2019العدد 179ملف عربي

الفلسطينيون في مواجهة صفقة القرن فرصة لاستعادة الوحدة أو لتكريس الانقسام؟

في الآونة الأخيرة، بخاصة مع مجيء دونالد ترامب إلى رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية (2017)، وانكشاف انحيازاته الفجّة لإسرائيل، وسياساتها الاستعمارية والاستيطانية والعنصرية والقمعية، وجد الفلسطينيون أنفسهم، رغم اختلافاتهم، وتنافساتهم، إزاء واقع جديد يتهدّد وجودهم وحقوقهم الوطنية المشروعة كشعب، كما يتهدّد قضيتهم العادلة بالتصفية.

وفي الواقع فإن رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية السابقون، ورغم انحيازاتهم المطلقة لإسرائيل وتغطيتهم لسياساتها، انتهجوا سياسات تقليدية ثابتة، ولو نظريًا، بخصوص القضية الفلسطينية، بحيث لم تخرج كثيرًا عن القرارات التي تم تبنيها في الأمم المتحدة. ولنلاحظ أن رؤساء الولايات المتحدة منذ مؤتمر مدريد (1991)، وعقد اتفاق أوسلو (1993)، ومفاوضات كامب ديفيد 2 (2000)، في عهد الرئيس كلينتون، وطرح خطة خريطة الطريق (2002)، ومؤتمر أنا بوليس (2007) إبان عهد الرئيس بوش الابن، والمفاوضات في عهد الرئيس أوباما (2013ـ2014)، ظلوا محافظين على صورة الولايات المتحدة (الشكلية)، كراع للمفاوضات وكوسيط “محايد”، بين إسرائيل والفلسطينيين، مع تمسّكهم بعملية التسوية، وضمانهم استقرار السلطة الفلسطينية. بيد أن وصول رئيس من طراز دونالد ترامب إلى البيت الأبيض غيّر كل تلك المعادلات، إذ تعمّد قلب كل المعايير المذكورة، رأسًا على عقب، بتخلّيه بكل فجاجة عن تلك الصورة، إن باعترافه بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل (أواخر 2017)، وسعيه تصفية قضية اللاجئين من بوابة وقف التمويل الأمريكي لمنظمة غوث وتشغيل اللاجئين (أونروا، التابعة للأمم المتحدة أواسط 2018)، ومن بوابة إعادة تعريف اللاجئ الفلسطيني، بإخراج أبناء وأحفاد اللاجئين من ذلك التعريف، ومن خلال نزع شرعية منظمة التحرير الفلسطينية وإغلاق مكتبها في واشنطن (أواخر 2018)، كما عبر وقف تمويل عديد من الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية في الأرض المحتلة، والسكوت عن الأنشطة الاستيطانية الإسرائيلية في الضفة الغربية، وعن قانون القومية اليهودية (أواسط 2018)؛ ويأتي في السياق ذاته شرعنة السيادة الإسرائيلية على الجولان السورية المحتلة (مارس 2019).

ما هي صفقة القرن

هكذا، وقبل الحديث عن الموقف الفلسطيني الراهن قد يجدر بنا تقديم فكرة عما يسمى “صفقة القرن”، التي تتهيّأ الولايات المتحدة لطرحها وفرضها في المنطقة، والتي كتب عنها الكثير قبل أن تفصح عنها الإدارة الأمريكية، إذ أن تلك الخطة تتأسّس، على الأرجح، على الفصل والتفكيك، الهادفين إلى تغيير مبنى قضية فلسطين ومعناها، بما يتناسب والمصالح الإسرائيلية، مستغلّة في ذلك الظروف العربية والدولية الراهنة.

وبشكل أكثر تحديدًا، فإن الخطة المذكورة، بغض النظر عن التفصيلات، ترتكز على أربعة محاور، الأول، تفكيك قضية فلسطين وشعبها، بحيث يختصر الشعب الفلسطيني بفلسطينيي غزة والضفة، باعتبارهم مجرد سكان، وليسوا شعبًا أو جزءًا منه، بل مجرد سكان يعيشون في معازل، بلا حقوق اجتماعية وسياسية وتاريخية. والثاني، فك الارتباط العربي بقضية فلسطين، وفصل علاقة إسرائيل بالأنظمة عن حقوق الفلسطينيين، كما عن وجودها في الأراضي التي احتلتها (1967)، أي مجرد تطبيع مقابل تطبيع. والثالث، إبقاء الوضع الفلسطيني عند حدود الحكم الذاتي، ما يكرس وضع إسرائيل في ظل واقع من الاحتلال المريح والمربح. والرابع، تكريس إسرائيل كفاعل وكشريك متميّز في قلب العالم العربي، حتى لو كانت بالنسبة إلى الفلسطينيين بمثابة دولة استعمارية – عنصرية (“أبارثايد”).

وبالطبع ثمة تفصيلات كثيرة للخطة، سياسية وأمنية واقتصادية، وهندسية، ضمنها رصد عشرات مليارات الدولارات للتنمية، للفلسطينيين ودول المنطقة، وإقامة ميناء في غزة، ومنطقة صناعية في سيناء على حدود غزة، وجسر يربط بين الضفة وغزة، وتطبيع العلاقات بين الأنظمة العربية وإسرائيل، وطبعا يأتي ضمن ذلك إبقاء السلطة الفلسطينية عند حدود الحكم الذاتي، فقط، أي سلطة على البشر وليس على الأرض والموارد، وفي حدود الهيمنة الإسرائيلية على مصير الفلسطينيين.

الواقع الفلسطيني الراهن

على الصعيد الفلسطيني يفترض أن نلاحظ أن المعطيات الداخلية والخارجية المحيطة تفيد بضعف الواقع الفلسطيني الراهن، فعلى الصعيد الداخلي تواجه السلطة محاولات القطع مع خيارها المتمثل بإقامة دولة فلسطينية مستقلة في الضفة والقطاع، وتاليا لذلك إضعاف مكانتها، وإفقادها صدقيتها إزاء شعبها. أيضا، هي تواجه محاولات تجفيف مواردها المالية، بوقف التمويل الأميركي، وبإيقاف حوالات العوائد الضريبية (“المقاصة”) التي تجبيها السلطة الإسرائيلية، وبتطوير دور الإدارة المدنية الإسرائيلية للضفة، على حساب السلطة، مع وجود حوالي 130 ألف عامل يشتغلون في إسرائيل، ووجود حوالي ربع مليون موظف فلسطيني يفترض أنهم يتلقون رواتبهم من السلطة، التي تعتمد أيضا على الموارد التي تتأتى من الولايات المتحدة ومن تحويل إسرائيل أموال “المقاصة”، إلى درجة يرى معها المحلل الإسرائيلي جاكي خوجي أن “إسرائيل تمسك بالاقتصاد الفلسطيني من رقبته وتسيطر عمليا على ميزانية السلطة”.

ولعل ذلك الوضع يذكّر بذات الحال التي مرّت بها القيادة الفلسطينية، وهي قيادة المنظمة والسلطة و”فتح”، قبيل عقد اتفاق أوسلو عام 1993، لجهة تجفيف مواردها المالية، ولجهة تجاوزها أو التلويح بوجود بدائل لها، الأمر الذي استدرجها آنذاك، إلى حبائل التوقيع على اتفاق أوسلو، وإقامة السلطة، وهي مجرد سلطة حكم ذاتي، أي أقلّ من دولة، ما يفيد بأن السلطة والمجتمع الفلسطينيين يعيشان تحت هيمنة الاحتلال، وبالاعتماد عليه من حيث الموارد والبنى التحتية ومراكز العبور والمعاملات الإدارية.

على أية حال، وقبل التفكير في الخطوات اللازمة أو الممكنة لمواجهة الخطة المذكورة، من المفيد مراجعة الثغرات أو الأخطاء التي وقعت فيها الحركة الوطنية الفلسطينية، وأوصلتها إلى هذه اللحظة، وأهمها ما يلي:

أولاً: تخلّيها، باكرا (1974)، عن الرواية الجماعية، بقبولها التعاطي وكأن الصراع بدأ في 1967 مع احتلال الضفة وغزة، وليس في 1948 مع النكبة وإقامة إسرائيل وتشريد معظم شعب فلسطين، وهو ما حصل في مضمون اتفاق أوسلو (1993)، ظنّا أو توهّما منها أنها في ذلك تكسب الشرعية الدولية، لكنها في تلك الخطوة خسرت القضية والشرعية والصدقية الكفاحية، عند شعبها وفي العالم، بل فقد شهدنا بأن إسرائيل ازدادت غيّا، بمصارعتها حق الفلسطينيين في الضفة الغربية وفي حقوق السيادة وتقرير المصير، في واقع سلطة تحت الاحتلال، وفي واقع احتلال مريح ومربح بالنسبة لإسرائيل، والمشكلة أن ذلك المسار بات له أكثر من نصف قرن، بحيث بات يصعب الانفكاك منه.

ثانيا: تعاطيها مع واقع تفكّك الشعب الفلسطيني، باستبعادها فلسطينيي 1948 من معادلاتها السياسية وإطاراتها التنظيمية، الأمر الذي وصل اليوم إلى حد استبعاد تجمعات أخرى، أي اللاجئين في الأردن وسوريا ولبنان من المعادلات الوطنية الفلسطينية، بحصر مفهوم الشعب بفلسطينيي الضفة وغزة المحتلتين (1967)، وبانتقال مركز الثقل في العمل الوطني إلى الداخل، وبتهميش منظمة التحرير الفلسطينية الكيان السياسي المعنوي للشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده، والمعبر عن قضيته.

ثالثا: تركيزها على الصراع مع إسرائيل، وبخاصة في ما يتعلق بحصره في مجال الكفاح المسلح، بغض النظر عن إمكاناته، وإهمالها البعد المتعلق ببناء الكيانات الجماعية السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتنمية الموارد البشرية، وانتهاج أشكال الكفاح الشعبية المتاحة والممكنة، والمحصلة أن القيادة الوطنية الفلسطينية وجدت نفسها بعد أكثر من نصف قرن لم تنجح في الكفاح المسلح، الذي أخذته شكلا رئيسا لها، ولا في المفاوضة، كما لم تستطع في غضون تلك المسيرة من بناء كيانات سياسية واجتماعية واقتصادية للشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده، وهذا لشعب يحتاج أكثر من أي شيء لإطارات كيانية تعوض افتقاده للكيان الجغرافي، وتعوض تمزق أو توزع بناه الاجتماعية على عدة دول.

رابعا: الاعتمادية في الموارد على الخارج، إذ أن الحركة الوطنية الفلسطينية، بما فيها المنظمة والسلطة والفصائل، ومنذ أكثر من نصف قرن، بنت أوضاعها وضخّمت أجهزتها، تبعا لتدفّق تلك الموارد، ما جعلها رهينة لها، أي للدول المانحة، أرادت ذلك أم لم ترد. والحال فكيف للقيادة الفلسطينية أن تواجه “صفقة القرن”، والولايات المتحدة وإسرائيل، بوضعها هذا؟ أو بعد أن أثقلت نفسها، بتلك التبعية، وبتلك الوظائف، علما أن الولايات المتحدة تقدم مساعدات تبلغ 10 بالمئة من موازنة السلطة (التي تقدر ب 4 بلايين دولار سنويا)، ومثل ذلك تقدمه عن طريق وكالة الغوث (بمجموع قدره 800 بليون دولار)، في حين تأتي نصف الموازنة من اتفاقات “المقاصة” الضريبية مع إسرائيل، التي توقفت هي الأخرى، بسبب رفض السلطة أي انتقاص منها، أو رفضها الشروط الإسرائيلية المتعلقة بها.

خامسا: حال الانقسام الفلسطيني، بحكم الخلاف بين حركتي “فتح” و”حماس”، وهو أمر بات له 12 عاما، ولا يبدو أن ثمة حلّ له، في ظلّ تحول كل من الحركتين المذكورتين إلى سلطة، في المنطقة التي تسيطر عليها، حيث حماس في غزة وفتح في الضفة. وفي الواقع فإن تخوف القيادة الفلسطينية من صفقة القرن يكمن أساسا من خشيتها من إبقاء السلطة عند حدود الحكم الذاتي، ومن إمكان تعزيز هذه الصفقة سلطة حماس في غزة، بل وتكريس انفصال قطاع غزة عن الضفة الغربية، وبالتالي تكريس واقع انقسام الكيان الفلسطيني.

سادسا: واضح أن المعطيات العربية والدولية لا تشتغل تماما لصالح القيادة الفلسطينية، وهذا ما بات في إدراكها، في مواجهتها المذكورة مع إدارة ترامب، على خلفية الصفقة المزعومة، إذ أن العالم العربي بات غاية في التفكك، ومنقسما إلى محاور، وأهم من كل ذلك أنه منشغل في مواجهة التحدي الناجم عن تغول النفوذ الإيراني في المشرق العربي، ولعل في كل ذلك ما يفسر سعي ترامب لاستغلال هذه الفرصة وتغيير معنى ومبنى القضية الفلسطينية، والصراع العربي ـ الإسرائيلي، وهذا هو معنى تسريبات الصفقة، التي تتحدث عن حدود مفتوحة، وعن سلام اقتصادي، وسلام يتأسس على التعاون المتبادل والتنمية وتحسين مستوى حياة سكان المنطقة، وضمنهم الفلسطينيين، في مقابل تعزيز الجهد الأمريكي بشأن تحجيم النفوذ الإيراني في المشرق والخليج العربيين، وهو الأمر الذي باتت تشتغل عليه الإدارة الأمريكية.

أفق جديد وتعقيدات جديدة

مع كل تلك المعطيات التي تفيد بصعوبة الوضع الفلسطيني، وحراجة موقف القيادة الفلسطينية، وهي قيادة المنظمة والسلطة و” فتح”، فإن تلك القيادة أصرت على رفض أي تعاط مع ما يسمى “صفقة القرن”، منذ البداية، بل إنها تعهّدت بمقاومة تلك الصفقة، وإفشالها، بالتعاون مع الأطراف العرب، الذين دعتهم لتشكيل نوع من شبكة أمان سياسية ومالية للسلطة لتدعيم موقفها المذكور، وتعزيز مكانتها في تحديها السياسة الأمريكية بشكل علني وبطريقة ساخنة، كرد على الإجراءات التي باتت تنتهجها إدارة ترامب.

ومعلوم أن القيادة الفلسطينية جمّدت علاقاتها بشكل كامل، تقريبا، مع إدارة ترامب، التي تسبّبت سياستها بتوجيه عدة ضربات موجعة وخطيرة للقضية الفلسطينية، والتي تتمثل، كما ذكرنا، باعترافها بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل، ومحاولاتها تصفية قضية اللاجئين، ووقفها تمويل مشاريع اقتصادية للسلطة، ناهيك عن إطاحتها بفكرة الدولة الفلسطينية المستقلة، وإغلاقها مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، التي كانت وقعت معها اتفاق أوسلو في البيت الأبيض (1993).

لكن السؤال الأساس هنا، هو: هل يمكن لتلك القيادة مواجهة “صفقة القرن”، أي مواجهة السياسات الأمريكية والإسرائيلية وفقا للظروف أو المعطيات الذاتية والمحيطة التي ذكرناها؟ وإذا كان ذلك مطلوبا فكيف يمكن أن يحصل ذلك وبماذا أي بأية أدوات أو سياسات أو خيارات؟ وطبعا فهذه أسئلة كبيرة وصعبة، لكن الأمر يتطلب حثّ التفكير، وتفحّص الواقع إن لم يكن للعمل لإسقاط تلك الخطة حقا، فعلى الأقل لتفويت استهدافاتها أو التقليل من مخاطرها. وبديهي أننا نتحدث هنا ليس عن إنشاءات عاطفية أو شعاراتية، وإنما عن خطوات عملية.

وفي الحقيقة فإن الفلسطينيين في هذه المرحلة يجدون أنفسهم في قلب إجماع وطني جديد يتمثل برفض كل كياناتهم (المنظمة والسلطة والفصائل) لصفقة القرن، أي أن ثمة أرضية سياسية مثلى لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة، وتحدي الإملاءات الأمريكية ـ والإسرائيلية، وهو أمر تؤكده مواقف قيادة المنظمة والسلطة وفتح، كما تؤكده مواقف حركة حماس، وهي السلطة في غزة.

وفي الغضون فقد شهدنا بأن القيادة الفلسطينية اتخذت قرارات مهمة أعلنها الرئيس محمود عباس، تقضي بمواجهة صفقة القرن، والتحلل من اتفاق أوسلو، بما في ذلك إنهاء علاقات التنسيق الأمني مع إسرائيل، وفك الارتباط بالاقتصاد الإسرائيلي (وفقا لملحق أوسلو الاقتصادي)، ومراجعة أو سحب الاعتراف الفلسطيني بإسرائيل، فضلا عن موقفها السابق برفض استلام حصتها من أموال “المقاصة”، كردة فعل على اقتطاع إسرائيل لمبالغ كبيرة منها، لحرمان ذوي الشهداء والجرحى الفلسطينيين من مخصصاتهم، وهي القضية التي أثرت على موارد السلطة، وعلى قدرتها على الإيفاء بالتزاماتها إزاء موظفيها.

بيد أن توفّر الأرضية السياسية لإنهاء الانقسام، والتحدّيات المشتركة في مواجهة الترتيبات الأمريكية ـ الإسرائيلية، وفقا للتسريبات المتعلقة بصفقة القرن، لم تستطع خلق الإرادة السياسية اللازمة للخروج من إسار الانقسام والاختلاف الفلسطينيين، الحاصل أساسا بين الحركتين الكبيرتين، أي بين فتح وحماس، أو بين سلطتي الضفة وغزة، ويمكن إحالة ذلك لسبب أساسي يتمثل بتحول الحركة الوطنية الفلسطينية إلى سلطة تحت الاحتلال، أو قبل زوال الاحتلال، سيما أنها سلطة على السكان وليس على الأرض، سلطة لجزء من شعب، في جزء من أرض مع جزء من الحقوق. والمشكلة أن هذه السلطة، سواء في الضفة أو غزة لم تنجح في بناء كيان سياسي يعبر عن الشعب الفلسطيني، كما كانت منظمة التحرير، أو يكفل تنمية إمكانياته وكياناته وموارده، لانشغالها أساسا في تعزيز وضعها أو ترسيخ مكانتها كسلطة، ويكفي هنا الحديث عن أن موارد الأجهزة الأمنية في الضفة تشكل ثلث ميزانية السلطة، وهي تساوي موازنة التعليم والثقافة، مع 40 من العاملين في السلطة، أما في غزة فنحن نعرف قصة الـ 40 ألف الذين تصرّ حماس على إدخالهم إلى كشوفات رواتب السلطة، كشرط لإتمام عملية الوحدة، بين شروط أخرى لها.

الفكرة هنا هو أن التصرف كسلطة يختلف عن التصرف وفقا لحاجات وأولويات التحرر الوطني، إذ لا يمكن لأية سلطة أن تتخلى عن مكانتها أو عن عناصر القوة التي تمتلكها، وهذا ما يفسر أن حماس تطالب بتكريس قواها الأمنية وشرعنتها، وتطالب بتغطية رواتبها، رغم معارضتها اتفاق أوسلو، ورغم معرفتها أن تلك الموارد تأتي من الدول المانحة، أي من أمريكا وأوروبا وكندا وأستراليا ودول الخليج العربي لدعم الانخراط الفلسطيني في عملية التسوية، وليس لدعم المقاومة. كما يفسر ذلك تغول الأجهزة الأمنية في الضفة التي بات همها حماية مكانة السلطة، وتعزيز نفوذها، أكثر من حماية الشعب الفلسطيني من الاعتداءات أو الاقتحامات الإسرائيلية للمدن الفلسطينية. وكل ذلك في واقع باتت فيه السلطة تتعايش مع الاحتلال غصبا عنها، وفي واقع باتت فيه السلطة للاحتلال، أي لإسرائيل، على ما صرح الرئيس محمود عباس أكثر من مرة، وهو الأمر الذي خلق ما بات يعرف بالاحتلال المربح والمريح لإسرائيل، إذ السلطة تسيطر على شعبها، إلى درجة بات يمكننا فيها الاستنتاج بأن الفلسطينيين في الضفة والقطاع كانوا أكثر قوة ووحدة وتحررا وعنفوانا في مواجهتهم لإسرائيل قبل إقامة السلطة، عنهم بعد قيامها.

اللافت، أيضا، أنه بدل أن تشكل مواجهة السياسات الأمريكية والإسرائيلية فرصة أو دافعا لاستعادة الوحدة بين الفلسطينيين إذا بها تصبح مناسبة لتعميق الاختلاف والانقسام، إذ كل طرف يتهم الآخر بأنه يتساوق مع صفقة القرن، وأنه يشتغل على تأبيد الانقسام، كي يحصد المكاسب منها، سيما مع المشاريع المطروحة لتنمية غزة، وإنشاء منطقة صناعية في سيناء، وميناء في البحر، وهكذا، وهي المشاريع التي أثارت مخاوف السلطة في الضفة من إمكان استدراج حماس للتساوق مع ما يطرح، لترسيخ وجودها، في حين أن حماس ليست بحاجة لمبررات لإثارة الشبهات بشأن السلطة، التي كانت وقعت على اتفاق أوسلو، والتزمت التنسيق الأمني والتبعية الاقتصادية إزاء إسرائيل، ناهيك عن اعتراضها على المقاومة، وهكذا.

مواجهة التحدي

في هذا الإطار، وفي الظروف الصعبة التي ذكرناها، يمكن اقتراح خيارات سياسية تتمثل في الآتي:

أولاً: لابد بداية من إعادة الاعتبار لفكرة أو لقيم حركة التحرر الوطني، بدلا من إعطاء الأولوية للسلطة، أي التركيز على أولوية استعادة الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، وأولوية مواجهة مختلف التحديات التي يفرضها الوجود الإسرائيلي على الفلسطينيين، فهذا هو الأساس القيمي والسياسي والأخلاقي لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة واستعادة الإجماعات الوطنية الفلسطينية.

ثانيا: مقابل تفكيك القضية والشعب، ينبغي التمسّك بوحدة الشعب والقضية والرواية، وبناء الرؤى السياسية والخيارات والإطارات بناء على هذا المفهوم، وذلك ما ينبغي تعزيز الاشتغال عليه، وضمن ذلك إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية كي تصبح ممثلاً لكل الفلسطينيين، في أماكن وجودهم، مع مراعاة خصوصية كل تجمع، على أسس وطنية وكفاحية وديموقراطية وعلى قاعدة الانتخابات، حيث أمكن ذلك، للخروج من إسار التنافسات الفصائلية المضرة، وأيضا لتعزيز مكانة الشعب في تقرير مصيره، بعيدا عن حسابات هذا الفصيل أو ذاك.

ثالثا: مقابل محاولة إسرائيل مصارعة الفلسطينيين حتى على جزء من الأرض (في الضفة مثلاً)، في جزء من الحقوق، يفترض بالحركة الوطنية الفلسطينية صوغ رؤى وطنية تتأسس على استعادة التطابق بين شعب فلسطين وقضية فلسطين وأرضها، والتصارع مع إسرائيل على كل الحقوق، الفردية والوطنية، واعتبار أن أي حل لأي قضية أو لأي جزء من الشعب ليس بديلاً عن حل شامل يتأسس على الحقيقة والعدالة (ولو النسبية)، وعلى قيم الحرية والمواطنة والمساواة وتقرير المصير لكل الفلسطينيين.

رابعا: تأكيد أن العملية الوطنية الفلسطينية لها وجهان، الأول، مقاومة سياسات إسرائيل الاستعمارية والاستيطانية والعنصرية. والثاني، يتمثل بتمكين شعب فلسطين من بناء مؤسساته السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وترسيخ وتطوير إجماعاته الوطنية، وتنمية موارده البشرية، وتعزيز صموده في الداخل، وتعزيز مكانته في كافة أماكن وجوده.

خامسا: اعتماد الأشكال النضالية التي تساهم في تعزيز صمود الفلسطينيين في الداخل، في فلسطين التاريخية (48 – الضفة – غزة)، وفي الأساس منها المقاومة الشعبية، ومختلف الأشكال المشروعة التي يقرها المجتمع الدولي لمقاومة الاحتلال. ويجدر لفت الانتباه هنا إلى أن إسرائيل تتمتع بحماية دولية، ناهيك بتفوقها العسكري، وأنه ليس مسموحا للفلسطينيين، بخاصة في هذه الظروف العربية والدولية غير المواتية، استثمار تضحياتهم ونضالاتهم. وتأسيسا على ذلك فإن الأجدى للفلسطينيين استثمار طاقاتهم، في هذه الظروف، في تعزيز وجودهم، لا التسهيل لإسرائيل زعزعة وجودهم، بشن الاعتداءات عليهم بين فترة وأخرى، أو اجتياح مناطقهم، كما حصل في اجتياح لبنان (1982) واجتياح الضفة في عمليتي السور الواقي والطريق الحازم (2002 – 2003)، والحروب الثلاث على غزة، مع ملاحظة عدم التسرع والمبالغة في تحميل فلسطينيي غزة أكثر مما يحتملون، إذ يجب إدراك أن إسرائيل تتوخّى خنق غزة، على المدى الطويل، ولنتخيل بقاء المعادلة التي تعيشها غزة تحت الحصار والقصف والاعتداءات، لعشرة أعوام أخرى.

خاتمة

قصارى القول، نحن اليوم إزاء خطّة لا تغيّر من الواقع السياسي في المنطقة، لكنها في المقابل تدّعي تقديم وعود اقتصادية كبيرة، وضمن ذلك للفلسطينيين، في وضع بات فيه النظام العربي أقلّ قدرة على التأثير في أحواله، بالقياس إلى الفاعلين الخارجيين، خاصة الولايات المتحدة.  لذا فالفكرة هنا أنه إذا كان الفلسطينيون لا يستطيعون شيئا كبيرا في الظروف العربية والدولية الحالية، القاهرة والمختلّة والمعقدة، ولا سيما في ظروف انهيار المشرق العربي، إلا أنهم مع ذلك يستطيعون تقليل الأكلاف والمخاطر التي يمكن أن تنجم عما يسمى خطة “صفقة القرن”، بيد أن ذلك يتوقف على حسن إدراكهم لهذا الواقع، وطريقة تدبرهم لإعادة بناء أوضاعهم، وإنهاء حال الانقسام والاختلاف في أحوالهم، فهذا أقل ما يمكن أو ما يجب عمله؛ في انتظار ظروف مواتية أكثر لتطوير كفاحهم واستعادة حقوقهم.

اظهر المزيد

ماجد كيالي

بــاحــث فلسطيــني - سورية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى