2019العدد 179ملف عربي

تركيا: علاقات قلقة مع الحلفاء وتحركات ملتبسة في أزمات المنطقة

ربما تكون تركيا الدولة المسلمة الوحيدة منذ نهايات السلطنة العثمانية وحتى اليوم، التي مرت بتحولات اجتماعية وفكرية وسياسية متناقضة الواحدة مع الأخرى إلى درجة التصادم العنيف في ما بينها في غالب الأحيان.

وينسحب هذا التوصيف على السياسات الداخلية كما الخارجية، ولعل الواحد منها متصلا بالآخر وينعكس تلقائيا عليه.

فمن تحولات الهوية من إسلامية-عثمانية، ثم علمانية – قومية، ثم محاولات محاكاة النموذج الأوروبي، إلى تقلبات في السياسات الخارجية من معاداة أوروبا، فالاندماج بها مع حلف شمال الأطلسي ومسار الانضمام إليها، ثم التمرد على الغرب بشقيه الأمني والحضاري في بعض المنعطفات.

لقد مر التموضع الاستراتيجي لتركيا في محيطيها الإقليمي والدولي بتقلبات متعددة. ورغم العديد من المحطات الحادة في المئة سنة الأخيرة فإن التساؤلات عما سيكون عليه التموضع التركي، علت في السنوات الأخيرة مع الخلاف التركي- الأميركي حول القضية الكردية والتنسيق التركي مع روسيا وإيران بشأن سوريا، وبلغت ذروة التساؤلات في الأشهر الأخيرة مع إبرام تركيا صفقة صواريخ أس 400 مع روسيا بل وصول الدفعات الأولى منها فعليا إلى تركيا.

لا شك أن سمة القلق كانت إحدى أبرز صفات التاريخ التركي في صراع قوى التقليد مع قوى التجديد. ومع الخارج تعددت بؤر التوتر والحروب مع معظم دول وقوى الجوار الجغرافي لتركيا، من روسيا إلى اليونان وقبرص والعراق وسوريا، فضلا الخلافات المتقطعة مع الولايات المتحدة وغالبية دول الاتحاد الأوروبي.

لقد فرضت الجغرافيا السياسية لتركيا بين الغرب والشرق وبين أوروبا وآسيا وبين روسيا والجنوب الإسلامي تحديات جمّة أمامها بحيث لم يكن من السهولة أمام نخبها المتعاقبة على السلطة إظهار سياسات مستقرة وثابتة لا مع من يفترض أن يكونوا “حلفاء” أو مع من يفترض أن يكونوا “أعداء” أو مصدر تهديد معلن أو كامن.

 التغيير الذي حصل في العام 2002 مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة كان عاملا مهما في أخذ السياسات التركية في الداخل والخارج إلى مساحات غير مسبوقة.

على الرغم من الصراعات الداخلية، كانت العلمانية والنزعة القومية هي السقف الذي لا يجرؤ أحد من القوى السياسية على تخطيه. وقد أظهرت الأحزاب ذات النزعة الإسلامية انسجاما والتزاما بهذه السقوف أثناء مشاركتها في الحكومات خلال السبعينيات والتسعينيات وفي تجارب البلديات.

لكن مع حزب العدالة والتنمية ذي التوجه الإسلامي، كانت أولى محاولات تغيير بنية النظام بطريقة أو بأخرى عبر تقليص البعد العلماني من الدولة وتوسيع مساحة الأبعاد الإسلامية على مختلف الأصعدة.

أما في الخارج، فإن النزعة القومية الجامعة بين مختلف الأحزاب التركية، فقد اتسمت سياسات حزب العدالة والتنمية بإظهار توجه نحو استعادة النزعة العثمانية في ما عرف بـ “العثمانية الجديدة”. وقد عمل عليها الحزب بصورة جدية وفعلية. وهذه كانت إحدى أهم أسباب توتر العلاقات بين تركيا ودول المنطقة العربية وإيران ودول أخرى.

كذلك فإن الرافد الإيديولوجي للإخوان المسلمين من المحددات الرئيسية للسياسات التركية الجديدة، وقد أطاح حتى بالحد الأدنى من العلاقات التركية الجيدة مع معظم دول المنطقة. فتوترت العلاقات مع إيران الشيعية وانفجرت الخلافات داخل الكتلة الإسلامية السنية نفسها. وكان الصراع التركي مع مصر ومع السعودية والإمارات في أكثر من ساحة نموذجا لهذا الخلاف.

أما مع سوريا فقد اجتمعت الخاصيتان العثمانية والإخوانية في تفجير الصراع التركي معها حيث تطلعت أنقرة لتحقيق حلم تاريخي وهو استعادة شمال سوريا الذي كان ضمن حدود الميثاق الملي التركي لعام 1920، فكان احتلال المنطقة من جرابلس إلى عفرين فإدلب والتهديد بالهجوم على منطقة شمال شرق الفرات حيث “قوات حماية الشعب الكردية” أو إيجاد موطئ قدم فيها من خلال العمل على إقامة “منطقة آمنة” بالتعاون مع الولايات المتحدة الأميركية”.

عرفت السياسة الخارجية التركية مؤخرا حركة نشطة جدا تعكس تطلعات حزب العدالة والتنمية لتوسيع الحضور التركي في أكثر من دولة وتؤكد أن هذا المشروع رغم تعرضه لنكسات كثيرة في سوريا ومصر وتونس والخليج وليبيا، لا يزال يجاهد لتعويم نفسه بطريقة أو بأخرى.

وفي هذا الإطار يعمل حزب العدالة والتنمية على استغلال واستثمار كل الفرص الممكنة غربا وشرقا من أجل تحقيق “إنجازات” يراكم عليها ليكون لاعبا مؤثرا في المنطقة.

  1. صواريخ أس 400

وصف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان صفقة صواريخ أس 400 مع روسيا بأنها الأهم في تاريخ تركيا الحديث.

الصفقة التركية – الروسية حول الصواريخ، والتي بدأت المفاوضات حولها منذ ثلاث سنوات، كانت متوازنة على قاعدة “ربح – ربح”. رهان روسي على إبعاد تركيا عن حلف شمال الأطلسي من جهة، وأمل تركي في استعادة زخم دور، وأطماع، في الساحة السورية تحديدا فضلا عن ابتزاز أنقرة الولايات المتحدة. ورغم التهديدات الأميركية فقد مضت الصفقة بل برّرها الرئيس الأميركي دونالد ترامب بنفسه من أوساكا في اليابان في مطلع حزيران/يونيو 2019، بالقول إن الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما هو المسؤول عن الصفقة كونه لم يبع تركيا منظومة صواريخ باتريوت، متراجعا، ترامب، عن كلامه بتهديد تركيا بعقوبات اقتصادية في حال مضت في الصفقة.

وحّدت صفقة الصواريخ الروسية الرأي العام التركي وقد دافع عنها زعيم حزب الشعب الجمهوري المعارض كمال كيليتشدار أوغلو، فيما وصفتها الصحافة التركية بأنها “خطوة على طريق الاستقلال والمستقبل” و”رسالة مهمة إلى الغرب في ذكرى المحاولة الانقلابية في 15 تموز/آب 2016″ و”هزيمة” للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.

لكن هذا لم يحجب تساؤلات حول المزيد من ارتهان تركيا لروسيا في السياسة الخارجية والدعوة حتى من أوساط داخل حزب العدالة والتنمية لاتباع سياسات أكثر توازنا بين الغرب والشرق. أما عن المواقع التي ستنشر فيها الصواريخ فقد رجّح الخبراء الأمنيون أن تكون في أضنه وأزمير أي بمواجهة التهديدات في شرق المتوسط ومن اليونان كما من التحالف الضمني بين دول في شرق المتوسط في مجال الطاقة استبعدت عنه تركيا. وهو ما أثار “قلق” حلف شمال الأطلسي الذي، مع ذلك، من المستبعد قيامه بخطوات سلبية ضد تركيا نظرا لحاجته الماسة لدورها في الحلف، فيما ربط رئيس دائرة الاستخبارات السابق في الجيش التركي الجنرال إسماعيل حقي بكين بين استقدام الصواريخ واحتمال تعرض تركيا لهجوم يوناني – إسرائيلي. كذلك رأى أنه “إذا كانت إيران اليوم ليست عدوة فمن يضمن غدا ما سيكون عليه موقفها من تركيا. كذلك فإن الصواريخ يمكن أن تأتي من جهة أرمينيا. وتركيا كانت تفتقد لمنظومات دفاع متطورة. فالطائرات الإسرائيلية يمكن أن تقلع من تل أبيب ومن دون انتهاك الحدود التركية يمكن أن تطلق صواريخها من على بعد 150-160 كيلومترا حيث لا يمكن لسلاح الجو التركي أن يعترض تلك الطائرات”.

واستبعد بكين أي احتمال لصدام تركي – أميركي فكلاهما ليست عنده هذه النية لذلك. وقال إن شراء أس 400 لا يستهدف الحرب مع أي دولة بل الدفاع عن المصالح القومية لتركيا وأن تكون تركيا جاهزة لصد أي اعتداء مفاجئ. وقال إن هذه الصواريخ ستزيد من قوة تركيا ولها أهمية استراتيجية بشرط أن تكون جاهزة للاستخدام بعد نشرها.

تثير صفقة أس 400 بالتأكيد قلق واشنطن وتزعجها وهي بادرت إلى إلغاء تدريب الطيارين الأتراك على قيادة طائرات أف 35 على أراضيها. لكن ردود الفعل بقيت في إطار المعقول ولا تؤشر إلى إمكانية حدوث قطيعة بين الطرفين حيث كانت العلاقات تتقدم في ملف آخر هو المنطقة الآمنة في سوريا.

  • المنطقة الآمنة وتطبيع العلاقات مع واشنطن

دخلت سوريا مع دعم الولايات المتحدة لقوات الحماية الكردية في شمال شرق الفرات مرحلة جديدة لجهة نجاح واشنطن في إيجاد منطقة نفوذ لها في سوريا للمرة الأولى في التاريخ السوري الحديث. لكن ذلك اصطدم مع مخاوف تركية من أن يفضي ذلك إلى حالة انفصالية في الشمال السوري تنعكس تلقائيا على وحدة الأراضي التركية نفسها. وهذا كان في أساس بدء الخلاف مع الولايات المتحدة في عهد باراك أوباما ولم يتغير الوضع مع وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض.

لكن الضغوط التركية المتزايدة وذهاب أنقرة إلى مزيد من التقارب مع روسيا جعل واشنطن تتراجع خطوة في العلاقة مع تركيا من خلال الاتفاق على إقامة “منطقة آمنة” في شمال سوريا بالتشارك مع الجيش التركي، وذلك بتوقيع اتفاقية في السابع من آب/أغسطس 2019 في أنقرة بعدما كانت واشنطن تعارض بالمطلق منطقة آمنة تشارك فيها تركيا.

في البيانات المنفردة عن وزارة الدفاع التركية والسفارة الأميركية في أنقرة حول اتفاق المنطقة الآمنة عبارات عامة. مثل تبديد المخاوف التركية وتفهم هواجسها، وتسيير دوريات مشتركة تركية-أميركية، وإعادة اللاجئين السوريين ، طبعا جزء منهم، إلى المنطقة الآمنة. وإقامة مقر مشترك لتسيير الدوريات. لم يعلن البيان عن مقر القيادة المشتركة مع ترجيح أن يكون في أنقرة. كما لم تفصح البيانات عن عرض وعمق المنطقة الآمنة. فطول الحدود من جرابلس إلى الحدود العراقية هو 480 كيلومترا. وليس محتملا أن تكون المنطقة على امتداد هذه المسافة بل في مناطق معينة منها، الأرجح أن تكون في كوباني وتل الأبيض ورأس العين. كما لم تشر البيانات إلى عمق المنطقة. فقد كانت تركيا تطالب بعمق 30-40 كيلومترا فيما تقترح الولايات المتحدة 15 كيلومترا. تغييب هذه النقطة عن الاتفاق ربما لترك تحديد العمق وفقا لطبيعة كل منطقة على الحدود على أن تتراوح بين هذين الحدّين.

كذلك من الطبيعي أن يشمل الاتفاق، دون إعلان ذلك، نقطة في غاية الأهمية وهي نزع أو نقل سلاح قوات الحماية الكردية من المنطقة الآمنة وانسحاب المقاتلين الأكراد منها إلى مناطق العمق في شرق الفرات مع بقاء عناصر منهم داخل المدن لحساسية التواصل مع السكان المحليين.

اتفاقية المنطقة الآمنة مهمة جدا في هذه اللحظة من المناوشات الإقليمية والثنائية بين أنقرة وواشنطن وما لم تطرأ مفاجآت تطيح بالاتفاقية فهي:

  1. تحقيق لحلم تركي عمره من عمر الأزمة في سوريا. وإذا كانت تركيا ترى سابقا في المنطقة الآمنة وسيلة للضغط على النظام السوري وإسقاطه فإن هدفها اليوم تعزيز دورها في سوريا كلاعب ميداني وسياسي وإضعاف الجانب الكردي والتقدم خطوة نحو الهيمنة على الشريط الحدودي داخل سوريا الذي كان ضمن حدود الميثاق الملي لعام 1920.وبالتالي تمدد الحضور التركي المباشر من إدلب فعفرين وجرابلس إلى منطقة شمال شرق الفرات.
  2. الاتفاقية خطوة متقدمة على طريق تطبيع العلاقات التركية- الأميركية. فللمرة الأولى تتفق الدولتان على خطوة طالما كانت موضع خلاف بينهما، كما أن توقيتها مهم لرأب الصدع ولا سيما بعد صفقة صواريخ أس 400 . ويُظهر الاتفاق أن واشنطن قدمت تنازلا مهما لتركيا بالقبول بدور لها في المنطقة الآمنة، على أمل إعادتها إلى الحضن الأميركي من جديد في إطار الصراع الأميركي مع روسيا وإيران.
  3. تقوي الاتفاقية موقع تركيا في الأزمة السورية وتضع بيدها ورقة ضغط مهمة على “حلفائها” الروس والإيرانيين ويوسع هامش المناورة أمامها. وبالتالي ستزيد من تعنت تركيا لتطبيق اتفاقيات سوتشي بشأن إدلب. كما ستُدخل الاتفاقية مسارات الوضع في سوريا في متاهات جديدة.
  4. تظهر الاتفاقية أن الولايات المتحدة باتت عاجزة عن التمسك بموقفها في حماية “حلفائها” قوات الحماية الكردية وبات همها الأول هو منع تعرض قوات الحماية الكردية للأذى وإبقاء جسمها العسكري سليما من دون معرفة وجهة استخدام هذه العناصر لاحقا: هل لحماية المناطق المتبقية التي يتواجدون فيها خارج المنطقة الآمنة أم لمهام أخرى؟.
  5. وهنا يُطرح السؤال الأساسي عن موقف قوات الحماية الكردية من الاتفاقية. فقد عبّرت القيادات الكردية عن رفضها مشاركة تركيا في الدوريات داخل المنطقة المقترحة وطالبت بقوات دولية أو أوروبية. فهل ستوافق اليوم على الاتفاقية أم تعلن رفضها لها؟. وفي حال تطبيق الاتفاقية ستكون انتصارا كبيرا لتركيا على الأكراد من دون إراقة نقطة دم تركية واحدة. وسيّان هنا بين أن تقوم تركيا بعملية عسكرية أو تدخل المنطقة سلما تحت ستار الدوريات المشتركة مع انسحاب المقاتلين الأكراد منها. لذا فالموقف الكردي سيكون محرجا جدا في حال قبول الاتفاقية وسيجد صعوبة في تبرير الموافقة عليها أمام جمهوره.
  6. وفي اتصال بالموقف الكردي ستكون الاتفاقية حال تطبيقها ضربة قوية لمشروع الإدارة الذاتية في منطقة “روج آفا”(شمال شرق سوريا) من كل النواحي الجغرافية والاجتماعية والسياسية والتي من أجلها كانت تفشل المحادثات بين الأكراد والدولة السورية. فالكلام في الاتفاقية عن عودة اللاجئين السوريين إلى المنطقة الآمنة هو استهداف مباشر لديموغرافية المنطقة من جانب تركيا لصالح فئات من أصول تركمانية أو عربية موالية لتركيا على حساب الوجود الكردي ذي الغالبية في بعض مناطق المنطقة الآمنة.
  7. والتساؤل هنا عما إذا كان الأكراد سيعيدون النظر بموقفهم من التعاون مع أميركا وبالتالي يعاودون التواصل مع دمشق وهذا على ما يبدو مستبعد؟ أم سيرضخون للإملاءات الأميركية والتهديد بتركيا ليبقوا إلى جانب واشنطن وبالتالي القبول باتفاقية المنطقة الآمنة مع تحسين شروطها كرديا؟.
  8. تبقى دمشق الغائب الأكبر عن معظم الاتفاقيات المتعلقة بسيادتها من اتفاقيات سوتشي وأستانا إلى اتفاق المنطقة الآمنة اليوم. وبطبيعة الحال رفضت دمشق اتفاق أنقرة جملة وتفصيلا وهو ما سيدفعها إلى الضغط أكثر على روسيا لاستعادة إدلب بداية. كما يكشف الاتفاق تضليل أنقرة بأنها مستعدة لتطبيق اتفاق أضنة 1998 لضمان أمن حدودها مع سوريا ويؤكد أن إسقاط النظام السوري ،كما الدولة السورية، لا يزال من الأهداف الرئيسية لسلطة حزب العدالة والتنمية وستدخل الاتفاقية العلاقات التركية – السورية في مزيد من انعدام الثقة والعداوة.
  • “المخلب” التركي

لا تنفصل منطقة شمال العراق عن شمال سوريا لجهة توجه الأنظار والأطماع التركية إليها حيث تعتبرهما أنقرة مجالا حيويا واحدا لتطلعاتها السياسية وتحركاتها العسكرية.

في إطار مواجهة المخاطر الأمنية بدأت القوات التركية في أواخر مايو/أيار 2019 عملية عسكرية واسعة النطاق في شمال العراق في المنطقة الممتدة من الشرق من جبال قنديل إلى حدود منطقة سنجار. وحدد وزير الدفاع خلوصي آقار هدف العملية بأنها تهدف إلى السيطرة على تلك المنطقة وبعمق أكثر من 25 كيلومترا.

ما هو مختلف هذه المرة في العملية عن سابقاتها منذ الثمانينيات أن الجيش التركي كان يقوم بعمليات عسكرية أعمق بكثير من المخطط لها هذه المرة، ولكنه سرعان ما كان يعود أدراجه إلى الداخل التركي بعد إتمام العملية.

أما في عملية “المخلب 1 ” و “المخلب 2” فقد أعلنت أنقرة رسميا أنها تريد البقاء في المنطقة وإقامة ثلاث قواعد عسكرية ثابتة فيها. أي أن القوات التركية لن تنسحب هذه المرة ولا أحد يعلم كم ستبقى.

وهذا بالطبع يذكر بالعمليات التركية السابقة في سوريا منذ العام 2016 حيث الأولى كانت “درع الفرات” التي حصلت في صيف تلك السنة ومن ثم عملية “غصن الزيتون” مطلع العام 2018 والتي احتلت القوات التركية في إثرهما المنطقة الحدودية داخل سوريا من جرابلس وأعزاز وصولا إلى عفرين وبعمق يصل إلى مدينة الباب وأبواب حلب، ولا تزال حتى الآن. وتركيا تحتل مباشرة بهيئة نقاط مراقبة محافظة إدلب وتدير تحركات المسلحين أو معظمهم هناك ويقدرون بعشرات الآلاف وليس لهم من أي منفذ سوى الحدود البرية مع تركيا.

العملية العسكرية التركية في شمال العراق اتخذت اسم “المخلب”. ومع أن أنقرة أعلنت رسميا عنها وعن النية في إقامة قواعد عسكرية ثابتة ودائمة لها هناك غير أن حكومة بغداد أو أي مسؤول عراقي رفيع المستوى لم يخرج بأي تصريح يوضح موقف الحكومة من العملية وما إذا كانت بالتنسيق مع بغداد أم أنها محطة أخرى من انتهاك تركيا للسيادة العراقية من دون أي رد فعل عراقي يرقى إلى مستوى التحديات. والجميع يتذكر تلك الملاسنة الشهيرة والإهانة التي وجهها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ،وكان لا يزال رئيسا للحكومة، إلى رئيس الوزراء العراقي السابق حيدر العبادي بخصوص تواجد القوات التركية في منطقة بعشيقة ونقاط عسكرية أخرى في شمال العراق. ورغم الفورة العراقية إلا أنها بقيت في حدود الاحتجاج اللفظي ولا تزال القوات التركية في بعشيقة ومناطق أخرى في العراق يقدرها البعض بأكثر من عشرين نقطة ومركزا عسكريا.

اليوم يتكرر السيناريو نفسه مع عملية “المخلب” وهي عملية تهدف إلى نهش أجزاء من جسم حزب العمال الكردستاني لكنها عمليا تنهش أكثر من جسم السيادة العراقية. ولا يقتصر السكوت على العملية على بغداد بل كذلك على إدارة إقليم كردستان.

النقطة الأخرى من العملية هي عما إذا كانت مقدمة لعملية أخرى تستهدف التوسع إلى شرق المنطقة أي مهاجمة جبال قنديل نفسها حيث قيادة حزب العمال الكردستاني، أو غربا إلى منطقة سنجار حيث تمركز الحزب منذ غزوة “داعش” لها وصدّه لها.

رغم كل الأهداف المعلنة والواضحة لكن لا يمكن أن نضع العملية خارج الرغبة التركية المزمنة في احتلال الشريط الحدودي داخل العراق وسوريا في سياق استعادة خريطة حدود “الميثاق الملي” لعام 1920 الذي كان يشمل شمال سوريا والعراق مستفيدة من الوقت الضائع في المنطقة، أي من تفاهماتها مع روسيا في ما يتعلق بسوريا ومن ضعف وتفكك القرار المركزي لبغداد وتواطؤ إدارة إقليم كردستان مع أنقرة ضد حزب العمال الكردستاني.

  • ما الذي تفعله تركيا في ليبيا؟

بعد عقود من الحياد وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية والتعامل من منطلق الند للند والدولة للدولة، تحولت تركيا مع سلطة حزب العدالة والتنمية إلى طرف في النزاعات الداخلية للدول الأخرى. وقد بررت تدخلها الفاضح في سوريا منذ العام 2011 على أنها دولة مجاورة وتؤثر الأحداث فيها على أمنها القومي واستقرارها الداخلي، فأقامت معسكرات استقبال اللاجئين السوريين من قبل أن تطلق رصاصة واحدة. وفي كل زيارات رجب طيب أردوغان وأحمد داود أوغلو إلى دمشق كان إشراك عناصر من الإخوان المسلمين في الحكومة السورية مطلبا تركيا ثابتا.

ومن بعدها كان السلوك التركي غير خاف على أحد في تسليح المعارضة وتدريبها وإرسال شاحنات الأسلحة يوميا إلى الأراضي السورية وصولا إلى احتلال المنطقة من جرابلس إلى إدلب.

وإذا كانت تركيا تبرر تدخلها في سوريا كما في العراق بالجوار الجغرافي، فإن المشهد في مصر وليبيا شكل فضيحة كاملة للدور التركي في المنطقة العربية. وإذا كانت مصر قد طوت صفحة التدخل التركي في شؤونها الداخلية بثورة 30 يونيو، فإن التدخل التركي في ليبيا كان واضحا وسافرا وعسكريا منذ اللحظة الأولى للحراك ضد العقيد معمر القذافي. أرسلت تركيا قوات وسفنا وطائرات ومساعدات لطرف دون غيره وهي البعيدة عن حدودها آلاف الكيلومترات ولا علاقة لها بها لا أمنيا ولا إثنيا ولا جغرافيا. لذلك كان مثيرا أن تعلن تركيا بعد تقدم قوات خليفة حفتر لمحاصرة مدينة طرابلس في مطلع صيف 2019 أنها سترد في حال قررت قوات حفتر التعرض لأي من طائراتها وسفنها بدلا من أن تترك ليبيا لأبنائها الذين هم يقررون ما يفعلون بها.

***

لا تقتصر تطلعات تركيا على مناطق دون غيرها. لكن ما بين سياسات تركيا الخارجية في الحقبات التي سبقت حقبة حزب العدالة والتنمية وما بعدها، هو بالضبط الفارق ما بين سياسات الدول وسياسات الأحزاب. وتركيا في عهد حزب العدالة والتنمية لم تكن لكل أبنائها بل لفئة حزبية إيديولوجية محددة أوقعتها في رهانات خاطئة وأدخلتها في مشكلات مع الجميع، أصدقاء وحلفاء وأعداء ومنافسين، وعرّضت للمخاطر كل الساحات حيثما حاولت أن تتواجد. وما لم تعد تركيا إلى سياسة التعاطي مع الآخرين من منطلق دولة مقابل دولة وبعيدا عن الإيديولوجيات الحزبية، فستبقى مصدر تهديد وعدم استقرار في المنطقة.

اظهر المزيد

د. محمد نورالدين

أستاذ في الجامعة اللبنانية - بيروت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى