2021العدد 187ملف عربي

نقاش في تداعيات الحرب على غزة (المواجهات والمصالحة الوطنية وعملية التسوية)

ثمة تسرّع في الاستنتاج بأن تداعيات الحرب التي شنّتها إسرائيل على قطاع غزة مايو/أيار 2021- قد أتت بنتائج إيجابية على الحركة الوطنية الفلسطينية والشعب الفلسطيني، وضمن ذلك على جهود المصالحة بين حركتي (فتح وحماس)، أو بين سلطتي (الضفة وغزة)، وفيما يخص جهود التهدئة بين (حماس وإسرائيل)، وبالنسبة لعملية التسوية الإسرائيلية – الفلسطينية.

معلوم أن تلك كانت هي الحرب الإسرائيلية الرابعة من نوعها على قطاع غزة، منذ أن سيطرت حركة حماس على القطاع، وحصول الانقسام الفلسطيني يونيو/حزيران 2007. الأولى: وجرت أواخر عام 2008، واستمرت 23 يومًا، وذهب ضحيتها أكثر من 1436 فلسطينيًّا مقابل مصرع 13 إسرائيليًّا. والثانية: جرت عام 2012، واستمرت ثمانية أيام، وذهب ضحيتها 155 من الفلسطينيين مقابل مصرع ثلاثة إسرائيليين. أما الثالثة: وجرت صيف 2014، واستمرت 50 يومًا، وذهب ضحيتها 2174 من الفلسطينيين مقابل مقتل 70 إسرائيليًّا. أما في هذه الحرب (الرابعة): فقد استمرت 11 يومًا (10/5- 20/5/2021)، وذهب ضحيتها حوالي 270 فلسطينيًّا، مقابل مقتل 13 إسرائيليًّا.

أيضًا، فقد تعرض قطاع غزة لحرب إسرائيلية طويلة من نوع آخر، ربما هي أقسى وأمرُّ من الحرب بالوسائل العسكرية، وهو ما تمثل بالحصار المشدد، الذي فرضته إسرائيل على مليوني فلسطيني منذ 14 عامًا (2007)، يعيشون في منطقة ضيقة (360 كم2)، ومن أكثر بقاع العالم كثافة بالسكان، وتُشكّل حوالي 14 بالمئة من مساحة الضفة، أو 1,3 بالمئة من مساحة فلسطين مع طول 41 كم، وعرض يتراوح بين (5 و15) كم، وهي منطقة خالية من الموارد الطبيعية، ويعتمد الفلسطينيون فيها على مواردهم من المياه والكهرباء والطاقة والمواد الطبية والتموينية على إسرائيل أساسًا.

ملاحظات أولية:

وقبل الدخول في موضوع الحرب الأخيرة وتداعياتها، يجدر بنا لفت الانتباه إلى الملاحظات الآتية:

أولًا: طوال عقود من المواجهات مع إسرائيل أثبت الفلسطينيون أن روح الكفاح ساكنة في قلوبهم، ما تجلى في استعدادهم العالي والدائم للتضحية، لكن مشكلتهم ظلت تكمن في افتقادهم لاستراتيجية كفاحية، أو عسكرية واضحة وملائمة، وفي افتقادهم لإدارة ناجحة لمواردهم وطاقاتهم البشرية، كما افتقادهم للمعطيات العربية والدولية المواتية التي تمكّنهم من استثمار تضحياتهم وبطولاتهم، يفاقم من ذلك طبعًا سيادة العفوية والتجريبية في خوضهم أشكالهم الكفاحية، وتخبّطهم في خياراتهم السياسية، إذ أن كل خيار يفترض أدوات أو طرق نضالية معينة.

ثانيًا: منذ انتهاء تجربة الكفاح المسلح من الخارج، وتحوّل ثقل العمل الوطني الفلسطيني إلى الداخل ( بعد غزو إسرائيل للبنان 1982)، بات ثمة أشكال معينة يحاول فيها الفلسطينيون التعبير عن ذاتهم، وعن إصرارهم على رفع ثمن الاحتلال واستعادة حقوقهم، يمكن ملاحظتها في الانتفاضات والهبّات الشعبية. بيد أن هذا الشكل بات ضعيفًا بعد الانتفاضة الثانية (2000 – 2004)، التي غلب عليها طابع العمليات التفجيرية، إذ خفّفت إسرائيل كثيرًا من نطاق احتكاكها بالفلسطينيين، عبر بناء الجدار الفاصل، وإنشاء طرق خاصة (الأنفاق والجسور) لعزل الفلسطينيين عن الإسرائيليين المستوطنين، تحت شعار “نحن هنا وهم هناك”، ما يفسر تكرار هذا الشكل الكفاحي في القدس فقط، على ما جرى بخاصة في الأعوام (2015 ،2017 ، 2018)، وعلى نحو ما شهدنا في هَبّة القدس مؤخرًا، وذلك بحكم وضعية القدس الخاصة وأيضًا بحكم الاحتكاك بين الإسرائيليين والفلسطينيين في تلك المدينة مع مكانتها (التاريخية، والرمزية، والدينية، والوطنية).

ثالثًا: بعد انسحاب إسرائيل من غزة، وهيمنة حركة حماس عليها كسلطة، اشتغلت تلك الحركة على مراكمة أسباب القوة الخاصة بها، رغم الحصار الإسرائيلي، بحيث توفر لها قوة صاروخية منظمة، ومؤثرة (كما تبين في المواجهات الدائرة مؤخرًا)، وهو السلاح الذي باتت تستخدمه لفرض مكانتها، وتعزيز دورها، إزاء إسرائيل، وإزاء السلطة في رام الله، وتحاول حركة حماس من وراء ذلك فرض ذاتها كفاعل رئيس، وكسلطة وكمرجعية وكقيادة بديلة للفلسطينيين، إزاء إسرائيل وإزاء العالم وإزاء شعبها.

رابعًا: ضِمن ما سبق يمكن قراءة هَبّة القدس الشعبية المجيدة، ثم التحول نحو إطلاق الصواريخ من قطاع غزة، ما أخذ الوضع إلى مواجهة عسكرية مفتوحة، كشفت عن استعدادٍ كبير من حركة حماس لهكذا لحظة، وهو ما تبين من انتظام الضربات الصاروخية التي وجّهتها إلى مختلف المدن الإسرائيلية، وعلى مدار عدة أيام طبعًا مع ملاحظة أنه لا يوجد أيّ تناسب بين حجم القصف الصاروخي وقوته وتأثيره من قبل حماس في غزة، في مقابل القصف الصاروخي الإسرائيلي إذ الأخير أقوى وأكثر تدميرًا بما لا يقاس.

وعلى أية حال، وبغض النظر عن التداعيات أو الجدوى، فإن ما حصل كان بعث الآمال مجددًا بإمكان اندلاع انتفاضة ثالثة_ سيما مع دخول مدن ومخيمات وقرى الضفة الغربية على خط هبّة القدس وانخراط فلسطينيي 48 في تلك الهبّة أكثر من أيّة فترة أخرى في تاريخيهم، بحيث شمل الحراك الشعبي فلسطين كلها من النهر إلى البحر، وكان هذ الأمر يمكن أن يفضي إلى خلق تحولات في معنى ومبنى الحركة الوطنية الفلسطينية، وفي رؤية الشعب الفلسطيني لذاته، إلا أن تلك العملية لم تستمر، أو لم تُترك لتطورها الطبيعي بحكم التحول نحو الحرب الصاروخية.

المقاومة والهَبّة الشعبية :

على ذلك فإن مشكلة الفلسطينيين وضمنها مشكلة حركتهم الوطنية_ سيما حركة حماس المبالغة بالقدرات، والارتكان إلى الروح العاطفية، والكفاح بطريقة العناد بالاعتماد على استعداد الفلسطينيين العالي للتضحية لإيمانهم بعدالة قضيتهم. وفي الواقع فإن حركة حماس تتصرف في غزة كأنها في منطقة محررة حقًا، وكل ذلك -على أهميته في الصراع ضد إسرائيل (الاستيطانية والعنصرية والعدوانية)- يولد إدراكات خاطئة أيضًا، سواءً في صورتهم عن أنفسهم، أو في الصورة التي يصدّرونها للعالم.

مثلًا: بدلًا من طرح قضية غزة باعتبارها منطقة محاصرة وتعاني ضعف الموارد، وصعوبة العيش، والاعتداءات الإسرائيلية- يتم تصويرها باعتبارها تنتج مقاتلين وصواريخ وطائرات، وكأنها منطقة محررة ومقتدرة، مع كل معرفتنا بجبروت إسرائيل عسكريًّا، وضمان أمنها من الدول الكبرى، وفي ذلك لا مجال للحديث إطلاقًا عن توازن قوى عسكرية، وتاليًا: لا أي حديث عن توازن رعب أو عن معادلات متبادلة.

يتضح من ذلك مأزق حركة حماس في إدارتها لقطاع غزة، فهي لا تستطيع الاستثمار في ذلك في تعزيز مكانتها فلسطينيًّا ولا عربيًّا ولا دوليًّا، ناهيك أنها تتعرض لاستنزاف كبير نتيجة الحصار، وانعدام الموارد، والاعتداءات الإسرائيلية المدمرة والمتواصلة.

وفي الواقع فإن تلك الحركة منذ سيطرتها على قطاع غزة (2007)، ظلت تخضع لضغوط متعددة:

أولًا: من البيئة الشعبية، والحديث عن مليوني فلسطيني في بيئة باتت فيها البطالة مشكلة كبيرة، مع الحصار المادي المفروض على القطاع من جهات متعددة.

 ثانيًا: ثمة ضغوط من السلطة الفلسطينية على حماس تستهدف إزاحتها من السلطة، ومن الصعب توقع التخفيف من ذلك على ضوء التجربة والتجاذبات الحاصلة، سيما أن حماس أضحت معزولة على أكثر من مستوى.

 ثالثًا: لم تعد البيئتان (الإقليمية والدولية) مواتيتين لحماس، على العكس من ذلك فإن كل الضغوط تتجه نحو تحجيم دورها، وتكييفها مع الأوضاع الحاصلة، بالطريقة الناعمة أو بالطريقة الخشنة.

 رابعًا: يُستنتج من ذلك أن كل الأحاديث عن المصالحة الفلسطينية لا معنى لها من دون تطويع حماس في غزة، أو إخضاعها للشروط الإقليمية والدولية، وضمنها الشروط الإسرائيلية، أي أن الشروط الفلسطينية هي الأقل تأثيرًا هنا.

هكذا ثمة عديد من الأسئلة التي طرحت نفسها، سيما على مبادرة حركة حماس، تحويل الهبة الشعبية إلى ضربات صاروخية، وأولها: ما تأثير الانتقال من الهبّة الشعبية إلى الصراع المسلح، لاسيما على شكل صواريخ مقابل صواريخ، على الحركة الوطنية الفلسطينية؟

 وثانيها: هل أدى ذلك التحول إلى مزيد من تفاعل فلسطينيي 48، والذي هو أحد أهم ثمار هبّة القدس، وأحد أهم تطورات الكفاح الفلسطيني منذ عقود بانتقالهم من هامش العملية الوطنية الفلسطينية -على اعتبار خصوصيتهم كمواطنين في دولة إسرائيل- إلى قلب العملية الوطنية الفلسطينية بدلالة انتمائهم لشعبهم وفي تأكيد على وحدانية الشعب والقضية والأرض والرواية التاريخية، أم أنه أدى إلى إضعاف هذا المسار؟ وثالثها: هل أدت تلك الحرب إلى خلق معادلات جديدة لصالح الفلسطينيين، ولاسيما لصالح رفع الحصار عن مليوني فلسطيني في غزة؟ أي هل مكنت الحرب الصاروخية الفلسطينيين هذه المرة من استثمار تضحياتهم وبطولاتهم، أم أن الأمر استمر مثل كل مرة، في الحروب السابقة؟ ورابعها: هل أدت هذه الحرب إلى تغيير إيجابي في واقع الحركة الوطنية الفلسطينية، والنظام السياسي الفلسطيني، سيما على مكانة كل من الحركتين الرئيستين/السلطتين (فتح وحماس)، والعلاقات البينية بينهما؟

واضح أن المطلوب نوع من إجابات موضوعية ومسؤولة وواقعية على كل تلك الأسئلة، لا إجابات عاطفية ورغبوية ومتسرعة.

 بخصوص موضوع المصالحة:

طبعًا ما تقدم لا يفيد بأن الوضع على صعيد القيادة الفلسطينية الرسمية، وهي قيادة (المنظمة والسلطة وفتح)، كان أحسن حالًا على الأرجح، فقد خسرت تلك القيادة كثيرًا من مكانتها وصورتها إزاء شعبها مقارنة بحماس، التي تصرفت كمن وجد أن فرصته التاريخية حانت، وأنه يجب الاستثمار في أخطاء أبو مازن وفي تراجع مكانة فتح على خلفية المسائل الآتية:

أولاً: تأجيله، أو إلغاؤه الانتخابات.

ثانيًا: تعثّر مباحثات استعادة وحدة النظام الفلسطيني.

ثالثًا: تعاطيه القاصر مع هبّة القدس.

رابعًا: تراجع مكانته في حركته فتح، لا سيما مع بروز كتل جديدة وازنة، تحدّت إرادته، أو تمردت عليه على خلفية الانتخابات.

 هكذا كانت ثمة حاجة لدى حماس إلى عمل كبير؛ لإضفاء شرعية وشعبية على مسعاها أخذ دفة القيادة.

ولعل ذلك يفسر أن الحوار الفلسطيني، الذي جرى في أعقاب الحرب في القاهرة في حزيران/يونيو/2021، والذي جرى أساسًا بين حركتي (فتح وحماس)، لم يختلف أو يتميز عن جولات الحوارات السابقة، على رغم أن مصر ألقت هذه المرة بكل ثقلها السياسي والعسكري والاقتصادي واللوجيستي (بما يخص إعمار ما دمرته الحرب) لإنجاح الحوار.

بمعنى أكثر تحديدًا، فإن حركة حماس التي أتت إلى القاهرة؛ لمحاورة حركة فتح تحت غطاء الحوار الفلسطيني الشامل (18 فصيلًا)، محمولة على ما تعتقد أنه معركة “الكرامة” خاصّتها، تبين لها أن ثمة صعوبة في تصريف ذلك؛ لأن الوضع العربي والدولي اليوم هو غير ذلك الذي كان إبان أخذ حركة فتح مكانة القيادة في منظمة التحرير (1968)، بعد معركة الكرامة حينها. ولا يتعلق ذلك فقط بأن مصر ليس بمقدورها ولا برغبتها أن تمرر ذلك, أو لأن النظام الدولي لا يسمح به؛ بل لأن الرئيس الفلسطيني ذاته لا يقبل به، حتى في لحظة ضعفه, لاسيما مع إدراكه أن لحظة الضعف هذه هي التي أسهمت في دفع الأطراف الأخرى (عربية ودولية) لمساندته ولإسناد موقفه إزاء حماس ومنحه قوة مضافة.

هكذا، وبينما ذهبت حماس إلى القاهرة بطموح أنها ستكون شريكة في المنظمة، وفي إعادة إعمار غزة، فإذا بها لا تستطيع لا هذا ولا ذاك. فعلى صعيد المنظمة فضَّل الرئيس الفلسطيني البدء بالشراكة مع حماس من مدخل تشكيل حكومة فلسطينية جديدة، مع وعد بإجراء انتخابات في حال سمحت إسرائيل بإجرائها في القدس، في حين طالبت حماس بأن يكون المدخل هو إعادة بناء المنظمة بانتخابات أو عبر التوافق على أعضاء المجلس الوطني الفلسطيني _خاصة من الخارج مع إعادة تعويم المجلس التشريعي المنحل، ريثما يتم تنظيم انتخابات جديدة.

أما في شأن إعادة الإعمار، فالحديث يدور عن قناة الأمم المتحدة ومؤسساتها وعبر الحكومة الفلسطينية، وطبعًا برعاية مصرية، وهذا ما تراه حماس إجحافًا بحقها وبمكانتها، وكورقة ضغط عليها, بيد أن ثمة مشكلة أخرى في هذا الأمر أيضًا، ومفادها أن الحكومة التي ستشارك فيها حماس، بحسب اشتراطات الرئيس الفلسطيني، يجب أن تلتزم بالمبادئ السياسية للجنة الرباعية الدولية (التي شبعت موتًا)!

أيضًا، كانت حركة حماس ذهبت إلى القاهرة وفي يدها ورقة أسرى إسرائيليين، إلا أنه تبين أن إسرائيل جعلت هذه الورقة بمثابة عامل ضغط على حركة حماس؛ بربطها الموافقة على إعادة الإعمار بتبادل أسرى وفقًا لشروطها هي.

عقبة أخرى وضعت أمام دخول حماس المنظمة تتعلق بقبولها برنامج منظمة التحرير، وهي حجة غير مقبولة طبعًا، إذ هل اتفاق “أوسلو” هو البرنامج؟ ثم متى أصبح اتفاق “أوسلو” برنامجًا للإجماع الوطني؟ في المقابل تطرح حركة حماس فكرة الإطار القيادي من الأمناء العامين للفصائل، بيد أن السؤال من هي تلك الفصائل، وما الذي تبقى منها؟

في كل الأحوال فإُن الطرفين- في كل ما تقدم- يتحركان من واقع كونهما سلطة كل في إقليمه، والمشكلة أن أيّا منهما لا يتأثر بالضغوط الشعبية، إذ اشتغل كل منهما على إضعاف المجتمع المدني، وتهميش أي حراك شعبي، هذا أولًا.

 ثانيًا: أن أيّا منهما لا يعتمد في موارده على شعبه أساسًا، بل على الداعمين الخارجيين وعلى الجباية الضريبية.

ثالثًا: تاريخيًّا لم تأتِ الشرعية من صناديق الاقتراع (تلك الشرعية انتهت من 10 أعوام).

رابعًا: ثمة كتلة من حوالي ربع مليون- كموظفين وكمتفرغين- يعيشون على الدخل المتأتى من السلطتين.

 خامسًا: الشعب الفلسطيني لا يعيش في إقليمٍ واحد، فهو مجزأ ومشتت.

 سادسًا: ما تقدم يفسر أن تلك القيادة تحسب حسابًا للقوى الخارجية في شرعيتها أكثر مما تحسب حسابًا لشعبها للأسف.

هكذا، ليس فقط أن الوضع الفلسطيني حافظ على حال الانقسام والاختلاف، وإنما هو تراجع إلى الخلف كثيرًا.

على صعيد عملية التسوية:

أيضًا على صعيد عملية التسوية مع إسرائيل، فمن الواضح أن الحرب الأخيرة لم تضف شيئًا إلى هذا الأمر.

أولًا: لأن إسرائيل- في أية حال- تعتبر نفسها في حال حرب دائمة مع الفلسطينيين، بهذا الشكل أو ذاك، بهذا المستوى أو ذاك، بالوسائل السياسية والاقتصادية والأمنية والإدارية، أي بالوسائل الناعمة أو بوسائل القوة العسكرية.

 ثانيًا: لأن إسرائيل قادرة بشكلٍ دائم على شن حرب على قطاع غزة، ولذلك فهي تجد مصلحتها في وضعه تحت تهديدٍ دائم، بقيامها بين فترة وأخرى بشن غارات بالطائرات أو بالصواريخ لأهداف معينة (بشرية أو مادية).

 ثالثًا: إن اعتبارات إسرائيل لشن أي حرب لا علاقة له بتقديرات الفلسطينيين؛ لأنها تنبع من إدراكات إسرائيل لوضعها، وعلاقاتها في المنطقة، وفهمها لإدارة صراعها مع الفلسطينيين، وهي مثلًا ترى أن إبقاء الوضع على ما هو عليه أفضل لها من شن حرب؛ لأن (الخلاف والانقسام) الفلسطينيين، يستنزف الفلسطينيين ويشتت طاقاتهم، ويضعف مصداقيتهم على حكم أنفسهم أمام العالم، ويظهر قطاع غزة كأنه منطقة مستقلة، وأن المشكلة هي عند الفلسطينيين وليس بين إسرائيل وبينهم.

هكذا فإن الحرب الأخيرة، مثل كل تلك الحروب التي سبقتها، تتوخى إما تطويع حماس وقبولها ما يتعلق بخطة دولية تغير من واقع القطاع وضمن ذلك تحجم سلطتها- أو تغيير سياساتها تحت مسمى رفع الحصار وهدنة، والشروع في خطة دولية لمساعدات اقتصادية، وإنشاء بُنى تحتية، وفتح ميناء ومعابر للتسهيل على الفلسطينيين، أو إبقاء قطاع غزة تحت التهديد بالحرب من قبل إسرائيل، سواءً كانت على شكل حروب صغيرة أو حرب كبيرة.

مع ذلك، فإن كل تلك التطورات المهمة أثمرت في تراجع إسرائيل عن مخططاتها في (باب العمود وحي الشيخ جراح ) ولو بصورة مؤقتة، وذلك قبل التحول من الهبّة الشعبية إلى العمل المسلح.

والخلاصة: فإن تلك الحرب لم تتمخّض عن كسر إرادة الفلسطينيين، ولكنها لم تتمخّض أيضًا عن تنازلات سياسية ذات مغزى من قبل إسرائيل، فما نجم عنها هو مجرد تكريس الهدنة، أو التهدئة، أو ما سمي وقف الأعمال العدائية من الجانبين (الإسرائيلي والفلسطيني), وثمة سعي لتخفيف الحصار عن غزة.

هذا يحيلنا على السؤال المتعلق بمكانة قطاع غزة في العملية الوطنية، والذي تم السكوت عنه من قبل الفصائل الفلسطينية، منذ انسحاب إسرائيل من غزة عام 2005، والذي تفرع إلى أسئلة من نوع: هل قطاع غزة منطقة ما زالت تحت الاحتلال؟ أم أنها باتت منطقة محررة؟ وهل يمكن تحويل غزة إلى قاعدة لمصارعة إسرائيل بالصواريخ وغيرها وتحميلها عبء التحرير؟ أم الأجدى تحويلها إلى نموذج لمنطقة محررة، يستطيع الفلسطينيون فيها تنمية أوضاعهم كمجتمع، في التعليم والثقافة والاقتصاد والسياسة؟ وهي أسئلة كان على الفلسطينيين وكياناتهم مناقشتها، منذ انسحاب إسرائيل من القطاع عام 2005، وهذا لم يحصل بسبب خلافات الفلسطينيين، وبسبب أنهم لم يعتادوا على دراسة أي خيار ينتهجونه.

اظهر المزيد

ماجد كيالي

بــاحــث فلسطيــني - سورية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى