2022العدد 191ملف ثقافي

تأثير السينما العربية على الثقافة العربية

النشأة في مصر:

من حظ المصريين أنهم عرفوا السينما مع بداياتها في العالم، بل كانت مصر أول بلد عربي وإفريقي تتعرف على هذا الاختراع العجيب الذي أحدث زلزالًا في الوجدان والعقل المصري والعربي حينذاك، وللتوثيق فقد بدأت السينما في العالم رسميًّا مع الأخويين لوميير (أوجست لوميير، ولويس لوميير )، ديسمبر ١٨٩٥ في باريس بعد اختراعهما آلة العرض أنتجا عشرة أفلام صامتةً دفعةً واحدة في باريس عن حياة العمال مع مواقف طريفة، وكل فيلم٥٠ ثانية وكان الحدث حديث العالم. وفي يناير ١٨٩٦ قدم أول عرض سينمائي في مصر بمقهى زواني بالإسكندرية ثم في القاهرة بعدها بأيام بسينما سانتي في بورسعيد، وبدأ أول إنتاج سينمائي مصري مع تصوير فيلم تسجيلي صامت لزيارة الخديوي “عباس حلمي الثاني لـ”مهد “المرسي أبو العباس” بالإسكندرية، ثم فيلم (الخالة الأمريكاني) إنتاج وتمثيل “فوزي منيب”، ثم تصدت “عزيزة أمير” لإنتاج وبطولة فيلمي (قبلة في الصحراء، وليلى) عام ١٩٢٧، وهي أول سيدة عربية تقتحم هذا المجال بجَرأة. وكانت البداية مع السينما الروائية الناطقة بفيلم (أولاد الذوات) عام ١٩٣٢، كأول فيلم عربي ناطق إنتاج وبطولة “يوسف وهبي” مع (أمينة رزق، وأنور وجدي) إخراج محمد كريم، والفيلم أحدث ضجة واعترض عليه القنصل الفرنسي بدعوى أنه يسئ للمرأة الفرنسية؛ لأنه يدور حول شاب مصري من النبلاء تخدعه فتاة أجنبية وتسلب  أمواله وهو عن قصة حقيقية، وكان هذا الفيلم حديث الأوساط السياسية والاجتماعية، ويُعد بداية قوية للسينما الناطقة وقدرة الفن السابع على محاكاة الواقع، واقتحام الأمراض والعاهات (الاجتماعية، والطبقية).

وفي نفس العام ظهر أول فيلم غنائي للمطربة “نادرة”، ثم ظهر لأول مرة “محمد عبد الوهاب” كأول مطرب في السينما بفيلم (الوردة البيضا)، ثم كان أول فيلم يُعرض خارج مصر هو (وداد لأم كلثوم)، وتم تدشين ستديو مصر عام ١٩٣٥؛ ليكون أول شركة إنتاج رسمية مصرية وعربية

السينما العربية بدأت  مصرية:

من المهم أن نقول هنا أن الفيلم المصري أُطلق عليه الفيلم العربي وظل هكذا لفترة من الزمن، مثل: (التليفزيون، والدراما) أُطلق عليهما التليفزيون العربي والمسلسل العربي؛ ذلك لأن الأقطار العربية لم تنتج أفلامًا أو مسلسلات إلا بعد الإنتاج المصري بسنوات ولذلك ستجد اللهجة المصرية- وحتى الآن نسبيًّا- هي الأكثر فهمًا ورواجًا لدى المتلقي العربي من المحيط للخليج.

لبنان والفن السابع:

تُعد لبنان من أوائل الأقطار العربية بعد مصر، في اقتحام مجال الإنتاج وذلك بمحاولات لم يحالفها النجاح حيث أُنتج أول فيلم صامت عام ١٩٢٩، ثم أنتجت الحكومة بعض الأفلام الإخبارية وتجمَّد النشاط بسبب الحرب العالمية الثانية، ثم كان أول فيلم ناطق عام ١٩٥٢ باسم (عذاب الضمير) باللغة العربية الفصحى ولم يلقَ نجاحًا. ولكن تبعه فيلم (قلبان وجسد) بالعامية ونجح نجاحًا كبيرًا وهو أول فيلم لبناني يعرض خارج لبنان وحصد أرباحًا كبيرة، ولحقه فيلم (إلى أين؟) عن فلاح لبناني يهاجر لأمريكا ويعود محطَّمًا وعُرض في مهرجان “كان” وشهد إقبالًا من الجمهور اللبناني والسوري وهو يشبه في محاكاته وتأثيره فيلم “أولاد الذوات”؛ لأنه يجسد نظرة المواطن العربي للآخر والفوارق الثقافية بين (العربي، والأجنبي)، وهي التيمة التي لعب عليها صناع السينما العربية في بواكير الإنتاج السينمائي العربي خصوصًا في الشمال الإفريقي العربي.

السينما والثقافة والشمال الإفريقي العربي:

تنوع تأثير السينما في (المغرب، والجزائر، وتونس) حسب المحتوى الذي اختاره صناعها في البدايات، في المغرب بدأت السينما عام ١٩٥٢ بفيلم (الابن العاق) واعتمدت البدايات التي كانت تحت إشراف أجنبي على تيمة النظرة للآخر، وأحيانًا نقد المحلي بثقافته المتأخرة عن العصر. أما في الجزائر فقد ركز الإنتاج على طرح قضية النضال ضد الاستعمار من أجل الاستقلال والتحرر. ويمكن القول إن السينما في تونس كانت الأكثر جَرأة منذ بدايتها وكانت بوابة السينما للشمال الإفريقي؛ حيث زارها الأخَوان لوميير وافتتحا أول دار عرض (أمنية باتي)عام ١٩٠٨، وصنع رائد السينما التونسية “سمانة شكلي” أول شريط باسم “زهرة” ١٩٢٢، ثم “عين الغزال” بعد عامين، وبعد تجارب عدة يمكن القول: أن بوصلة المحتوى السينمائي التونسي شهدت تغيرًا جذريًّا بعد إنشاء اتحاد السينمائيين التونسيين، والذي أُطلق من خلاله الفيلم الجريء (وغدا) لإبراهيم باباي، والذي اقتحم مفهوم التغريب ( نلاحظ هنا سيطرة هذه الإشكالية على بدايات السينما العربية عمومًا ومفهوم البحث عن الهُوية العربية والقُطرية) ويكاد تتشابه المضامين؛ حيث يعرض الفيلم التونسي تحطم أحلام الريفي التونسي المطرود من أرضه إلى المدينة البلاستيكية معدومة المشاعر والمتخمة بالأجانب والغرباء، وكذلك (فيلم الخماسي) للطيب الوحيشي يدور في ذات الفلك، ولكن بتشريح للطبقة والعشيرة وسطوتها على المواطن البسيط وسحق إنسانيته، وعلى نفس المنوال قدم بن بركة في المغرب فيلم (ألف يد ويد).

التكنولوجيا والتأثير:

لاشك أن التطور التكنولوجي أثر على صناعة المحتوى السينمائي، بما جعل دوائر التأثير على ثقافة المواطن الغربي تتسع أيضًا مع القفزات في تقنيات السينما العالمية وتسربها للمواطن العربي وإقباله عليها مثل الفيلم الأمريكي والفيلم الهندي، مما جعل الصنَّاع العرب يتسابقون للحاق بالركب. وانتقل الكثيرون من التوجه (الأيدلوجي، والثوري، والسياسي) إلى (التسلية، والبعد الاجتماعي والرومانسي، والأكشن) لجذب الجمهور بالمفهوم التجاري الذي لا يضع الثقافة والرسالة من مقدمة أهدافه، ولكن وسط هذا كانت هناك تجارب تتسم بسمات ذاتية لمبدعيها وتعزف خارج السرب وتنشد سردًا مغايرًا، والأبرز في هذا “مدرسة يوسف شاهين” في مصر التي وجدها النقاد طليعية بينما زهدها في المجمل الجمهور، لكنها كانت تركز على المهرجانات العالمية وجوائزها بامتياز؛ وذلك لأن شاهين اعتمد أسلوب الصدمة الحضارية واقتحام المسكوت عنه. وعلى نفس الدرب وجدنا تجارب الجزائري “محمد الأخضر حامينا” في (وقائع سنوات الجمر)، وكذلك (عرس الزين) للكويتي “خالد الصديق” والأخير يحسب له وضع السينما الكويتية والخليجية على الخريطة العربية والعالمية؛ لأن جمهور الخليج كان يستهلك الفيلم المصري والهندي ولا يعرف إنتاجًا محليًّا لسنوات، ومؤخرًا أحدثت السعودية نقلة في إنشاء دور العرض وضخ أموالًا للإنتاج المحلي السعودي.

البطل في السينما وثقافة الشباب:

لاشك أن البطل الهوليودي الخارق تم تصديره للعالم العربي وتم استنساخه أو عمل طبعة محلية منه في السينما المصرية والعربية، ولأن مستهلكي السينما معظمهم من الشباب فقد تأثرت أجيال وتشكل وعيُها الثقافي بنموذج البطل الذي يأخذ حقه بيده، منذ (أنور وجدي، وفريد شوقي، وعادل إمام، محمود عبد العزيز) وحتى جيل (كريم، وعز، ورمضان)، ويُلاحظ هنا أن السينما التجارية كانت أكثر إخلاصًا للنموذج الفردي الخارق، والذي ظهر بوضوح منذ سينما السبعينيات حيث الانفتاح الاقتصادي والانقلاب على الاشتراكية ، وقد شهدت الستينيات نهضة سينمائية ساهمت في تشكيل وعي الشعوب العربية وخلقت تيار وعي قومي عروبي تغير تمامًا في مصر السبعينيات، الذي رفع في تلك الفترة قيمة المادة لتعتلي نسق القيم وتسحق غيرها من قيم أخلاقية أو إنسانية، هذا بخلاف إطلاقه أبواق التيار الديني اليميني، الذي احتضن الرأسمالية الطفيلية الجديدة التي شجعت نموذج الفرد والحل الفردي. وفي المجمل خلفت سينما السبعينيات ظاهرة السينما التجارية معدومة الرؤى الثقافية، لكن رغم ذلك كانت هناك تجارب خالدة نشأت بفعل تيار السينما الجديدة على يد أسماء بارزة مثل: (عاطف الطيب، ومحمد خان، وداوود عبد السيد، وخيري بشارة)، وهم صنعوا تيار الحداثة في السينما المصرية والعربية، واستقطبوا النخبة الثقافية التي دعمت مشروعهم الحضاري ومن هذا التيار كانت أفلام: سواق الأتوبيس، زوجة رجل مهم، الحريف، الحب فوق هضبة الهرم، والذي كتبت عنه الأديبة الجزائرية د/ حبيبة محمدي مقالًا قالت فيه: “لقد شاهدت الفيلم لأول مرة في الجزائر مع رفيقاتي وتمنينا جميعًا أن نزور مصر لنأكل ونعيش في نفس الأماكن التي كان يلتقي فيها أحمد زكي وآثار الحكيم”، وأضافت: “لقد كتبت أولى أشعاري بوحي من قصة الحب في الفيلم، وهذا يعني أن صدق التناول الفني للفيلم يعبر تأثيره الحدود ويشمل وعيًا جديدًا للأجيال”.

التأثير الثقافي المباشر والتراكمي للسينما:

هناك تأثير ثقافي مباشر للفيلم وآخر تراكمي، ولقد كتب علماء سوسيولوجيا الإبداع كثيرًا عن أهمية التأثير التراكمي وغير المباشر للفن وهو الأكثر أهمية؛ لأنه لايحمل وعظًا أو رسالة مباشرة مثل: (الأفلام الدينية، أو التربوية، أو أفلام الكنيسة مثلًا)، رغم أن بعضهم يثمِّن أفلام التربية للأطفال في سنهم الأولى، وهناك أفلام نشأت عن قضايا غيرت قوانين اجتماعية مثل: (أريد حلًا، وجعلوني مجرمًا)، وهناك أفلام قلد فيها الشباب البطل في ملابسه وحركاته وإفيهاته مثل: الفنان عادل إمام، وعندما تم عرض فيلم (كابوريا) في مصر فجأة أصبح معظم الشباب يحلقون حلقة البطل في فيلم كابوريا وهي قص الشعر من الجانبين، وبعد عرض فيلم (الكيف) لمحمود عبد العزيز أخذ الشباب يرددون إفيهاته وهو ماكتب عنه عميد الأدب الشعبي الراحل د.أحمد مرسي في مقال شهير له بالأهرام أن لغة السينما أثرت على لغة الشباب المصري والعربي وأصابتها بالانهيار اللغوي، ونفس الإشكالية طرحها مجمع الخالدين للغة العربية منذ سنوات وطالبوا بعقد دورة نقاشية مع كتاب السيناريو وطبعًا لم يستجب أحد، وفي اعتقادي أن المجمع لو اجتمع اليوم ليستمع لأغاني أفلام بعض المنتجين المعروفين في مصر، وأيضًا أغاني المهرجانات لأصابتهم السكتة الكلامية خصوصًا وأن تأثيرها قد وصل للشباب العربي قاطبةً، ونلاحظ ذلك في تطبيق “التك توك”، وتقليد النشء والشباب لحوار الأفلام الهابطة وكلمات الأغاني المبتذلة، وللأسف كثير من الفتيات العربيات يقدمن هذا المحتوى العليل عبر السوشيال ميديا.

السينما والواقع والرسالة والفن:

هذه الثنائية الجدلية سيطرت على كتابات النقاد ونتج عنها السؤال السرمدي هل تنقل السينما الواقع أم تصنعه؟ والإجابة أن الفيلم هو إعادة صياغة للواقع من منظور فني جمالي يحقق ثالوث الحق والخير والجمال، وهو غاية الدراما كما يرى أرسطو؛ ولأن السينما صناعة ولابد أن يربح المنتج، وهي تسلية وامتاع للمشاهد وهما غاية مطلوبة ومحمودة، لكن من قال إن المتعة والتسلية ترتبط بعرض أسوأ ما في النفس البشرية وتغليب الغرائز الممجوجة، أليس فيلم (تيتانك) مثلًا فيلمًا تجاريًّا حقق أعلى الأرباح وتم تقليد البطل والبطلة في مشهد مقدمة السفينة واحتضانهما بعضهما البعض في لحظات قمه في الرومانسية على أغنية سيلين ديون ؟ إذن الفيلم هو خلطة تؤدي لإحداث حالة وجدانية وثقافية ترقى بوعي المُشاهد ومشاعره وتنسيه لمدة ساعتين واقع هو يريد أن ينفصل عنه مؤقتًا ليعيش مع واقع الأبطال والأحداث، بحيث يخرج بعد مشاهدته بشيء ما أو حالة وجدانية ما تشحنه إيجابيًّا ولاتطحنه قيميًّا أو أخلاقيًّا، وياحبذا لو أضاءت زاوية ما في نسقه الثقافي وأضافت موجة تنويرية في نهر وعيه وثقافته وهو أسمى غايات الفن.

التطهير والثقافة والسينما العربية:

التطهير في الدراما يعني أن يستريح المشاهد لأن البطل أخذ حقه على الشاشة فقتل القاتل وانتقم من الشرير، وهو مفهوم ساذج اعتمدت عليه السينما المصرية والعربية في بواكيرها ولايزال مطروقًا في كثير من الأفلام حاليًّا، وخطورة هذا التناول أنه يصنع مُشاهِدًا بليدًا ثقافيًّا ولايخلق وعيًا تراكميًّا. وأعظم الأفلام تلك التي تصفع المشاهد ذهنيًّا أو تصنع معه العصف الذهني الذي يجعله يفكر ويشارك صناع الفيلم في الأزمة وذروة الحدث أو الحل أو اللا حل، وهو مايطلق عليه (النهايات المفتوحة)، ولاشك أن أفلام رواد السينما الواقعية مثل: (توفيق صالح، وصلاح أبو سيف، ويوسف شاهين)- رغم القفزات في مسيرتهم -وتلاميذهم من جيل مابعد النكسة، وماعُرف بتيار (الوعي والسينما الجديدة)، قدموا أفلامًا تجاوزت منهج التطهير لخلق وعي ثقافي لدى المشاهد المصري والعربي، ومن أحفاد هؤلاء هناك جيل واعد ينحت في الصخر لصناعة سينما تتماهى مع مايحتاجه وعي الناس، وليس مايريدونه كما يحدث في الفيلم التجاري الذي غايته شباك التذاكر ومن هؤلاء : (محمد دياب وإخوانه، وعمرو سلامة، وأحمد رشوان، وكاملة أبو ذكرى)، و قد شاهدت لهم نماذج ممتازة تحمل رؤى ثقافية وتنويرية، وأيضًا تحمل المتعة البصرية والبهجة والشغف التي تتسم بها السينما في أروع صورها وتأثيرها، مثل أفلام: برة المنهج، وشيخ جاكسون، ولامؤاخذة، وقابل للكسر، وفيلم ريش للمخرج عمر الزهيري الذي أثار جدلًا في مهرجان الجونة وحصد جائزة مهرجان “كان”، والذي جسده أناس عاديون يمثلون للمرة الأولى والبطلة سيدة ريفية مسيحية مصرية هي” دميانا نصار” ورغم الجدل حول الفيلم، لكنه خلق حوارًا ثقافيًّا رائعًا وغرد خارج السرب ونقل شريحة من المهمشين في الألفية الجديدة للشاشة.

منصات العرض على الإنترنت:

المنصات على الإنترنت هي المستقبل وهي التي تهدد تواجد دور العرض مستقبلًا خصوصًا وأنها تجعل الفيلم ينتقل إليك عبر الموبايل أو شاشة منزلك، ومنذ أطلقت منصة “نيتفليكس” وغيرها من المنصات العالمية، وهي غايتها إغراء المشاهدين لجمع أكبر عدد من المشتركين عبر العالم، تقول الإحصاءات إن المشتركين العرب يتزايدون كل يوم على شبكات المنصات ومنها “نتفلكس”، التي تنتج حصريًّا معظم إنتاجها وتعرض أيضًا منتج دور العرض السينمائي.

يبقى ونحن نتحدث عن الثقافة العربية والسينما أن نطالب المسؤولين عن صناعة السينما بمزيد من الوعي واليقظة حول خطورة تأثيرها على ثقافة الشعوب وسلوكيات النشء والشباب، خصوصًا مع وجود المنصات العابرة للقارات بلا رقابة أو ممنوعات، وعدم اللهاث خلفها كرد فعل للقيود المفروضة على الأفكار والمحتوى محليًّا.

اظهر المزيد

محمد الغيطي

كاتب صحفي وإعلامي مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى