا بعدما أدت العقوبات الاقتصادية الدولية إلى إنهاك هذا الاقتصاد، وقطعت مصدرًا أساسيًا من مصادر تمويل الموازنة الإيرانية، وهي صادرات النفط والغاز للخارج، ومنع الشركات الدولية من العمل والاستثمار داخل إيران، وما ترتب على ذلك من تقادم التكنولوجيا المحلية، وحاجتها للصيانة منذ سنوات، إضافة إلى ارتفاع معدلات البطالة والتضخم داخل البلاد. (العربي الجديد 12 مارس 2017).

 ثمة وجهة نظر تعتبر أن رفع الحظر الغربي ليس العامل الوحيد المتحكم في مستقبل الاقتصاد الإيراني، فهناك عوامل أخرى لها علاقة بالبنية الهيكلية لهذا الاقتصاد نفسه.

فماذا يعني رفع الحظر الاقتصادي عن إيران ؟.

يعني رفع الحظر الاقتصادي عن إيران نظريًا زيادة الصادرات النفطية وغير النفطية، وتقليل تكلفة التجارة والمعاملات المالية الدولية، وعودة العمل بنظام التحويلات المالية الدولية (سويفت)، وكذلك عودة الاستثمارات الأجنبية، وتحديث التكنولوجيا المتقادمة لسنوات طويلة.

هذا فضلاً عن تطوير الاقتصاد الإيراني “الذي يشغل الترتيب الثاني كأكبر اقتصاد في منطقة الشرق الأوسط بعد المملكة العربية السعودية، والثامن عشر على مستوى العالم”، وذلك وفقًا لتصنيف البنك الدولي. (صندوق النقد الدولي، التقرير السنوي، إيران 2016).

كانت إيران اتفقت مع القوى الغربية على رفع العقوبات المفروضة على قطاعات اقتصادية منذ سنوات جراء أنشطتها النووية. وشمل رفع الحظر عن قطاعات اقتصادية حيوية، بينها البنوك والتأمين، والنفط والغاز والبتروكيميائيات، والنقل البحري والموانئ، وتجارة الذهب والسيارات. إضافة إلى تحديث أساطيل الطيران المدني وبيع الطائرات التجارية وقطع الغيار للأسطول الإيراني المتقادم منذ سنوات، وفتح المجال أمام الشركات الأمريكية الرائدة في هذه الصناعات لعقد صفقات تجارية مع إيران، وكذلك إلغاء عقوبات تمس أجانب ممنوعين من التعامل مع الإيرانيين.

وعلى رغم تأثير تلك العقوبات التي كانت مفروضة منذ سنوات على زيادة عزلة الاقتصاد الإيراني، إلا أنها لا تعد مسؤولة إلا عن حوالي 20 في المائة فقط من المشاكل الجذرية التي يعاني منها الاقتصاد المحلي.

وهذه المشاكل هي:

1– مشاكل هيكلية: بسبب هيمنة القطاع العام على الأنشطة الاقتصادية، ومنافسته القطاع الخاص.

2– دور الاستثمارات الأجنبية في إنعاش الاقتصاد: لن يكون انفتاح الشركات الدولية على إيران بالسرعة الكافية لسد تعطش السوق المحلية.

3– الرهان على عودة الإنتاج والصادرات النفطية: إن رفع العقوبات الدولية تزامن مع تدهور أسعار النفط العالمية، ووصولها إلى مستويات غير مسبوقة، حيث وصل سعر برميل النفط إلى 29 دولارًا للبرميل في منتصف يناير 2016، بعد أن كان يقدر بحوالي 112 دولارًا للبرميل منذ عامين تقريبًا.

وعلى الرغم من تفاؤل الحكومة الإيرانية، بحسب تصريحات الرئيس روحاني بارتفاع نسب النمو الاقتصادي من 3.8% عام 2018 إلى 4% عام 2019، فإن رفع العقوبات في الوقت نفسه لن يكون مثابة الحل السحري الذي يتجاوز المشاكل الهيكلية التي يعاني منها الاقتصاد الإيراني.  

لقد فتح عدم تطبيق الاتفاق وعدم تحسن الوضع الاقتصادي النقاش في الداخل الإيراني، حول جدوى سياسة الحوار والتفاوض التي انتهجها فريق الرئيس روحاني. في الوقت الذي كرر فيه المرشد النقد للولايات المتحدة وعدم الثقة بها، وأنها إذا كانت تريد إلغاء الاتفاق “فإننا سنحرقه”. في إشارة منه إلى عدم ربط مصير الاقتصاد الإيراني بهذا الاتفاق. 

الاحتجاجات إقليميًا ودوليًا

أعلن الرئيس الأمريكي دعمه حركة الاحتجاجات بالوسائل كافة، وطالب المتظاهرين بالاستمرار في تحركاتهم واعتبر: “أنه آن أوان التغيير في إيران”. أما المندوبة الأمريكية الدائمة لدى الأمم المتحدة، السفيرة نيكي هيلي، فقد أعلنت هي الأخرى في بيان رسمي أنها تطالب الشعب الإيراني والساخطين على الأوضاع الاقتصادية أن يلتحقوا بالمتظاهرين ضد النظام، وقالت إن على الحكومة الإيرانية ألا تفرض قيودًا على مواقع التواصل.

لم يقتصر تأييد حركة الاحتجاج على المواقف والتصريحات الأمريكية، بل تبعتها مواقف أخرى، صدرت عن رئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، تعتبر هذه الحركة الشعبية بداية النهاية للنظام الإسلامي في إيران. 

دفعت هذه المواقف المبكرة والمتسرعة في تأييد حركة الاحتجاج من الجانبين الأمريكي والإسرائيلي إلى تراجع قوى كثيرة عن الاستمرار في التظاهر. فالقوى التي أرادت توجيه النقد إلى الرئيس روحاني شعرت بأنها تشارك المواقف الأمريكية والإسرائيلية تهديد النظام كله، لذا انسحبت هذه القوى من الشارع، ولم يتبق سوى بضع مئات، ما أتاح للقوى الأمنية تطويق الاحتجاجات وإخمادها خلال أيام قصيرة. أضف إلى ذلك أن أعمال الشغب وحرق المحلات، وبعض دور العبادة، والاعتداء على المراكز الأمنية، وخاصة إحراق العلم الإيراني، التي أعلنت السلطات مسؤولية جماعة “مجاهدي خلق” الإيرانية عنها، تركت انطباعًا سلبيًا ومقلقًا عند عامة الإيرانيين، لأن سيرة هذه المنظمة اتسمت في أذهان الشعب الإيراني منذ بداية الثورة بالاغتيالات، وبالتعاون مع العراق في أثناء حربه ضد إيران.  

كما أن دخول أنصار الملكية الشاهنشاهية على خط دعم الاحتجاجات لم يكن أيضًا في مصلحة هذه الأخيرة. وبحسب التأكيدات الرسمية الإيرانية “فإن أغلب الرسائل التي أرسلت من خلال وسائل التواصل الاجتماعي عبر تويتر وغيره أتت من خارج الحدود الإيرانية، وبصورة خاصة من السعودية وإقليم كردستان العراق. كما أن معظم هذه الرسائل أتى من قبل جماعات فتي الذكر، أي “المنافقين” ودعاة الملكية”. (وكالة الأنباء الإيرانية، جريدة كيهان العربي 2/1/2018). وربما لهذا السبب اتهم قائد الحرس الثوري، محمد علي جعفري، في 3 يناير/كانون الثاني 2018، أمريكا وبريطانيا والسعودية، بالتدخل في هذه الاضطرابات. (وكالة الأنباء الإيرانية، 4/1/2018).

كانت التصريحات الأمريكية بدعم الاحتجاجات مثابة الضربة القاصمة لهذه الحركة، بعدما تم الربط بين هذه المواقف الأمريكية وبين تصريحات سابقة دعت إلى تغيير النظام في إيران. فقد أكد على سبيل المثال وزير الخارجية الأمريكي، ريكس تيلرسون في 14 يونيو 2017 في كلمة له أمام الكونجرس، “ضرورة بذل المزيد من الجهود للحد من توسع النفوذ الإيراني”، وتحدث بصراحة عن “دعم عناصر داخل إيران تسعى لتغيير النظام السياسي”. ثم اختتم بالقول إن “حكومة ترامب تسعى لتغيير الحكومة في إيران”. وبعد ذلك بـ 27 يومًا، وفي 11 يوليو  2017 تحدث وزير الدفاع الأمريكي، جيمس ماتيس عن قرب إقامة علاقات ثنائية إيجابية بين واشنطن وطهران عن طريق إسقاط نظام الجمهورية الإسلامية وقال: “يجب أن يتغير النظام الحاكم في إيران”. (جريدة الوفاق الإيرانية، 3/1/2018).

وقد اعتقد الرئيس الأمريكي أن التركيز على الخلافات الداخلية وعلى قضية “الحرية”، وتحميل النظام مسؤولية تردي الأوضاع الاقتصادية، والاستعداد للدعم والحماية، سوف يوسع رقعة الاحتجاجات، ويزيد الأزمة الداخلية، ويفاقم الانقسام بين القوى السياسية والاجتماعية … بحيث تنتقل إيران إلى الفوضى التي تتيح لاحقًا التدخل الخارجي. لكن ما حصل كان خلاف ذلك تمامًا، لأن إعلان ترامب دعم حركة الاحتجاج جعلها تخسر جانبًا كبيرًا من مشروعيتها في الداخل الإيراني. 

وفي إطار الإصرار الأمريكي على اغتنام فرصة الاحتجاجات لممارسة الضغوط على النظام في إيران، عقدت الولايات المتحدة جلسة لمجلس الأمن، مساء 5 يناير/ كانون الثاني 2018، لمناقشة الوضع في إيران. لكن الجلسة، لم تذهب في الاتجاه الذي أرادته واشنطن. فمعظم الدول التي شاركت اعتبرت ما يجري شأنًا إيرانيًا داخليًا، ولا يهدد الاستقرار والأمن الدوليين. ولذا لم يصدر عن هذا الاجتماع أي بيان. كما كان واضحًا أن الدول الأوروبية لم تكن تشارك واشنطن رؤيتها ما يجري في إيران وكانت تخشى من توظيف أي قرار من مجلس الأمن ضد الاتفاق النووي تمهيدًا لإلغائه. لذا اعتبر الاجتماع مثابة فشل للسياسة الأمريكية تجاه إيران.

أما على الصعيد الإقليمي، فكان من الطبيعي أن يقف حلفاء إيران إلى جانبها، مثل سوريا والعراق، في مقابل دول أخرى على خلاف معها مثل المملكة السعودية التي انحاز إعلامها إلى المحتجين، وصولاً إلى التأكيد على أن ما يجري هو بداية نهاية النظام وسقوطه في إيران. أما تركيا، التي تحسنت علاقاتها مع إيران منذ المحاولة الانقلابية التركية في صيف 2016، فلم تخف تعاطفها مع النظام الإيراني، حتى أن الرئيس أردوغان بادر إلى الاتصال بروحاني، للاطمئنان، كذلك حذر الناطق باسم الحكومة التركية الجهات الخارجية من التدخل في شؤون إيران الداخلية.

نظرة مستقبلية

لم تتحقق توقعات بعض المحللين التي سارعت إلى الترويج لسيناريو التغيير المقبل في إيران. ولم تترك رسائل واشنطن لدعم المحتجين، أي تأثير على مسار الأحداث، خاصة وأن النظام استطاع احتواء ما جرى خلال أيام قليلة فقط، وحتى من دون أن ينعكس ذلك على الاستقرار في البلاد. ولم يشعر النظام بأي ضغوط فعلية لا داخلية ولا إقليمية أو دولية في أثناء التعامل مع هذه الاحتجاجات. ولم تتشكل أي بيئة دولية مؤيدة لهذه الاحتجاجات.

لكن ما جرى في الوقت نفسه لم يكن حدثًا عابرًا. بل كان مثابة إنذار شعبي واجتماعي حمل في طياته رفضًا للأوضاع الاقتصادية السيئة التي يعيشها المواطن الإيراني. وهذا الرفض لا يحتاج إذا استمرت الأوضاع على ما هي عليه، إلى أي تدخل خارجي ليعود الناس إلى الشارع.

إن الاحتجاج في جوهره لم يكن ضد النظام نفسه، وحتى الشعارات التي تناولت سياسات إيران الخارجية، أو دافعت عن الملكية لم تكن هي السبب في حركة الاحتجاج التي دفعت الناس للخروج إلى الشارع. كان الدافع اقتصاديًا بالدرجة الأولى.. وهذا يعني أن على  حكومة الرئيس روحاني أن تتجاوز الرهان على الاتفاق النووي مع الغرب، وأن تضع الخطط المناسبة لتحسين الأوضاع المعيشية، وحل مشكلات البطالة. ولن يكفي في هذا المجال، اعتراف الرئيس بحق الشعب في التظاهر، أو بمشروعية المطالب التي رفعها.

لقد بينت تجارب دول كثيرة، أن هذه الثغرة الاقتصادية، إذا لم يتم التوافق الداخلي بين القوى السياسية الإيرانية حول الطريقة المناسبة للتعامل معها، سوف تتحول إلى تهديد للبنيان القوي الذي عملت إيران على تشييده وحمايته، منذ انتصار ثورتها إلى اليوم.

اظهر المزيد

د. طلال العتريسي

استاذ علم الاجتماع ، الجامعة اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى