2020العدد 181عروض كتب

الولايات المتحدة الأمريكية هدر الفرص السانحة

شغلت الولايات المتحدة العالم ربع قرن بتفردها كقوة شاملة ، في الميدان العسكري والاقتصادي والثقافي والتكنولوجي ، وأضحت تجوب الأرض بحثا عن فرائس ضعيفة منهكة ، تجعل منها أمثولة للآخرين  ، فمزقت دول البلقان ، وارتكبت المجازر تحت جنح تدخلها وصمت الأوربيين ، وأغارت على أفغانستان لتطيح بحليفة الأمس ضد السوفيات ، بعدما قايضت انهيار الاتحاد السوفياتي مقابل إنبات شجرة الإرهاب ( القاعدة وما أنجبته) ، ومن ثم جعلت في تدمير العراق وتمزيقه ، أمثولة ورمزية لنظم وشعوب المنطقة ، ما بين عقوبات وتدمير ، واحتلال وإرهــاب ، وفساد وتراجع ، وها هو في خواتيم العقد الثاني من القرن يقف على أعتاب مشروع تقسيمه ، بعد ما جرى حياكة جلباب التمزيق ، تحت نظر الولايات المتحدة وقبولها ، ومراوغتها حينا والتفافها حينا آخر.

وما بين كل هذا ومراوغة التاريخ وخداعه ومكره ، تبدو صورة القادم مشوبة بالتشوش لمستقبل هذا المارد الذي تسمر ردحا من الزمن حول نفسه في انكفاءه  وشبقه المنفلت في الإطاحة بكل القوى التي خشي من تواجدها على هرم السلطة العالمي ، ويزيح عن طريق تطلعه أقوى قوى جمعت بين القدرة العسكرية وما بين الأيديولوجيا المزعزعة لأسس نظامه الرأسمالي ، ليجد في خواتيم الأمر ، أنه السيد للعالم والقوة التي أعطت لنفسها ، ما لم تعطها قوة الإمبراطورية الرومانية في علوها وهيمنتها.

وإن تصدي الباحثة لهذا الموضوع المركب والمتعدد الاختصاصات والمفتوح باستمرار يعد مهمة لا يمكن وصفها بأقل من الجريئة ، فيما بين الداخل والخارج ، وما بين السياسة والاقتصاد ، والعلمي والتكنولوجي ، والعسكري والنفطي ، وجدت الباحثة نفسها تسبح في محيط واسع المتغيرات الحاكمة ، بل والقابضة أيضا على صنع القرار واتخاذه ، حتى يصبح معه بمكان صعوبة السيطرة على ضبط إيقاع البحث الأكاديمي الممنهج .

أما عن الكتاب فهو مكون من مقدمة وأحد عشر فصلا وخاتمة ، تتناول الباحثة في الفصول الثلاثة الأولى ما تقوم به السياسة الخارجية الأمريكية للمحافظة على مصالحها التي تعزز مكانتها العالمية ، بما يؤمن لها الريادة في قيادة العالم وبقاءها كقطب مهيمن على السياسة والاقتصاد العالميين إذ وضع المحافظون الجدد تقريرا استراتيجيا منذ عام 1996 ، يحدد التوجهات السياسية والاستراتيجية للولايات المتحدة في القرن الحادي والعشرين والمتمثلة في الدعم المطلق لإسرائيل ومنع قيام الدولة الفلسطينية ، وإزاحة النظام العراقي من السلطة كهدف أساسي لهذه الاستراتيجية ، وصولا إلى ضرب سوريا واحتواء سائر الأنظمة العربية ، وإعادة هيكلة المنطقة بما يتوافق مع الاستراتيجية الأمريكية الإسرائيلية .

ثم تؤكد الباحثة بعد ذلك أن العالم يتعرض إلى اختراق إعلامي وثقافي أمريكي ، يعكس ويؤكد النزعة للهيمنة والسيطرة التي تتحكم بالتوجهات السياسية الأمريكية تجاه العالم ، والتي تؤمن أن لها رسالة إنسانية عالمية وتتحدت تحت شعار العالمية أو الكونية كستار ومسوغ لغرض فرض نمط حضاري وثقافي واحد على العالم .

على ذلك فإن الهيمنة أصبحت من اختصاص وسائل الإعلام ومقرها الولايات المتحدة والتي تسيطر على كافة إمكانيات وسائل الإعلام الدولي ، وبفضل تحكمها في التقنية الحديثة والإنجازات المتطورة التي حققتها الثورة الألكترونية ، فقد نجحت الولايات المتحدة في تطوير ما أصبح يعرف باسم صناعة المعرفة والإعلام ، والتي نجحت صادرتها الثقافية الخفية والبالغة القوة والتأثير في تحول التدفق الحر للمعلومات في اتجاه واحد ، إذ أن (65%) من الأخبار والمعلومات التي يتم تداولها في العالم يرد من الولايات المتحدة الأمريكية ، وبذلك فإن واشنطن تواصل سيطرتها على العالم ، وأكثر الأدوات التي تستخدمها فعالية لتحقيق غايتها هي وسائل الاتصال الألكترونية والشركات متعددة الجنسيات ، لكي تنشر أسلوب الحياة الأمريكية وثقافة المال والتجــــــارة ، وعليه أصبحت أمركة العالم قضية الجميع .

واتساقا مع ذلك ، ترسخ بشكل جلي في الفكر الاستراتيجي الأمريكي منذ وقت مبكر ، أهمية التوظيف السياسي للثورة المعلوماتية في عملية الغزو الإعلامي ، إذ أن هذا الغزو في حقيقته لا يكاد يخرج عن كونه توجها استراتيجيا منظما له أساليبه وتكتيكاته ، فهو ليس مجرد تدفق معلومات وأفكار ومعتقدات ، وإنما هو عملية مقصودة ترتبط بقوانين النظام السياسي واحتكاراته وتوجهاته ، وهو يخضع لعلميات التطور العلمي في البحوث البايولوجية والسايكولوجية ، بقصد السيطرة على اتجاهات تفكير الناس ، وملء أدمغتهم بكم هائل من المعلومات والأفكار لتنفيذ المخطط السياسي – النفسي – الثقافي – المسوق للنموذج الأمريكي .

ثم تضيف الباحثة أن الولايات المتحدة ارتكزت أيضا على مزيج من جوانب القدرات المتراكمـــــة ، والتي مثلت مدخلات لقوتها التي تؤهلها للارتقاء بمكانتها و جعلت منها الدولة الأكثر تأثيرا في العالم من حيث المكانة الاقتصادية والعسكرية للولايات المتحدة الأمريكية عالميا ، فمن الناحية الاقتصادية فهي أكبر منتج عالمي للسلع والخدمات إذ تساهم بما لا يقل عن 23% من الإنتاج العالمي وتستحوذ على نسبة 20% من التجارة العالمية ، واستطاعت أن تقيم تكتلات اقتصادية متعددة ، فيمتاز الاقتصاد الأمريكي أيضا كونه أكبر اقتصاد في العالم من حيث الإنتاجية إذ بلغ الإنتاج الأمريكي من السلع والخدمات حوالى 550 مليار دولار سنويا وهو ما يقارب من ضعف إنتاج الصين- اليابان.

وعلى كل فالخصائص التي تتوافر في الاقتصاد الأمريكي يتضح أنها تملك مقومات اقتصادية تؤهلها لبلوغ مرتبة الدولة العظمى في العالم ، نظرا لموقعية الاقتصاد ، فضلا عن سعة التشابك مع الاقتصادات المختلفة بجانب تأثير الدولار كعملة التسويات الدولية والمؤسسات الاقتصادية الأخرى .

وبالنسبة للمكانة العسكرية ، فإن امتلاك الولايات المتحدة الأمريكية لقوة عسكرية ضخمة مقارنة بالدول الأخرى ، جعلها تنفرد بتفوق عسكري واضح ، حيث القدرات التقليدية المعززة بتكنولوجيا متقدمة ، وامتلاكها القدرات غير التقليدية بمختلف أشكالها وأنواعها ، بالإضافة إلى الوجود العالمي واسع النطاق لقواتها عن طريق شبكة القواعد والتسهيلات العسكرية مختلفة الأشكال ، ونظام تحالفات استراتيجية مستمر واسع يؤمن هيمنتها العالمية بمساعدة حلفائها وأصدقائها ، وعبر وكلائها في مناطق إقليمية مختلفة .

أما الفصول من الخامس إلى السابع فتتحدث الباحثة فيهم عن المقومات التقليدية للاقتصاد الأمريكي ، فتقول إن تفرد الولايات المتحدة الأمريكية في إدارة النظام العالمي في القرن الحادي والعشرين ، يمثل النواتج عما استطاعت تهيئته من قدرات وإمكانات على المستويات كافــــــــــــــــــــــــــــــــــة ( الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية والثقافية ..إلخ ) ، ولكي يتم فهم المسوغات التي مكنتها أن تحتل موقع الصدارة في قمة الهرم الاقتصادي العالمي ، يتطلب ذلك بيان تلك المقومات والممكنات التي ظلت تدفع مكانتها إلى الأمام ، وهذا ما كان يمكن أن يتحقق لولا ارتكازها على استراتيجية ظلت تتطلع بموجبها أن تعتلي قمة الهرم العالمي من دون منافسة .

وعلى هذا فإن الباحثة تحاول تحديد موقع اقتصاد الولايات المتحدة الأمريكية في الاقتصاد العالمي في القرن الحادي والعشرين من حيث مدى مساهمة كل من الاستثمار والشركات متعددة الجنسيات في اقتصادها ، وكذلك مدى تأثير التكنولوجيا الفائقة والتقنيات العالية ، فضلا عن الدور المتميز لصناعتها العسكرية من حيث مكونها العالمي والتكنولوجي ، ومن حيث حصة تجارتها في منتجات هذه الصناعة ( السلاح ) والتي تستحوذ على حصة الأسد في حجم المبيعــــات .

هذا ولا يقتصر الأمر على المرحلة الراهنة فحسب فالولايات المتحدة تعد العدة ، لما هو قادم وتستعد لحروب المستقبل ( حروب المعلومات ) ، فهي تمتلك العدد الأكبر من الأقمار الصناعية التي  تدور في الفضاء الخارجي ، منها ما هو مخصص للأغراض العسكرية وجمع المعلومــــــــــــــات (التجسس) ، ومنها ما هو مخصص للجانب المدني وهذا ما يوفر لها القدرة على الوصول إلى أهدافها ، إذ استطاعت الولايات المتحدة الأمريكية الاستفادة من الثورة التكنولوجية في الشؤون العسكرية عن طريق التوجه نحو إحداث تحولات جوهرية في آليات الحروب وعقائدها ونوعية التقنية المستخدمة فيها ، والتي سوف توفر العديد من المزايا للولايات المتحدة من حيث المرونة والانتشار وسرعة الاستجابة والدقة في التنفيذ .

وبذلك يمكن القول إن القرن الحادي والعشرين يمتاز عن كل القرون التي مرت بها البشرية بخاصة التسارع التكنولوجي وزيادة قيمة المكون المعرفي ، بحيث أصبحت وحدة الزمن محور التنافس ، وبذلك يمكن أن تعد التكنولوجيا الحديثة والثورة المعلوماتية واحدة من أهم مقومات القوة الأمريكية المؤثرة في الأصعدة كافة وبخاصة الاقتصاد العالمي .

ورغم كل ذلك من احتضان الولايات المتحدة مصادر وممكنات قوة عديدة ، في مختلف المجالات اقتصادية وعسكرية وسياسية وحتى ثقافية ، إلا أن هذا لا يمكن أن يكون مع وجود نقاط ضعف في الجسد الأمريكي ، فعلى الصعيد الداخلي تعاني أمريكا اختلالات عميقة ، ناتجة عن سياسات التوسع والانفتاح الاقتصادي التي تنوء بأعبائها الثقيلة على الاقتصاد الأمريكي ، إذ كان لهذا التوسع الخارجي أعباؤه وتناقضاته ، فجلب معه آثارا سلبية على اقتصادها ، والتي نجمت عن مشكلات اقتصادية داخل بنية الاقتصاد الأساسية ، والتي يمكن تشبيهها بكرة الثلج التي تتزايد باستمرار عند تدحرجها .

أما عن الفصول من السابع إلى التاسع فتتناقش فيهم الباحثة عن ما تواجهه الولايات المتحدة من تحديات خارجية تتمثل في منافسة الفواعل الدولية لها ، من أجل محاولة إعادة تشكيل النظام الدولي ، وأن أهم ما يقلق أمريكا هو التحدي الاقتصادي ، فالتنامي الاقتصادي المضطرد للدول المتطلعة للمشاركة في النظام العالمي من جهة ، مقابل تلكؤ وتراجع الاقتصاد الأمريكي ، من جهة أخرى ، يمثل تحديا اقتصاديا لها ، هذا فضلا عن دورها السياسي في قضايا القرن الواحد والعشرين ، ولعل وثيقة استراتيجية الأمن القومي الأمريكي الصادرة عام 2010 ، تعبر عنة مدى التغير الذي شهدته السياسة الأمريكية في ظل إدراك باراك أوباما ، والمتمثلة بإعلان انتهاء حالة الحرب التي أعلن عنها جورج بوش ، وأكدت على تجديد القيادة الأمريكية للعالم ، حتى تتمكن من تحقيق مصالحها في القرن الحادي والعشرين  ، وذلك على مسارين الأول يركز على بناء قوتها الداخلية أما الثاني فيتمثل في العمل على صوغ نظام دولي بإمكانه مواجهة التحديات الدولية ، المتمثلة في تصاعد قوة الصين الاقتصادية والعسكرية وتأثير روسيا بقوتها العسكرية والقدرات الكامنة العلمية والتكنولوجية ، وأيضا  التكتل الأوروبي المتمثل في الاتحاد الأوروبي .

وأما على الصعيد السياسي فقد بدأ الصراع السياسي ، بحرب المواقف بين الأطراف الدولية فكل طرف متمسك بموقفه من الأزمة حيال وقوعها ، ويحاول أن يفرض نفسه ودوره وحضوره ، فمثلا وقفت روسيا والصين بجانب النظام الحاكم في سوريا في السر و العلن على حد سواء ، في حين وقفت القوى الغربية ضد الرئيس بشار الأسد ودعته إلى ترك الحكم ، وفي مقدمة هذه الدول فرنسا وبريطانيا وبدرجة أقل الولايات المتحدة في بداية الأزمة ، التي أخذت جانبا أقوى في دعوتها للرئيس بالتنحي عن السلطة ، مما دفع ببعضهم إلى التشكيك في نوايا الولايات المتحدة بإطالة أمد الصراع في سوريا لتدمير القوة السورية العسكرية ، وتفتيت الدولة بأكملها لما لها من فائدة لإسرائيل ، وقد عبر عن ذلك الكاتب الروسي ألكسندر شيميلين بقوله ” إن موسكو تنتظر أن تحاورها واشنطن لترتيب حل للأزمة السورية ، لكن واشنطن لم تقدم على ذلك إذ تجادل الولايات المتحدة بسط النفوذ على المنطقة بالكامل وسحب البساط من تحت أقدام القوى الدولية فيها وخصوصا روسيا ، وذلك إما منفردة أو عبر حلفائها على المستوى الأوروبي وخصوصا فرنسا .

بالإضافة إلى ذلك فإن التحالف الثاني ( الأمريكي ، الاتحاد الأوروبي ، إسرائيل ، تركيا ) أكبر فضائيا من التحالف الأول ( الروسي ، الصيني ، الإيراني ) فإن الأول أقوى أرضيا من الثاني ، لكن من الممكن أن يعصف الموقف الأمريكي من الأزمة السورية لكونه موقفا غامضا مرتبكا مترددا ، على العكس من الموقف الروسي – الصيني من الأزمة ، كان ولا يزال وربما سيبقى موقفا يتصف بالثبات والوضوح .

وبالنسبة للفصلين الأخيرين العاشر والحادي عشر ، فتتناول الباحثة فيهما التحول الواسع في السياسة والاقتصاد العالميين ، وهو الشكل الذي دفع صعود عسكرة العالم ، وتشريع استخدام القوة في العلاقات الدولية تحت شعار الحرب على الإرهاب ، بعد اعتداء القاعدة على الولايات المتحدة في أحداث 11 سبتمبر 2001 ، والتي أدت إلى وقوع حربين كبيرتين ضد أفغانستان والعراق ، وحرب عالمية ضد الإرهاب والتي تتسم بالاستمرارية ، وذات أشكال مختلفة .

ثم تضع الكاتبة بعض التصورات أو المقترحات الغرض منها ليس وضع مسارات واجبة إلى الأقطاب الدولية التي لها مشوار طويل في التخطيط الاستراتيجي ، لكن هي وجهة نظرها وهذه التصورات تلخص في الآتي:-

  • بسبب معاناة النظام النقدي الدولي من مشاكل عدم استقرار ناتجة عن الاستعمال الدولي الواسع النطاق للدولار والذي منح الولايات المتحدة الأمريكية امتيازات فائقة ، فنحن بحاجة إلى إقامة نظام أكثر عدالة وإنصافا لدول العالم ، ومن أجل أن يكون النظام أكثر توازنا ، مما يستوجب أن يتم اعتماد عملة احتياطية أخرى موازية للدولار ، للمحافظة وبأكثر قدر ممكن على الاستقرار النقدي الدولي .
  • لا يمكن للسياسة الأمريكية وليس منطقيا التركيز نحو هدف منع القوى المنافسة من النهوض ، وإنما في تقوية الآليات التي تستطيع تدوير التأثيرات الناجمة عن إعادة توزيع القوى الناهضة لجعلها شريكا في تحمل المسئولية العالمية وفى توسيع نطاق التعاون الدولي .
  • لم يعد بمقدور الولايات المتحدة تحمل التكاليف الباهظة من جراء مسئولياتها الضخمة الناتجة عن استمرار تدخلها في العالم، أو سعيها للهيمنة والتفرد في قيادة دول العالم.

كون الهيمنة أصبحت أمرا باهظ التكاليف اقتصاديا، لذلك على الولايات المتحدة أن تفسح المجال للقوى الرئيسية والفاعلة في النظام الدولي من خلال التحالف والتشاور في تقاسم المسئوليات الدولية، حيث تستمر الولايات المتحدة في موقع الصدارة من بين القوى الدولية لكن دون انفراد مما يتيح لها دورا قياديا وفق قواعد جديدة تحكم نظام عالمي جديد أكثر وضوحا وأكثر عدالة.

اظهر المزيد

عماد الدين حلمي عبدالفتاح

الأمانة العامة لجامعة الدول العربية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى