2019العدد 180ملف إقليمي

الطموح التركي في غاز شرق المتوسط أبعاده وتداعياته

بدا لافتا كيف أن الولايات المتحدة الأميركية،  عندما أعلنت انسحابها من سوريا في مطلع تشرين الأول / أكتوبر 2019،  ذكرت في الوقت نفسه أنها ستحتفظ بجنود لها لحماية آبار النفط في شرق سوريا. ومع انسحاب “قوات الحماية الكردية” من مناطق الحدود مع تركيا دعا الرئيس الأميركي دونالد ترامب هذه القوات للتوجه إلى شرق الفرات لحماية واستغلال آبار النفط السورية الخاضعة لسيطرتهم. ويكشف هذا التصريح كيف أن الولايات المتحدة يمكن أن تتخلى وتضحي بحليف لها هي القوات الكردية،  وتعيد وصل القنوات مع تركيا،  مقابل أولوية الاحتفاظ بسيطرتها على مناطق الثروة النفطية السورية.

يقدم السلوك الأميركي هذا أنموذجا على أهمية الطاقة والاقتصاد في مصالح الدول، إلى حد خوض الحروب والمعارك وهذا كان مثلا في صلب الغزو الأميركي للعراق في العام 2003.

التوترات المفتوحة والمرشحة للمزيد بين دول شرق المتوسط حول امتلاك واستغلال موارد الطاقة من غاز طبيعي ونفط،  مثال حي على اختلاط السياسة بالاقتصاد بالأمن. وكان هذا العامل كامنا في بعض جوانب التوترات في منطقة الشرق الأوسط عموما سواء في الحرب السورية نفسها أو الخلاف السعودي – القطري،  أو التوترات التركية مع السعودية ومصر والإمارات العربية المتحدة.

في هذا الإطار يقفز إلى الذهن فورا التطورات المتعلقة بالصراع على النفط في شرق المتوسط كأحد عوامل التوترات السياسية.

غاز شرق المتوسط

في العام 2000 اكتشف مقابل الساحل الفلسطيني في غزة أول حقل للغاز الطبيعي في مياه شرق المتوسط. وفي العام 2009 كانت إسرائيل تكتشف حقلا للغاز الطبيعي هو حقل تمار في البحر المتوسط على بعد 80 كيلومترا إلى الغرب من حيفا. وفي العام 2011 اكتشف الغاز في حقل أفروديت في قبرص. وفي العام 2015 اكتشف حقل “ظهر” المصري على بعد 200 كلم إلى الشمال من بورسعيد وهو حقل قد يشكل 40 في المئة من إنتاج مصر للغاز.

مع هذه الاكتشافات أدركت دول شرق المتوسط أن المنطقة البحرية تختزن تريليونات متر مكعب من احتياطي الغاز.

وتقدر دراسات مركز الأبحاث الجيولوجية الأميركي أن الاحتياط المتوقع أن يكون في هذه المنطقة يقارب 3045 تريليون متر مكعب وربما أكثر بكثير. ومع أن هذه الكمية لا تعادل أكثر من 1 في المئة من احتياط الغاز في العالم إلا أنها قياسا على ثروات المنطقة كبيرة ومهمة وتستحق الاستثمار فيها بل خوض الحروب من أجلها. كذلك تختزن هذه المنطقة أكثر من 1. 7 مليار برميل من النفط.

ونظرا لتشاطئ عدد كبير من الدول حول مناطق الغاز المكتشفة والمحتملة فقد سارعت كل دولة منها إلى العمل على تحديد حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة الخاصة بها. وهذا بالطبع يتطلب الدخول في مفاوضات بين الدول التي تتداخل حدودها الاقتصادية. لكن هذا كان يصطدم بعقبات الخلافات والعداوات التاريخية والسياسية بين أكثر من دولة.

الدول المتشاطئة لحقول الغاز في شرق المتوسط هي : مصر وإسرائيل وفلسطين ولبنان وسوريا وتركيا واليونان وجمهورية قبرص المعترف بها دوليا لكنها المنقسمة عمليا منذ العام 1974 إلى شطر جنوبي يوناني(هو المعترف به دوليا) وشطر شمالي تركي.

كل دولة تقريبا من هذه الدول لها خلافات مع دولة أخرى أو أكثر. إسرائيل لها خلافات مع سوريا ولبنان وتركيا. مصر لها خلافات مع تركيا. لبنان له خلافات مع إسرائيل. تركيا لها خلافات مع قبرص اليونانية واليونان وإسرائيل وسوريا ومصر وحتى مع لبنان. اليونان لها خلافات مع تركيا وقبرص التركية. قبرص اليونانية لها خلافات مع تركيا وقبرص التركية. وسوريا لها خلافات مع تركيا وإسرائيل.

لذا كان تحديد المنطقة الاقتصادية البحرية الخالصة لكل دولة دونه عقبات متعددة منها انعدام التواصل بين العديد من هذه الدول. فكان أن لجأت بعض الدول إلى تحديد منطقتها الخاصة بها من جانب واحد دون التفاهم مع الدولة أو الدول الأخرى ذات الحدود الاقتصادية المشتركة. وإذا كان وجود عداء رسمي بين لبنان وسوريا مع إسرائيل يحول دون دخول لبنان في مفاوضات مشتركة مع إسرائيل، كان لا بد من طرف ثالث وسيط للعمل على ترسيم الحدود البحرية بمعزل عن نجاح هذه الوساطة من فشلها. وقد حاولت واشنطن القيام بمثل هذا الدور بين لبنان وإسرائيل لكنها فشلت نتيجة التعنت الإسرائيلي ونتيجة عدم نزاهة “الوسيط” الأميركي.

وتحكمت الخلافات التاريخية بملفات الترسيم بين تركيا واليونان وتركيا وجمهورية قبرص. فيما تركت الخلافات السياسية أثرها السلبي على إمكانيات الترسيم كما هو الحال بين تركيا وسوريا.

في هذه المناخات من الخلافات الكبيرة كان الصراع حادا على الثروات البحرية وتحديدا موارد الطاقة من غاز طبيعي ونفط في منطقة شرق المتوسط.

حددت قبرص اليونانية (ونقصد هنا جمهورية قبرص المعترف بها) حدود منطقتها الخالصة بشكل أحادي في العام 2010 وتشمل نظريا كل المنطقة البحرية المحيطة بكل الجزيرة بشطريها الشمالي والجنوبي. وردت عليها تركيا في العام التالي(2011) بتحديد الجرف القاري الخاص بينها وبين قبرص التركية. كما أن تركيا لا تعترف بأي اتفاقيات وقعتها قبرص اليونانية لتحديد حدودها الاقتصادية البحرية مع الدول المتشاركة معها بحرا مثل اليونان وإسرائيل ولبنان ومصر لأنها(تركيا) لا تعترف بحق قبرص اليونانية التفاوض وحدها باسم كل القبارصة اليونانيين والأتراك،  حيث إن القبارصة الأتراك لهم الحق بالثروة التابعة لقبرص أينما وجدت ولو تحت سيطرة القسم اليوناني.

لذا فإن مشكلة تحديد حدود المنطقة الخالصة لكل دولة تقف عقبة أمام انصراف كل دولة استخراج ثرواتها في مناخ من الاستقرار والسلم والأمن.

ونظرا لأن الخلافات السياسية قد تفاقمت في السنوات الأخيرة ولا سيما بعد انفجار ما سمي بالربيع العربي ولا سيما بين مصر وتركيا فقد جاء اكتشاف الغاز والنفط في شرق المتوسط ليحول الصراع على الثروة الغازية والنفطية إلى أداة إضافية في الصراعات السياسية وتأكيد الحضور والنفوذ.

وإذا كان العداء بين سوريا ولبنان مع إسرائيل أمر طبيعي، فإن الاصطفافات بين دول شرق البحر المتوسط اتخذت طابعا سياسيا خالصا حيث انقسمت هذه الدول بين جبهتين: أولى تضم مصر وإسرائيل والأردن وفلسطين(السلطة الفلسطينية) واليونان وقبرص اليونانية من جهة،  وتركيا وقبرص التركية من جهة ثانية، فيما لبنان وسوريا خارج هذين الاصطفافين. فلبنان لا يمكن أن يكون في جبهة فيها إسرائيل، وسوريا،  حتى الآن،  لا يمكن أن تكون في جبهة فيها إسرائيل وفيها تركيا.

وقد انعكست الاصطفافات في مبادرات عملية تمثلت بصورة لافتة في تأسيس ما سمي بـ “منتدى غاز شرق المتوسط”.

منتدى غاز شرق المتوسط

تأسس في 14 كانون الثاني/يناير 2019 ما سمي بـ “منتدى غاز شرق المتوسط” (eastern-mediterranean-gas-forum) ومقره القاهرة. وعقد أولى اجتماعاته، على مستوى وزراء الطاقة،  في القاهرة يومي 14 و 15 كانون الثاني/يناير 2019. وقد ضم المنتدى سبع دول: إيطاليا واليونان وقبرص(اليونانية) والأردن وإسرائيل وفلسطين ومصر.

وقد أصدرت وزارة البترول المصرية بيانا حول المنتدى جاء فيه أن الهدف منه “إنشاء منظمة دولية تحترم حقوق الأعضاء بشأن مواردها الطبيعية بما يتفق ومبادئ القانون الدولي،  وتدعم جهودهم في الاستفادة من احتياطاتهم واستخدام البنية التحتية وبناء بنية جديدة،  وذلك بهدف تأمين احتياجاتهم من الطاقة لصالح رفاهية شعوبهم”.

وجاء في البيان الختامي للمؤتمر أن الوزراء اتفقوا على أن الأهداف الرئيسية للمنتدى تتضمن:

  1. العمل على إنشاء سوق غاز إقليمي يخدم مصالح الأعضاء،  من خلال ضمان العرض والطلب للأعضاء،  مع العمل على تنمية الموارد على الوجه الأمثل،  والاستخدام الكفء للبنية التحتية القائمة والجديدة مع تقديم أسعار تنافسية،  وتحسين العلاقات التجارية.
  2. تعزيز التعاون من خلال خلق حوار منهجي منظم وصياغة سياسات إقليمية مشتركة بشأن الغاز الطبيعي،  بما في ذلك سياسات الغاز الإقليمية.
  3. تعميق الوعي بالاعتماد المتبادل والفوائد التي يمكن أن تجنى من التعاون والحوار فيما بين الأعضاء،  بما يتفق ومبادئ القانون الدولي.
  4. دعم الأعضاء أصحاب الاحتياطات الغازية والمنتجين الحاليين في المنطقة في جهودهم الرامية إلى الاستفادة من احتياطاتهم الحالية والمستقبلية،  من خلال تعزيز التعاون فيما بينهم ومع أطراف الاستهلاك والعبور في المنطقة،  والاستفادة من البنية التحتية الحالية،  وتطوير المزيد من خيارات البنية التحتية لاستيعاب الاكتشافات الحالية والمستقبلية.
  5. مساعدة الدول المستهلكة في تأمين احتياجاتها وإتاحة مشاركتهم مع دول العبور في وضع سياسات الغاز في المنطقة،  مما يتيح إقامة شراكة مستدامة بين الأطراف الفاعلة في كافة مراحل صناعة الغاز.
  6. ضمان الاستدامة ومراعاة الاعتبارات البيئية في اكتشافات الغاز وإنتاجه ونقله،  وفي بناء البنية الأساسية،  بالإضافة إلى الارتقاء بالتكامل في مجال الغاز،  ومع مصادر الطاقة الأخرى خاصة الطاقة المتجددة وشبكات الكهرباء.

وعقد المنتدى اجتماعه الثاني يومي 25 و 26 تموز/يوليو 2019 في القاهرة أيضا،  بحضور ممثلين عن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والبنك الدولي.

ملاحظات

لا شك أن منتدى غاز شرق المتوسط هو إطار اقتصادي غير مسبوق بين دول تجتمع للمرة الأولى تحت مظلة واحدة. ويمكن تسجيل بعض الملاحظات “التقنية” والسياسية التالية:

  1. ضم المنتدى دولا غير متوسطية مثل الأردن.
  2. دولا بعيدة نسبيا عن شرق المتوسط مثل إيطاليا.
  3. لم يضم دولا منتجة أو مستهلكة تقع مباشرة على سواحل شرق المتوسط مثل لبنان وسوريا وتركيا.
  4. على الرغم من عدم الاعتراف الدولي بها فإن “جمهورية شمال قبرص التركية” تشكل حيثية كيانية لا يمكن تجاوزها ولوجودها مبررات قانونية سنتوقف عندها لاحقا.
  5. إن مشاركة السلطة الفلسطينية في رام الله في المنتدى لا معنى له وكاريكاتوري كون هذه السلطة لا تملك زمام السيطرة في غزة ولا حرية التحرك في المياه الإقليمية لغزة نتيجة الحصار الإسرائيلي على القطاع. وبالتالي عدم القدرة على استثمار الثروات في حدود المنطقة الاقتصادية الخاصة بغزة وغير المحددة أصلا.
  6. إن إنشاء مثل هذه المنتديات الإقليمية بهدف تعزيز التعاون الإقليمي أمر إيجابي. لكن وجود إسرائيل كأحد أعضاء المنتدى في ظل استمرار احتلالها للأراضي الفلسطينية في الضفة والجولان وحصار قطاع غزة، يمنح الشرعية لهذا الاحتلال والحصار ويريح إسرائيل اقتصاديا ويسهم في المزيد من التطبيع والاندماج بمحيطها الإقليمي.

مع ذلك عمل هذا المنتدى على إطلاق مجموعة كبيرة من الاتفاقيات الثنائية والجماعية تهدف إلى تعزيز وجوده وتأثيره إقليميا ودوليا.

من ذلك العمل على تحديد رسمي لحدود المناطق البحرية فيما بينها ومع دول أخرى خارج المنتدى مثل الاتفاقية بين قبرص اليونانية ولبنان.

كذلك وقعت اتفاقيات لمد خط أنابيب فيما بينها مثل خط أنابيب من قبرص اليونانية إلى مصر (2018) بكلفة مليار دولار أميركي بهدف إعادة تصديرها إلى أوروبا على أن ينتهي العمل به في أواخر 2019. كذلك اتفاقية(2018) لنقل الغاز الإسرائيلي إلى اليونان وقبرص وإيطاليا. لكن الاتفاقية الأهم هي إنشاء خط أنابيب تحت البحر يعرف باسم “إيست ميد”(eastmed) ينقل غاز دول المنتدى ويصل إلى اليونان ومنها إلى إيطاليا ومنها إلى أوروبا بكلفة 25 مليار دولار(وفقا لتقديرات مركز tepsam التركي) وبطاقة استيعابية تبلغ 20 مليار متر مكعب سنويا.

تركيا وصراع الغاز

يبدو مستغربا أن تكون تركيا التي برزت العقود الأربعة الأخيرة كبلد موزع للغاز إلى أوروبا والعالم وتمتلك بنية تحتية كبيرة متينة ، خارج منتدى غاز شرق المتوسط وخارج كل المبادرات والاتفاقيات التي تقوم بها دول المنتدى كما لبنان وسوريا.

وليس من أي دليل على أن تركيا قد تلقت دعوة لتكون ضمن هذا المنتدى. وإذا استثنينا السلطة الفلسطينية وإلى حد ما الأردن،  فإن الدول الأعضاء في المنتدى يجمعها العداء (اليونان وقبرص اليونانية) أو الخلاف(مصر وإسرائيل) مع تركيا. وهو ما يدفع في اتجاه أن يكون من بين أهداف المنتدى مناهضة سياسات تركيا الإقليمية بقيادة حزب العدالة والتنمية وإضعافها،  في ظل سعيها للهيمنة من بلاد الشام إلى الجزيرة العربية وشمال أفريقيا.

 لماذا تركيا؟

انكبّت تركيا بعد “الربيع العربي” على اتباع سياسات تحمل عنوان “العثمانية الجديدة” وهي الهيمنة على المنطقة بتغيير الأنظمة القائمة وإحلال أنظمة موالية لها تتزعمها جماعة الإخوان المسلمين. وهذا ما حصل أو جرت محاولات لحصوله في مصر وتونس والمغرب وليبيا والأردن واليمن وسوريا. وقد نجحت هذه السياسة في مصر وتونس قبل أن يُطاح بسلطة الإخوان فيهما،  فيما فشلت في سوريا والأردن ودول أخرى. وفي الوقت نفسه تمادت تركيا في التدخل في الشؤون الداخلية لدول أخرى مثل الاعتراض على ثورة”30 يونيو”2013 في مصر ودعمها، بما فيه العسكري،  لقطر في خلافها مع السعودية والإمارات.

كذلك دخلت تركيا بالتعاون مع حليفتها قطر، في صراعات مذهبية وسياسية مع السعودية والإمارات. ولم يتوقف الخطاب التركي عن انتقاد إسرائيل رغم اتفاقية التطبيع في العام 2016 والعلاقات الاقتصادية القوية بينهما. أما تهديد الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، في أيلول/سبتمبر 2016،  بإعادة النظر بمعاهدة لوزان 1923 فكان عاملا إضافيا لليونان وقبرص اليونانية لكي تحولان دون أن تكون تركيا جزءا من التعاون والمنتدى المذكور. لذا كان من الطبيعي أن تجد دول “منتدى غاز شرق المتوسط” نفسها خارج أي إطار للتعاون مع تركيا في ظل سياسات الأخيرة المثيرة للهواجس في المنطقة.

أما من الجانب التركي فالصورة تختلف إلى حد كبير.

  1. وجدت تركيا في منتدى غاز شرق المتوسط واستبعادها عنه محاولة، كما أسلفنا،  لإضعافها وتطويقها وعزلها تمهيدا لإسقاط السلطة السياسية الحالية فيها المتمثلة بحزب العدالة والتنمية، علما أن جانبا من سياسات حزب العدالة والتنمية ولا سيما في ما خص قبرص لا تختلف كثيرا عن سياسات الأحزاب التركية الأخرى القومية والعلمانية. ويرى مسؤولو حزب العدالة والتنمية أن القوى الإقليمية والدولية تسعى إلى ضرب صعود تركيا في عهد حزب العدالة والتنمية وتحولها إلى قوة اقتصادية مهمة وقيامها بأدوار فاعلة في قضايا المنطقة. ومن عوامل قوة تركيا الاقتصادية تحولها، بدءا من السبعينيات،  إلى ممر لتصدير الطاقة من نفط وغاز طبيعي القادم من إيران والعراق وأذربيجان وتركمانستان وكازاخستان وروسيا إلى أوروبا عبر شبكة طويلة وواسعة من خطوط الأنابيب ذات الكلفة العالية. ومن هذه الزاوية نظر مسؤولون إلى محاولة الانقلاب العسكري في 15 تموز/يوليو 2016 كما إلى محاولة تطويق تركيا بـ “كوريدور إرهابي” من الأكراد في شمال سوريا بهدف تقسيم تركيا لاحقا،  كما إلى الضغوطات الاقتصادية الغربية على تركيا فضلا عن امتناع الولايات المتحدة بيع تركيا أسلحة متطورة مثل منظومة صواريخ باتريوت ورفض استكمال تسليم طائرات إف 35 المقاتلة المتطورة، وذلك بهدف إبقاء تركيا ضعيفة وغير قادرة على الدفاع عن نفسها. وإذا كانت الولايات المتحدة والسعودية والإمارات العربية المتحدة ليسوا أعضاء في منتدى غاز شرق المتوسط، غير أن مواقف المسؤولين فيها كانت مؤيدة لمواقف قبرص اليونانية واليونان ومصر من قضايا تتصل بموارد الطاقة في شرق المتوسط،  وترى فيهم تركيا جزءا من “تحالف إقليمي – دولي” لمحاصرة تركيا وعزلها وضربها اقتصاديا وعسكريا.
  2.  ترى تركيا أن منتدى غاز شرق المتوسط يسعى من خلال وسائل اقتصادية أن يكرس واقعا في قبرص هو برأي أنقرة غير قانوني.

فتحديد قبرص اليونانية لكامل حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة لكل الجزيرة يهدف إلى مصادرة حقوق القبارصة الأتراك الذين لهم الحق بالمشاركة في قرارات قبرص اليونانية. وبالتالي فإن تكريس هذا الواقع إنما يكرس حقا سياسيا لقبرص اليونانية بتمثيل كل الجزيرة وهو ما ترفضه أنقرة وقبرص التركية.

وتنطلق تركيا والقبارصة الأتراك في هذا الموقف من قاعدة اتفاقيات زوريخ وميونيخ الدولية للعام 1959 التي منحت تركيا واليونان وبريطانيا حق أن تكون ضامنة للجمهورية القبرصية المتوقعة والشاملة للطائفتين التركية واليونانية،  بحيث أن أي تغيير في الواقع القائم بحسب الاتفاقية يمنح أي طرف من الأطراف الضامنة حق التدخل لمنع تغييره. وهو ما حصل في العام 1974 عندما قام انقلاب في قبرص دعا إلى ضم قبرص إلى اليونان ما استدعى قيام تركيا بعملية تدخل عسكري انتهى إلى احتلال شمال قبرص التركية ومن ثم تأسيس ما سمي بـ “جمهورية شمال قبرص التركية”. وقد تأكد أن القبارصة اليونانيين لا يريدون إعادة توحيد الجزيرة عندما عارضوا في استفتاء العام 2005 مقترحات الأمم المتحدة لتوحيد الجزيرة والتي عرفت باسم “خطة كوفي أنان”،  الأمين العام حينها للأمم المتحدة،  فيما أيد القبارصة الأتراك وبغالبية ساحقة هذه الخطة.

أكثر من ذلك رفضت قبرص اليونانية اقتراحا من قبرص التركية في خريف 2019 لتشكيل لجنة مشتركة بين القبارصة الأتراك والقبارصة اليونانيين للعمل معا بشأن مسألة التنقيب عن الغاز. ورأت تركيا في تصريح للرئيس القبرصي اليوناني نيكوس أناستياديايس حول أن “تخلي القبارصة الأتراك عن ضمانة تركيا يحل المشكلة”،  دليلا على غايات قبرص اليونانية وأثينا لإبطال اتفاقيتي الضمانة في زوريخ وميونيخ.

  • إن تكريس حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة لقبرص من جانب واحد إنما يتعدى على حق تركيا بمناقشة وترسيم الحدود البحرية بينها وبين قبرص ككل والذي يتطلب اتفاقية تركية – قبرصية وهو الأمر الذي لم يحصل. كما إن تحديد الحدود من طرف واحد إنما يهدف إلى عرقلة استثمار تركيا لثرواتها وثروات قبرص التركية. ويرى باحثون أتراك أنه لو أن تركيا نالت فقط من 10 إلى 20 في المئة وهي حصتها من ثروات شرق المتوسط لكانت قيمتها من 300 إلى 600 مليار دولار وبها يمكن تصفير الدين الخارجي البالغ 453 مليار دولار.

كما لا تنظر أنقرة إلى تفعيل اتفاقية 1990 العسكرية بين واشنطن وأثينا بعد زيارة وزير الخارجية الأميركي إلى أثينا في 5 تشرين الأول/أكتوبر 2019، سوى مظهر لتحالف دولي ضد تركيا.

كيف تواجه تركيا التحالف ضدها؟

كانت تركيا جزءا من سياسات الغرب المعادية للاتحاد السوفياتي ومن ثم روسيا. وكان مشروع خط نفط باكو- جيهان لتصدير النفط الأذري إلى أوروبا عبر جورجيا وتركيا، نموذجا على انخراط تركيا في سياسات تطويق روسيا بوسائل اقتصادية تضعف خط النفط والغاز الروسي المار في أوكرانيا وصولا إلى أوروبا.

لكن مع بدء التوترات بين أنقرة وواشنطن في السنوات الأخيرة دخلت تركيا في علاقات قوية مع خصمها التاريخي روسيا في ظل قيادة فلاديمير بوتين. وبرز ذلك بعد محاولة الانقلاب العسكري الفاشل الذي اتهمت أنقرة الولايات المتحدة ودولا أوروبية بالوقوف وراءه، حيث عززت تركيا تعاونها مع روسيا عسكريا عبر صفقة صواريخ أس 400،  واقتصاديا، عبر مد خط أنابيب نفط وغاز روسي تحت البحر الأسود وصولا إلى تركيا ومنه إلى أوروبا. وهذا الخط يساعد روسيا على التحرر من الارتهان الكامل للخط المار بأوكرانيا التي تتبع سياسات مؤيدة للغرب ومعادية لروسيا.

كذلك تسعى روسيا، التي تتعرض كما تركيا لضغوطات غربية،  إلى تفكيك الألغام التي يمكن أن تعترض تعاونا إقليميا على أكثر من مستوى. وفي هذا الإطار تبرز محاولات تطبيع العلاقات تدريجيا ولو ببطء بين تركيا وسوريا كأحد أبرز هذه العناوين. وإذا كانت الحرب في سوريا وعليها،  في جانب منها،  لرفض دمشق التعاون مع قطر لمد خط أنابيب غاز من قطر وصولا إلى تركيا فأوروبا عبر سوريا، فإن احتمالات عودة الحديث عن هذا الخط غير مستبعدة في ظل علاقات التعاون الحالية بين تركيا وروسيا والعلاقات “الاستراتيجية” بين تركيا وقطر واحتمالات تحسن العلاقات التركية السورية لاحقا. وعلى الرغم من أن روسيا لا تأخذ موقفا مؤيدا لتركيا في شأن الخلاف مع قبرص واليونان بل عارضت خطوات تركيا في إرسال سفن تنقيب عن الغاز في المناطق البحرية المتنازع عليها مع قبرص في تشرين الأول/أكتوبر 2019، غير أن روسيا تتطلع إلى التعاون مع تركيا حتى في التنقيب عن النفط في شرق المتوسط. وقد أعلن وزير الطاقة الروسي ألكسندر نوفاك صراحة في مقابلة مع وكالة الأناضول في 5 آب/أغسطس 2019 عن “استعداد بلاده لمرافقة تركيا في التنقيب عن مصادر الطاقة في شرق البحر المتوسط “،  منوهًا “بالدور الكبير الذي تلعبه الشركات الروسية في هذه المنطقة”. وتتمثل هذه المصالح العليا بالإضافة إلى الفوز بحصة من حقول الغاز،  بالسعي لاعتماد تركيا كدولة عبور لنقل الغاز إلى أوروبا ما يسمح باستمرار تحكم الدولتين بإمدادات الغاز إليها. أي أن إقامة تحالف دولي مضاد لمنتدى غاز شرق المتوسط ويضم روسيا وتركيا وإيران وسوريا والعراق قد يكون أحد أوجه مقاومة تركيا لمحاولات عزلها وإضعافها.

ومن أدوات الضغط التركية لمواجهة الضغوط الغربية والإقليمية هو التهديد بورقة اللاجئين السوريين فيها وفتح حدودها أمام تدفقهم إلى أوروبا، كما التهديد بإعادة مقاتلي “داعش” الأوروبيين الذين اعتقلتهم تركيا في شمال سوريا وكانوا في سجون قوات “سوريا الديموقراطية”، إلى بلادهم ولو عنوة.

ولا تتردد تركيا في التلويح بدورها المؤثر في حلف شمال الأطلسي للضغط على الولايات المتحدة لمنع ذهابها بعيدا في الوقوف إلى جانب اليونان وقبرص اليونانية فضلا عن إسرائيل.

وتلجأ تركيا،  وهذه من أقوى أوراقها وأدواتها في سياساتها الخارجية،  إلى التهديد الفعلي باستخدام القوة لمنع تهديد ما تعتبره مصالحها. من ذلك إرسال ثلاث سفن تنقيب عن النفط والغاز(هي فاتح وياووز وبربروس) إلى المناطق المتنازع عليها مع قبرص واليونان ولا سيما في البلوكين السادس والسابع من المنطقة الاقتصادية القبرصية الخالصة، وبرفقة عشرين سفينة حربية وذلك منذ نهاية ربيع 2019.

وفي 9 شباط /فبراير 2019 منعت البحرية التركية سفينة الحفر “سايبيم 1200” المملوكة لشركة “إيني” eni الإيطالية من القيام بنشاطات التنقيب عن الغاز في المنطقة الاقتصادية القبرصية،  وتسببت الحادثة باتهامات متبادلة،  حيث اتهمت أنقرة القبارصة اليونانيين بالعمل على استغلال الثروات من جانب واحد،  بينما عبرت نيقوسيا عن قلقها من تهديدات أنقرة باستخدام القوة. وذهبت أنقرة أبعد من ذلك عندما هاجم زورق دورية تركي زورقا يونانيا في 12 شباط/فبراير 2019 قرب جزر متنازع عليها.

كذلك تجري تركيا مناورات عسكرية من وقت لآخر على مقربة من “حدود” المناطق الاقتصادية الخالصة في “رسالة بالنار” أنها على استعداد للذهاب قدما في التوتير والتفجير العسكريين إن لم تأخذ الدول الأخرى المصالح التركية الاقتصادية والسياسية بعين الاعتبار.

بل حتى يرى البعض في تركيا أن إصرار أردوغان على القيام في 9 تشرين الأول / أكتوبر 2019،  بعملية “نبع السلام” في شمال سوريا رغم التحذيرات الغربية هو، إلى جانب أسباب أخرى،  “رسالة أخرى بالنار” إلى الدول المعنية بثروات الطاقة في شرق المتوسط ولا سيما في المنطقة المحيطة بجزيرة قبرص.

ويرى هذا البعض أنه لو أن تركيا نالت فقط من 10 إلى 20 في المئة لكانت قيمتها 300-600 مليار دولار وبها يمكن تصفير الدين الخارجي البالغ 453 مليار دولار.

على ما سبق فإن منطقة الشرق الأوسط عموما وشرق المتوسط خصوصا مرشحة لمزيد من التعقيدات في العلاقات الدولية وصراع المحاور والمصالح الاقتصادية،  ولا يوفر أي طرف،  للدفاع عن مصالحه،  كل الوسائل المتاحة بما فيها القوة العسكرية. ويشكل النزاع والتجاذب على غاز شرق المتوسط نموذجا مثاليا لصراعات المصالح الإقليمية والدولية التي يختلط فيها التاريخ بالسياسة بالاقتصاد.

اظهر المزيد

د. محمد نورالدين

أستاذ في الجامعة اللبنانية - بيروت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى