2021العدد 185ملف عربي

الدور التركي وجهود التسوية في الأزمة اللّيبية

تعتبر ليبيا، كما سوريا واليمن واحدة من الدول الأكثر تضررًا بموجات الاحتجاج والحركات الشعبية التي شهدها العالم العربي مطلع العام 2011 م وأُطلق عليها اسم (الربيع العربي).

فالتطورات في هذه الدول تحولت من حركة سياسية معارضة خجولة في البداية إلى وقود لمختلف أنواع التدخلات الخارجية(الإقليمية والدولية)، وانتهى بها المقام – بخلاف الدول الأخرى – إلى ضرب الوحدة الجغرافية لهذه الدول واستنزاف دموي لأبنائها ولثرواتها. فسوريا مثلًا انقسمت إلى ثلاث مناطق منفصلة:الأولى تابعة للدولة السورية ، والثانية تحت الاحتلال التركي المباشر، والثالثة تحت سيطرة قوات الحماية الكردية مع احتلال مباشر من قبل القوات الأمريكية. واليمن تجزَّأت إلى ثلاث مناطق تتوزعها قوات الحوثيين المدعومة من إيران، والقوى التابعة لكلٍ من السعودية والإمارات. أمَّا في ليبيا فقد انقسمت البلاد إلى منطقتين جغرافيتين: الأولى غربية تسيطر عليها قوات حكومة (فايز السراج)، والثانية شرقية تسيطر عليها قوات اللواء (خليفة حفتر) مدعومة من البرلمان الليبي الذي مقره في طبرق، فضلًا عن حيثية كيانية ما في جنوبها. وفي الدول الثلاث لا تزال رحى الحرب  تدور بأقصى طاقتها ولا تزال ثرواتها تُنهب من قبل قوى خارجية – ولا سيما في سوريا وليبيا.

لكنَّ اللافت والمثير أنَّ قوة إقليمية تكاد تكون قاسمًا مشتركًا بين الوضعين (السوري والليبي) تحديدًا وهي تركيا. فتركيا التي اتبعت خلال فترة الحرب الباردة موقف الحياد وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية، وكانت السَّبَّاقة مع بدايات موجة الحركات في العالم العربي؛ لرفع راية التدخل في الشأن الداخلي في سوريا وليبيا ودعم المجموعات المعارضة تسليحًا وتدريبًا وتمويلًا ومن ثمَّ الانتقال إلى مرحلة التدخل العسكري المباشر.

وما كان لسياسات التدخل التركية لتحصل لولا عامل أساسي وهو وجود سلطة جديدة في تركيا منذ العام 2002 م تحمل إيديولوجيا دينية – قومية هي حزب العدالة والتنمية المرتبط عضويًا بجماعات الإخوان المسلمين في الدول العربية.

وقد كان المظهر الأول لتجلّيات هذه الإيديولوجيا موقف الرئيس التركي (رجب طيب إردوغان) من حكم الرئيس المصري (حسني مبارك) مع بداية اندلاع ثورة ( 25 يناير 2011 م)، وانحيازه إلى مبدأ إسقاط مبارك وفتح الطريق أمام اعتلاء تنظيم الإخوان المسلمين السلطة، وهو الذي حصل بالفعل مع خلع (مبارك) ومن ثَمَّ وصول (محمد مرسي) إلى الرئاسة عام2012 م بدعمٍ واضحٍ وانخراط مباشر لحزب العدالة والتنمية في الحملات الإعلانية والتكتيكات الاجتماعية للإخوان المسلمين؛ للوصول إلى السلطة. لكن التطورات في مصر عاندت مخططات الرئيس التركي فكانت ثورة ( 30 يونيو 2014 م) والإطاحة بحكم مرسي والإخوان ووصول (عبدالفتاح السيسي) إلى الرئاسة.

وفي سوريا سعت تركيا إلى أن يكون تنظيم الإخوان المسلمين الرافعة لحركات الاحتجاجات وإذ فشلت في ذلك كان الاعتماد على تنظيمات متشددة ومتطرفة إرهابية أنشأتها الولايات المتحدة الأمريكية ومعها تركيا مثل تنظيم (داعش).

ليبيا

وفي ليبيا اتبعت تركيا التكتيك نفسه، فمع بداية الأحداث في (شباط/فبراير 2011 م) أعلنت ليبيا دعمها للمجلس الوطني اللّيبي بزعامة (مصطفى عبدالجليل) وتصرفت هناك كما لو أنَّه رجُلها الأول. وفي وقت كانت أنقرة تعترض على قرار حلف شمال الأطلسي بالتدخل العسكري كانت هي تنخرط بشكلٍ واسعٍ في دعم المعارضة للتفرد في الهيمنة على السلطة الجديدة. لكنَّ تَدخُّل حلف شمال الأطلسي أربك الحسابات التركية وأدخل قوى خارجية مباشرة إلى الساحة اللّيبية مثل: (فرنسا وبريطانيا وإيطاليا) إضافة إلى الولايات المتحدة الأمريكية.

لكنَّ التطلع التركي إلى ليبيا ومحاولة الإمساك بمقدراتها وقرارها السياسي لم يتوقف وإن عرف بعضًا من الإنكفاء في بعض الفترات.

ومن هنا كان هناك عاملان يفرضان تأثيرهما على المشهد السياسي والعسكري في ليبيا:

  1. انقسام ليبيا بين جبهتي حكومة الوفاق الوطني بزعامة (فايز السراج) والجيش الوطني الليبي بقيادة اللواء (خليفة حفتر) مدعومًا من البرلمان الليبي في طبرق.
  2. التوتر في شرق المتوسط واشتعال حرب الغاز والنفوذ بين تركيا وخصومها في منتدى غاز شرق المتوسط.

الانقسام الداخلي:-

بالنسبة لـ(لإصطفاف الداخلي) أنهى اتفاق (الصخيرات) في المغرب بتاريخ ( 17 كانون الأول/ ديسمبر 2015 م) الصراع بين الأطراف السياسية اللّيبية استمر لأكثر من عام، وقد تَضمَّن الاتفاق تشكيل حكومة وفاق وطني ، والإبقاء على مجلس النواب الذي كان انتُخب قبل ذلك بعام ومقره طبرق. ووُقّع الاتفاق بحضور ممثل الأمم المتحدة في ليبيا (مارتن كوبلر) ليتحول إلى وثيقة سياسية معترف بها من المجتمع الدولي، ومن رحم اتفاق الصخيرات ولدت حكومة الوفاق الوطني اللّيبي برئاسة (فايز السراج). لكنَّ الخلاف على تشكيل المجلس الأعلى للدولة بين (السراج وبرلمان طبرق) أفضى إلى تفويض اللواء (حفتر) قيادة المرحلة اللاحقة بالتعاون مع رئيس البرلمان (عقيلة صالح). وفي (نيسان /إبريل2020 م) اعتبر (حفتر) أنَّ اتفاق (الصخيرات) قد مات ولم يَعُدْ موجودًا.

وعَرف العام 2020 م اشتباكات متقطعة ومتفرقة وعنيفة بين (القوات التابعة لحكومة السراج  وبين قوات حفتر) وكادت قوات الأخير أن تطبق على مدينة طرابلس لولا التدخل اللاحق للقوات التركية وتَغيير مسار العمليات العسكرية.

ليبيا والصراع على الطاقة في شرق المتوسط:-

لكنَّ عاملًا آخر كان مُحفزًا لتركيا لكي تتحرك تجاه ليبيا بطريقة مغايرة، وهو الصراع على الطاقة في شرق المتوسط، فحتى مطلع العام 2019 م كانت كل دولة من دول شرق المتوسط تنشغل بمقدراتها بنفسها، لكنَّ تأسيس منتدى غاز شرق المتوسط في القاهرة كان الشرارة التي أستنفرت تركيا واستفزتها ودفعتها لاتخاذ خطوات أقل ما فيها أنَّها مصيرية.

فمنتدى الغاز المذكور ضم كلًا من:(مصروإسرائيل واليونان وقبرص اليونانية وإيطاليا والسلطة الفلسطينية في رام الله والأردن)، وهدف المنتدى التعاون في استخراج النفط والغاز الطبيعي وتوزيعه إلى العالم عبر خط أنابيب يصل من قبرص إلى إيطاليا بطول حوالي ألفي كيلومتر في عمق البحر وبكلفة تقارب ثمانية مليار دولار، وبذلك كان يستثني المنتدى من عضويته ثلاث دول شرق متوسطية هي(لبنان وسوريا وتركيا). فاستثناء لبنان وسوريا كان طبيعيًا لأنَّهما ترفضان في الأساس الانضمام إلى منتدى تكون إسرائيل عضوًا فيه، أمَّا استثناء تركيا وحتى عدم التباحث معها في إمكانية انضمامها من عدمه فكان متعمدًا في إطار الصراع بين (مصر واليونان وقبرص اليونانية ونسبيًّا إسرائيل وبين تركيا)، فالصراع السياسي أدى إلى استبعاد تركيا وهو ما فسرته أنقرة بأنَّه محاولة لمنعها من حق الاستفادة من موارد الطاقة في شرق المتوسط أو حتى أن يكون لها دور في نقل هذه الموارد عبر أراضيها إلى أوروبا، وهذا في المحصلة يعني محاولة لإضعاف الدور التركي في هذا المجال وفي تطورات شرق المتوسط، وذهبت تركيا إلى أبعد من ذلك متهمة دول المنتدى بالتعدي على حقوقها السيادية في المناطق الاقتصادية الخالصة البحرية، كما في التعدي على الحقوق نفسها لقبرص التركية، وشرعت تركيا منذ ذلك الوقت في خطط للتصدي لمشاريع المنتدى ومعه فرنسا التي وقفت مع دول المنتدى ومع قوات (خليفة حفتر) في ليبيا لمواجهة النفوذ التركي المتصاعد.

وقد واجهت تركيا تحركات خصومها باعتماد (القوة الخشنة) أولًا بمنعهم من التنقيب عن النفط والغاز الطبيعي في المناطق البحرية التي تعتبرها تركيا تابعة لها فيما تعتبرها اليونان وقبرص اليونانية بأنَّها وفقًا لقانون البحار لعام 1982 م تابعة لهما لا لتركيا، ودخلت الأطراف في توترات عسكرية بلغت ذروتها في صيف العام 2020 م وهدّد الاتحاد الأوروبي أنقرة بفرض عقوبات عليها أكثر من مرة وكان يؤجل ذلك من قمة إلى أخرى.

منذ بدء أحداث الشارع عام 2011 م، كانت العين التركية تعمل على إحياء نظرية العثمانية الجديدة وهي السيطرة على المناطق التي كانت تابعة للدولة العثمانية، لكنَّ تركيا كانت تمضي بعد ظهور التوترات في شرق المتوسط إلى مرحلة جديدة من سياستها الخارجية تتعلق بشرق المتوسط تحت شعار حماية حدود (الوطن الأزرق)، وكما كان هناك (ميثاق ملّي برّي) في شمالي سوريا والعراق بات الآن يوجد (ميثاق ملّي بحري) جوهرهُ منع الدول المتشاطئة مع تركيا في شرق المتوسط من تطبيق اتفاقية (قانون البحار) لعام 1982 م، واعتبار الاتفاقية خطًّا أحمر لا يمكن تجاوزه، وعلى هذا الأساس كانت تركيا تبادر إلى خطوة في غاية الأهمية تهدف إلى إفشال مخططات منتدى شرق المتوسط من جهة، وامتلاك ورقة قوية في وجه خصومها الإقليميين وفي مقدمتهم (مصر والسعودية والإمارات العربية المتحدة) من جهة أخرى، ألا وهي توقيع اتفاقيتي (ترسيم الحدود البحرية والتعاون العسكري والأمني ) مع حكومة (فايز السراج) في طرابلس الغرب في ( 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2019 م) خلال لقاء (أردوغان والسراج) في إسطنبول.

أفضى ترسيم الحدود البحرية – من منطقة ساحل إيطاليا إلى ساحل طبرق – إلى التقاء المنطقتين الاقتصاديتين لكلا البلدين في نقطة بحيث تُقَسّم البحر المتوسط إلى منطقتين (شرقية وغربية)، وهذه الاتفاقية تعني ضرب المنطقة الاقتصادية لليونان مع قبرص اليونانية، وتتذرع تركيا بكونها غير موقّعة وبالتالي غير ملزمة بالخضوع لاتفاقية (البحار) لعام 1982 م التي تمنح أي جزيرة مهما كانت صغيرة تابعة لليونان الحق في ترسيم حدود بحرية بعمق (200) ميل وهو ما تعترض عليه تركيا وترفض الاعتراف به نظرًا لأنَّ عددًا كبيرًا من الجزر اليونانية – وتُعَد بالآلاف – تقع على مقربة من السواحل التركية بما يحبس تركيا في شريط ساحلي ضيق.

لكن ما أغاظ تركيا أنَّ مصر واليونان قد بادرتا- بعد تسعة أشهر- في (آب/أغسطس 2020 م) إلى خطوة مهمة للغاية وغير متوقعة وهي ترسيم الحدود البحرية بينهما بما يخترق المنطقة الاقتصادية التركية التي تم ترسيمها في الاتفاق مع ليبيا، والتي اعتبرت بمثابة إفراغ اتفاقية (تركيا، ليبيا) من مضمونها ومن تأثيرها وهو ما أربك حسابات تركيا وتطلعاتها من وراء هذه الاتفاقية في مواجهة خصومها ومنهم مصر واليونان.

أمَّا الاتفاقية الثانية فلا تقل أهمية وخطورة على خصوم تركيا عن اتفاقية (الترسيم البحري)، فالتعاون الأمني والعسكري كان مجرد جسر للتدخل العسكري التركي الواسع النطاق في ليبيا. لم تكن تركيا تحتاج إلى مثل هذه الاتفاقية للتدخل في ليبيا فهي أرسلت خبراء عسكريين، كما أرسلت عددًا كبيرًا من مرتزقة إدلب السوريين إلى ليبيا قبل سنوات من توقيع الاتفاقية؛ ليحاربوا إلى جانب  قوات (السراج)، وقد انكشف أمر هذا الوجود العسكري المباشر مع نشر إحدى الصحف التركية خبرًا عن تشييع عناصر في الاستخبارات التركية سقطوا في ليبيا وأدت بصاحب الصحيفة إلى السجن؛ لكشفه أسرار أمن قومي.

لكنَّ اتفاقية ( 27 تشرين الثاني/نوفمبر)، وضعت أساسًا قانونيًّا للتدخل التركي باعتبار أنَّ حكومة (فايز السراج) معترف بها من قبل الأمم المتحدة على الرغم من أنَّها لا تحظى بموافقة البرلمان اللّيبي الشرعي في طبرق.

فتحت (اتفاقية إسطنبول) الباب واسعًا أمام إرسال قوات تركية علانية إلى طرابلس الغرب خصوصًا بعد موافقة البرلمان التركي على الاتفاقية في( 21 كانون الأول/ديسمبر) .أمَّا من الجانب اللّيبي فلم توقّع الاتفاقية من جانب أي مؤسسة رسمية واعتبرت حكومة (السراج) أنَّ الاتفاقية سارية تلقائيًّا.

وبعدما كانت مدينة طرابلس تقع لأكثر من سنة تحت حصار قوات (حفتر)، نجحت قوات حكومة (السراج) في ( نيسان /إبريل 2019 م) في فك الحصار عن طرابلس وإجبار قوات (حفتر) على التراجع وقد استمرت قوات السراج في التقدم وصولًا إلى خط (سرت و الجفرة).

وكان العامل الحاسم لنجاح (السراج) في التقدم وإعادة السيطرة على كامل القسم الغربي من ليبيا، هو الدعم العسكري التركي المباشر بالجنود والدبّابات والطائرات الحربية والمسيّرة وبدون طيار، إضافة إلى وجود الآلاف من المرتزقة السوريين الذين جاءت بهم تركيا إلى ليبيا من محافظة إدلب وغيرها من المناطق السورية ،في المقابل فشلت القوى التي تقف خلف (حفتر) في أن توفر له الدعم المؤثر.

وفيما كانت قوات (السراج) تتحضر لهجوم للسيطرة على مدينتي (سرت والجفرة) والتقدم للسيطرة على الهلال النفطي كانت المفاجأة في موقف عالِ النبرة من جانب الرئيس المصري (عبدالفتاح السيسي) الذي حذّر في ( 20 حزيران/يونيو) القوات التركية من التقدم إلى (سرت و الجفرة)، واعتبر السيسي خط (سرت و الجفرة) “خطًا أحمر بالنسبة لمصر وأمنها القومي”، ودعا إلى سحب القوات الأجنبية من ليبيا وكان يقصد بذلك القوات التركية ومرتزقتها.

وبالفعل توقفت القوات الموالية (لـلسراج) منذ ذلك التاريخ ولم تحدث اشتباكات جدية على الرغم من ظهور أنباء من وقت لآخر عن استعدادات تركية لمعاودة التقدم نحو خط (سرت و الجفرة).

جهود المصالحة:-

خلال الاشتباكات لم تتوقف محاولات الوصول إلى حل سياسي للأزمة الليبية ومنها انعقاد مؤتمر في برلين بدعوة من المستشارة الألمانية (انجيلا ميركل) في ( 19 كانون الثاني/يناير 2020 م)، وحضره عدد كبير من رؤساء الدول والحكومات في أوروبا وروسيا وتركيا، كذلك أصدر مجلس الأمن الدولي القرار رقم (2510) لوقف النار وبدء محادثات بين الأطراف المتنازعة، ومنع تصدير السلاح إلى ليبيا، لكنَّ هذه المؤتمرات والقرارات لم ينتج عنها أي تقدم وأعقبها في ربيع العام نفسه تحوّلات حاسمة في الميدان العسكري.

وفي ( 23 تشرين الأول/أكتوبر 2020 م) اجتمعت في جنيف الأطراف المتنازعة بعد لقاءات متعددة في بوزنيقة بالمغرب والغردقة والقاهرة في مصر وفي ليبيا ، وأعلنت وقفًا لإطلاق النار وإخراج المقاتلين الأجانب من ليبيا، والأمر الثاني والأهم إعلان أنَّ كل اتفاقيات التدريب والاتفاقيات العسكرية الموقعة مع الخارج يتم وقف العمل بها إلى أن تتألف حكومة جديدة وأن تغادر فرق التدريب فورًا إلى بلادها، وقد وقّع الاتفاق ممثلون عن حكومة (السراج) وعن البرلمان اللّيبي وأودعت الاتفاقية الأمم المتحدة.

وقد اعتبرت الاتفاقية فشلًا كبيرًا لتركيا؛ لأنَّها أولًا هي الوحيدة التي لم تكن ضمن المفاوضات والمشاورات التي مهَّدت لوقف النار في وقتٍ شارك الجميع في هذه الاستشارات مثل: (الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي والاتحاد الأوروبي ومجلس التعاون الخليجي)، كما أنَّ تعليق اتفاقيات التدريب كان يقصد به تحديدًا (الاتفاقية العسكرية) التي وقَّعتها حكومة (السراج) مع تركيا، كما أنَّ مغادرة فرق التدريب كانت تُعني انسحاب القوات التركية من ليبيا، كما كانت الدول الأوروبية توجه رسالة تحذير إلى  تركيا من خلال تفتيش سفينة تركية قبل وقف النار بأيام( في 18 تشرين الأول/اكتوبر) في إطار (عملية إيريني) التابعة للإتحاد الأوروبي لمنع إدخال السلاح إلى ليبيا.

وبالفعل اعتبر (حفتر) أنَّ الاتفاقية تقضي بسحب القوات التركية من ليبيا أينما وجدت، كذلك أحدثت الاتفاقية انقسامًا داخل حكومة الوفاق الوطني برئاسة (السراج).

لكنَّ تحوّلًا مُهمًّا حدث مع منتصف (أيلول/سبتمبر2020 م) بإعلان (فايز السراج) أنَّه لن يبقى رئيسًا للحكومة ويريد اعتزال العمل السياسي حتى نهاية (تشرين الأول/أكتوبر)، وقد فاجأ ذلك حليفه وداعمه الأول (رجب طيب أردوغان) الذي على ما يبدو- وفي ضوء اتفاق وقف النار المفاجيء- مارس ضغوطًا على (السراج) لكي يتراجع عن هذا الموقف، وبالفعل أَعلن (السراج) في نهاية (تشرين الأول/أكتوبر) أنَّه تراجع عن استقالته.

كذلك فقد فوجئت تركيا بتقدم الدور المصري في العملية السياسية اللّيبية عندما زار رئيس الاستخبارات المصرية (عباس كامل) في( 19 كانون الأول/ديسمبر 2021 م)  بني غازي واجتمع باللواء (خليفة حفتر) وبرئيس البرلمان اللّيبي (عقيلة صالح)، وبعدها بأيام في( 27 كانون الأول /ديسمبر) توجه وفد مصري ضم ممثلين عن وزارتي الخارجية والدفاع والاستخبارات إلى طرابلس، واجتُمع مع رجل تركيا الأول في ليبيا وزير داخلية حكومة السراج(فتحي باش آغا)،الي اعتُبر اختراقًا مصريًا للمنظومة السياسية التي تؤيد تركيا في طرابلس الغرب.

 وبين هاتين الزيارتين اجتمعت الأطراف اللّيبية في تونس للتحادث حول العملية السياسية، واتفقت على إجراء انتخابات نيابية في ( 24 كانون الأول/ديسمبر2021 م) الذي يصادف الذكرى السبعين لاستقلال ليبيا، كما اتفق على تصدير النفط اللّيبي بحُريَّة إلى الخارج ومنع دخول السلاح إلى البلاد.

وفي ظل تجدد تهديدات اللواء (حفتر) ضد القوات التركية وفي ضوء الاهتزازات السياسية التي بدأت تشعر بها تركيا ، قام وزير الدفاع التركي (خلوصي آقار) على رأس وفد رفيع المستوى ضم رئيس الأركان (ياشار غولر) بزيارة طرابلس الغرب في ( 27 كانون الأول/ديسمبر2020 م) بهدف رص صفوف الجبهة الموالية لتركيا، وحذّر (آقار) (حفتر) من أنَّ أي تعرض للقوات التركية سيجعل قوات (حفتر) هدفًا للقوات التركية، ويرى محللون أتراك أنَّ تهديدات (حفتر) لتركيا ليست بجديدة، ولكنه أراد أن يُظهر تركيا أمام العالم أنَّها عنصر معرقل لجهود التسوية في ليبيا.

ودخلت الأزمة في ليبيا مرحلة جديدة في مطلع ( شباط/فبراير2021 م) مع بدء اجتماعات مثّلت مختلف الأطراف اللّيبية في جنيف ، وانتهت في الخامس منه إلى انتخاب (محمد المنفي) رئيسًا للمجلس الرئاسي و(عبدالحميد دبيبة) رئيس للحكومة بـ (39( من أصل )73( صوتًا على أن يتم تشكيل الحكومة خلال (21) يومًا ونيل الثقة خلال شهر آخر وتكون مهمتها قيادة البلاد والتحضير للانتخابات النيابية المقررة في (24 كانون الأول/ديسمبر2021 م) ،والمفاجأة في هذه الانتخابات أنَّ قائمة واحدة جمعت كلًا من رئيس البرلمان الموالي لمصر (عقيلة صالح) و(فتحي باشا آغا) وزير داخلية حكومة (السراج) الموالي لـتركيا، وقد خسرت السّباق بنيلها (34( صوتًا، وعلى الرغم من ذلك فإنَّ انتخاب هيئات جديدة لا يلغي الدور القوي لـ (فتحي باشا آغا) في الغرب اللّيبي و(عقيلة صالح) ومن خلفه بل معه اللواء (خليفة حفتر) في شرق البلاد. إذ ستبقى توازنات القوى مرهونة بما هي عليه في أرض الواقع وليس في صناديق الاقتراع في جنيف، ورغم ترحيب تركيا بما جرى في جنيف فإنَّ مسار العملية السياسية في ليبيا يواجه تحدّيات كثيرة وتصارع القوى الإقليمية والدولية على النفوذ هناك، وقد كان موقف وزير الدفاع التركي (خلوصي آقار) – في ظل انعقاد مؤتمر جنيف – واضحًا لجهة أنَّ تركيا لن توافق على ما يتعارض مع مصالحها بقوله في حديث لصحيفة (حريَّات) التركية “أنَّ الاتفاقات التي ترعى خروج المسلحين الأجانب من ليبيا لا تخص الجنود الأتراك في ليبيا المتواجدين هناك وفقًا لاتفاقيات رسمية ومهمتهم التدريب وليس أي شيء آخر”.

في المُحصّلة فإنَّ تركيا تشعر بأنَّها قاب قوسين أو أدنى من أن تخسر جهود سنواتٍ في سبيل وضع اليد على ليبيا وبأنَّ التطورات تكاد تُفلت خيط هيمنتها على القسم الغربي من ليبيا:

  1. إن محادثات وقف النار في (تشرين الأول/أكتوبر2020 م) بين أطراف النزاع الداخليين في ليبيا وبرعاية معظم القوى الرئيسية ما خلا تركيا التي تعكس تراجعًا واضحًا للدور التركي في ليبيا، كما رَغبت كل هذه الأطراف بوضع حدود نهائية للتدخل التركي هناك.
  2. إنَّ إعادة – الدول المعنية مباشرة بالوضع في ليبيا ولا سيما مصر- النظر بأسلوب تعاملها مع الأزمة غَيَّر المشهد جذريًا، فالقاهرة اتبعت سياسة العصا والجزرة تجاه الوضع، فأظهرت العصا الغليظة لتركيا بتحذيرها من الاقتراب من خط (سرت،الجفرة) ، وقد آتى الإنذار كله وتوقف تقدم قوات حكومة طرابلس ومعها القوات التركية، وفي الوقت نفسه بادرت القاهرة إلى محاولة التوفيق بين أطراف النزاع بطرح مبادرة  لبدء المفاوضات والتوصل إلى حلول، وتوَّجت ذلك بزيارة وفد ديبلوماسي وعسكري إلى طرابلس والاجتماع بأعضاء في حكومة طرابلس، وتعكس المبادرة المصرية الرغبة في التوصل إلى حل سلمي يُعيد لليبيا قدر المستطاع استقلالها ووحدتها وتبعد عنها أطماع الدول الخارجية، كما تعكس حرصًا على حقن الدم اللّيبي وإيجاد حلول بعيدًا عن العنف، ومثل هذا التحرك لابد أن يثير حفيظة تركيا تحديدًا التي يتعارض مثل هذا التحرك مع مصالحها.
  3. إنَّ نجاح جهود المصالحة والتزام الأطراف اللّيبية بالاتفاقيات المتعددة التي وقّعتها منذ بداية خريف 2020 م، ومنها تعليق العمل بالاتفاقيات الخارجية التي وقّعتها حكومة (فايز السراج)، وإخراج القوى الأجنبية كما المرتزقة من ليبيا يعتبر في حال تنفيذه نكسة كبيرة لتركيا؛ لأنَّه يمسّ تواجدها العسكري المباشر، ويعلق أيضًا اتفاقية( ترسيم الحدود البحرية)، وهما اتفاقيتان شكَّلتا حجر الزاوية في التدخل التركي في ليبيا، كما سيفقد تركيا تطلّعها للإستفادة من الثروات اللّيبية برًا وبحرًا.
  4. وفي حال تم ذلك فإنَّ تركيا ستجد نفسها – خارج اللّعبة في ليبيا وخارج اعتماد ليبيا- منصة للتدخل في شمال أفريقيا وما وراء الصحراء؛ لمواجهة النفوذ الفرنسي. كما ستخسر قاعدة مهمة للضغط على مصر والسعودية والإمارات وكل الدول المناوئة للنفوذ التركي في شمال أفريقيا والمنطقة العربية ويُضعف موقفها في شرق المتوسط في مسائل الطاقة وترسيمات الحدود البحرية.
  5. إنَّ إخراج تركيا من ليبيا بطريقة أو بأخرى سينعكس حتمًا على وضع حزب العدالة والتنمية في الداخل التركي في اتجاه إفقاده ما يفترض أن يكون قد كسبه من خلال تدخلاته في ليبيا، وتحدّيه لخصومه من العرب والأوروبيين في انتظار المبارزة الحاسمة التي تنتظرها تركيا في العام 2023 م في الانتخابات الرئاسية بين (أردوغان والمعارضة).
  6. إلى كلّ ذلك سيكون إخراج تركيا من ليبيا كسرًا لأحد دعائم (العثمانية الجديدة) التي يسعى إليها (أردوغان وقادة حزب العدالة والتنمية)، وكسرًا لأحد ركائز حركة الإخوان المسلمين في شمال أفريقيا والمنطقة العربية.

لذلك تعمل تركيا بزعامة (رجب طيب أردوغان) كل ما بوسعها لعدم إخراجها من اللّعبة السياسية والعسكرية، وعلى الرغم من أنَّ أنقرة كانت أول المرحبين بانتخاب (المنفي، دبيبة)، فإنَّ الاحتضان الغربي والأمم المتحدة لما جرى في جنيف وصولًا إلى إصدار مجلس الأمن الدولي في (العاشر من شباط/فبراير) بيانًا يرحب بما جرى ويدعو لانسحاب القوات الأجنبية والمرتزقة وحظر توريد الأسلحة- يُعتبر في المبدأ بداية تقليص مساحة النفوذ التركي خصوصًا في ظل التوترات التي تسود العلاقات التركية مع الغرب مع وصول (جو بايدن) إلى البيت الأبيض المعروف بعدم ارتياحه لسياسات (أردوغان) الثنائية والإقليمية.

مع ذلك فإنَّ تركيا لن تتخلى بسهولة عن المكاسب المتحققة لها حتى الآن، وهي مصممة على عدم ترك ليبيا لخصومها الإقليميين والدوليين سواءً من خلال التعاون مع السلطة الجديدة أو من خلال عرقلة ترجمة التوافقات الجديدة على الأرض وإفشال العملية السلمية بذرائع شتى.

اظهر المزيد

د. محمد نورالدين

أستاذ في الجامعة اللبنانية - بيروت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى