2020العدد 181ملف عربي

خطة ترامب والموقف الفلسطيني الراهن

وضعت خطة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، المعروفة باسم “صفقة القرن”، والتي طرحها مؤخّرا (28/1/2010)، الفلسطينيين أمام تحدّ كبير، سيما في ظروفهم الحالية الصعبة والمعقّدة والخطيرة، على كافة الأصعدة، إلى درجة يمكن القول معها بأن القضية الفلسطينية باتت على عتبة مرحلة جديدة، تختلف عن سابقاتها، بخاصة أن تلك الخطة تتأسس على الآتي:

أولاً: الالتفاف حول الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، المتمثلة بالحق في العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة في الأراضي المحتلة (1967)، والتي كان المجتمع الدولي اعترف له بها في عشرات القرارات الصادرة عن مجلس الأمن الدولي والجمعية العامة للأمم المتحدة منذ العام 1947.

ثانيا: التعامل مع الفلسطينيين بوصفهم مجرد مجموعات سكانية، لديها مشكلات ذات طابع إنساني، مع إخلاء مسؤولية إسرائيل عن ذلك، سيما فيما يخص اللاجئين الذين ستجري إعادة تعريفهم، بحصرهم باللاجئين (عام 1948)، أي من دون أبنائهم وأحفادهم، في حين يتم التعامل مع فلسطينيي الأراضي المحتلة، وحتى الفلسطينيين من مواطني إسرائيل (بحسب قانون أساس القومية اليهودية الذي أقر في يوليو 2018)، كسكان مقيمين، من دون أية حقوق سيادية أو سياسية فردية أو جمعية، ويتضمن ذلك تفكيك مفهوم الشعب الفلسطيني، أي بتأكيد الفكرة الصهيونية الأساسية باعتبار أن الفلسطينيين ليسوا شعبا، وأن فلسطين أرض بلا شعب، أي أنها وقف رباني لليهود باعتبارهم “شعب الله المختار”، وفقا للأسطورة التوراتية، بحيث يحق لليهود فقط السيادة على فلسطين من النهر إلى البحر وتقرير المصير فيها.

ثالثا: إزاحة القضية الفلسطينية من جدول أعمال واهتمامات المنظمات الدولية، وضمن ذلك تصفية منظمة إغاثة وتشغيل اللاجئين “أونروا”، واعتبار أن الشأن الفلسطيني لا يتم حله إلا بواسطة المفاوضات بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، كما بين إسرائيل والدول المضيفة للاجئين، مع خلق مشكلة مقابلة، أو تبادلية، تتعلق فيما يسمى باللاجئين اليهود من البلدان العربية إلى إسرائيل!

رابعا: تحديد سقف الطموحات الفلسطينية بحيث لا تتعدى الحكم الذاتي للسكان، في بعض مناطق الضفة (وغزة) بغض النظر عن حقهم بتسمية ذلك دولة أو غير ذلك، واعتبار هذا الأمر بمثابة نهاية للمطالب الفلسطينية، وكل ذلك مقابل وعود بالتنمية والازدهار الاقتصادي (في الضفة وغزة والدول المحيطة)، عبر ضخّ عشرات مليارات الدولارات (تتحمل القسط الأكبر منها الدول الخليجية)، وهي الوعود التي سبق أن كنا سمعنا مثلها كثيرا منذ بداية عملية مدريد للسلام في العام 1991، ومع إطلاق المفاوضات متعددة الأطراف، ثم بعقد اتفاق أوسلو عام 1993، وتنظيم مؤتمرات القمة “للتنمية في الشرق الأوسط وشمالي أفريقيا”، في أواسط التسعينات، وعلى أساس أن الكيان الفلسطيني الناشئ سيضاهي هونغ كونغ وسنغافورة، وأن السلام سيجلب الازدهار في الشرق الأوسط، الأمر الذي لم يحصل سابقا، وعلى الأغلب لن يحصل لاحقا، بمعنى أن ما يجري، بحسب التجربة، مجرد “طبخة بحص”، وقصور في الرمال، وبيع للأوهام.

خامسا: السعي الحثيث لفكّ الارتباط العربي بقضية فلسطين، وإقامة علاقات طبيعية بين الدول العربية وإسرائيل بغض النظر عن استجابتها للحقوق والمطالب العربية، حتى تلك التي جاءت في المبادرة العربية للسلام (قمة بيروت 2002)، ويأتي في هذا الإطار شرعنة وجود إسرائيل في المنطقة واعتبارها شريكا في الترتيبات الجارية في الشرق الأوسط. وبديهي أن الولايات المتحدة وإسرائيل يحاولان في الظرف الراهن استغلال المداخلات الإيرانية المضرة في المنطقة، من اليمن إلى لبنان والعراق وسوريا، في هذا الاتجاه، بمعنى أن السياسة الإيرانية خدمت، وإن بطريقة غير مباشرة، إسرائيل، أكثر مما أضرت بها.

ماهية الخطة

في التفاصيل فإن خطة ترامب تقوم على خطوط أساسية أهمها:

  1. إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة محدودة، ومقطعة الأوصال، حيث نابلس وجنين في الشمال، ورام الله في الوسط، والخليل في الجنوب، وطبعا ثمة قطاع غزة، مع إيجاد مناطق صناعية قريبة من غزة، في إطار ما تسميه تبادل أراضي، مع وجود ممرات تصل بين تلك المناطق، أنفاق وجسور، تحت السيادة الإسرائيلية.
  2. ضم معظم المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية إلى إسرائيل.
  3. ضم غور الأردن لإسرائيل، ما يجعل الكيان الفلسطيني من دون حدود جغرافية مع أي دولة عربية، سيما أن السيادة على المعابر والحدود هي لإسرائيل.
  4. القدس الموحدة ستكون عاصمة لإسرائيل، مع السماح بالوصول على أصحاب جميع الديانات، ويقيم الفلسطينيون عاصمتهم، في شعفاط وهي منطقة قريبة من القدس، وتقع خارج الجدار الفاصل، ويمكن تسميتها بالقدس أيضا.
  5. سائر الدولة الفلسطينية المستقبلية منزوعة السلاح، ومطلوب من السلطة الفلسطينية نزع سلاح حماس.
  6. الخطة تسمح للدولة الفلسطينية باستخدام وإدارة المرافق في موانئ حيفا وأشدود، ومنطقة على الساحل الشمالي للبحر الميت، واستمرار النشاط الزراعي في وادي الأردن.
  7. إلغاء حق العودة، وإعادة تعريف اللاجئ الفلسطيني، بحيث لا يتبقى في ذلك الإطار سوى الأفراد اللاجئين عام 1948، من دون أولادهم وأحفادهم، كما تلحظ حل مشكلة اللاجئين اليهود من البلدان العربية إلى إسرائيل.

    هكذا فإن خطة ترامب ليست مجرد خطة أميركية فقط، وإنما هي أيضا خطة إسرائيلية، بل وتمثل وجهة نظر اليمين القومي والديني في إسرائيل، وهو ما ظهر واضحا في المظهر الاحتفالي في البيت الأبيض (أواخر يناير 2020). أيضا أتت الخطة على شكل إملاء، فالفلسطينيون ليسوا طرفا فيها، علما أنهم أبدوا، منذ البداية، معارضة واضحة لكل النقاط التي أعلنتها، الإدارة الأميركية، كاعتبار القدس عاصمة لإسرائيل، وإزاحة حق العودة للاجئين، ووقف الدعم عن منظمة أونروا، وشرعنة الاستيطان، ونزع الاعتراف بمنظمة التحرير، وهي كلها أمور عمدت الإدارة الأمريكية في الأعوام الثلاثة السابقة على إقرارها، أي منذ بداية ولاية الرئيس ترامب (2017) في البيت الأبيض. إضافة إلى ما تقدم، فإن الخطة بمثابة صفعة لخيار التسوية الذي انتهجه الفلسطينيون، لاسيما بتوقيعهم اتفاق أوسلو (1993)، رغم كل الإجحاف والنواقص والثغرات المتمثلة فيه، لصالح إسرائيل، كما كانت صفعة للمجتمع الدولي وللشرعية الدولية، أي لتلك القرارات التي اتخذتها الأمم المتحدة في شأن قضية فلسطين، كما قدمنا.

وفي الحقيقة فإنه ما كان يمكن للإدارة الأميركية ومعها إسرائيل، أن تقوم بهذه البلطجة أو القرصنة الدولية، بحيث يقوم من لا يملك بمنح من لا يستحق، على طريقة وعد بلفور، وبحيث تطيح بقيم العدالة والمساواة والسلام وحق تقرير المصير التي أرستها الإنسانية في تاريخها الطويل، لولا الظروف الدولية والإقليمية والعربية والفلسطينية الصعبة والمعقدة.

فرية الفرص الضائعة

منذ بداية التسريبات المتعلقة بخطة ترامب (“صفقة القرن”)، طوال عامي 2018 و2019، ظلت الإدارة الأمريكية تحذر الفلسطينيين من رفض تلك الخطة، وباتت الدوائر السياسية الأمريكية والإسرائيلية تروج لاعتبار ذلك بمثابة فرصة أخيرة ينبغي على الفلسطينيين أن يقتنصوها، متهمة إياهم بتضييع الفرصة تلو الأخرى، منذ سبعين عاما، وهو كلام إنشائي عام، الغرض منه الضغط على القيادة الفلسطينية، والتلاعب بالرأي العام، سيما بالنظر للاعتبارات المهمة الآتية:

أولا: في الواقع فإن إسرائيل منذ قيامها هي التي رفضت أي حل وسط تاريخي للصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، وحتى إنها رفضت “المبادرة العربية للسلام” الصادرة عن مؤتمر القمة العربية (بيروت 2002)، رغم كل وعود التطبيع من كل الدول العربية مقابل السلام، أي قبل الانسحاب من الأراضي التي احتلتها عام 1967! وقبل ذلك كانت قوضت حتى مشروع النظام الإقليمي في الشرق الأوسط (مطلع التسعينيات) بسبب إصرارها على عدم الربط بين المفاوضات ذات الطابع السياسي والمفاوضات ذات الطابع الاقتصادي، أو بين تقدم المفاوضات الثنائية المتعلقة بالانسحاب من الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة عام 1967، والمفاوضات المتعلقة بالتعاون الإقليمي، التي انطلقت من عملية التسوية في مدريد (1991)، والتوقيع على اتفاق أوسلو(1993).

ثانيا: في الحقيقة ولا مرة كان ثمة فرصة حقيقية بالنسبة للفلسطينيين، إذ أن كل “الفرص” كانت تتوخى عدم الاعتراف بهم كشعب، وسلبهم أرضهم وتشريع اغتصاب حقوقهم، برضاهم، ومجرد الاقتراح عليهم قبول كيان بمرتبة حكم ذاتي (ولو كان اسمه دولة)، على السكان وليس على الأرض والموارد والأجواء والمعابر، غايته فقط التغطية على واقع الاحتلال، والاشتغال كوكيل أمني (بحسب اتفاقات التنسيق الأمني كما شهدنا)، في نظام من تقاسم السيطرة، في ظل السيادة الإدارية والأمنية والاقتصادية لإسرائيل.

ثالثا: منذ أواسط السبعينيات، أي منذ 45 عاما، ذهبت منظمة التحرير، وهي قيادة الشعب الفلسطيني، نحو خيار إقامة دولة فلسطينية في الضفة والقطاع، أي في 22 بالمئة من مساحة فلسطين التاريخية. وفي التفاصيل، فقد شهدنا أن تلك القيادة ذهبت إلى أقل من ذلك، بدعوى إضفاء مرونة أو تنازلات لنيل الثقة (في غير محلها)، توهما منها أن ذلك يمكن أن يعزز خيارها في “السلام”، وأن ذلك سيكون سبيلها لنيل دولة فلسطينية. هذا حصل في توقيعها اتفاق أوسلو (1993)، الذي رضيت فيه تأجيل البت بالقضايا الأساسية (اللاجئين، القدس، الاستيطان، الحدود، الترتيبات الأمنية)، وفي اتفاق أوسلو 2 (طابا 1995)، الذي رضيت فيه تقسيم أراضي الضفة إلى أ وب وج، وفي بروتوكول الخليل (1997) الذي رضيت فيه تقسيم مدينة الخليل إلى جزأين تحت السيادة اليهودية وتحت إدارة السلطة الفلسطينية، مع تحكمها بكل شيء، علما أن اليهود في المدينة بضع مئات فقط، مقابل 160 ألف فلسطيني. المهم في كل تلك المراحل أن إسرائيل لم تبد أي مرونة، أو أي خطوة إيجابية، لجهة الانسحاب من أغلبية أراضي الضفة، وتنفيذ الاستحقاقات المطلوبة منها في الحل الانتقالي ومدته خمسة أعوام (بحسب أوسلو ما يغطي الفترة 1994 ـ 1999)، بل إنها قامت بمناورة للتملص من تلك الاستحقاقات (في عهد باراك) بأخذ الفلسطينيين، بدعم من إدارة كلينتون، إلى كامب ديفيد 2، لفرض إملاءاتها عليهم في قضايا الحل النهائي، ولعلها ذات الإملاءات المطروحة اليوم متضمنة في خطة ترامب، الأمر الذي كشف تلاعبات إسرائيل، وقتها، ما فجر الانتفاضة الثانية ( 2000 – 2004)، التي عملت إسرائيل بعدها على قبر اتفاق أوسلو من الناحية العملية.

رابعا: لم تتوقف الأمور عند ذلك الحد (أي توقيع اتفاق أوسلو) فعندما طرح الرئيس بوش الابن خطته باسم “خريطة الطريق” (2003) وافقت القيادة الفلسطينية عليها، وضمن ذلك تعهدت بالحفاظ على أمن إسرائيل، إلا أن القيادة الإسرائيلية هي التي رفضت تلك الخطة، وهو ما فعلته في تفاهمات أنا بوليس أيضا(2007).

خامسا: في عودة إلى البداية، فقد كانت الحركة الصهيونية رفضت ما سمي في حينه “الكتاب الأبيض”، الذي أصدرته بريطانيا (1939)، في نوع من إرضاء للعرب من قبلها، إبان الحرب الثانية، وتضمن الحدّ من الهجرة اليهودية إلى فلسطين، ووقف بيوع الأراضي لليهود، وإقامة دولة فلسطينية يتشارك الحكم فيها العرب واليهود. أيضا كانت إسرائيل رفضت قرار التقسيم (181) لعام 1947 وقرار حق العودة للاجئين (194) لعام 1948، علما أنها أعلنت استعدادها الالتزام بهما بموجب قرار الاعتراف المشروط بها بموجب القرار (273) لعام 1949، إلا أنها بعد ذلك تنصلت منهما، علما أن قرار التقسيم تضمن إقامة نوع من اتحاد اقتصادي بين الدولتين (إسرائيل والفلسطينيين) وإبقاء القدس تحت إدارة دولية. وقبل كل ذلك فقد كانت بريطانيا، الدولة المنتدبة على فلسطين، ضمنت وعد بلفور في صك الانتداب، ما عنى فتح الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وتمكين المستوطنين من إقامة مؤسسات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية لهم، بإدارة الوكالة اليهودية، وتحت إشراف المنظمة الصهيونية العالمية، وكل ذلك قبل الحرب العالمية الثانية، وقبل الهولوكوست، الذي سرع هجرة اليهود إلى فلسطين، ما نجم عنه تدفيع الفلسطينيين ثمن جريمة لم يرتكبوها. في مقابل ذلك لم تسمح بريطانيا بنشوء تمثيل على مستوى وطني للفلسطينيين، بل إنها تلاعبت بهذا التمثيل بأساليب العصا والجزرة، الأمر الذي تتحمل مسؤوليته النخب الفلسطينية السائدة آنذاك، أيضا. في تلك المرحلة طرحت بريطانيا الكتاب الأبيض.

ويستنتج من كل ما تقدم أن تلك الفرية التي تطلق على الفلسطينيين لاتهامهم عن غير حق، تنطبق على إسرائيل قبل أي أحد آخر، إذ أن تاريخها تأسس على الرفض، ونفي وجود الشعب الفلسطيني، ونفي أي حقوق وطنية له. ولنلاحظ أنه بين إقامة إسرائيل (1948) واتفاق أوسلو (1993)، وحتى الآن، جرب الفلسطينيون مختلف أشكال النضال، السلمي والمسلح، المفاوضة والانتفاضة، الصراع السياسي والدبلوماسي، الصراع على الوجود أو شكل الوجود، إلا أن الظروف وموازين القوى، وقدرات إسرائيل ومكانتها الدولية، لم تمكنهم من تحقيق أهدافهم، بل إنها لم تسمح لهم بتحقيق إنجازات وطنية ملموسة في مواجهة إسرائيل، ولا حتى على صعيد فرض تسوية حل وسط تاريخي.

الاحتمالات

طبعا ليست خطة “صفقة القرن” المشروع الأول ولن تكون الأخير، ربما، الذي يدّعي حلّ القضية الفلسطينية، في حين يتوخّى تصفيتها عمليا، إذ سبقتها عشرات المشاريع، منذ قيام إسرائيل (1948) على حساب الشعب الفلسطيني، ضمنها مشاريع طرحتها الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أنها كلها لم تلق نجاحا، ولا قبولا من الشعب الفلسطيني، رغم أنه جرى تطبيقها جزئيا، بطريقة تعسفية، وبواسطة القوة، والقدرة على السيطرة. وفي الحقيقة فإن الفلسطينيين رغم ضعفهم ورغم البيئة العربية والإقليمية والدولية غير المواتية لهم، تشبثوا دائما بإيمانهم بعدالة قضيتهم وبقوة حقهم، رفضوا الرضوخ لإرادة القوة والغطرسة والظلم، التي استندت إليها كل المشاريع السابقة، وهذا ما ينطبق على خطة ترامب.

في هذا المجال، يمكن القول بأن خطة ترامب يمكن أن تُفرضَ بقوة الأمر الواقع، إذ ليست هي المرة الأولى التي يواجه فيها الشعب الفلسطيني هذا النوع من فرض الظلم على حساب العدل أو فرض إرادة القوة على حساب قوة الحق، بحسب العقليات الاستعمارية العنصرية والاستيطانية (إذ الولايات المتحدة ترى إسرائيل على مثالها)، ما يعني أن الفلسطينيين سيرفضون هذه الخطة وسيواصلون تمسكهم بحقوقهم وبأرضهم وبهويتهم، وبكفاحهم من أجل طموحاتهم العادلة والمشروعة، فهذا هو الأمر الطبيعي الممكن. بيد أن الفلسطينيين سيجدون أنفسهم هذه المرة في ظروف أصعب وأعقد من ذي قبل، ما يضيق قدرتهم على المناورة، وفقا للاحتمالات الآتية:

أولاً: استمرار رفض الخطة، ومقاومتها بالوسائل المتاحة، في المقابل استمرار إسرائيل بفرض الأمر الواقع على المدى الطويل، من خلال الإمعان في تهويد القدس، وتعزيز الاستيطان في الضفة، وترسيخ قدرة إسرائيل على التحكم بأحوال الفلسطينيين.

ثانيا: نشوء واقع من المواجهات، أو ردود الفعل الإسرائيلية، التي قد تؤدي إلى انهيار مبنى السلطة الفلسطينية، بشكله الراهن، لصلح خلق واقع من قيام كيانات محلية، تؤكدها خارطة ترامب للحكم الذاتي، التي قسمت ما أسمته فلسطين إلى أربعة مناطق، هي غزة، وشمال الضفة (نابلس وجنين) والوسط (رام الله) والجنوب الخليل، وهو احتمال كارثي، ويفاقم من مشكلة الفلسطينيين ومن مشكلة حركتهم الوطنية.

ثالثا: قيام نوع من مساومة تقوم فيه القيادة الفلسطينية بالمفاوضة مع الإدارة الأمريكية ومع إسرائيل لتحسين شروط وجودها وعملها ومكانتها في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ما يسمح لها بالاستمرار والترويج إلى أنها وقفت ضد الخطة، وأنها حققت إنجازات في سبيل ذلك.

رابعا: مقاومة خطة ترامب الإسرائيلية، جملة وتفصيلا، واندلاع نوع من انتفاضة شعبية رابعة، مثلا، أو أي سيناريو شبيه، إلا أن ذلك يبدو احتمالا ضعيفا في الظروف الفلسطينية والعربية والإقليمية والدولية الراهنة، أو غير مسموح به.

ما العمل

في الغضون، ثمة مسؤولية تقع على عاتق القيادة الفلسطينية التي يجب ألا تكتفي بمجرّد الرفض، فذلك على أهميته لا يغطي مسؤوليتها في حشد أوراق القوة التي يمتلكها شعب فلسطين، وإعدادها له ولكياناته الوطنية الجمعية لمواجهة تلك اللحظة الخطيرة، وضمن ذلك تبنّيها لخيارات بديلة أو موازية، بعد انسداد خيار التسوية منذ زمن، وانهيار خيار حل الدولتين. وربما أن البيان الذي أصدره “ملتقى فلسطين”، الذي يعبر عن مجموعة من مثقفين وأكاديميين ونشطاء وكتاب، من فلسطين التاريخية وبلدان اللجوء والشتات، يشير إلى خطوات معينة في هذا الاتجاه، ضمنها:

أولا: استعادة الخطاب الفلسطيني المؤسّس، القائم على جوهر الصراع المتمثل في النكبة عام 1948، وتوصيف إسرائيل كدولة استعمارية واستيطانية وعنصرية، وصياغة رؤية سياسية تعيد الاعتبار للتطابق بين قضية فلسطين وأرض فلسطين وشعب فلسطين، لأن ذلك وحده ما يطابق بين الحقيقة والعدالة وحقوق المواطنة وحقوق الإنسان، والقرارات الدولية ذات الصلة. والتأكيد على أن أيّ حل لجزء من حقوق شعب فلسطين لا يأتي على حساب حقوق جزء آخر، وأن أيّ حل يجب أن يتمثل مصالح الشعب في كافة أماكن وجوده في فلسطين التاريخية وفي بلدان اللجوء والشتات، وأن الصراع على فلسطين يشمل الصراع على الحقوق الفردية والوطنية لشعبنا.

ثانيا: إعادة بناء الكيان السياسي الجمعي القائم (منظمة التحرير) باعتباره كيانا لكل الشعب الفلسطيني في مختلف أماكن وجوده، بحيث لا يستثني أيّ تجمع في الداخل وفي الخارج، على قواعد نضالية مؤسسية وتمثيلية وانتخابية وديمقراطية، والفصل بين السلطة والمنظمة إداريا ووظيفيا، مع إيجاد النظم التي تكفل إنهاء الفساد والزبائنية والمحسوبية في بنى المنظمة والأجهزة المنبثقة عنها، مع تأكيد دور السلطة في إدارة أحوال المجتمع الفلسطيني في الداخل، بعد إصلاحها على الأسس المذكورة.

ثالثا: ابتداع أشكال كفاحية تعتمد على الشعب وإمكانياته وتجاربه النضالية، بحيث توازن بين الكلفة والمردود، وبين التضحيات والإنجازات، والتي يمكن استثمارها سياسيا، والتي تستنزف العدوّ وتنمّي تناقضاته أكثر مما تستنزف شعبنا الفلسطيني، وتجعل الاحتلال باهظ التكاليف يضطر معها أن يعيد حساباته في جدوى الاستمرار في سياسة الاستعمار الاستيطاني، لاسيما أننا في صراع طويل لا يمكن حسمه من طرفنا إلا بتوفر الظروف العربية والدولية المناسبة.

عموما، ربما يتم طيّ صفحة من عمر الخيارات وطرق العمل الفلسطينية التي تم انتهاجها في المرحلة الماضية، بفعل معطيات وتداعيات الخطة الأميركية – الإسرائيلية، لكن ذلك لا يعني أن قضية فلسطين ستنتهي، لأن قضايا الحرية والعدالة لا تموت، فهي تبقى ما بقي الشعب على إيمانه بقضيته وحقوقه.

اظهر المزيد

ماجد كيالي

بــاحــث فلسطيــني - سورية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى