2018العدد 174ملف عربي

الحسابات الاستراتيجية للتموقع الإيراني في المنطقة المغاربية

تقديم

أعاد تجدّد القطيعة بين المغرب وإيران في الآونة الأخيرة، النقاش من جديد بشأن طبيعة التحركات الإيرانية في المنطقة العربية بشكل عام والمغاربية على وجه الخصوص. ففي الوقت الذي اعتبر فيه البعض أن التواجد الإيراني، لا يشكّل خطرا على المنطقة المغاربية بالنظر إلى عامل البعد الجغرافي، وعلى اعتبار أنه سيخلق قدرا من التوازن في مواجهة القوى الغربية كفرنسا والولايات المتحدة. لا يخفي الكثير من المراقبين والباحثين تخوّفهم من خطورة هذا التموقع بالنظر إلى السوابق الإيرانية الخطيرة في كل من العراق وسوريا واليمن ولبنان.

تمرّ “المنطقة العربية” منذ بداية التسعينيات بظروف صعبة، أثّرت سلبا على التعاطي مع مختلف القضايا والمواضيع المشتركة، فعلى امتداد خريطة المنطقة تتناسل الأزمات والصراعات الداخلية والبينية. وتشير الممارسات إلى أن تردّي النظام الإقليمي العربي ودخول عدد من دول المنطقة في صراعات داخلية وبينية، ساهم إلى حدّ كبير في استئثار قوى إقليمية بلعب أدوار ملتبسة في المنطقة، كما هو الشأن بالنسبة لتركيا وإيران. فقد سعت هذه الأخيرة إلى استثمار تدهور هذا النظام بكل مكوناته لتحقيق حلمها بالتموقع في عدد من المناطق، بما فيها تلك البعيدة عنها جغرافيا، مثلما هو الأمر بالنسبة للمنطقة المغاربية وإفريقيا، مستثمرة في ذلك مداخل متعددة، تتراوح بين العامل الديني المتصل بنشر التّشيّع، أو الاعتماد على تمتين العلاقات التجارية والاقتصادية، واستثمار آلية المساعدات، إلى استخدام سبل منحرفة ومخادعة.

سنحاول في هذه الدراسة، الوقوف على خلفيات القطيعة المغربية الأخيرة لإيران وأبعادها، قبل رصد الحسابات الاستراتيجية للتموقع الإيراني في المنطقة المغاربية.   

أولاً- العلاقات المغربية – الإيرانية في سياق المدّ والجزر

تشير الممارسات إلى أن العلاقات المغربية الإيرانية تميزت بالمدّ تارة والجزر تارة أخرى على امتداد عدّة عقود، تبعا لتغيّر الظروف الإقليمية، والإشكالات التي واجهها الجانبان معا. فبعد الاستقرار الذي طبع العلاقات بين البلدين على عهد حكم الشّاه، بالنظر إلى تخندقهما معا ضمن فلك واشنطن في مواجهة المنظومة الشرقية وامتداداتها خلال فترة الحرب الباردة.

غير أن قيام “الثورة الإسلامية” أربك هذه العلاقات بل وأدّى إلى قطعها، حيث عبّر المغرب عن رفضه للنظام السياسي الإيراني “الجديد” الذي لم يخف توجّهاته المعادية إزاء محيطه العربي، واستضافته (المغرب) للشّاه المطاح به، وإبداء دعمه للعراق خلال حربه ضد إيران سنوات الثمانينيات، وإصدار علماء مغاربة لفتوى تكفّر الخميني في أعقاب حادث الهجوم المسلح على الحرم المكي في عام 1989. وإطلاق إيران من جهتها لموقف معاد للوحدة الترابية للمغرب.

استمرّ هذا التوتر لسنوات، قبل أن تشهد العلاقات بين الجانبين قدرا من الانتعاش مع نهاية هذه الحرب، ورحيل الخميني، وسحب اعتراف إيران بالبوليساريو في بداية التسعينيات. وفي عام 2009 سيطبع التوتر من جديد هذه العلاقات، مع توجه المغرب إلى قطع علاقاته بطهران بسبب التصريحات الخطيرة التي أطلقها أحد المسؤولين تجاه دولة البحرين باعتبارها “محافظة إيرانية”، وبفعل السلوكات الإيرانية التي اعتبرها المغرب حينها مسيئة للأمن الروحي للشعب المغربي، وماسة بـ “هويته الراسخة ووحدة عقيدته ومذهبه السني المالكي” عبر السعي لنشر التشيع بالبلاد. وقد اعتبرت القطيعة آنذاك بمثابة رسالة واضحة لبعض نشطاء التيار الشيعي بالمغرب وحتى داخل الجاليات المغربية المتواجدة في أوروبا ([1]).

وفي عام 2016 سيعود الدفء للعلاقات بين البلدين، مع تبادل السفراء في ظرفية إقليمية ودولية ملتهبة، كانت إيران خلالها في أمس الحاجة إلى كسر عزلتها والانفتاح على محيطها الدولي. وشكلت الخطوة المغربية المتخذة في هذا الصدد، بادرة إيجابية تحمل دلالات تحيل إلى الرغبة في إرساء علاقات متّزنة مبنية على الاحترام المتبادل، والامتناع عن التدخل في الشؤون الداخلية للدول، بما فيها الدول الصديقة للمغرب، كما هو الأمر بالنسبة للدول الخليجية التي تربطها علاقات متينة مع المغرب.

وفي مستهل شهر مايو من عام 2018 سيعلن المغرب من جديد عن قطع العلاقات مع إيران، وعلى عكس التبريرات السابقة، جاءت القطيعة في هذا المرة معلّلة بأسباب وعوامل مختلفة لا تخلو من خطورة، لكونها مسّت أحد الثوابت والمقومات التي يعتبرها المغرب محدّدا لسياساته الخارجية، ويتعلق الأمر بالمسّ بوحدته الترابية، حيث جاء في بلاغ وزارة الخارجية المغربية أن إيران وحليفها “حزب الله” قدّما الدعم لجبهة البوليساريو من خلال تسليح وتدريب مقاتليها “بوساطة دبلوماسي إيراني يعمل بسفارتها في الجزائر”.([2])

جاء القرار المغربي في أعقاب التحركات المستفزّة التي قامت بها البوليساريو في منطقة “الكركرات”، وسعيها لإحداث مراكز إدارية وعسكرية في المنطقة العازلة، وتنامي تهديداتها بالعودة إلى الخيار العسكري وحرب العصابات.

وفي الوقت الذي رفضت فيه الجزائر ربطها بالموضوع، واستدعت السفير المغربي بالبلاد للتعبير عن رفضها لما أسمته بمزاعم المغرب في هذا الصدد، أصرّت كل من إيران وحزب الله على نفي الطرح المغربي والضلوع في أي عمل معاد له، وربطه بالظرفية الراهنة وما يواكبها من ترتيبات إقليمية ودولية ترمي إلى الضغط على إيران، والتضييق على مشروعها النووي. بل ذهبت إيران إلى أن “الخطوة جاءت بتوجيه من بعض الدول المعادية لها، وهي تنمّ عن خطأ استراتيجي، لكونها تمّت بناء على معطيات ومزاعم مغلوطة”، كما اعتبرت أن نية إصدار القرار كانت قائمة، مشيرة إلى أنه (القرار) يفتقد للمصداقية والصّحة، لكونه يندرج في خلفياته ضمن “أجندات إقليمية”، دون تقديم توضيحات مقنعة بصدد القرائن الجادّة التي طرحها المغرب في هذا الشأن.

إن المبررات التي طرحها المغرب عند اتخاذ هذا القرار، تبرز أن الأمر يتعلق بخيار سيادي ينبثق عن تقييمه الخاص، بالنظر إلى خطورة السلوك الإيراني، وارتباطه بموضوع يعتبره خطّا أحمر. مع التأكيد على وجود عدة قرائن وأدلّة في هذا السياق. ولذلك وضع القرار المغربي إيران في حرج دولي كبير، في مرحلة تصاعدت فيها الانتقادات الموجهة لها بسبب أدوارها الملتبسة في عدد من الدول العربية كالعراق وسوريا واليمن.

حقيقة أن القرار المغربي جاء في ظرفية إقليمية ملتهبة، تزايد خلالها حجم الاستياء من السياسات الإيرانية تجاه محيطها الإقليمي، وتصاعد التهديدات الأمريكية بوقف العمل بالاتفاق النووي الذي أبرمته إيران مع القوى الدولية الكبرى السّت (الصين، وروسيا، وأمريكا، وفرنسا، وألمانيا وبريطانيا) منذ شهر يوليو من العام 2015، قبل الإعلان عن الانسحاب منه في شهر مايو من العام 2018. غير أن التوجّه المغربي يجد أساسه في اعتبارات داخلية بالأساس، تعكسها المبررات المشار إليها سابقا. حيث بادرت الكثير من الدول العربية وغيرها إلى تثمين الموقف المغربي، والتعبير عن رفض أي مساس أو تدخل يلحقان بسيادته، بسبل مباشرة أو غير مباشرة.

تطرح التحركات الإيرانية الأخيرة والمدعومة من قبل الجزائر كما عبّر عن ذلك المغرب، أسئلة عديدة بصدد خلفيات هذه التحركات ومراميها، وقد ذهب الكثير من الخبراء والملاحظين إلى أنها تعبير عن الانزعاج الذي أصبحت تطرحه التوجهات المغربية نحو إفريقيا بعد الانضمام إلى الاتحاد الإفريقي وما رافق ذلك من تمتين لعلاقاته مع دول القارة على مختلف الواجهات الاقتصادية والسياسية والروحية.

فيما اعتبره البعض الآخر تجسيدا للرغبة في اختراق الأمن الروحي للمجتمع المغربي، الذي لعب فيه المذهب المالكي على امتداد عدة قرون دورا أساسيا وهاما في تمتين وحدته والمحافظة على هويته واستقراره، في إطار من التنوع والوسطية والاعتدال والتعايش. ما ألهم الكثير من الدول في إطار الاستفادة من تجربته ضمن محيطه العربي والإفريقي والأوربي، سواء عبر تكوين الأئمة والمرشدين في المغرب أو من خلال المساهمة في ترسيخ قيم التسامح ومكافحة التطرف والإرهاب.

رغم تقليل الكثير من الباحثين من أهمية التّمركز الإيراني الديني والاقتصادي في القارة الإفريقية، بالنظر إلى التهافت الدولي الواسع على القارة، وبالنظر إلى متانة العلاقات المغربية – الإفريقية. فإن الأمر يستدعي قدرا من اليقظة داخل الأوساط العربية والمغاربية وبلورة شراكة استراتيجية شاملة، مبنية على تشبيك العلاقات والمصالح، سواء تعلق الأمر منها بدعم الاستثمار في هذه القارة أو إحداث مراكز ثقافية عربية وإسلامية في مختلف أقطارها أو عقد شراكات واتفاقيات وتبادل الخبرات والتجارب في مختلف المجالات والميادين، بما يعطي لهذه العلاقات طابعا من الأهمية والاستمرارية، ويضمن دعما إفريقيا فاعلاً لمختلف القضايا العربية ودعما عربيا لمختلف القضايا الإفريقية، ويسمح بإخراج هذه العلاقات من طابعها السطحي والمرحلي إلى علاقات استراتيجية كفيلة بتعزيز جهود التنمية لدى الطرفين وبتنسيق المواقف والسياسات إزاء مختلف القضايا التي تهم مصالح الجانبين.([3])

ثانيًا- المنطقة المغاربية وآليات القوة الناعمة الإيرانية

ظلّ هاجس تصدير الثورة “الإسلامية” نحو الخارج حاضرا لدى صناع القرار في إيران منذ ثورة الخميني عام 1979، وهو ما أكّدته سياساتها وسلوكياتها تجاه محيطها حينئذ، وهي التوجهات التي يعتبر الكثير من الخبراء والباحثين أنها ما زالت قائمة تعكسها التدخلات المتزايدة في الشؤون الداخلية لدول المنطقة، عبر إرباك الأوضاع السياسية والأمنية في العراق وسوريا واليمن، وتقديم الدعم لحزب الله في لبنان بذريعة مواجهة إسرائيل. فيما لم تخف الكثير من دول المنطقة خشيتها من التطورات التي عرفها الملف النووي الإيراني، بما يعمّق من الخلل القائم على مستوى معادلة التوازن الاستراتيجي المختلّة أصلا في المنطقة.

لم تتوقف أطماع إيران التوسعية على محيطها الإقليمي، بل سعت إلى التمدد في مناطق نائية استنادا إلى مقومات ناعمة يوظّف فيها الدين والمساعدات الإنسانية والاقتصادية والزخم الإعلامي الذي رافق أداء “المقاومة” اللبنانية المجسّدة في حزب الله، وهو ما عكسته تحركاتها في إفريقيا. استنادا إلى أن ضمان “ولاء الشيعة في العالم للمرجعية الفقهية الإيرانية يعني الارتباط بإيران سياسيا، إلى حدّ يحول دون تبنّي هؤلاء لأي طرح معارض للسياسات الإيرانية”.([4])

فبسبب “العزلة التي تعيشها في محيطها الإقليمي، تسعى طهران جاهدة إلى كسب تحالفات إقليمية جديدة تقوم على توجهات سياسية واقتصادية وثقافية وحتى دينية”، وهو ما ينطبق على دول المنطقة المغاربية التي تسعى إيران من خلالها إلى “التوسع والانفتاح نحو أسواق جديدة وخاصة نحو أفريقيا”.([5])

إن المنطقة المغاربية التي ظلّت بعيدة عن الصراعات الطائفية والدينية، أضحت اليوم محطّ استهداف من قبل قوى إقليمية ودولية، نظرا لموقعها الاستراتيجي، وبالنظر أيضا لحالة الترهّل التي يمرّ بها الاتحاد المغاربي، ودخول بعض أقطاره في أزمات سياسية وإشكالات أمنية سهّلت مأمورية استهدافها بمشاريع توسّعية، كان أحدها محاولة إثارة الصراع بين المذهبين السنّي الذي يطبع خصوصية المنطقة، والشّيعي الوارد من إيران. وقد زاد هذا الاهتمام مع تحولات الحراك العربي التي خيمت بظلالها القاتمة عددًا من دول المنطقة المغاربية، بفعل تلاحق الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأمنية في كل من ليبيا وتونس. فيما اعتبر آخرون أنها تحاول توظيف تحركها في المنطقة “رغبة في كسب بعض النقاط في ما يخص صراعها مع الغرب حول ملفها النووي”.([6])

تشير الكثير من الدراسات إلى أن إيران تعتمد في استراتيجيتها المتصلة بالتوغّل في عدد من الدول في إفريقيا، كما في أمريكا اللاتينية وغيرهما.، على بسط المذهب الشيعي، كآلية ناعمة لا تثير حفيظة هذه الدول. وتشير الوقائع إلى أن ثمة تركيزا إيرانيا في الوقت الراهن على المنطقة المغاربية، بالنظر لموقعها الاستراتيجي كبوابة نحو القارة الإفريقية، وهو ما تظهره محاولاتها المتكرّرة لنشر التشيّع في المنطقة، فبعد قطع المغرب لعلاقاته في عام 2009 محذرا من التحركات الإيرانية الواردة في هذا الصدد، أثارت التحركات الإيرانية داخل الجزائر استياء كبيرا في أوساط الكثير من النشطاء في السنوات الأخيرة،ـ كما في عدد من الأقطار المغاربية الأخرى.

في ليبيا، كان القذافي من السباقين إلى الاعتراف بثورة الخميني، وساهم العداء المشترك بينهما للولايات المتحدة الأمريكية حينئذ، في بلورة قدر من التناغم بصدد مواقفهما إزاء عدد من القضايا والملفات الإقليمية والدولية، كما لم تتردّد ليبيا حينها في قطع علاقاتها مع العراق ودعم إيران في حربها ضد هذا الأخير على عهد نظام صدام حسين، وهو ما استثمرته إيران في مباشرة التشيع داخل هذا البلد المغاربي، ما أثار مخاوف واستياء في أوساط عدد من الفاعلين الليبيين، وجعل النظام الليبي يتدخل لاحقا لوقف هذا التمدّد. قبل أن تتأثر هذه العلاقات مع تنامي التوجهات التوسعية للخميني في المنطقة. وتداعيات وتطورات اختفاء الإمام موسى الصدر في أواخر سبعينيات القرن الماضي، وما تلاه من تصاعد الاتهامات الموجهة إلى ليبيا في هذا الخصوص، ما أسهم في إرباك هذه العلاقات، غير أن ذلك لم يحل دون تطوير هذه العلاقات لاحقا ودعم ليبيا للطموحات الإيرانية في تطوير منظومتها النووية. مع تدهور العلاقات الليبية – السعودية منذ عام 2004 ودخول البلاد في متاهات من الصراع بعد رحيل نظام القذافي.

وفي هذا السياق دعا مفتي عام ليبيا، الصادق الغرياني، في شهر يونيو/حزيران من عام 2012، إلى إطلاق صيحات تحذير مما وصفه بمحاولة الإيرانيين التدخّل في الشأن الليبي الداخلي، عبر نشر التشيع في البلاد. وطالب خطباء المساجد بتحذير الليبيين من خطورة ما تقوم به إيران، من نشر الفتنة بين أبنائه، مشددًا على ضرورة تصدي أولياء الأمر والأسر الليبية للألاعيب الإيرانية.([7])

أما بالنسبة لتونس، التي ظلّت تواجه التيارات الإسلامية بقدر كبير من الصرامة، فقد حرصت على بلورة علاقات يطبعها الحذر عموما مع إيران على عهد الرئيس بورقيبة المعروف بانفتاحه، الذي ازدادت حدّة مخاوفه من الأمر في أعقاب ثورة الخميني. قبل أن يتوجه إلى قطع العلاقات بها في بدايات الثمانينيات من القرن الماضي، بسبب ما اعتبره دعما لهذه التيارات في تونس، وهي (التيارات) التي لم تخف نفسها إعجابها بالنظام الإيراني وبرموزه.

وفي بداية التسعينيات وتحت وطأة التحولات المتسارعة التي شهدها العالم عاد الدفء للعلاقات الدبلوماسية بين البلدين من جديد، قبل أن يتطور الأمر بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة في أعقاب “ثورة الياسمين” على عدة مستويات. مع تلاحق الإشكالات السياسية والأمنية والاجتماعية، وبخاصة على مستوى قطاع السياحة الذي تأثر بصورة سلبية ملحوظة في خضم التحولات المتسارعة التي شهدتها البلاد.

ويعتبر البعض أن تونس ليست قوة عظمى. يمكن أن يعتمد عليها الإيرانيون ويستفيدوا منها في كسر ما تبقى من الحصار المضروب عليهم، ولكن موقعها في الشمال الإفريقي بالقرب من ليبيا والجزائر قد يعني الكثير لهم. وبالمقابل لا يتوقع التونسيون أن يكون الإيرانيون هم الحل الجذري لكل مشاكلهم وأزماتهم الاقتصادية والمالية والأمنية الحادة.([8])

ظلت العلاقات الموريتانية- الإيرانية مستقرّة حتى سنوات الثمانينيات، عندما انضمت موريتانيا إلى الدول الداعمة للعراق على عهد الرئيس السابق معاوية ولد الطايع، ومع رحيله ستنتعش العلاقات بين طهران ونواكشوط بصورة ملحوظة، وصلت إلى حد الإعلان عن دعم الرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز للموقف الإيراني بصدد برنامجه النووي عام 2010.

ومع التطورات الأخيرة التي شهدتها العلاقات العربية – الإيرانية، سعت موريتانيا إلى الإعلان بأن علاقاتها المستمرة مع إيران لن تكون على حساب دول مجلس التعاون الخليجي ([9]).

اتسمت العلاقات الإيرانية – الجزائرية بقدر من التطور على المستوى التجاري والاقتصادي، والسياسي، في أعقاب الثورة الإيرانية، حيث قامت الجزائر بوساطات ومساعٍ حميدة لحلّ بعض الأزمات التي كانت إيران طرفًا فيها، كما هو الحال بالنسبة لملفّ النزاع الحدودي مع العراق حول شط العرب في منتصف السبعينيات من القرن الماضي أو ملف الرهائن من الدبلوماسيين الأمريكيين الذين احتجزوا في إيران خلال فترات الثورة في بداية الثمانينيات. وفي موقف لا يخلو من غرابة، لم تنضم الجزائر إلى قائمة الدول العربية المؤيدة للعراق في حربها مع إيران في سنوات الثمانينيات من القرن الماضي.

غير أن هذه العلاقات ستتوقف عام 1993 بعد اتهام إيران بدعم الإسلاميين (حركة الإنقاذ) في بداية التسعينيات من القرن الماضي التي شهدت خلالها الجزائر أحداثا قاسية من العنف بعد إلغاء الانتخابات المحلية، قبل أن تعود الأمور إلى سابق عهدها عام 2003، بعد وصول الرئيس عبد العزيز بوتفليقة إلى السلطة، لتنتعش هذه العلاقات من جديد ويطال التعاون والشراكة عدة مجالات وقطاعات اقتصادية وتجارية وثقافية وتعليمية إضافة إلى قطاع الطاقة.

تضاربت المواقف بشأن هذا التطور، بين من اعتبر أن “الجزائر وإيران ينظران إلى بعضهما البعض باعتبار كل طرف يمثل للطرف الآخر رصيد قوة إضافية في محيطه الإقليمي المباشر” ([10])، وبين من رفض هذا التوجه، وهو ما عبّرت عنه الكثير من النخب اليسارية والفرنكوفونية، بعدما تزايدت التقارير التي تتحدث عن تزايد نسب التشيّع في عدد من المناطق الجزائرية، مع تصاعد حدة الحملات الترويجية للمذهب الشيعي بالبلاد.

وفي هذا السياق، عبّر الكثير من رواد شبكات التواصل الاجتماعي أيضًا عن قلقهم من انتشار “التشيع” بالبلاد، ووصل بهم الأمر إلى حدّ المطالبة بترحيل الملحق الثقافي الإيراني السيد “أمير موسوي” نحو بلاده، بسبب ما اعتبروه تحريضًا على الطائفية بالجزائر. قبل الإعلان عن رفض زيارة روحاني للبلاد، وهو ما أدى بالفعل إلى إلغاء هذه الزيارة حينئذ.

وقد أشار البعض إلى أن التحذير من خطر التشيع في الجزائر، لم يعد حبيس الأوساط غير الرسمية من شخصيات سلفية، وكذا بعض الصحف الوطنية، بل انتقل إلى اعتراف واضح من شخصيات سامية في الحكومة الجزائرية، والتي عبّرت بوضوح عن وجود خطر تشيع حقيقي يهدّد المجتمع الجزائري.. ويضيف بأن الخطر قد يتعدّى مسألة التشويش على الهوية إلى إمكانية وجود كيانات تشبه حزب الله اللبناني.([11])

وبغض النظر عن هذه المواقف، يمكن القول إن التقارب الإيراني – الجزائري، ينطوي على حسابات ضيقة وآنية، يبحث من خلالها الطرفان عن تحالفات هشّة بحكم البعد الجغرافي والافتقاد للحس الشعبي لهذا التوجه، فإيران تسعى من خلال ذلك إلى كسر العزلة الدولية والإقليمية التي ظلت تعانيها منذ سنوات بسبب ملفها النووي وتحركاتها الملتبسة في منطقة الشرق الأوسط، فيما ترسل الجزائر من خلال ذلك إشارة احتجاج “لفرنسا والولايات المتحدة على ما تعتبره انحيازا من قبلهما لجهة المغرب” ([12]).

خلاصة:

يعتقد البعض ([13]) أن الدول المغاربية لا تعارض، اضطلاع “إيران بدور إقليمي ومحوري ينسجم مع ثقلها السياسي والاستراتيجي كدولة كبيرة تتمتع بخاصية الجوار مع الوطن العربي”، ويضيف بأن “الخلافات التي نشبت في فترات متعددة بين الدول المغاربية وإيران كانت تنبع دائمًا من طبيعة موقفها من قضايا ونزاعات المنطقة ومن أسلوب مقاربتها وتعاطيها مع الشأن الداخلي لدول المنطقة وليس من منطلق معارضة صريحة لدورها الإقليمي”.

أثارت التحركات الإيرانية تحفظات في أوساط عدد من الفعاليات السياسية والمدنية، وفي أوساط النخب المثقفة المغاربية إزاء أي تطوير للعلاقات الثقافية من إيران بسبب التخوفات المثارة بصدد التمدد الشيعي في المنطقة..

إن السبيل الاستراتيجي لمواجهة كل مظاهر التهافت والتحرش الإقليمي والدولي بالمنطقة المغاربية، وتحصينها من أية تدخلات هدامة بغض النظر عن مصدرها وخلفياتها وأساليبها، يبدأ من طي الخلافات البينية وتعزيز البناء المغاربي وتشبيك المصالح والعلاقات الاقتصادية بين دول المنطقة التي تحتضن إمكانيات بشرية وطبيعية وتاريخية تسمح لها ببناء تكتل واعد في عالم مليء بالتحديات والمخاطر.

كما أن تزايد التهافت الإقليمي والدولي على المنطقة العربية برمتها، يفرض رصّ الصفوف، وتعزيز الانتقال نحو الديمقراطية عبر إصلاحات جدّية تدعم بناء دولة تحتمل جميع مكونات المجتمع، وبلورة تكتلات إقليمية قوية وفي مستوى التحديات المطروحة داخليًا وخارجيًا.


([1]) لمزيد من التفاصيل في هذا الموضوع؛ يراجع؛ مراقبون مغاربة: قرار قطع العلاقات مع إيران تأثر بـ”المد الشيعي”؛ الموقع الإلكتروني للعربية؛ تقرير من إعداد حسن الأشرف بتاريخ (9 مارس 2009)؛ على الرابط:  www.alarabiya.net/articles/2009/03/09/68080.html.

([2]) انظر في هذا الصدد، إدريس لكريني: المغرب وإيران .. تجدد القطيعة، صحيفة الخليج، الإمارات، بتاريخ 11 مايو 2018.

([3]) لمزيد من التفاصيل في هذا الصدد، يراجع، إدريس لكريني: العلاقات العربية- الإفريقية والفرص الضائعة، مجلة شؤون عربية، الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، مصر، العدد 154 لصيف 2013.

([4]) يحيي بوزيدي، ضمن تصريح لعزيز الحور: أطماع إيران في المنطقة المغاربية.. حقيقة أم شماعة؟ الموقع الإلكتروني لأصوات مغاربية، ليوم 03 مايو 2018، على الرابط:

https://www.maghrebvoices.com/a/434769.html.

([5]) مينة فاضل: إيران في دول المغرب العربي: الطريق شبه سالكة، الموقع الإلكتروني للبيت الخليجي للدراسات والنشر، بتاريخ 14 مارس 2016، على الرابط:    https://gulfhouse.org/posts/1416/.

([6]) حسن الزاوي: المغرب العربي وإيران .. تحدّيات التاريخ وتقلبات الجغرافيا السياسية، الموقع الإلكتروني للمركز العربي ودراسة السياسات، قطر، بتاريخ 16 يناير 2011، على الرابط:

https://www.dohainstitute.org/ar/ResearchAndStudies/Pages/art138.aspx.

([7]) هشام الشلوي: تساؤلات حول دعم إيران للحوار الليبي، صحيفة العربي الجديد، لندن، العدد 36 السنة الأولى بتاريخ 07 أكتوبر 2014.

([8]) نزار بولحية: العلاقات الغامضة بين تونس وإيران، صحيفة القدس العربي، لندن، العدد 8806 بتاريخ 26 أبريل 2017.

([9]) موريتانيا: علاقاتنا مع إيران ليس على حساب دول الخليج، موقع الأخبار، موريتانيا، بتاريخ 23 يونيو 2017، على الرابط:       http://www.alakhbar.info/?q=node/4193

([10]) حسن الزاوي: المغرب العربي وإيران.. تحدّيات التاريخ وتقلبات الجغرافيا السياسية، المرجع السابق.

([11]) بلقاسم القطعة: مسألة التشيع في الجزائر (نظرة عامة)، مركز برق للدراسات والأبحاث، بتاريخ 30 سبتمبر 2016، على الرابطين الإلكترونيين:

http://barq-rs.com/barq/wp-content/uploads/2016/09/مسألة-التشيع-في-الجزائر.pdf

وكذلك:      https://barq-rs.com/مسألة-التشيع-في-الجزائر-نظرة-عامة/

([12]) راشد الغنوشي: علاقات مغاربية إيرانية مضطربة، الموقع الإلكتروني للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بتاريخ 17 يناير 2011، على الرابط:

https://www.dohainstitute.org/ar/ResearchAndStudies/Pages/art1119.aspx.

([13]) حسن الزاوي: المغرب العربي وإيران.. تحدّيات التاريخ وتقلبات الجغرافيا السياسية، المرجع السابق.

اظهر المزيد

د. إدريس ليكريني

باحث أكاديمي - مراكش

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى