2021العدد 187ملف عربي

“قمة بغداد الثلاثية” آفاق سياسية واقتصادية واعدة وحساسيات إقليمية مُحبّطّة.

تكتسب القمة الثلاثيّة (العراقية المصرية الأردنية) – التي عُقدت ببغداد في 27 يونيو 2021م- أهمية بالغة إزاء ما تحمله من آفاق سياسية واقتصادية واعدة تؤسس لتحالف إستراتيجي وتكامل اقتصادي واتحاد عربي قد يتجاوز نطاق دُولِه الثلاثة صوبَ فضاءات عربية رَحبَة، وسبيلًا لتشكيل رؤية عربية موحَّدة في مواجهة التحديات الثقيلة المحدِقة بمنطقة الشرق الأوسط راهنًا “قمة بغداد”، التي جمعت جلالة الملك “عبدالله الثاني ابن الحسين”، والرئيس المصري “عبد الفتاح السيسيّ”، ورئيس الوزراء العراقي “مصطفى الكاظمي” في الجولة الرابعة لآلية التعاون الثلاثي التي انطلقت بالقاهرة في مارس 2019م، والتي بعثت برسائل سياسية داخلية وخارجية وازنِة، وخرجت برزمة اقتصادية زاخرة، وخلُصت إلى تفاهمات أمنية مشتركة، فيما تَوَّجت تحركها بمشروع “الشام الجديد” الإستراتيجي، الذي يشكل نواة تكتل ثلاثي مفتوح أمام انضواء دول عربية أخرى، وربما أوروبية لاحقًا، تحت مظلته التعاونيّة الزخمة؛ سبيلًا لتحقيق التنمية المستدامة والرخاء والازدهار لشعوبها وخدمة القضايا العربية.

القمة الثلاثية- التي شهدت زيارة أول رئيس مصري للعراق منذ غزو الكويت عام 1990م بما يعكس قوة العلاقات التاريخية الثنائية، ويؤكد حرص مصر على تعزيز التعاون والتنسيق في إطار وحدة المصير والتحديات- قد حظيت بترحيب عربي ودولي واسع، ولكنها لم تشكل موضع ارتياح كبير عند قوى إقليمية وُجدت فيها معول صدٍ أمام مساعيها لبسط النفوذ والسيطرة في المنطقة، وإنفاذ مخططها التوسعيّ الطموح حدّ انحساره، وموطن جذب للعراق نحو العودة للحاضنة العربية الرئيسية بعيدًا عن أيدي التمدد الخارجي، مما يشكل تحديًا وازنًا قد يؤول عقبة كؤود أمام مخرجات “قمة بغداد”.

أولًا: الأبعاد السياسية

دشَّنت القمة الثلاثية خطوات وازنة في مسار الشراكة الإستراتيجية بين (العراق ومصر والأردن)، نحو تكتل عربي تكاملي؛ استكمالًا للقاءات الثلاث السابقة التي عُقدت بمصر في آذار 2019م، والولايات المتحدة الأمريكية في سبتمبر من العام نفسه على هامش اجتماعات الأمم المتحدة في نيويورك، والأردن في أغسطس 2020م، بهدف تطوير آلية التعاون المشترك، وتعزيز العلاقات السياسية والاقتصادية والتجارية والأمنية، وترسيخ مقومات التنمية المستدامة والازدهار، وذلك عبر مؤسسة “آلية التنسيق الثلاثية” بإنشاء سكرتاريا تنفيذية، يكون مقرها بالتناوب سنويًا في إحدى الدول الثلاثة، وهي العراق حاليًا، ولمدة عام واحد.

وإذا كان الجانب الاقتصادي يشغل حيزًا وافيًا في أجندة القمة الثلاثية؛ فإن بعدها السياسي الوازن يَبزُغُ من بين ثنايا توقيت عقدها ومضمون أهدافها وثقل نتائجها الممتدة بآثارها الايجابية من حيز نطاقات دولها الثلاثة صوب فضاءات عربية رحبة. إذ تنعقد “قمة بغداد” في ظل التطورات الدولية والإقليمية المتلاحقة، والتحديات الاقتصادية والسياسية والأمنية والصحية المُحدِقَة بالمشهد العربي المضطرب، والمساعي الإقليمية الدؤوبة للهيمنة والتدخل في شؤونه الداخلية، بما يهدد الأمن القومي العربي، ويعني في المحصلة السير الدائم بالمنطقة نحو مزيد من عدم الاستقرار.

شكلت القمة الثلاثية، وما يتبعها من اجتماعات تنسيقية، فرصة مهمة لاستمرار التشاور والتنسيق بين الدول الثلاثة؛ سبيلًا لتحقيق مصالحها وخدمة القضايا العربية ودعم العمل العربي المشترك وتحصين الساحة العربية في مواجهة التدخلات الخارجية، وتأكيد قدرة الدول العربية على حماية أمنها القومي، استنادًا إلى الرؤية المشتركة التي خرجت بها حيال قضايا وأزمات المنطقة.

وقد بعثت القمة الثلاثية برسائل سياسية مهمة حينما أكدت دعمها لمواقف مصر والسودان في قضية سد النهضة، وضرورة الامتناع عن القيام بأي إجراءات أحادية، بما في ذلك الاستمرار في ملء السد، دون التوصل لاتفاق عادل وشامل وملزم قانونًا حول قواعد مِلْئِه وتشغيله وبما يحقق مصالح الدول الثلاث ويحفظ الحقوق المائية لمصر والسودان.

وتنسحب الرؤية المشتركة لسلامة منظومة الأمن القومي العربي، ودعم استقرار المنطقة على الموقف من أزمة شرق المتوسط، في ظل الخلاف التركي – اليوناني القائم، بما يجعل القمة الثلاثية، التي ينضوي طرفاها (المصري والأردني) ضمن عضوية منتدى “غاز شرق المتوسط”، الذي تشكل في يناير 2019م ومقره القاهرة_ تكتلًا مضادًا لأهداف “أنقرة” الاقتصادية السياسية ضمن ساحتها، توازيًا مع التحركات المصرية الأخيرة على خُطى اليونان وقبرص اليونانية، إلى جانب علاقاتها الوطيدة مع دول الخليج العربي؛ لبلوغ صيغة إقليمية في مواجهة التحديات المحدقة بالإقليم.

أما الرسالة السياسية الثانية فكانت منبعثة من البلد المضيف نفسه، فبالرغم من الأزمات الداخلية والخارجية التي يشهدها العراق، إلا أن استضافته للقمة الثلاثية- عقب نجاحه في استقبال زيارة بابا الفاتيكان خلال شهر مارس 2021م- يشي باستعادته للثقة العربية والدولية، وتوفر إرادة الانفتاح على فضاءات خارجية رحبَة تسهم في تعزيز حضوره عربيًا ودوليًا وتساعد على حلحلة مآزقه وإيجاد فرص تعاونية زخمة، مثلما تظهر أيضًا، قدرة الأجهزة الأمنية العراقية على ضبط الأمور والتحكم بمجريات القمة أمنيًّا وبروتوكوليًا. 

وقد عبّر البيان الختامي للقمة الثلاثية عن إشادته بالجهود الدبلوماسية العراقية المتوازنة؛ لتدعيم الأمن والاستقرار الإقليمي، وبمحاولاتها لتقريب وجهات النظر لحل خلافات المنطقة، وبمساعيها الحثيثة لمحاربة الإرهاب والتصدي لتنظيم “داعش”، الذي ما يزال ينشط في جيوب إرهابية متناثرة ضمن الساحة العراقية رغم هزيمته عام 2017م، مع تأكيد دعمها لجهود الحكومة العراقية في ترسيخ أمن العراق وفرض السيادة الوطنية ومنع التدخل في شؤونه الداخلية، وتهيئة الأجواء لإجراء الانتخابات البرلمانية في أكتوبر 2021م، بما يساهم في تعزيز الأمن والاستقرار للبلاد.

وتجسد التحرك الثلاثي المضادّ للتحديات الأمنية المشتركة عبر توافق دول القمة حول تعزيز التنسيق الأمني والاستخباري لمكافحة الإرهاب، ومواجهة كل من يدعمه سياسيًا أو ماليًا أو إعلاميًا أو يشكل حاضنة آمنة له، في إطار تأكيد أهمية استكمال المعركة الشاملة المضادة له.

وإذا كانت حجم الملابسات الموجودة على الساحة العراقية- لاسيما القوى العسكرية والمليشيات الشعبية، فضلًا عن درجة النفوذ الإيراني ضمنها- قد تشكل تحديًا وازنًا أمام نفاذ توافق تكاملي عراقي مع آفاق خارج نطاقها، فإن القمة الثلاثية، بجوانبها (السياسية والاقتصادية والأمنية)، من شأنها أن تسهم في ربط العراق مع امتداداته العربية، والحد من النفوذ الإيراني ضمن ساحته وتقليل تأثيرها الوازن على مراكز القرار فيه عبر تنفيذ حزمة المشروعات المشتركة، التي تحقق المصالح السياسية للدول الثلاثة وتؤمن تخفيف اعتماد العراق على إيران، لاسيما في استيراد الطاقة، فضلًا عن توجيه رسالة إلى الإدارة الأمريكية بأن “العراق لن يكون أحادي العلاقة مع إيران على حساب الدول العربية”، إذ قد يُنظر للقمة على أنها محاولة من القاهرة وعمّان الحليفتين لواشنطن في الشرق الأوسط؛ لتقريب العراق من واشنطن وتحقيق علاقة متوازنة معها، في ظل التوتر الأمريكي الإيراني الراهن.

ويستقيم ذلك مع وجهة البوصلة العراقية نحو العمق العربيّ؛ فبغداد التي استضافت في إبريل 2021م لقاءً سعوديًا إيرانيًا، تسعى لأن تتحول وسيطًا إقليميًا قويًا لإبعاد البلاد عن أتون صراع القوى الإقليمية، وإحلال الأمن والاستقرار في ساحتها التي ما تزال موئلًا لأذرع فصائلية ذات امتدادات خارجية، فضلًا عن مساعي تثبيت سياستها الخارجية فيما يرتبط بالمنظومة العربية، ونزع أوراق قد تكون قوية بيد إيران، في ظل دعمها لفصائل مسلحة في العراق.

فيما أبرز مشروع “الشام الجديد”- الذي بحثته القمة الثلاثية- مساعي “بغداد” للعودة إلى محيطها العربي ولعب دور محوري فيه عبر محاولة بلورة مظلات تعاون عربية متعددة، انطلاقًا من التعاون مع مصر والأردن؛ لتمتعهما بثقل إستراتيجي إقليمي ودولي مؤثر وقدرة على تأمين المناخات المواتية لتحقيق التنمية المجتمعية العراقية المنشودة إزاء اكتسابهما مقومات اقتصادية وازنة توفر فرصًا مناسبة للعراق لتعظيمها بقدراته وموارده الغنية، فضلًا عن عدم تورطهما في إشكالات معه خلافًا لإيران وتركيا، وذلك بموازاة توسيع العراق لشراكاته الاقتصادية والسياسية مع دول الخليج العربي، بخاصة السعودية والإمارات، بما يؤسس لمنظومة تعاون عربية شاملة وجامعة.

ثانيًا: آفاق اقتصادية واعدة

أسست القمة الثلاثية لتكامل اقتصادي وتجاري واعد عبر اعتماد السبل والآليات المناسبة لترجمة العلاقات الإستراتيجية بين البلدان الثلاثة إلى النفاذ الملموس، بما يسهم في تحقيق التنمية المستدامة والرخاء والازدهار لشعوبها ويصب في مصلحة الشعوب العربية، وتوفير القدر الأكبر من الانسجام والتوافق والتنسيق في المصالح الاقتصادية والسياسية العربية.

وقد صاغت “قمة بغداد” أطر الشراكة الاقتصادية الثنائية والثلاثية في رزمة قرارات وإجراءات مهمة تستند إلى اتفاقات زاخرة للتعاون وقعتها خلال الأعوام الماضية؛ لترسيخ التواصل الجغرافي، ودعم الاستثمار، وإنشاء المدن الصناعية المشتركة، وزيادة التبادل التجاري، وإقامة مشاريع البُنى التحتية، وإعادة تفعيل حركة النقل والشحن عبر ميناء نويبع/ العقبة حتى معبر الكرامة/ طريبيل، وتطوير الحركة الإسكانية، وتحفيز التعاون في المجالات (الصناعية والزراعية والصحية والغذائية والثقافية والعلمية)، بحيث لا تنحصر آثارها الايجابية ضمن نطاق دولها الثلاث، بل تمتد إلى فضاءات عربية زاخرة.

ومن أبرز ما خَلُصت إليه القمة التوصية بالسير في الإجراءات اللازمة لبدء تنفيذ مشروع المدينة الاقتصادية العراقية – الأردنية المشتركة، وإعطاء الأولوية للشركات من الدول الثلاثة للمشاركة بعطاءات إنشائها، وتعزيز مشروع الربط الكهربائي وتبادل الطاقة الكهربائية بين الدول الثلاثة، وربط شبكات نقل الغاز بين العراق ومصر عبر الأردن، وإتاحة منفذ لتصدير النفط العراقي عبر الأردن ومصر من خلال المضي باستكمال خط الغاز العربي وإنشاء خط نقل النفط الخام (البصرة – العقبة)، والتعاون في مختلف مجالات مشروعات الطاقة الكهربائية والطاقة المتجددة والبتروكيمياويات وبناء القدرات وتبادل الخبرات، وتهيئة مناخ الاستثمار؛ لدعم شركات القطاع الخاص لتنفيذ المشروعات في الدول الثلاثة.

ويعد الأنبوب النفطي الرابط بين ميناء البصرة (جنوب العراق) بميناء العقبة الأردني وصولاً إلى مصر، أحد أبرز الملفات الاقتصادية، كونه يمثل تعزيزًا للاقتصادين (الأردني والمصري)، ويفتح منفذا جديدا لتصدير النفط العراقي، إلى جانب المنفذين الحاليين؛ جنوبًا عبر الخليج العربي، وشمالًا عبر ميناء جيهان التركي على البحر الأبيض المتوسط، مثلما يتيح للعراق تشغيل القوى العاملة المصرية الماهرة ضمن مدينة صناعية مشتركة بين الأردن والعراق، فضلًا عن تسهيل مرور البضائع عبر طرق برية تربط البِلدان الثلاثة معًا.

فيما يقف مشروع الربط الكهربائي بين العراق والأردن على نفس الأهمية، حيث من المتوقع الانتهاء من المرحلة الأولى لبنية الربط مع نهاية عام 2022م، وبذلك تتصل الشبكة الكهربائية بين البِلدان الثلاثة بالتزامن مع تحديث وإصلاح الشبكة الكهربائية العراقية الداخلية، فضلًا عن الربط الكهربائي مع مجلس التعاون الخليجي الذي سيكتمل في نفس العام.

وتتوفر مقومات التكامل الاقتصادي بين الدول الثلاث في ظل الإمكانيات الوازنة لكل منها، من حيث القدرات البشرية والموارد النفطية والخبرات التقنية والسوق الضخم والمواقع الإستراتيجية الوازنة في منطقة الشرق الأوسط، فضلًا عن ناتجها الإجمالي الذي يزيد على 580 مليار دولار، مما يشكل كتلة اقتصادية وازنة.

ومن شأن هذا التعاون أن يشكل بوابة للسلع من القارة الآسيوية إلى الإفريقية عبر الأردن والعراق من خلال مصر، فيما يتطلع العراق لفتح نافذة على البحر الأحمر ومن ثَم البحر الأبيض المتوسط لتصدير النفط؛ ليكون قريبًا من الأسواق الأوروبية، فضلًا عن تعاونه مع مصر في قطاع الإسكان وإعادة الإعمار.

كما يستفيد الأردن تجاريا واقتصاديا من التعاون والتبادل تجاري بين الدول الثلاثة، عبر انتعاش قطاع النقل والطاقة، وتوسيع نطاق دخول منتجاته للعراق ومصر، حيث يفضي التكامل الجمركي بين (عمان و بغداد) إلى بيع السلع المنتجة في العراق داخل الأردن وبالعكس، مما يجلب الاستثمارات ويرفع حجم التبادل التجاري الثنائي ليصل إلى مليار دولار في المرحلة الأولى ثم إلى خمسة مليارات دولار لاحقًا، وذلك بعدما وافقت الحكومة العراقية على إعفاء البضائع الأردنية من التعرفة الجمركية.

مشروع “الشام الجديد”

تسارع كل من: (مصر والأردن والعراق) الخُطى الحثيثة؛ لتتويج باكورة تحالفها الإستراتيجي في إنفاذ مشروع “الشام الجديد” الإستراتيجي، الذي بحثته القمة الثلاثية، بعدما أطلقه الكاظمي للمرة الأولى، في أغسطس 2020م، بوصفه “مشروعا اقتصاديا على النسق الأوروبي، من شأنه أن يتيح تدفقات رأس المال والتكنولوجيا بين البِلدان الثلاثة بحرية”، مشكلاً نواة صلبة لتكتل إقليمي وازّن ينبثق من ساحاتها صوب عواصم عربية أخرى، وربما أوروبية في مرحلة لاحقة.

وإذا كان مشروع “الشام الجديد” يتضمن تعاونًا في مجالات اقتصادية واستثمارية زاخرة، ويفتح أطر الاستفادة من مزايا دُولِهِ الثلاثة وإمكاناتها الغنيّة، فيما يشكل خط النفط (البصرة – العقبة – مصر) عماده، إلا أنه لا يمكن اختزال منافعه في الشق الاقتصادي فقط، حيث يحمل بعدًا سياسيًا وازنًا إزاء مسعى العراق لضم سورية إلى محوره عقب خطوات إعادة العلاقات الدبلوماسية الكاملة معها وإعادة عضويتها إلى جامعة الدول العربية ودعم التسوية السياسية للأزمة السورية، بما يعزز في المنظور العراقي من متانة التحالف الإستراتيجي الثلاثي والتكتل الاقتصادي التكاملي في مواجهة مخططات قوى إقليمية للهيمنة وبسط النفوذ على المنطقة، وبما يقوي من الجبهة المضادة لتنظيم “داعش” الإرهابي.

ولدى نجاح مساعي هيكلة نطاق المشروع، فإنه سيحمل في داخله خريطة جيوسياسية جديدة لمنطقة الشام، بعدما وسّع رقعة مساحتها جغرافيًا؛ لشمول ربطه بدولة بحجم مصر، إلى جانب الربط الاقتصادي عبر شبه جزيرة سيناء، التي تشهد حاليًا تنمية شاملة، مما سيؤثر على خرائط القوى والنفوذ في منطقة الشرق الأوسط.

ويحمل المشروع في طياته نقاط قوة سياسية، بوصفه تكتلًا عربيًا تعاونيًا يحظى بتشجيع جامعة الدول العربية ولا ينفصم عن إطارها، وتحالفًا فاعلًا يضم دول مؤثرة ومعتدلة قد تضع ثقلها السياسي بالتنسيق مع دول الخليج العربي لجهة تعزيز استقرار المنطقة، و “حلفًا جديدًا” يهدف إلى تشكيل منظومة إقليمية للدفاع عن الدول الثلاثة في مواجهة التحديات السياسية والأمنية الحادة، وتعزيز حضورها المضادّ لأي مقاربة سياسية مغايرة للمنطقة، فضلًا عن كونه نواة ثلاثية قابلة للتوسع عربيًا، بما يسهم في فرض معادلات متوازنة في المشهد الإقليمي.

ثالثًا: حساسيات إقليمية

لم تشكل القمة الثلاثية، وما توجّته دولها من تحالف إستراتيجي وتكتل اقتصادي واتحاد عربي مُرشَّح للتوسع، موضع ارتياح كبير عند قوى إقليمية تجد فيها معول صدٍ أمام مساعيها لبسط النفوذ والسيطرة في المنطقة، وموطن جذب للعراق نحو العودة للحاضنة العربية الرئيسية بعيدًا عن أيدي التمدد الخارجي، وآلية قوية لتعضيد أواصر العلاقات العربية على حساب مصالحها الضيقة ونفاذ مخططها التوسعي الطموح، صوب انحساره، مما يشكل تحديًا وازنًا، قد يؤول عقبة كؤود أمام نفاذ تحركات الدول الثلاثة.

ويمثل مشروع “الشام الجديد” تحديًا وازنًا أمام تلك القوى الإقليمية المضادة، بما يحمله من نواة تكتل سياسي واقتصادي عربي وازن قد يواجه مشروعها التوسعي في المنطقة، ويسهم في انحسّار نفوذها ضمن الساحة العراقية، موضع التنافس التركي الإيراني المحتدم، مقابل إسناد خطوات العودة العراقية إلى العمق العربي بعيدًا عن التمدد التركي الوازن وسطوة النفوذ الإيراني، كما يقوّض حجم الصادرات الإيرانية والتركية إلى السوق العراقية لصالح تحوله حاضنًا للصناعات المصرية والأردنية؛ سبيلًا للانفكاك التدريجي من الهيمنة الإيرانية – التركية على مقدرات الاقتصاد العراقي، في ظل الميزان التجاري الذي يميل لصالحهما.

وقد لا تقف إيران طويلًا مكتوفة الأيدي أمام عودة العراق إلى محيطه العربي؛ إذ قد تسعى لعرقلة تطور العلاقات العراقية مع مصر والأردن وكبح الانفتاح الاقتصادي والتجاري عليهما وتخريب المشاريع الحيوية المشتركة معهما، وإرباك المشهد الأمني والسياسي العراقي، فيما قد تتخذ تركيا من حملتها المناهضة لحزب العمال الكردستاني في شمال العراق ذريعة لتأسيس وجود عسكري طويل الأمد هناك، مصحوب بنفوذ سياسي وقوة اقتصادية، وشغل مساحات من إقليم كردستان توظفه كورقة ضاغطة على الإقليم وسط أزمتها مع اليونان في منطقة شرق المتوسط، مما يشكل تحديات وازنة أمام مخرجات القمة الثلاثية.

وفي المحصلة: فإن الإرادة السياسية المتوفرة عند الدول الثلاثة لإنجاح تحالفهم الإستراتيجي ونفاذ مشروع “الشام الجديد” الضخم، ومعالجة ما قد يعترضه من معوقات عامل الوقت والقدرة الفنية المناسبة، تشكل “صمام أمان” مضادّ للتحديات القائمة والمحاولات الإقليمية الحثيثة لطمسّ نموذج عربي تعاوني يحمل آفاقًا سياسية واقتصادية واعدة.

اظهر المزيد

نادية سعد الدين

كاتبة وباحثة في العلوم السياسية -الاردن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى