2018العدد 173ملف عربي

التجاذب الأمريكي – الروسي وأثره على قضايا العرب الساخنة

تتراكب أزمة العالم العربي في ظل الصراع الدولي الحاصل والمتغيرات التي يشهدها النظام الدولي، فمن جهة تشكل حالة الضعف التي يعاني منها النظام العربي راهنا إغراء لتحويل الجغرافية العربية إلى ساحة صراع وتنافس رخيصة بين أقطاب النظام الدولي، من جهة ثانية يولد هذا الصراع مزيدًا من الضعف والانقسام داخل العالم العربي، بحيث يتحول الصراع الدولي والضعف العربي متوالية طردية ودائرة جهنمية يصعب الخلاص منها، كما يتحوّل الضعف إلى عامل تغذية يرفد التدخلات الخارجية بالأسباب اللازمة للظهور بمظهر الدفاع عن الأمن العالمي والمصالح القومية للأطراف المتدخلة، ويمنحها الشرعية للتغطية على أهدافها وارتكاباتها أيضًا.

تعيش المنطقة العربية على وقع التجاذب الأمريكي – الروسي، الذي بات يشكل المحرك الأساسي لمجمل التفاعلات الحاصلة في المنطقة، والمحدّد لتوجهاتها، بل إنه يطمح إلى إعادة تشكيل الجغرافية السياسية في المنطقة تبعًا لمصالح وأهداف المراكز في واشنطن وموسكو، دون أدنى اعتبار للوقائع الاجتماعية والسياسية والتاريخية، كما هو حاصل في سورية والعراق، الأمر الذي أنتج عنه فوضى هائلة .

الوطن العربي بديل شرق أسيا و أوراسيا ؟

في بداية العقد الحالي كانت البوصلة الأمريكية تتجه نحو شرق أسيا، نتيجة تقييم أمريكي بأن مستقبل الصراع والتنافس الدولي سيتركز في هذه المنطقة، لدرجة أن أي قوّة عالمية تطمح بالبقاء كقوّة مؤثرة في القرن الحادي العشرين فلا بد من تأكيد وجودها في الباسيفيكي، وما عداها من مناطق العالم، وخاصة المنطقة العربية، لن يكون لها تأثيرات مهمة في أوزان القوى العالمية، وخاصة في ظل انخفاض أسعار النفط، واكتفاء أمريكا من هذه السلعة نتيجة توفّرها بكثافة جراء إنتاج النفط الصخري.

وقد سبق ذلك، قيام مراكز الأبحاث الأمريكية والصحف الكبرى، بشن حملة تشنيع بالشرق الأوسط الذي لا يربح أحد فيه والمؤهل لصراعات دائمة، وخاصة بعد ظهور ملامح الصراع السني- الشيعي، لذا فإن أمريكا، التي تعرف استشراف المستقبلات وتفهم الفرص والمخاطر بشكل جيد، عليها انتهاز الفرصة وترك الشرق الأوسط يتشكل بالطريقة التي يريدها والرحيل صوب أسيا.

من جهتها روسيا، انصب معظم تركيزها على المشروع الأوراسي، بنسخته المصغرة، الذي يشمل الدول التي استقلت عن الاتحاد السوفيتي في المجالين الأسيوي والأوروبي، ولم يكن لدى روسيا طموحات خارج هذا الإقليم، بل إنها ذهبت إلى خفض علاقاتها إلى حدود دنيا مع باقي مناطق العالم، وحصل ذلك نتيجة تقدير روسي للأولويات والفرص والمخاطر، بعد أن وجدت نفسها في سلسلة مخاطر فرضها عليها الغرب للحد من تأثيراتها الإقليمية والدولية.

وتركزت معظم الفعالية الروسية، في بداية القرن الحالي، ضمن مناطق الجوار الروسي، الشيشان وجورجيا وأوكرانيا، وكذلك من خلال ممارستها ضغوطًا سياسية على بولندا ورومانيا ومولدافيا، لمنعهم من الالتحاق بالناتو، وقد شكلت هذه القضايا ضغطًا هائلاً على روسيا، نتيجة ما كانت تعتبره حصارًا ممنهجًا لحلف الناتو والاتحاد الأوروبي، وقد صرفت روسيا معظم طاقاتها لمواجهة هذه التحديات.

لكن لماذا تحوّل الاهتمام الإستراتيجي لأمريكا وروسيا إلى العالم العربي الذي أصبح فجأة يشكّل قلب اهتماماتهما الجيوإستراتيجية بدلاً من شرق آسيا وأوراسيا ؟.

بيئة مناسبة للصراع الإستراتيجي

أثبتت التجربة والوقائع لكل من أمريكا وروسيا، وجود عيوب إستراتيجية في مشاريعهما المشار إليها، صحيح أن تلك المناطق تمتلك مزايا ذات قيمة عالية بالمعايير الإستراتيجية، لكن التطبيقات العملية وإمكانية تسييل تلك المزايا إلى أرصدة جيوسياسية لصالحهما أمر غير ممكن، أو على الأقل تكاليفه عالية جدًا، أو ربما لوجود منافسين إقليميين لديهم القدرة على جعل الاستثمارات الإستراتيجية لكل من أمريكا وروسيا، عالية التكلفة والمردود ضعيف.

وبالتجربة، بذلت روسيا مجهودات وطاقة كبيرة في مجالها الأوراسي دون تحقيق عائد مهم على مستوى مكانتها الدولية أو على مستوى تحسين وضعها الأمني وظروفها الاقتصادية، كما أن الولايات المتحدة الأمريكية استشعرت وجود مخاطر مرتفعة جراء دخولها الصادم إلى المحيط الهادي، مع وجود أطراف لديها استعداد للسير بالتحديات إلى أقصاها، وكان التقدير أن المنافسة الممكنة مع الصين، التي تشكل قلب أسيا، لا يكون إلا ضمن المجال التجاري وحده.

وجاءت أحداث الربيع العربي، لتدفع أمريكا وروسيا إلى إعادة صياغة أهدافهما ورؤاهما الإستراتيجية، وفق حسابات الربح والخسارة، وفي إطار الإمكانيات المتوفرة، وضمن حزمة من المحفزات تمثلت:

لعبة التطويق والتفلت: وهي لعبة طالما مارستها كل من أمريكا وروسيا تجاه بعضهما، وطالما كانت أمريكا هي الطرف المبادر بحكم فارق القوّة بينها وبين روسيا، فقد مارست لعبة التطويق إلى أقصاها، وكادت تغلق أغلب الدوائر المحيطة بروسيا، في أوروبا وآسيا، وقد أدركت أمريكا أن التحولات الجارية في الوطن العربي يمكن استثمارها وتوجيهها في زيادة الأطواق المحيطة برقبة روسيا، وذلك من تسليم السلطة لقوى معادية تاريخيًا لروسيا، الإسلاميين، وحرمانها تاليًا من أي إمكانية مستقبلية لعودة نفوذها لهذه المناطق.

بدورها روسيا وجدت في الثورات المضادة، وبعض القوى الإقليمية الرافضة للأمريكيين، فرصة لتحويل التحديات إلى فرص، والتفلت من الأطواق التي تكبلها بها أمريكا، بل وتشكيل طوق على مناطق النفوذ الأمريكي، في آسيا وأوروبا، والتحكم بتداعيات الأزمات الناتجة عبر توجيهها إلى مدارات النفوذ الأمريكي، مثل أزمة النازحين السوريين، وكذلك إضعاف الجبهة الجنوبية لحلف الناتو، تركيا، ودفعها إلى تبني خيارات أقرب لروسيا.

قوى الجذب: ورغم، التطور التكنولوجي الهائل، وانتقال مراكز الحضارة، لا يزال الوطن العربي يتمتع بقوة جذب هائلة تشكل إغراءً إستراتيجيًا يصعب على القوّة الساعية للمكانة الدولية تجاهله، نتيجة الموقع الجغرافي المتمتع بتقاطع الثروات ونقلها، والأهمية الإستراتيجية للجغرافية العربية وميزتها الاتصالية بين آسيا وأوروبا وأفريقيا.

ويشكل النفط والغاز جزءًا مهما من لعبة الصراع الأمريكي – الروسي، لإدراك أمريكا أنه ركيزة الصعود الروسي، وأن مواجهة هذا الصعود لن تتم إلا عبر إغلاق الصنابير المتجهة لأوروبا وتقديم بدائل أخرى تتمثل بالنفط العربي، ما دام النفط والغاز الأمريكي والأسترالي، والذي يجري نقله عبر البحار لا يملك ميزة تنافسية في مواجهة الروسي الذي يتم نقله عبر أنابيب أرضية.

وبما أن سورية تشكل المعبر العربي الأرضي الوحيد للغاز والنفط العربيين، كان القرار الروسي إغلاق هذا المعبر وإبعاد شبح مخاطر المنافسة على أوروبا.

فرصة لخلق عالم ثنائي القطبية: هدفت إجراءات الغرب المكثفة ضد روسيا، عبر تطويقها، إشغالها ضمن مساحة جغرافية صغيرة، ولجمها تاليًا عن إعادة التفكير بعالم تشكل أحد قطبيه، وقد رأت روسيا في التحولات العربية فرصة للخروج من هذا الواقع والإمساك بأوراق استراتيجية تعيد تأهيلها لمكانة الدولة العظمى والمقرّرة في النظام الدولي المعاصر.

كولونيالية رخيصة: بثمان قواعد أسستها الولايات المتحدة الأمريكية في شرق سورية، وقاعدتان، بحرية وبرية أنشأتها روسيا في غرب سورية، والتسابق العلني على امتلاك القواعد في الجغرافية الليبية، نكون إزاء إعادة إنتاج العصر الكولونيالي الكلاسيكي  الذي مرت فترة على نهايته والانتقال إلى أشكال أكثر عصرية تتوافق مع منطق العولمة وآلياتها، حيث استبدلت المكاتب التجارية والوكالات محل القواعد العسكرية.

والواضح أن التجاذب الأمريكي – الروسي في المنطقة العربية، لم يجد أفضل من طريقة القواعد للإشراف على الأزمات العربية وإدارتها بما يضمن تطويرها بهدف إنتاج توازنات إستراتيجية بين اللاعبين الكبار، وباعتراف تلك الأطراف فإن هذه الطريقة لم تكن مكلفة، وخاصة في ظل تأمين قوى محلية كأدوات تشغيلية لهذه القواعد.

تداعيات التجاذب الأمريكي – الروسي

يتطوّر التجاذب الأمريكي- الروسي في المنطقة العربية إلى صراع جوهري ما ينفك يفرز جملة من التداعيات تطال كل تفاصيل القضايا، فتزيد من حدة أزماتها وتؤخر الحلول، إن لم تبعدها نهائيًا، ويمكن ملاحظة هذه التداعيات على الصعد التالية.

دفع الدولة للتفتت وتخريب النسيج الاجتماعي:

الدولة في مناطق النزاعات التي تتجاذب فيها أمريكا وروسيا، هي الضحية الأكثر وضوحًا، حيث تعمل الأطراف المتصارعة محليًا على ادعاء تمثيلها وحتى حيازتها، الأمر الذي حوّلها إلى مسخ، أو كيان هلامي، لم يعد له وجود سوى في ادعاءات المتصارعين، أما على الأرض، فقد تحوّلت الدولة إلى بندقية يتقاتل فيها الأطراف، ومجرم حرب يتظلل بشرعيتها.

وقد زاد التجاذب الأمريكي – الروسي من حدة أزمة الدولة في مناطق النزاع، وظهر ذلك جليًا في سورية وليبيا، حيث تدعم أمريكا فريقًا، فيما تدعم روسيا خصمه، وقد وصل الأمر في سورية إلى حد اقتطاع أمريكا جزءًا من البلاد، من الواضح أنه يتم تجهيزها لإقامة إقليم كردي منفصل بما ينذر بتصدع سورية وتفتتها بشكل نهائي، أما في ليبيا التي باتت تسيرها حكومتان “الوفاق” في الغرب “والمؤقتة” في الشرق، الأولى تدعمها أمريكا والثانية تدعمها روسيا، وهو ما يؤسس لعملية انفصال سياسي مستقبلي في ظل واقع جغرافي شاسع ومجتمع قبلي تقليدي.

وكما كان للتدخل الأمريكي في العراق آثار وتداعيات خطيرة على البنى الاجتماعية وصلت إلى حد الاحتراب الأهلي، فإن روسيا في ظل التجاذب الحاصل، وإصرارها على مراعاة إيران، بوصفها حليفًا مهمًا في مواجهة أمريكا، دمّرت نسيج المجتمع السوري وحوّلت خلافاته السياسية إلى صراعات طائفية جوهرانية طاردة لكل حل سياسي عقلاني.

تعطيل حل القضايا العربية وتفاقم حدتها:

ومن مؤشرات ذلك، أن القضايا العربية لم تعد ملكًا لأصحابها، الذين باتوا وكلاء هامشيين لدى اللاعبين الكبار، كما أن الطروحات المقترحة للحل لا تشبه الأهداف التي أرادها الفاعلون المحليون، بقدر ما صارت نسخة عن طموحات أولئك اللاعبين وأجندة تنطوي على مصالحهم الخاصة.

ورغم كثرة الأحاديث عن مبادرات وطروحات وحلول، فهي ليست سوى اختبارات يجريها اللاعبون الكبار لفحص مدى قبول الطرف الأخر، أو بلغة أدق لاكتشاف حجم التنازلات الممكن تحصيله في مواقفه، ذلك أن تلك الطروحات والتجارب غالبًا ما تأتي عقب جولة استعراض للقوة يجريها الطرف صاحب المبادرة، تكون نتائجها كارثية على البشر والحجر، في محاولة لإقناع الطرف الأخر أنه مستعد للذهاب في استخدام القوّة إلى أقصاها، كما فعلت روسيا بعد تدميرها حلب عن بكرة أبيها ثم طرحت مبادرة “مؤتمر الحوار” في سوتشي، أو كما فعلت أمريكا بعد مسحها لمدينة الرقة ثم طرحت ما سمي بـ “الورقة الخماسية للحل في سورية”.

ويبدو أن المبادرتين تنطويان على شروط تعجيزية ودرجة عالية من الإلغائية، ما يجعل من قبولها أمرًا مستحيلاً، ويضمن بالتالي تعطيل الحل المرتجى، والبديل عن ذلك يكون على الدوام زيادة تعقيد الأزمات وتفاقمها بعد وصولها إلى طرق مسدودة، أما الخيارات فستكون قاسية من نوع تقسيم البلاد وشرذمتها.

والمعلوم أن الأزمات كلما طالت، كلما تعفنت من داخلها، وخاصة إذا كانت من نوع الأزمات الحاصل في بعض البلدان العربية، والتي هي عبارة عن حروب طاحنة مستمرة تستنزف كل يوم ألاف البشر، بين قتيل ونازح ومعاق، إذ عدا عن كون تلك الحروب تأكل حاضرها، فإن الوصول للحلول وتضميد الجراح سيستهلك حصة كبيرة من مستقبلاتها ومن طاقتها وثرواتها.

منع الأطراف المحلية والأطر الإقليمية من الحل:

ألغى التجاذب الأمريكي – الروسي، أي إمكانية للحل قد تقودها أو تقترحها الأطراف المحلية والأطر الإقليمية، وذلك بسبب تعميق حالة الفرز والاصطفافات الداخلية وربط مصالحها وأهدافها باللاعبين الخارجيين، وكذلك من خلال تهميش الأطر الإقليمية وإبعادها عن الحل “الجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي”.

صحيح أن النزاعات الحاصلة في العالم العربي أصبحت في مرحلة ما أقرب لنمط الحروب الأهلية التي يصبح التلاقي الداخلي فيها صعبًا بدرجة كبيرة، لكنها لم تكن كذلك منذ البداية، وكان من الممكن الوصول لحلول داخلية لولا التدخلات الخارجية الكثيفة منذ مراحلها الأولى والتي ساهمت في وصولها إلى مستويات عالية من التعقيد.

وحتى نعرف أثر التدخلات الخارجية، يمكن مقارنة التسويات والحلول التي لجأت لها الثورات في تونس ومصر، وكيف أن القوى المحلية “الجيش والأحزاب” استطاعت الوصول لصيغ مناسبة تحد من تطورات الأزمة، عبر الاعتراف بالجديد “الثورات ومطالبها” وعدم اجتثاث القديم بما قد يصل إلى حد تدمير مؤسسات الدولة وحصول عمليات انتقامية ضد أولئك الذين يحسبون على المرحلة السابقة.

في المقابل لم تحظَ أزمات سورية وليبيا واليمن بهذه الإمكانية بسبب عامل التدخل الخارجي، والتأثيرات الأمريكية- الروسية في مراحل مبكرة من عمر تلك الأزمات، وليس أدل على ذلك سوى تصريحات المسؤولين الإيرانيين من أن رأس النظام السوري بشار الأسد كان على وشك التنازل على السلطة قبل إقناعه بالاستمرار وإمكانية القضاء على خصومه، ولا شك أن هذا الأمر جرى ترتيبه بموافقة روسيا، إن لم يكن بالإشارة منها.

بنفس الوقت، أسهمت تلك التدخلات بتقييد حركة الجامعة العربية، بل ومحاولة تشويه دورها، عبر إظهارها طرفًا منحازًا وضعيفًا، وقد ساهم في ذلك، حالة الانقسام الحاصلة بين أعضائها، وعدم وجود آليات للتعامل مع مثل هذه الأزمات، وكان من نتيجة ذلك ليس فقط منع الجامعة العربية من نجاح مبادرتها للحل، بل وتصديع النظام العربي برمته والعودة إلى منطق التحالفات البائد.

ربط الأزمات العربية بالصراعات الجيوسياسية:

ولعل من أسوإ انعكاسات التجاذب الأمريكي – الروسي، الربط بين الأزمات الحاصلة في العالم العربي، وهي بالأصل أزمات سياسية بدرجة كبيرة، وبين الصراع المفتوح بين اللاعبين الكبار على فضاء جغرافي واسع على مستوى العالم، وحتى على قضايا ذات أبعاد أمنية واقتصادية وسياسية مختلفة ومتشابكة، بعضها مزمن ومرتبط بالاختلافات السياسية بين الدول، وبعضها ناشئ من قبيل الصراع على تراتبية القوة في النظام الدولي.

وبما أن إمكانية التفاوض والمساومة في قضايا الخلاف والصراع في الملفات الأخرى تبدو منعدمة، أو أنها استنزفت جميع فرصها، مثل الصراع بخصوص انتشار حلف الناتو وتوّسع الاتحاد الأوروبي، أو نشر الدرع الصاروخية في أوروبا، أو حتى الصراع حول أوكرانيا، فإن البديل عن ذلك هو وقوع الأزمات العربية تحت ضغوط مكثّفة بهدف إنتاج حلول للصراعات السابقة الذكر.

وما يزيد من حدة الإشكالية سهولة المناورة والحركة في القضايا العربية، سواء لوجود وكلاء تتم الحرب من خلالهم، أو لأن هذه القضايا لا تنطوي على صدام مباشر نتيجة انتفاء التهديدات المباشرة على اللاعبين أو إمكانية الاحتكاك المباشر بينها، بعكس مثلاً الأزمة الأوكرانية حيث الحسابات والتحركات مختلفة، ووجود حدود للعب والتصعيد بين الأطراف بحكم الموقع الجغرافي لأوكرانيا كمنطقة واصلة بين روسيا والاتحاد الأوروبي، فأي حركة زائدة يمكن أن تؤدي لإشعال حرب كبرى بين اللاعبين الكبار.

وبالطبع، أدى ذلك إلى تعقيد الأزمات العربية وصعوبة حلها، لأن المطلوب لم يعد تفكيك عناصر هذه الأزمات وإنتاج تسويات لها، بقدر ما أن المسألة برمتها أصبحت مربوطة بشكل مباشر بصراعات جيوسياسية معقدة، ربما يطول زمن الوصول إلى حلول لها، وفي حين مثل تلك القضايا لديها قابلية لتجميد صراعاتها والتعايش مع مستوى وسقف معين من التوتر بداخلها، فإن الأزمات العربية لا تملك مثل هذه الرفاهية لأن الزمن فيها يعني المزيد من الكوارث والنكبات.

مستقبل التجاذب الأمريكي – الروسي في المنطقة

ليس ثمة ما يؤشر على وجود نهاية قريبة للتجاذب بين اللاعبين الكبار في قلب الجغرافية الغربية وأزماتها الحادة، وعلى العكس من ذلك، ثبت وبعد إعلان إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن إستراتيجية بلاده تجاه سورية، أن الصراع ما زال في مرحلة التأسيس وبناء الأدوات والوسائل لإدامة الصراع زمنًا أطول، كما أن سوء العلاقة بين روسيا وأمريكا وانقطاع قنوات التواصل بين الطرفين ينذر بصراع حاد لن تكون ميادينه سوى الساحات العربية.

وليس ثمة ما يؤشر على وجود بدائل محلية وإقليمية لإدارة هذه الصراعات وإمكانية الوصول إلى مخرجات للحل، في ظل واقع الانقسام والتشظي بين أعضاء النظام العربي، وانشغال القوى الفاعلة فيه بأزمات محلية وإقليمية، ومن ثم إخراجها من المشهد نهائيًا لتحل مكانها قوى إقليمية “إيران وتركيا” أكثر ارتباطًا بالمشاريع الأمريكية الروسية في المنطقة، وتملك مزايا لوجستية تؤهلها للعب دور المساعد أكثر من الأطراف العربية.

بالإضافة لذلك، رغم سنوات مديدة من الصراع والإنهاك، ليس ثمة ما يؤشر إلى أن النزاعات الداخلية العربية استنفدت طاقتها، طالما يجري تحويلها من خلافات سياسية إلى صراعات طائفية وقبلية وعرقية في بعض الأحيان، ويبدو أن بلدانًا مثل سورية واليمن وليبيا، وبدرجة أقل العراق، مؤهلة لاستمرار الأنماط الصراعية فيها إلى زمن غير معلوم.

ومكمن الخوف أن ينتقل التجاذب إلى ساحات عربية أخرى وبلدان طالما بقيت بعيدة، حتى اللحظة، عن النزاعات، أو أنها استطاعت إدارة الخلافات بطريقة أخرجتها من دائرة المخاطر، وهذا الحال ينطبق على لبنان الذي يترنح تحت الضغوطات التي تمارسها أطراف إقليمية ودولية، وكذلك البحرين والسودان.

وتجدر الملاحظة هنا أن تداعيات هذا التجاذب قد طالت قضايا النزاع العربي مع العالم الخارجي، مثل نزاع سد النهضة بين أثيوبيا ومصر والسودان، وكذا القضية الفلسطينية، صحيح أن اللاعبين الكبار لم يعلنوا ذلك مباشرة، لكن ملامح التجاذب بدت واضحة خاصة في قضية سد النهضة حينما انحازت الولايات المتحدة الأمريكية لتكتل “أثيوبيا – إسرائيل”، ولمحت روسيا إلى حق مصر في مياه النيل وإمكانية اللجوء للقانون الدولي للتعاطي مع هذه الأزمة، ولا شك أن أزمة سد النهضة هي محاولة واضحة لإضعاف مصر وإشغالها بقضية مصيرية لا يمكن التساهل فيها.

أما القضية الفلسطينية، فقد باتت في مدار التجاذب الأمريكي – الروسي، بحكم موقع إسرائيل في صراعات المشرق العربي وموقع روسيا وأمريكا في هذا الصراع وطبيعة الاستقطابات الحاصلة فيه، ويعكس السقف المنخفض للحل الذي تطرحه إدارة ترامب، الموقع المتدن للتأثير العربي في مشهد الصراع الحالي.

ما العمل ؟

عندما نتحدث عن التجاذب الأمريكي – الروسي وانعكاساته على القضايا العربية، فليس معنى ذلك أننا إزاء معطيات قدرية يصعب الفكاك منها، بل لا بد من الاعتراف أن المسؤولية الأكبر تقع على الفاعلين في المنطقة العربية، جراء استدعائهم للتدخلات الخارجية ورفضهم اتخاذ إجراءات تسهم في تخفيف الأزمات الحاصلة في كياناتهم، أو لتقديرهم أن مصالحهم تتقاطع مع اللاعبين الخارجين أكثر من تلاقيها مع الشركاء- الخصوم- المحليين.

ورغم الصورة القاتمة للمشهد العربي، ما زال هناك إمكانية للخروج بحلول توافقية تنهي، أو تخفف تدريجيًا، من حالة التدخل الخارجي الذي يضر بمستقبل البلاد ولن يستفيد منه أحد، وصولاً إلى تفكيك هذه الحالة في نهاية المطاف.

اظهر المزيد

غازي دحمان

كــاتب ســـوري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى