2018العدد 176ملف خاص

مسألة التسامح بين الحقيقة والمجاز

يعد التسامح هو صورة التكيف التي بمقتضاها تميل الجماعات المتعارضة إلى الانسجام المتبادل، وتحاشي الصراع من أجل التوصل إلى حل عملي،([1]) في ظل مبدأ عدم التدخل في معتقدات وتصرفات الآخرين التي لا يحبذها المرء. ومن ثم فإن قضية “عش واترك الآخرين يعيشون” تعتبر مثالا مبسطا على التسامح.

وتوجد درجات متنوعة لمبدأ عدم التدخل، أولها أن يتجاهل المرء الآراء والأفعال التي لا تناسب طبيعته، وثانيها أن يعبر عن عدم تحبيذه لها، وثالثها أن يحاول دحض الآراء والأفكار التي لا يستسيغها.([2])

والتسامح من القيم الأصيلة في ثقافة الديمقراطية، إذ إن الحريات الثلاث المرتبطة  بالتفكير والتعبير والتدبير، تنطوي على تسامح مع المعارضة السياسية، أو مع الآخر المختلف معنا في الاتجاهات والتوجهات. ويوصم بالتعصب والاستبداد كل من يحاول أن يحرم المعارضين من التعبير اللفظي والحركي عن أنفسهم، ما دام قولهم وفعلهم لا يخالف القانون، ولا يشكل اعتداء على حريات ومصالح الآخرين.

وقد وضع “جون لوك” وهو من كبار الفلاسفة المدافعين عن التسامح الديني في وجه تعصب الكنيسة وتجبرها، مجموعة من الضوابط، التي لا يمكن تعديها حتى يصبح التسامح قيمة إيجابية، ولا ينزلق إلى التساهل أو اللامبالاة أو حتى ما هو دون ذلك بكثير. ومن هذه الضوابط الترويج لمعتقدات وأصول تهدد بتدمير المجتمع، وإشاعة الإلحاد والفوضى، وتدمير بنية الدولة وتعريض مصالحها الوطنية للخطر، والتعدي إلى أموال الآخرين وحرماتهم، وإبداء الولاء لحكام أجانب، ما يعني خيانة الوطن،([3]) والخيانة ليست وجهة نظر، بل جريمة بشعة، لا يجب التساهل أبدا في عقاب مقترفيها. 

وأقر الإسلام في نصه ثقافة التسامح من خلال تأكيده على مبادئ الإخاء الإنساني، والاعتراف بالآخر واحترامه، والمساواة بين الناس جميعا، والعدل في التعامل مع الناس بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية والعرقية واللسانية، وإقرار الحرية المنظمة. وهناك عشرات الآيات القرآنية التي ترسخ هذه المبادئ.([4]) أما على مستوى الفلسفة الإسلامية، فربما يكون الكندي من أكثر من أقروا ثقافة التسامح حين دعا إلى منطلقات خمس هي: ضرورة البحث عن الحقيقة لذاتها، وعدم إحاطة رجل واحد بالحقيقة بل قد لا يحيط بها الجميع، وتعرض الكل للخطأ، كما أن الوصول إلى الحقيقة يتطلب مشاركة الناس جميعا، وأن التسامح ضرورة من أجل تحصيل التقدم.([5]) لكن كثيرا من الممارسات التي قام بها أغلب حكام المسلمين، ومن تحلق حولهم من الولاة والأتباع، افتقدت إلى روح التسامح، وخالفت الكثير مما جاء في النص القرآني الكريم.

وقد اختلف مفهوم التسامح في الماضي عما هو عليه الآن. فمن قبل اكتسى هذا المفهوم بطابع أبوي، ولم يكن ناجما عن تطبيق مبدأ أو فكرة عظيمة وعميقة إنما مجرد سلوك فاضل، ما يعني أن هناك طرفا لديه اليد الطولى على طرف آخر، وأنه يتسامح معه من قبيل العطف والشفقة أو فعل الخير. من هنا تبدو فكرة التسامح مرتبطة بالتعالي والازدراء بل والطغيان، إذ إننا حين نقول لشخص إننا نتسامح مع ما يفكر فيه، فهذا معناه أن تفكيره لا قيمة له، لكننا سنغض الطرف عن ذلك من قبيل المجاملة.([6])

أما اليوم فقد تغيرت النظرة إلى المفهوم منذ أن ارتبط بشعار “الحرية والمساواة والإخاء” الذي رفعته الثورة الفرنسية، حيث تخلى عن الطابع الأبوي، وأصبح يقوم على “الحق” الذي لا تفريط فيه، ويرتبط بالمواطنة، التي تعني عدم التمييز بين الناس على خلفيات تتعلق بالدين والمذهب والعرق واللغة والوضع الطبقي، ولا يرتبط بالمزاح الشخصي ويجعل منه أساسا لإقرار التسامح وكفالته.([7])

وفي دورته الثامنة والعشرين التي استضافتها العاصمة الفرنسية باريس في نوفمبر من عام 1995 اعتمد المؤتمر العام لمنظمة اليونسكو تعريفا شاملا للتسامح يرى فيه ما يلي:

1 ـ التسامح هو الاحترام والقبول والتقدير للتنوع الثري لثقافات عالمنا، ولأشكال التعبير، وللصفات الإنسانية لدينا. ويتعزز هذا التسامح بالمعرفة والانفتاح والاتصال، وحرية الفكر والضمير والمعتقد. وأنه الوئام في سياق الاختلاف، وهو ليس واجبا أخلاقيا فحسب، إنما هو واجب سياسي وقانوني أيضا. والتسامح هو الفضيلة التي تيسر قيام السلام، يسهم في إحلال ثقافة السلام محل ثقافة الحرب.

2 ـ لا يعني التسامح المساواة أو التنازل أو التساهل، بل هو قبل كل شيء اتخاذ موقف إيجابي، يتم فيه الإقرار بحق الآخرين في التمتع بحقوق الإنسان وحرياته المعترف بها عالميا. ولا يجوز بأي حال الاحتجاج بالتسامح لتبرير القيام بانتهاك القيم التي تؤمن بها جماعة ما وترتبط بمصالحها وخياراتها الوطنية.  فالتسامح ممارسة يجب أن يأخذ بها الأفراد والجماعات والدول.

3 ـ إن التسامح مسؤولية تشكل عماد حقوق الإنسان والتعددية، بما في ذلك التعددية الثقافية، والديمقراطية وحكم القانون، وهو ينطوي على نبذ الدوجماتية والاستبدادية، ويثبت المعايير التي تنص عليها الصكوك الدولية الخاصة بحقوق الإنسان.

4 ـ لا تتعارض ممارسة التسامح مع احترام حقوق الإنسان، ولذلك فهي لا تعني تقبل الظلم الاجتماعي أو تخلي الفرد عن معتقداته أو التهاون بشأنها، بل تعني أن المرء حر في التمسك بمعتقداته، وأنه يقبل أن يتمسك الآخرون بمعتقداتهم. والتسامح يعني الإقرار بأن البشر المختلفين بطبعهم في مظهرهم وأوضاعهم ولغاتهم وسلوكهم وقيمهم، لهم الحق في العيش بسلام، وفي أن يطابق مظهرهم مخبرهم، وهو يعني أيضا أن آراء الفرد لا ينبغي أن تفرض على الغير.

وحتى لا يكون التسامح الذي ينشده الخيرون من الناس مجرد كلام معسول أو انقلاب مفروض على اختلاف الآراء والمعتقدات، وهي مسألة واقعية من دون شك، يتعين إيجاد رأي ثالث أو وسيط، كي لا تكون الآراء مشدودة بين حدين متنافرين، بما يصنع استقطابا شديدا. ومن شأن توفير هذا الرأي الوسيط هذا أن يعمل على استقرار التسامح وتوازنه وتجاوزه للنزعة الأنانية، فردية كانت أو جماعية.([8]) وهذا لن يتحقق إلا بعد تعاقد راسخ البنيان بين المجتمع والسلطة، وبين مفردات الجماعة الوطنية نفسها، تتم ترجمته في الدستور والقوانين المكتوبة أو العرفية، وهو ما يبلغ رشده في سياق إطار سياسي ديمقراطي سليم.

وهناك عدة مفاهيم تربطها صلات مختلفة بمفهوم التسامح، وينظر إليها البعض باعتبارها مترادفات له، نظرا لأنها تتشابك معه، بما يؤدي إلى تداخل طرق فهم التسامح، إلى درجة أن الاختلاف حول هذا التسامح يمكن أن يفهم باعتباره صراعا بين هذه المفاهيم، والتي تشمل التساهل والتعايش والسلام الاجتماعي والمجاراة والاحترام والتقدير والحلم والاعتدال وقبول الآخر.([9])

لكن أي من هذه المفاهيم على أهميتها لا تغني عن التسامح، ولا تحل محله، بل تساعد على فهمه، وتشرح بعض جوانبه، لكنها تظل طيلة الوقت أقل وأضعف من أن تنسخه، أو تزيحه تماما.

ولا يمكن لعاقلين أن يختلفا على أن التعصب آفة، لأنه يأكل عقل الفرد وروحه، ويشتت جهد الجماعة الوطنية في معارك فرعية، بعضها قد يتسع ويستفحل ليهدد مصير الوطن نفسه. ولهذا فعلينا أن نتعلم كيف نتسامح مع الآخرين، وندرك أن هذه فضيلة لا يمكن التفريط فيها، وأنها كعادة كل الفضائل تقع في منزلة بين المنزلتين، أي في منتصف المسافة بين التعصب واللامبالاة.

لكن هل التسامح في بنيته والحديث عنه والتعويل عليه والاستفادة منه، هو أمر حقيقي في كل الأحوال؟

ابتداء فإننا حين نطالع كلمة “تسامح” في الكتابات السياسية والاجتماعية والنفسية نستحضر صورة الفرد الهاش الباش في وجوه الآخرين، القادر على استيعاب ما يقولونه، مهما بلغ مدى اختلافه مع آرائه وأفكاره، المتفهم لطبيعة تنوع البشر، والمؤمن بالحقوق المتساوية للجميع، لكن كثيرا من جوانب هذه الصورة لا يمثل الواقع أو الحقيقة، التي تشي بأن هناك مسارات مضمرة أو خفية للتعصب، يحاول الناس في مجتمعات عديدة أن ينكروها، أو يواروها، أو يخففون من وطأتها، ما يعني أن أمام البشرية طريقا طويلا شاقا في سبيل بلوغ الحالة المثلى من التسامح، وقبول الآخر.

إن الفرد المتسامح الذي يطل علينا من قلب الكتابات التي تعالج هذه المسألة في المجتمعات المنفتحة والديمقراطية عليه عبء إثبات التقبل النفسي لفكرة أو مبدأ التسامح، بعيدا عما تظهره نصوص القوانين أو القواعد العامة التي تعمل بها المؤسسات أو تفهم التيار الاجتماعي العريض والأساسي لحقوق المواطنة، التي تعني عدم التمييز بين الناس على أساس الدين أو العرق أو اللغة أو الجهة أو الطبقة أو اللون.

وطالما أن هذا العبء قائم تظل فكرة التسامح ذات طابع مجازي، يضيق ويتسع بقدر ترسخ هذه الفكرة في النفوس والضمائر، وهو مسار تهندسه التنشئة الاجتماعية أكثر مما تفرضه القوانين وقواعد الممارسة السياسية السلمية القائمة على تفهم التعدد، وفتح الباب طوعا أمام الحراك الاجتماعي السوي، والإيمان بأسلوب تقسيم العمل، وتداول النفوذ، وانتشار القوة في المجتمع، وحق الجميع في  حيازة ركائزها المادية والمعنوية والرمزية.

والتنشئة الاجتماعية تتحكم فيها معارف وقيم مستمدة، في جانب فيها، من تقاليد وأعراف وصور نمطية وموروثات وأفكار متداولة وطقوس وطرائق عيش وتجارب تاريخية وأساطير تغالب أو تزاحم القوانين والقواعد التي تضعها النظم السياسية، أو تعمل الدولة على تطبيقها، بما يجعل القول بوجود المجتمع المتماهي تماما مع التسامح، أو المتفاني في سبيل إنجازه على أكمل وجه، محض ادعاء، وإن كان هذا لا يجعلنا ننكر الجهد الذي بذلته بعض المجتمعات في سبيل الارتقاء النفسي للأفراد كي يقتربوا من التسامح بمعناه ومبناه الأفضل.

وهذا الادعاء يفرض نوعا من المبالغة، أو خلق الصور المشجعة، أو التعمية على الهوة أو الفجوة القائمة بين ما ينبغي أن يكون وهو ما كائن بالفعل عند كثير من الأفراد، يتساوقون ظاهريا مع فكرة التسامح، ويسلكون أحيانا ما يوافقها أو يحقق ولو الحد الأدنى منها، بينما هم في حقيقة أنفسهم غير مقتنعين بها بشكل حاسم وجازم ونهائي.

 فكثير من الدراسات النفسية والاجتماعية والسياسية والتربوية التي أجريت في المجتمعات الديمقراطية برهنت على أن هناك دوما جانبا غير معلن لدى كل فرد حين ينظر إلى غيره من المختلفين طبقيا أو عرقيا، لاسيما أن فكرة التسامح ذاتها تحمل في طواياها ونواياها الإقرار بالتفاوت، لأن من يبدي التسامح يفترض، ولو ضمنا، أنه في مرتبة أعلى ممن يتسامح معهم، أو يسامحهم، بل قد يصل الأمر إلى حد نظره إليهم على أنهم مخطئون ولابد من التغاضي عن أخطائهم أو تفهمها أو منحهم الفرصة لتصحيحها أو تقبلها على حالها هذا ولو إلى حين.

لا يعني هذا بالطبع أن تصوير التسامح في اكتماله ليس عملا ضرويا ومشروعا، ولو من قبيل التمسك بأهداب المثل العليا أو السعي إلى بناء مجتمعات فاضلة أو أكثر اتزانا وتوازنا وعدلا وحرية وإرساء للحقوق العامة والفردية للمواطنين كافة.

وفي ركاب هذا التصوير ينفتح المجاز على مصراعيه، كي يتدفق الحديث عن “الإنسان الكامل” و”الفرد المتحضر” و”المجتمعات العادلة” و”المساواة التامة” و”المواطنة الشاملة”، كي ترسم صورة براقة تمثل الحد الأعلى الذي يسعى الناس إليه في كل زمان ومكان، أو هكذا ينبغي لهم أن يفعلوا.

فهذه التركيبات أو التعبيرات تنطوي على مجاز واضح، إذ لا يمكن أن يكون الإنسان كاملا إلا على سبيل الافتراض أو المجاز، لأنه ليس إلها، ولن يكون، فكثير من العوامل الجينية والمكتسبة المعقدة تمنع هذا الكمال. كذلك لا توجد مجتمعات عادلة، إذ إن المجتمع مجبول بطبعه على ألوان متعددة من الصراع، وغاية ما تفعله المبادئ الديمقراطية وإعلاء القانون هو تقليل هذا الصراع إلى الحد الذي لا يحمي المجتمع من الانهيار في “حرب الكل ضد الكل”، كما أن إضفاء صفة التمام على المساواة يصورها وكأنها شيء مادي يخضع لمقياس منضبطة، وكأن الفردين المختلفين عرقيا أو دينيا داخل مجتمع ما عبارة عن قطعتين من خشب أو بلاستيك، بوسعنا أن نجعلهما متماثلين في كل شيء، الطول والعرض والسمك، والوزن والحجم واللون. و”المواطنة” إن كانت مبادؤها يمكن أن تطبق على أفضل وجه ممكن، فليس من الممكن أن يتسم هذا بالشمول إلا في الخيال والتصور المجازي، الذي يعتقد أصحابه أن بوسعهم أن يسدوا كل الذرائع، ويتمموا كل الشروط اللازمة، ويغلقوا كل الثغرات فيحققوا الشمول.

وحين يتحدث السياسيون بهذه التعبيرات فإنهم يدركون جيدا الفرق بين دغدغة مشاعر الجماهير أو خداعم أو إلهائهم، أو حتى  الحديث عن الينبغيات، وبين ما يجري في الواقع، من منطلق فهمهم للهوة الموجودة دوما بين “الرغبة” و”القدرة”، أو ما في مكنتهم أن يفعلوه الآن، وما يستطيعون فعله غدا، فإن كان السياسي يطلب من الناس أن يتسامحوا فهو ليس من الحماقة كي يعتقد أن ما يطلبه ستتم تلبيته في الحال، وأن ما يتفوه به، كنوع من حث الناس على التسامح، يعني إقراره بأنهم قادرون في كل الأحوال على الإمتثال لمطلبه هذا.

فكثير ما حفلت الصور والسرديات السياسية والألوان الفنية والأدبية بمحاولات لا تنقطع لإظهار قوة التسامح في مجتمع ما، أو بين حضارة وبقية الحضارات، وثقافة وسائر الثقافات، وعرق ومختلف الأعراق الأخرى. وكان صانعو هذه الصور المجازية، ولا يزالون، مؤمنين بأن ما يقدمون عليه ليس نوعا من الخداع أو الكذب أو التضليل أو مجافاة الحقائق الاجتماعية الخفية والظاهرة، إنما هو ضرورة لصناعة التماسك الاجتماعي، وضرب المثل على إمكانية قيام حياة أكثر تسامحا.

لا يعني هذا أن هؤلاء الصناع المهرة غير مدركين لقيم التعصب وصوره المستقرة في أعماق النفوس، وفي التصرفات والتدابير الحياتية المفصلة، إنما على العكس من ذلك تماما، إذ أن أدراكهم لهذه الحقيقة هو ما دفعهم إلى رسم تلك الصور الناصعة، التي تجعل الأبيض ينظر إلى الأسود على أنه مثله تماما، وتجعل الثري يرى أن الفقير لا يقل عنه في أي شيء، وتعزز إدراك معتنق دين بأنه ليس بأفضل من معتنقي الأديان الأخرى، أو حتى على مستوى المعاني، كأن ينظر إلى لغة على أنها أعلى وأكمل من بقية اللغات، ليس على مستوى بنيتها وأجروميتها وثراء معجمها، إنما في قدرتها على أن تكون لسانا أو نطقا يحقق أهداف استعمال اللغة في أي مجتمع من المجتمعات البشرية المعاصرة.

لكن مهمة هؤلاء ليست يسيرة، إذ عليهم أن يبذلوا جهدا فائقا في فهم وتحليل الإدراكات المتبادلة المحملة بشحنات من الصور والمفاهيم والتصورات والرواسب التي صنعها البشر على مهل، واكتسبوها على مدار سنوات طويلة خلال تنشئتهم في رحاب الأسرة والمدرسة وإنصاتهم ومشاهدتهم لوسائل الإعلام وحصيلة قراءاتهم أو مطالعاتهم الخاصة.

فإذا التقى أوروبي وعربي، أو تزاملا في دراسة أو عمل أو رحلة، أو تشاركا في مشروع اقتصادي، فإن كلا منهما، ليس بوسعه أن يصفى ذهنه تماما من تلك الرواسب، حتى لو كانت تنطوي على صور نمطية جاهزة ومعلبة مغلوطة أو صنعت في معامل المخابرات أو وفق المصالح السياسية المتصارعة أو المتنافسة، والتي تضرب بجذور عميقة في التاريخ.

وداخل المجتمع الواحد، ليس بوسع الأبيض في الولايات المتحدة الأمريكية على سبيل المثال، أن يتجنب الأحجار الثقيلة التي تلقيها طرق التنشئة وقيمها أمامه وهو يتحدث أو يتفاهم أو يتشارك مع آخر أسود، هو مواطن مثله، له الحقوق نفسها، وعليه الواجبات ذاتها. وعلى النقيض من هذا ليس بوسع الأسود أن يجرد باله من كل ألوان الريبة في أن هذا الأبيض لا ينظر إليه كما ينظر إلى أبيض مثله. فهؤلاء يجهدون أنفسهم أحياناً لإجبار قلوبهم على التسامح لكن شيئاً فيهم يظل قلقاً ومعلقاً بالذاكرة كالرماد.

وإذا كان هذا على مستوى نفسية الأفراد، فإن مفهوم التسامح في معناه القابل للتطبيق يواجه تحديات شديدة، تجعل تطبيقه حتى في المجتمعات الأوروبية والأمريكية ليس بالأمر الهين، فهذه المجتمعات تعاني من اتجاهات تعصبية أفرزتها الليبرالية، مثل “النازيون الجدد” وكارهي المهاجرين من المنتمين إلى الأحزاب اليمينية، واستمرار النظرة إلى السود والأسيويين وذوي الأصول الأسبانية في المجتمع الأمريكي على أنهم أقل درجات من البيض. ولأن أتباع هذه الاتجاهات يتمسكون بحق التعبير عنها، والدعوة إليها، باعتبارها من مبادئ الديمقراطية، فإن مبدأ التسامح يجد ما يضاده من داخل الثقافة أو الأيديولوجية ذاتها التي تدافع عنه، لاسيما مع إقرارها بأن الفرد هو سيد تفضيلاته واختياراته، وبذا يبقى من حقه وحده أن يتسامح مع غيره أو يرفض هذا، تعبيرا عن حريته في القبول والرفض.([10]) في الوقت نفسه هناك من يعتقدون أن الإفراط في التسامح ليصبح تساهلا، يؤدي إلى نتائج سلبية للمجتمعات، من قبيل أن التسامح مع الذئب يعني ظلما تاما للحمل، وهناك من يطالبون بالتسامح، لكنهم في الوقت نفسه يدعون إلى عدم نسيان الأذى والأسى، بل إمكانية تذكره دون إبداء امتعاض.

في الوقت نفسه فإن السلطات الحاكمة تجد نفسها مضطرة إلى رفض التسامح مع التوجهات الجماعية التي لا تريد الاندماج أو التكيف مع التجمعات الأخرى، خوفا على تماسك المجتمع، حين تؤدي الولاءات المتعددة إلى تناحر، لا يشكل خطرا على الدولة فحسب، بل أيضا على النموذج الليبرالي برمته.

وإزاء هذا يقوم الأفراد داخل هذه المجتمعات بالتعبير عن تعصبهم بطرق غير مباشرة، في وقت تنطق فيهم ألسنتهم أعذب الكلام عن فضائل التسامح وضرورة الإيمان القاطع به. فهناك دراسات بينت أن هناك مؤشرات سلوكية مواربة أو خفية للتعبير عن التعصب، مثل الانحيازات اللغوية، والتخاطب بالعين، والسلوكيات غير اللفظية، والتي يمكن أن تكون عرضة للتحكم المقصود، والتعبيرات الضمنية.([11])

وتوجد دراسات أخرى أظهرت أن التفاوت بين التعصب الضمني والعلني لا يعود بالضرورة إلى أسباب خارجية، إنما قد يكون نابعا من الذات، أو يرجع إلى بواعث داخلية، تقوم على القيم الراسخة، والميول النفسية، وتعمل على أنها “منشط تلقائي” يدفع إلى عدم التسامح، مع أن الأشخاص الذين يحملون هذه الصفات يتبنون في العلن اتجاهات تتعلق بالمساواة، كي يحافظوا على صورتهم الذاتية كأشخاص متسامحين متحضرين، فإن ظهر تعصبهم الخفي في موقف ما، لم يعدموا وسيلة لتبريره أو تأويله بما لا يجرح صورتهم المجازية.

وبهذا يبقى التصور، الذي يطلب إما تسامح تام أو لا تسامح على الإطلاق، ذا طابع مجازي، لأن التسامح لا يكون مطلقا، لكثير من الأسباب التي تم إبداؤها سابق، لكن لا بأس من مجاز ينطوي ظاهره أو باطنه على حض الناس على الترقي في سلم التسامح إلى مستويات عالية.


([1]) د. محمد عاطف غيث (محرر) ، “قاموس علم الاجتماع”، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب”، الطبعة الأولى، 1979، ص: 487.

([2]) فرانك بيلي، “معجم بلاكويل للعلوم السياسية” ( دبي: مركز أبحاث الخليج) 2004، ص: 656.

([3]) انظر، جون لوك، “رسالة في التسامح” ترجمة: د. منى أبو سنة، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب) سلسلة (مكتبة الأسرة) 2005.

([4]) لمزيد من المعلومات انظر: محمد الغزالي، “التعصب والتسامح بين المسيحية والإسلام”، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب) سلسلة (مكتبة الأسرة) 2005.

([5]) وهبة الزحيلي، “ثقافة التسامح بين الغرب والشرق”، مجلة “التسامح” صيف 1429 هـ/ 2008 م، العدد رقم (23) ص: 23.

([6]) د. عصام عبد الله، “التسامح”، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب) سلسلة (مكتبة الأسرة) 2006، ص: 34.

([7]) د. هويدا عدلي، “التسامح السياسي: المقومات الثقافية للمجتمع المدني في مصر”، (القاهرة: مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان) الطبعة الأولى، ص: 36 ـ 37.

([8]) عبد الكبير الخطيبي، “السياسة والتسامح” ترجمة: عز الدين الكتاني الإدريسي، (القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة/ المشروع القومي للترجمة) الطبعة العربية الأولى، 1999، ص: 11.

(9) أشرف عبد الوهاب، “التسامح الاجتماعي بين التراث والتغير”، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب) سلسلة (مكتبة الأسرة) 2006، ص: 79 ـ 72.

([10]) د. هويدا عدلي، مرجع سابق، ص: 97.

([11]) جون داكيت، “التعصب والعدائية بين الجماعات”، ترجمة: ربيع وهبة وأخرون،  مراجعة: د. قدري حفني، في: دافيد أو. سيرز وأخرون (محررون)، “المرجع في علم النفس السياسي”، (القاهرة، المركز القومي للترجمة، 2010) الطبعة الأولى، الجزء الثاني، ص: 955 ـ 957.

اظهر المزيد

د. عمار على حسن

روائي وباحث في علم الاجتماع السياسي - القاهرة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى