2021العدد 187ملف عربي

مدى قدرة المقاومة غير المتكافئة على فتح أفق سياسي للتسوية

في تناولنا لهذا الموضوع المتعدد الجوانب والمتعلق بالمواجهة الفلسطينية الإسرائيلية (غير المتكافئة) (مايو 2021) سنقتصر – لضيق المجال – على ثلاثة جوانب نراها أساسية وهي:

أولًا:- إسرائيل: والمفاهيم والأساطير التي تشكل مواقفها.          

ثانيًا:- المواجهة وتداعيات عدم التكافؤ.

ثالثًا:- هل تفتح هذه المواجهة أفقًا سياسيًا للتسوية؟

أولًا : إسرائيل والمفاهيم والأساطير التي تشكل مواقفها .

إسرائيل دولة تختلف عن باقي دول العالم في أسباب قيامها والمفاهيم التي تستند إليها ؛ فهي تنهل من ينابيع وأساطير قديمة، وهي دولة لها مشروع احتلال اقتلاعي لشعب آخر؛ وسعيها الحثيث لجلب يهود العالم (يهود الدياسبورا) واعتبارهم يهود في المنفى، وانتزعت لنفسها حق الوصاية على أفراد (يهود) لا يتبعونها قانونًا؛ لسبب بسيط أنهم يحملون جنسيات دول أخرى، كما انتزعت لنفسها حق تمثيل يهود العالم أمام المنظمات الدولية وغيرها، وحق الاستيلاء على أموال من لا وارث لهم، كما حدث في سويسرا وألمانيا وغيرها.

وهي تنظر لنفسها على أنها ذات مرجعية أو سلطة وصائية منتدبة على يهود العالم، ودون أي تفويض منهم، وتعتبر نفسها مسؤولة عما يحدث لهم من أحداث لمجرد

أنهم يدينون باليهودية، وهو أمر يتعارض مع مبادئ القانون الدولي التي لا تؤسِّس الجنسية على الروابط الدينية، بل هي – كما هو معروف ومطبق – تستند إلى رابطة سياسية، أي الانتماء قانونًا لدولة معينة والولاء لها، ولا يمكن لأية دولة أن تفرض حمايتها على رعايا دولة أخرى تحت أي ادعاء، كما تفعل إسرائيل. ([1])

وفي الوقت التي تفتح فيه إسرائيل أبوابها لأي يهودي في العالم وتمنحه جنسيتها إذا عاد إليها طبقًا لـ(قانون العودة) تنكر حق الفلسطينيين في الوطن الذي وُلِدوا وآباؤهم فيه.

وهو ما يفسر جانبًا من السياسة الإسرائيلية السرية لترحيل الفلسطينيين على مراحل، ولعل أبرز مثل لهذه السياسات: سياسة ترحيل الفلسطينيين من القدس الشرقية، وافتراض أن كل فلسطيني يعيش فيها حاليًّا هو مهاجر ويقيم في بيته بموجب إذن إقامة تمنحه له السلطات الإسرائيلية، وهدف هذه السياسة إيجاد واقع ديمغرافي يهودي جديد لا يمكنه تحدي سيادة إسرائيل على هذه المدينة وسياستها لتهويد الأحياء العربية القديمة فيها ، ولا تتردد في نسف بيوت الفلسطينيين كما في حي الشيخ جراح وسلوان… وغيرهما.

وهنا نستحضر قول “هرتزل” المستشار الألماني “سوف نطالب بما نحتاج إليه  كلما زاد عدد المهاجرين كلما زادت حاجتنا إلى  الأرض”. وما أعلنه” نفتالي  بينيت” بتاريخ 8/1/2020 -وقت أن كان وزيرًا للدفاع- عن “ضم مناطق “ج” في الضفة الغربية إلى إسرائيل (وهي أرض محتلة)،  وأن هدف إسرائيل خلال عقد من الزمن أن يسكن في الضفة الغربية مليون مواطن إسرائيلي”، واعتبر أن “إسرائيل تخوض حربًا حقيقية في المنطقة “ج”.

والتوسع الإسرائيلي في الأراضي المحتلة يحتاج لمزيد من المهاجرين اليهود، وإلى الاستيلاء على مصادر المياه أو جلبها بطرق أو بأخرى لإسرائيل، ومزيد من اقتلاع السكان العرب من ديارهم؛ بحجة أن أراضيهم كانت مملوكة لليهود منذ ألفي سنة، وإذا حاولنا إعادة تنظيم العالم اعتمادًا على هذه الأساطير؛ فإننا سنُحدث فوضى في العلاقات الدولية، فالأرض تنتمي في المقام الأول إلى سكانها الدائمين والأصليين، وليس للأطماع الإسرائيلية صلاحية أو شرعية أخلاقية أو قانونية لأي حق تاريخي مزعوم في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

2- توظيف النصوص الدينية والأسطورية لتبرير التوسع الاستيطاني.

يبدو ذلك من طغيان النصوص الدينية والاسطورية لتبرير السياسات الإسرائيلية التوسعية، وما يتضمنه ذلك من التفسير المتطرف لبعض النصوص الدينية وتحويل الأساطير إلى تاريخ، فأرض فلسطين كانت ولا تزال محور المزاعم والأساطير التي أطلقها قادة المشروع الصهيوني حول “مقولة أرض الميعاد”، التي تشكل الإطار الجغرافي لدولة إسرائيل القومية التوارتية، وانطلاقًا من هذا المفهوم لا تعترف بالأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية بل تعتبرها أرضًا تشكل جزءًا لا يتجزأ من أرض إسرائيل التاريخية، أو في أحسن الفروض “أرض مدارة” أو متنازع عليها .

ولا تعترف إسرائيل بسريان القوانين الدولية المتعلقة بالأراضي المحتلة بالضفة الغربية لاسيما اتفاقية جنيف الرابعة، ولا بقرار الأمم المتحدة رقم 22 الصادر عام 1967، الذي استنكر قيام إسرائيل بضم القدس واحتلال وتهجير أهلها، فضلًا عن قرار “الكنيست” الذي اعتبر “القدس هي العاصمة الوحيدة والأبدية لإسرائيل” وقد رفضت إسرائيل تنفيذ هذا القرار وساعدها على ذلك امتناع الولايات المتحدة عن التصويت له.

وفي هذا السياق تتبع إسرائيل سياسة إنهاك السكان العرب من أجل دفعهم للهجرة النهائية؛ لتحجيم ما تسميه “الخطر الديموغرافي الفلسطيني”. وتمارس أجهزة الدولة كل سلطاتها وصلاحياتها من أجل نزع ملكية السكان العرب، واستطاعت إسرائيل على هذا النحو الاستيلاء على أكثر من نصف أراضي الضفة الغربية وحوالي  ثلث أراضي قطاع غزة.

3- المفهوم الإسرائيلي للأمن المطلق.

يشكل هذا المفهوم مفهومًا راسخًا في أغلب عقول الساسة الإسرائيليين، وهو وراء إطلاق شعار “الأمن مقابل السلام” أو الأمن المطلق لإسرائيل الذي يَعني – بالضرورة – عدم الأمن للآخرين.

وهذا المفهوم نابع من العقلية التي تشكلت في إطار دائرتين: الأولى تستمد مقوماتها من التوراة والتلمود، وكلاهما مليء بأماني الأمن سواء في شكل قصص وأساطير تتحدث عن نجاح اليهود في تحطيم سواهم من البشر، أما الدائرة الثانية: فهي فترة الحياة في الشتات وما عاناه اليهود من اضطهاد وعزلة في المجتمعات الغربية. ولاتزال مشكلة الأمن الناجمة أساسًا عن استمرار احتلال إسرائيل للأراضي العربية هي المشكلة الرئيسة التي تسيطر على اهتمامات وأولويات غالبية المجتمع الإسرائيلي، من خلال الترويج للرهبة والقلق من الخطر الفلسطيني الذي يردده أغلب القادة العسكريين والذي أدى إلى  عسكرة المجتمع الإسرائيلي، وأفرز مناخًا عرقل مدنيته.

وتعلُّق إسرائيل بوهم القوة والافتنان بها جعلها تبني عقيدة أمنية تأسست على غطرسة القوة، وترى أنه من الممكن حل جميع المشكلات مع الفلسطينيين باستخدام القوة المفرطة معهم، وجرى تسييس الدين للترويج لمقولات لحرب أهل البلاد الأصليين، فالحرب باتت هوسًا مُرضيًا يصعب إلقاء مسؤوليته – على هذا النحو – على عاتق العسكريين وحدهم، بل يتحمل المجتمع الإسرائيلي المسؤولية الكبرى، حيث أُصيب أغلبه بهوس الحرب وأدمن اغتصاب أراضي الغير، وأصبح ضحايا محارق النازي بالأمس هم الجلادون الجدد وصانعو المحارق الجديدة للفلسطينيين.

4- دلالة عدم وجود حدود رسمية ونهائية لإسرائيل حتى الآن.

إن إسرائيل منذ قيامها كدولة عام 1948 ، وحتى الآن 2021، لم تحدد حدودها الرسمية في إعلان الاستقلال، بالمخالفة لقرار تقسيم فلسطين الصادر عن الأمم المتحدة عام 1947 ، ولا تزال خطوطًا متحركة، فمفهوم الأمن العسكري والحدود الآمنة لا يزال هو السائد في الفكر السياسي الإسرائيلي، وهو مرادف لتوسيع الحدود قدر ما تسمح به القوة العسكرية، وذريعة لابتلاع المزيد من الأراضي العربية المحتلة، في إطار ما يسميه القادة السياسيون الإسرائيليون “أرض إسرائيل التاريخية”، ويعتبرون أنهم مازالوا يواصلون (حرب الاستقلال)؛ ولهذا يرفض أغلب القادة الإسرائيليين مقترح إقامة دولة فلسطين إلى  جوار إسرائيل؛ لأنها ستحد من قدرتهم على التوسع.

وسيادة مثل هذا المفهوم وغيره يعرقل جهود التوصل لتسوية سياسية بين الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني، ويجعل قادتها العسكريين عاجزين عن توفير الأمن والأمان لمواطنيها طالما استمرت في احتلالها للأراضي العربية، وهو ما جعل الكاتب الإسرائيلي “ديفيد جروسمان” أحد أبرز الأصوات المعارضة في إسرائيل إلى  القول “إن إسرائيل التي أُنشئت على أمل أن تكون وطنًا قوميًا لليهود، فإنها بعد أكثر من سبعين عامًا، قد تكون حصنًا قويًا، ولكنها ليست منزلًا”([2]).

ثانياً:- المواجهة وتداعيات عدم التكافؤ.

في أي صراع إقليمي يرتكز الاهتمام في تحليله على التعرف على علاقات القوى بين أطرافه، حتى يمكن التنبؤ بمدى قدرة هذه الأطراف المتصارعة على الصمود وكسب الصراع، أما في حالة تكافؤ القوة ، نجد أن طرفي الصراع يمتلك كلاهما قدرًا متقاربًا من عناصر القوة، الأمر الذي يحقق نوعًا من توازن الردع بين الجانبين يجعلهما يترددان في الدخول في صراع بينهما.

وفي الحالة الفلسطينية الإسرائيلية، نجد أننا أمام حالة علاقة غير متكافئة بالمعايير العسكرية؛ فالقوات المحاربة الفلسطينية في قطاع غزة تقتصر على عدد محدد نسبيًا من الأفراد قياسي لإجمالي  عدد سكان القطاع (1% من إجمالي  السكان الفلسطينيين). وبالمقابل فإن الجانب الإسرائيلي (الدولة النووية) – التي تحتل المرتبة الرابعة عسكريًا عالميًا- دفَعَ في المواجهة الأمنية الأخيرة بقوات المنطقة الجنوبية فيها إضافة للذين استُدعوا من الاحتياط، وركزت إسرائيل بصفة أساسية على القصف الجوي بطلعات قرابة 160 طائرة إسرائيلية واستهدفت الأبراج السكنية في قطاع غزة، ولكن الجانب الفلسطيني مع ذلك كان قادرًا على إزعاج المحتلِّ الإسرائيلي في هذه المواجهة التي تمثلت بعض مظاهرها في لجوء السكان الإسرائيليين إلى  الملاجئ لفترة طويلة نسبيًا ، وتعطل أنشطة بعض المطارات الإسرائيلية، والخسائر الاقتصادية التي ترتبت على المواجهة، ووجد الجانب الإسرائيلي نفسه بعد 11 يومًا في مأزق عدم القدرة على الاستمرار فيها، فتوسط الجانب الأمريكي ليتصل بالقيادة المصرية لضبط إيقاعها.

وحديثنا عن حالة عدم التكافؤ بين طرفي الصراع يعني الحديث عن مجمل المقاومة الفلسطينية التي تشمل قطاع غزة والضفة الغربية، والتي أمتد تفاعلها -وهذا هو الأمر المستجد- إلى داخل إسرائيل وتتمثل ذلك بمظاهرات عرب إسرائيل (عرب 1948) وإبداء تعاطفهم مع قطاع غزة والضفة الغربية، وهو تحول تسبب في انزعاج القيادة السياسية الإسرائيلية، كما كشفت هذه المواجهة عن التقدم التكنولوجي النسبي الذي أحرزته المقاومة الفلسطينية في مجال استخدام الصواريخ والطائرات المسيرة وإصرار الفلسطينيين على المواجهة، وتمسكهم بقضيتهم العادلة على مدى أكثر من 70 عامًا في مواجهة آخر ظاهرة استعمارية متوحشة على مستوى العالم .

مجمل القول أن رغم حالة عدم التكافؤ بين الجانبين، وحجم الدمار الذي حدث في قطاع غزة، استطاعت المقاومة الفلسطينية إحداث إرباكًا واضحًا للقيادة الإسرائيلية، وأظهرت هذه المواجهة أن المقاومة الفلسطينية التي ظن البعض أنه قد تم تدجينها واقتربت من الاحتضار، فاجأت الجميع، ومن بينهم إسرائيل، بأنها كطائر الفينق الذي انبعث من الرماد.

إن إسرائيل ستظل عاجزة عن توفير الأمن والأمان لشعبها طالما استمرت في احتلال الأراضي الفلسطينية والعربية، وأن احتكار القوة لا يدوم إلى  الأبد وأن القضايا العادلة لا تموت.

ويصعُب القول أن المفاهيم التي تستند إليها إسرائيل تلقى إجماعًا أو شبه إجماع إذ يوجد يهود إسرائيليون يعترضون عليها، والمفارقة أن وزيرًا سابقًا “عوزي برعام” في مقابلة له مع صحيفة” هارتس” بتاريخ 21/5/2018 أوضح فيها: ” لا يزال كثيرون يريدون أن يروا تحركات اقتصادية وسياسية في غزة – ليس فقط عسكرية – تؤدي إلى  التهدئة والبحث عن حل بعيد المدى، على المعارضة أن تهب ضد تطلعات التوسع الجغرافي في الضفة الغربية والإشارة إلى  خطورتها، عليها أن توظف قوتها في الجهود لتجنيد قوة جماهيرية كبيرة تهب ضد الخنق البطيء للديمقراطية الذي يُنفذ بواسطة عمليات تشريعية خطيرة، ليس هذا هو الوقت للغرق في “حزن اليسار”، هذا هو الوقت لاستيعاب الواقع الجديد، واتخاذ خطوات حقيقية من أجل تغييره.”

ثم عاد في مقال آخر بنفس الصحيفة بتاريخ 4/6/2018 بتصريحات إضافية تضمنت قوله “إنني أؤيد حل الدولتين، وسأقاوم بكل قوة أي توجه نحو ضم الأراضي كليًا أو جزئيًا؛ لأن هذا يمثل ضررًا بالوطنية الحقيقية، وبالاهتمام بتقدم دولة إسرائيل، لم أنسَ ما يدور برأس اليمينيين، نحن نعيش في دولة صغيرة ناجحة في قلب شرق أوسط عربي من المحتمل أن يعمل ضدنا”.

كما أن تداعيات المواجهة الأخيرة، رغم عدم التكافؤ بين طرفيها، ساهمت في إعادة الروح لمعسكر السلام الإسرائيلي، الذي يضم مجموعة من المثقفين والأكاديميين والفنانين وغيرهم، ممن لديهم قناعة بعدالة القضية والمقاومة الفلسطينية وتعارض المواجهات غير المتكافئة وما ينجم عنها من دمار، فضلًا عن المنظمات الإنسانية المعارضة للحرب مثل “سيدات في حداد”  ولعل من المفيد للجانب الفلسطيني أن يفكر في إقامة علاقات حوار وتفاهم مع هذه المجموعات لأهميتهم في التأثير على الوضع الداخلي الإسرائيلي.

مجمل القول أنه رغم حالة عدم التكافؤ الواسعة من الجانبين (الفلسطيني والإسرائيلي)، ولموازنتها، قد يكون من المناسب أن تسعى المقاومة لتبني عناصر معنوية أخرى إلى هذه العلاقة إضافة للعناصر العسكرية، فنحن أمام مجتمعين مختلفين، فمجتمع الرفاهية الإسرائيلي يفتقد منه الجندي الإسرائيلي لحوافز القتال بالدرجة المطلوبة، وغير مستعد للتضحية؛ لأنه ينتمي لمجتمع مادي ومرفَّه بدرجة عالية، إضافة لعدم قدرة إسرائيل على خوض حرب طويلة الأمد، يقابل ذلك شعب فلسطيني فقد الكثير وتعرض طوال أكثر من سبعة عقود لكل أنواع الاضطهاد والتعسف والتعامل العنصري ومصادرة أراضيه، ورغم ذلك فإنه ما زال صامدًا ومستعدًا للمزيد من التضحيات من أجل قضيته العادلة.

 ورغم أن المجتمع الدولي المعارض للاحتلال الإسرائيلي وتوابعه- ما زال دون المستوى المأمول فيه- فإن المواجهة الأخيرة كشفت النقاب عن الممارسات الإسرائيلية الجائرة والهادفة لاقتلاع الشعب الفلسطيني من أرضه وحرمانه من أبسط حقوق الإنسان، والتطهير العرقي الذي يعانيه الشعب الفلسطيني داخل إسرائيل، إلا أن هناك مؤشرات على تحرك القوى الدولية المعارضة لانتهاكات الإسرائيليين وعبرت عن قلقها بمختلف الصور.

ثالثًا: هل تفتح المواجهة الأخيرة أُفقًا سياسيًا للتسوية؟

رغم التطور الذي أحدثتها الجولة الأخيرة للمواجهة بين المقاومة الفلسطينية وإسرائيل، فإنها ما زالت بعيدة عن إمكانية تحريك ديناميكية ذاتية تفتح الطريق أمام تسوية سياسية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، فما زالت توجد عقبات سواء على المستوى الإسرائيلي أو المستوى الفلسطيني.

فعلى المستوى الإسرائيلي:

  1. إن تغيير المفاهيم السابقة في إسرائيل حول المقاومة وحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم- تحتاج لوقت ليس بالقصير؛ فالأصولية اليهودية المتطرفة تمارس سطوتها على سياسة ومواقف إسرائيل، وأصبح للتيار الديني المتطرف قوةٌ كبيرة في التأثير السياسي، وتنصاع الأحزاب السياسية لتطرف الجماعات الأصولية اليهودية لضمان استمرارها في الحكم، أو تبرير مواقفها المتطرفة في الأراضي الفلسطينية المحتلة أو في مواجهة المقاومة الفلسطينية، وهو ما يعرقل بروز فرص -في المدى المتوسط-؛ لتسوية سياسة مستقبلية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
  2. إن استمرار الدعم الأمريكي السياسي والمادي الإسرائيلي، وعجز واشنطن عن ممارسة أي ضغط فعال عليها لإيقاف عدوانها المتكرر على الفلسطينيين- يجعل القادة الإسرائيليين لا يميلون لأي حلول سياسية ذات مصداقية.

 والجولة الأخيرة، التي تمت بين حماس وإسرائيل وقيامها باستهداف الأبراج السكنية الفلسطينية ورؤية شرائح عدة لها عبر القنوات الفضائية- حركت أوساط الرأي العام ضد إسرائيل، ربما يؤدي ذلك إلى تغيير التأييد الأمريكي للمواقف الإسرائيلية المتعنفة.

فقد شهدت الولايات المتحدة سلسلة مواقف تضامنية مع الشعب الفلسطيني وضد الممارسات الإسرائيلية، وبينما تنظم تظاهرات شعبية وإطلاق حملات إلكترونية في الشبكات الاجتماعية واتخذت إشكالًا مختلفة.

ففي مدينة “ولتام” بولاية ماساتشوس، مثلًا، وقف متضامنون من الحركة التقدمية المناهضة للحرب، في مداخل شركة “رايثيو” المصنعة للصواريخ الموجهة و”القبة الحديدية” وأعلنوا في بيان لهم “أن هذه الوقفة جاءت احتجاجًا على بيع الشركة أسلحة بمليارات الدولارات لإسرائيل، استُخدمت في قتل الفلسطينيين وسرقة أراضيهم، وفي الدفاع عن نظام الفصل العنصري الإسرائيلي، وأن الحرب الأخيرة على قطاع غزة في خضم جائحة كورونا، قصفت الطائرات الإسرائيلية خلالها مجمع الشفاء الطبي، أكبر مشفى مركزي وتعرض المختبر الوحيد لفيروس كورونا في غزة للدمار، كما أدت الغارات الجوية الإسرائيلية إلى  نزوح أكثر من 74 ألف مواطن فلسطيني، واضطروا للفرار والتكدس في مدارس عديدة”. وطالبت عضو الكونجرس الأمريكي “ماري نيومان” الحكومة الإسرائيلية بوقف فوري لعمليات هدم منازل الفلسطينيين في القدس الشرقية ووصفت هذا الإجراء بأنه “عمل بشع ودنيء، وأن الحكومة الإسرائيلية بهذا السلوك تدوس على الحقوق الفلسطينية والقانون الدولي، كما في القدس الشرقية”([3]).

فالمقاومة مجرد حلقة من حلقات الكر والفر في طريق تحقيق النتيجة المأمول فيها؛ فالصراع لا يُحسم بمجرد المقارنة بين ما تحوزه إسرائيل من عناصر القوة وما يحوزه الجانب الفلسطيني منها؛ فالفلسطينيون بذواتهم أصبحوا موضوع الصراع وجوهره، (إن يكونوا أو لا يكونوا) فامتلاك مصيرهم بأيديهم وتوحيد الصف الفلسطيني هو أمضى سلاح والعامل الأهم في هذا الصراع، وهو ما يدركه الجانب الإسرائيلي، والذي يسعى إلى  تفتيت تماسك الكيان الفلسطيني والسعي لإفساد قوامه، وإضعاف انتمائه واستئصال ثقافة المقاومة بين مقاتليها.

مجمل القول أن الانقسامات الفلسطينية هي أخطر ما تواجهه المقاومة الفلسطينية في مرحلتها الانتقالية الراهنة، ولقد تحمل الفلسطينيون كل ألوان القهر، وفي لحظة واحدة يحسبها المرء نهاية بينما هي بداية جديدة، فقد جاءت المواجهة الأخيرة (مايو 2021)؛ لتكشف عن واقع جديد، ساد فيه التفاعل المشترك والشعور بالانتماء لجذور ومصير مشتركين بين المقاومة من خارج إسرائيل وعرب إسرائيل، وهو ما تسبب في انزعاج غير متوقع في إسرائيل، كما أن هذه المواجهة زادت من وعي الرأي العام الدولي بما ترتكبه إسرائيل من جرائم في حق الشعب الفلسطيني ورفضها لكل مبادرات السلام العربية، وأدى ذلك إلى تحولات إيجابية واضحة لصالح الجانب الفلسطيني لاسيما في الولايات المتحدة الأمريكية إذا أُحسن استثمارها.

  • كما أن استمرار حالة عدم التكافؤ (بالمعايير العسكرية) بين طرفي الصراع لا تحفز الجانب الإسرائيلي على استشراف أفق سياسي يؤدي لتسوية كل هذا الصراع، بل على العكس فإن المعطيات الراهنة تعزر وضع الأطراف الإسرائيلية المتطرفة الداعية لضم أراضي الضفة الغربية المحتلة.
  • إن إسرائيل تصنِّف “حماس” ضمن الأطراف المؤيدة لإيران والداعمة لها في أية مواجهة بين إسرائيل وإيران، وإسرائيل تضع حماس وحزب الله (اللبناني) في سلة واحدة، وتسعى لتصفيتهما تحسبًا للمستقبل، وهو ما يرجح استمرار إسرائيل في مواجهة حماس والاستعداد لمواجهات قادمة تحت زعم هذا الهدف.

على المستوى الفلسطيني :

  1. هناك من يرى وضع عدم التكافؤ، ليس نقطة ضعف المقاومة الوحيدة؛ فالانقسام والخلافات البينية بين مختلف الفصائل الفلسطينية لاسيما بين “حماس” و “فتح”، تشكل عقبة رئيسة أمام فتحِ أفقٍ سياسي لتسوية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. وتستغل إسرائيل هذا الانقسام بقولها أنه يتعذر عليها إيجاد طرف فلسطيني يمكن أن تتفاوض معه حول أي تسوية سياسية.
  2. يُضاف إلى  ذلك اصطدام شعار الكفاح المسلح الفلسطيني كوسيلة وحيدة لتحرير فلسطين، برفض دول الجوار العربية أن تشكل نقاط الانطلاق الداعمة والمساندة للمقاومة الفلسطينية – فضلًا عن انشغال معظم الدول العربية بهمومها الذاتية ومشاكلها الاقتصادية والأمنية والاجتماعية، الأمر الذي أضعف المساندة القومية للمقاومة الفلسطينية وأدى ذلك إلى تراجع القضية الفلسطينية كقضية محورية على جدول أعمال النظام العربي الاقليمي، وأختفى المصطلح الذي كان متداولًا عن الصراع وهو النزاع العربي الإسرائيلي وحل محله الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وهو ما دفع البعض للتساؤل عن جدوى المقاومة في ظل المعطيات الحالية المحيطة بها، وبعد أن أصبحت تدخل في تقدير مدى توافر الممكنات العملية المتاحة.
  3. وهناك من يرى أن استمرار المقاومة أمرًا ضروريًا وحتميًا، وأن الأمر لا يدور بين نفي مطلق أو إيجابٍ حازم، وأنه رغم كل المعطيات المحيطة بالمقاومة فإن استمرارها في مواجهة استمرار الاحتلال وتغوَّله أمرٌ مفروض رغم عدم التكافؤ عسكريًا، فهذه الظاهرة في ذاتها لا تشكل الخطر الأكبر، رغم ما تُفضي إليه من خسائر وتضحيات جسام، ولكنها توفر الوسيلة المتاحة لإزعاج المحتل، إذا استُخدمت بحكمة.

وختامًا: فإنه في ظل عدم التكافؤ الذي سيظل قائمًا إلى أمد غير محدود، وفي ظل الأوضاع العربية والإقليمية والدولية السائدة في منطقتنا، وحين يتمدد زمن المواجهة، تتزايد خسائر الطرف الفلسطيني الأضعف وهنا قد يكون من المفيد توسيع مكونات مسرح العمليات، بزيادة الجانب السياسي في المواجهة، والاتجاه نحو جذب مزيد من الدعم السياسي والمعنوي للقضية الفلسطينية العادلة، بشرح خلفيتها الإنسانية والقانونية والتنويه بصفة خاصة بأنها قضية احتلال غير مشروع السعي؛ لرفع الغطاء الأخلاقي أكثر وأكثر عن إسرائيل وما ترتكبه من عمليات التطهير العرقي وجرائم الحرب.

وعلى قادة السلطة الفلسطينية و”حماس” التغلب على حالة الانقسام الراهنة التي لا تفيد سوى إسرائيل، التي تعمل على الإبقاء عليها؛ لعرقلة التسوية السياسية للقضية الفلسطينية والتي تجعل” نفتالي  تنيت” رئيس الوزراء الإسرائيلي يمتلك من الجرأة ليصرح في مقابلة مع صحيفة “نيويورك تايمز” بتاريخ 25/8/2021 “أنه لن يتم
إجراء مباحثات سلام؛ لأسباب من بينها أن القيادة الفلسطينية منقسمة وبلا دفة، وأنه سيوسع المستوطنات في الضفة الغربية”.


([1])  للمزيد من المعلومات حول هذا الجانب انظر مؤلفنا المعنون إسرائيل ويهود العالم : دراسة سياسية وقانونية – مركز الأبحاث الفلسطينية ، بيروت – أبريل 1969

([2]) صبحي عسليه “إسرائيل حصنًا وليست منزلًا” مختارات إسرائيلية العدد 28 يوليو 2018 – الأهرام يوليه 2018 ص 4

([3])  صحيفة الشرق الأوسط لندن ، بتاريخ 14/8/2021

اظهر المزيد

د. مصطفى عبدالعزيز

دبلوماسي سابق وكاتب مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى