2022العدد 192ملف دولى

أوكرانيا : استنزاف مستمر باستمرار الظروف السياسية والتوازنات العسكرية

مقدمة:

شهدت الأشهر القليلة الماضية سلسلة من التطورات التي انطوت على تصعيد خطير متبادل للحرب الدائرة في أوكرانيا، والتي تقترب من نهاية شهرها التاسع؛ ذلك إنه أمام ما بدا من نجاح أوكراني في استعادة السيطرة على بعض المناطق، تبنت روسيا خيار تسريع وتيرة ضم مناطق أربعة من أوكرانيا لروسيا وفرض أمر واقع جديد بما يتيح للكرملين تحديد السقف الذي يسعى إلى رسم ملامحه في أي تسوية سياسية مقبلة. وبجانب عملية الضم، والتي جاءت في أعقاب تخريب الجسر الذي يربط روسيا بشبه جزيرة القرم في 26 سبتمبر 2022، بما له من رمزية هامة لدى موسكو مما أشّر لمرحلة جديدة من التصعيد_ قامت روسيا بتطوير العملية العسكرية لتشمل سلسلة من الضربات الصاروخية الكثيفة وبمسيرات انتحارية، استهدفت المدن بما فيها العاصمة، والبُنى التحتية الحيوية، دمّرت بالفعل نحو نسبة 40% من البنية التحتية للطاقة في أوكرانيا. في المقابل كثّف التحالف الغربي دعمه العسكري لأوكرانيا، وبصفةٍ خاصة أنظمة دفاع جوي جديدة متنوعة وصواريخ أرض – جو قصيرة المدى وطائرات مسيرة، وقد أدى ذلك إلى عودة روسيا إلى التلويج مجددًا بعدم استبعاد استخدام السلاح النووي.

ويبدو التصعيد حتميًّا، إذا ما أخذنا في الاعتبار حقيقة أن المناطق التي ضمتها روسيا، أو ما تسميها بــــ”المناطق المحررة”، لا تسيطر عليها بشكلٍ كامل بل ولا تتجاوز هذه السيطرة نسبة 50% من مساحة بعض الأراضي مثل: إقليم دونيتسك، واضطرت إلى الانسحاب من مدينة خيرسون الجنوبية في 9 نوفمبر 2022.

ومنذ البداية، هيمنت الحرب على الدبلوماسية في الأمم المتحدة حتى الآن، حيث يُنظر إليها على أنها التحدي الأكبر لمبادئ المنظمة، على الأقل منذ غزو الولايات المتحدة للعراق عام 2003. كذلك أدت الحرب – التي تجيء وسط اشتداد المنافسة بين القوى العظمى والتهديدات المتصاعدة للسلم والأمن الدوليين –  إلي جعل العديد من التحديات التي يواجهها العالم أكثر شدة وضراوة مثل: انعدام الأمن الغذائي، وارتفاع أسعار الطاقة، وتهديد الجهود الدولية الرامية إلى مواجهة الآثار الكارثية لتغير المناخ، ومنع الانتشار، وضبط التسلح،… وغيرها من القضايا التي تؤثر بشكلٍ مباشر على السلم والأمن الدوليين. وكما هو الحال مع جميع الصراعات التي يشارك فيها أحد أعضاء مجلس الأمن الذين يتمتعون بحق النقيض (الفيتو)، تظل الأمم المتحدة عاجزة تمامًا عن اتخاذ أي موقف من الصراع، وكانت النقطة الوحيدة المضيئة هي نجاح الأمين العام للمنظمة “أنطونيو جوتيريش” في إنجاز اتفاق في يوليو 2022 بتصدير الحبوب عبر البحر الأسود، والتي تواجه عملية تمديده لعام آخر عقباتٌ لا يستهان بها.

أولًا: التصعيد النووي الروسي:

في مناسبات مختلفة، آخرها في خطاب له في 21 سبتمبر 2022، ألمح الرئيس بوتين ضمنًا إلى اللجوء للخيار النووي، مشيرًا في ذلك إلى أنه “عندما تتعرض السلامة الإقليمية لبلدنا للتهديد، سنستخدم بالتأكيد جميع الوسائل المتاحة لنا لحماية روسيا وشعبنا، هذه ليست خدعة”. وأعاد” ديمتري ميدفيدف” الرئيس السابق ونائب رئيس مجلس الأمن الروسي هذا التهديد صراحة في 27 سبتمبر 2022، عندما ذكر: “دعونا نتخيل أن روسيا مجبرة على استخدام السلاح الأكثر رعبًا ضد النظام الأوكراني الذي ارتكب عملًا عدوانيًّا واسع النطاق، يشكل خطرًا على وجود دولتنا ذاته”. وتتفق معظم التحليلات الغربية على أن التلويج بالخيار النووي من قبل روسيا هو للتأثير على السياسة الغربية، وتحديًّا للسلوك الأمريكي، وردع حلف شمال الأطلسي عن الانخراط بشكلٍ مباشر في دعم أوكرانيا؛ بما يجبر واشنطن على وقف التدخل و “تجميد” الصراع مع الحفاظ على المكاسب الإقليمية الحالية لروسيا، التي تُعد السبيل الوحيد تقريبًا لإثبات أن “جميع أهداف العملية العسكرية الخاصة قد تحققت”.

 وتلاحظ هذه التحليلات أن تهديدات موسكو النووية تصدر عندما تتراجع قواتها في ميدان المعركة أمام تقدم للقوات الأوكرانية، فقد بدأ التهديد الروسي باللجوء إلى الخيار النووي منذ مارس 2022، عندما تراجعت القوات الروسية عن هجماتها الفاشلة ضد كييف وتشيرنيهيف (Chernihiv).

في السياق عاليه، يقدر “جدعون روز” مؤلف كتاب “كيف تنتهي الحروب؟”، “إن نجاح العمليات الأوكرانية يقرّب نهاية هذه الحرب، وأن تهديدات موسكو النووية تمثل شكلًا متزايدًا من أشكال الغضب، وشكلًا ضمنيًّا من أشكال المساومة”. ويضيف روز أنه “مهْما بدت سياسة حافة الهاوية هذه صادمة اليوم، فليست هناك حاجة إلى إرجاعها إلى نفسية فرد مضطرب أو إلى سياق وطني معين”. فقد تصرفت الولايات المتحدة بشكلٍ مماثل تمامًا عندما واجهت الهزيمة في فيتنام قبل أن تُخرِج نفسها في نهاية المطاف من مستنقعها، ومن المرجح أن تفعل روسيا ذلك، إذا بدت جميع خياراتها الأخرى أسوأ، حسبما يعتقد روز، الذي يستخلص من التجربة الفاشلة للولايات المتحدة في فيتنام نتيجة مفادها أن التهديدات النووية الروسية هي علامة على الضعف وليس القوة، وأنه لو كان لدى روسيا خيارات جيدة لتغيير الوضع الميداني لصالحها، لكانت قد استخدمتها بالفعل. وبالتالي يتعين على واشنطن وحلفائها الأوربيين تجاهل هذه التهديدات والاستفزازات الروسية، وتجنب تشتيت الانتباه عن مهمتهم الرئيسة المتمثلة في مساعدة أوكرانيا على الفوز في الحرب.

ووفقًا لتقديرات أمريكية عديدة، لم تتخذ موسكو أي خطوات غير عادية تشير إلى الإعداد لضربة نووية، وهو ما تؤكده تصريحات مسؤولين بوزارة الدفاع، وتضيف التقديرات أن موسكو ليست جادة في استخدام الأسلحة النووية؛ إذ أن تفجير رأس حربي نووي في أي من المناطق الأوكرانية أو في البحر الأسود سوف يضر بشدة بسمعة روسيا، ويحرمها من الموقف المحايد الودي تجاهها من دول مثل (تركيا، والهند، والصين).

وفي تطور جديد، ومنذ 24 أكتوبر 2022، بدأت روسيا تتحدث عن ” قنبلة قذرة” يعمل نظام كييف على استخدامها واتهام روسيا بالوقوف وراءها، ووفقًا لتصريحات لوزير الخارجية لافروف، “تم نقل معلومات مفصلة في هذا الشأن من خلال وزير الدفاع (الروسي) في اتصالات مع زملائه في الولايات المتحدة، وفرنسا، وبريطانيا، وتركيا”. وأضاف لافروف أن “الغرض من هذا الاستفزاز هو إتهام روسيا باستخدام أسلحة الدمار الشامل في مسرح العمليات الأوكراني، وبالتالي شن حملة ضدها حول العالم”، والجديد في هذا الشأن هو ما أعلن في 14 نوفمبر 2022 عن لقاء تم بين “وليام بيرنز” مدير الاستخبارات المركزية الأمريكية، والسفير الأسبق “لدى موسكو”، ونظيره الروسي “سيرجي ناريشكين” في أنقرة. وفي تصريحات للمتحدث باسم مجلس الأمن القومي بالبيت الأبيض، نقل بيرنز رسالة لنظيره الروسي تحذر من “عواقب استخدام روسيا أسلحة نووية ومخاطر التصعيد على الاستقرار الإستراتيجي”، مشددًا على أن بيرنز “لا يجري مفاوضات من أي نوع، ولا يبحث تسوية للحرب في أوكرانيا”، ومضيفًا أنه “تم إبلاغ الأوكرانيين مسبقًا بالاجتماع”. ولم تصدر أي تفاصيل عن المتحدث باسم الكرملين، الذي ذكر أن اللقاء تم بطلب أمريكي.

والخلاصة هنا هي أن أغلب التحليلات الأمريكية تؤكد ضرورة عدم مكافأة الرئيس بوتين على تهديداته النووية، والتمسك بالحفاظ على الدعم العسكري، والاقتصادي، والسياسي الغربي لأوكرانيا، فضلًا عن تذكير روسيا دائمًا من قبل الولايات المتحدة وحلفائها، بأن العواقب التي سيخلفها أي استخدام نووي، سوف تفوق كثيرًا أية فوائد من المتصور أنها قد تترتب عليه.

ثانيًا: سيناريوهات انتهاء الحرب:

في مقال رأي في صحيفة نيويورك تايمز، في 31 مايو 2022، كتب الرئيس بايدن أن الدعم العسكري لأوكرانيا يهدف إلى وضع قادة البلاد في “أقوى موقف ممكن على طاولة المفاوضات”. ونقل الرئيس الأمريكي عن نظيره الأوكراني قوله: “لن تنته هذه الحرب في نهاية المطاف نهائيًّا إلا من خلال الدبلوماسية”. ومع ذلك، ومع اقتراب الحرب من نهاية شهرها التاسع، لا يوجد ما يوحي بإمكانية بدء عملية سياسية في هذا الشأن، وكما هو الحال مع كل الحروب، فإن المسار المستقبلي للحرب في أوكرانيا يتضمن جوانب لا يمكن التنبؤ بها.

ويستفاد من تحليلات غربية عديدة بعض السيناريوهات المحتملة لانتهاء الحرب، على النحو التالي:

  1. دعم أوكرانيا حتى تحقيق النصر:

يمكن القول بأن هذا السيناريو هو المقاربة التي تتبناها إدارة بايدن، ففي ضوء الحقائق العسكرية الحالية وتواصل الدعم العسكري الغربي المكثف لأوكرانيا، يجب استبعاد أي اتفاق تسوية مع روسيا، وتجنب ممارسة أي ضغط من قبل الولايات المتحدة وحلفائها لإقناع أوكرانيا للقبول بصفقة تنطوي على تنازلات إقليمية؛ لأن مثل هذا الضغط هدفه إنقاذ روسيا، وقد تعزز هذا السيناريو في أواخر أكتوبر 2022 عندما أضطر 30 عضو ديمقراطي في مجلس النواب الأمريكي – وبسبب ضغوط من زملائهم من الحزبين – إلى سحب رسالة يحثون فيها إدارة بايدن على بدء مفاوضات مباشرة مع موسكو، وذلك بعد يوم واحد من إرسالها.

وحتى الآن، تمتنع الإدارة الأمريكية عن تحديد كيف ترى نهاية اللعبة؟ مُولِيَةً تركيزها على فرض عقوبات واسعة النطاق على روسيا والمزيد من الأسلحة الحديثة لكييف. وكثيرًا ما يؤكد أركان الإدارة، بما فيهم وزير الدفاع طلويد أوستن”، أن هدف الولايات المتحدة هو إضعاف روسيا حتى لا تتمكن في المستقبل من تكرار ما فعلته في أوكرانيا، مع التأكيد على السلامة الإقليمية لأوكرانيا وضمان سيادتها.

  • سيناريو انتصار روسيا:

في مقابل السيناريو السابق، ثمة سيناريو آخر تتبناه القيادة الروسية يقوم على ثقة الرئيس بوتين في الخروج من المعركة منتصرًا، خاصة في ضوء الدعم الشعبي للحرب داخل روسيا، ونتائج استطلاعات الرأي التي تظهر ارتفاع شعبية بوتين بنسبة لا تقل عن 80%، وهي نسبة ارتفعت مع تواصل الدعم العسكري الغربي لأوكرانيا، مما جعل أغلبية المواطنين تتماهى مع الخطاب السياسي للقيادة الروسية والالتفاف حولها- خاصة مع تصاعد الخطاب العدائي الغربي ضد روسيا والعقوبات الأشد والأكبر في تاريخ الدولة، والتي لم تنتج آثارها المرجوة على الاقتصاد الروسي الذي ما يزال متماسكًا، بل أن بعض النخبة ممن عارض الحرب في البداية بات من أكثر المتحمسين لها دفاعًا عن وحدة البلاد وتماسكها، ووفقًا لتقديرات غربية فإن غالبية الروس يدعمون ما يقوم به النظام، بما في ذلك الضربات النووية.

في السياق عاليه، يذهب البعض إلى عدم استبعاد قيام روسيا باستخدام الأسلحة الكيميائية أو الأسلحة النووية التكتيكية لتغيير مسار المعركة على الأرض، وأن إشارات الرئيس بوتين المتعددة إلى الأسلحة النووية تشير إلي” أنه يعتقد أن جانب الإرهاب النفسي الناجم عن هذه الأسلحة يمكن أن يكون حاسمًا، إن لم يكن على الأرض، فعلى طاولة المفاوضات. ويضيف التحليل أن بوتين وضع نفسه بالفعل في موقع يؤهله لمثل هذا السيناريو.

وفي ذات السياق يذهب تحليل آخر إلى القول بأن “القيادة الروسية تعول على الصمود حتى فصل الشتاء”، حيث تتوقع زيادة المعارضة الغربية للحرب مع ارتفاع أسعار الفائدة والتضخم. ووفقًا لموسكو، يمكن أن يمهد كل ذلك إلى تجميد الصراع على نحو مستدام أو لتسوية تفاوضية مرضية، بما يسمح لروسيا بادعاء النصر، وتستبعد تحليلات غربية عديدة إمكانية أن يقبل الرئيس بوتين بأي حل وسط من شأنه أن يترك أوكرانيا كدولة مستقلة ذات سيادة، مهما كانت حدودها، ومن ثم تعتقد أن الحل الأمثل هو التخلص من بوتين والعمل على إيجاد نظام بديل يمكن التفاهم معه.

  • سيناريو دمج القوة والدبلوماسية:

 يتحدث بعض المحللين الأمريكيين، من واقع تجربة حرب فيتنام، عن إمكانية تبني منطق القوة والدبلوماسية في آن واحد لتسوية الصراع في أوكرانيا. ووفقًا لهذا السيناريو، من المتوقع أن تزداد حدة الحرب مع اقتراب التسوية، ومن الممكن تصور قيام روسيا بتغطية تراجعها بموجة من العنف والعمل على إظهار قوتها المتبقية، وقد حدث مثل هذا النمط في رد بوتين على تفجير أوكرانيا لجسر مضيق “كيرتش”. وإذا تمكنت أوكرانيا من مواصلة الضغط العسكري الكافي، فستبدأ روسيا- في مرحلة ما- في البحث عن مخرج، وبالتالي ستبدأ اللعبة النهائية لهذه الحرب بجدية. وبعد ذلك، وليس قبل ذلك، سوف يحين وقت التنازلات الضرورية التي لا مفر منها من جميع الأطراف، وهو ما يستوجب إجراء مقايضات صعبة، وعند هذه النقطة لا يقدم التحليل صورة واضحة عن ما يمكن أن تقبل به روسيا، مكتفيًا بالإشارة إلي أنه على الغرب وأوكرانيا مطالبة موسكو بالعودة إلى خطوط ما قبل شن الحرب في 24 فبراير 2022، وأنه في ضوء ما ستسفر عنه المفاوضات حول هذه النقطة، والتي من غير المرجح أن تقبل بها روسيا، يمكن طرح مصير المناطق المحتلة في الدونباس والوضع النهائي لشبة جزيرة القرم، وجرائم الحرب الروسية، والترتيبات الأمنية الإقليمية الأوسع نطاقًا، على طاولة التفاوض.

وكان قد أعلن في وقت سابق أن المفاوضين (الروس، والأوكرانيين) اتفقوا مبدئيًّا – في إسطنبول في إبريل 2022- على الخطوط العريضة لتسوية مؤقتة عن طريق التفاوض، تقوم على انسحاب روسيا إلى حدود ما قبل 24 فبراير 2022 مع السيطرة على “جزء” من منطقة دونباس والاعتراف بتبعية شبه جزيرة القرم لروسيا، وفي المقابل، تتخلى أوكرانيا عن السعي للحصول على عضوية الناتو، على أن تحصل على ضمانات أمنية من عدد من الدول بما فيها روسيا. غير أن وزير الخارجية لافروف، في مقابلة مع وسائل إعلام حكومية روسية في يوليو 2022، أكد أن هذا الحل الوسط لم يعد خيارًا، حتى لو حصلت روسيا على “كل إقليم دونباس”، موضحًا: “الآن الجغرافيا مختلفة… إنها أيضًا مناطق خيرسون وزابوراجيا وعدد من الأقاليم الأخرى”. والهدف هنا من المنظور الغربي ليس التفاوض، وإنما الاستسلام الأوكراني.

ويخلص تحليل آخر إلى القول بأن أي نصر إقليمي يجب أن يقترن باتفاق لإنهاء الحرب، وأنه من غير المرجح أن توافق القيادة الروسية الحالية على اقتراح السلام الذي طرحته مجموعة السبع في 11 يوليو 2022، والذي يقوم على موافقة روسيا على استعادة أوكرانيا حدودها الدولية المعترف بها، بما في ذلك شبة جزيرة القرم.

ثالثًا: احتمالات المستقبل:

تشير السياسات الحالية للتحالف الغربي إلى تمسكه بمقاربته الحالية، والمتمثلة في مواصلة دعم أوكرانيا بكافة الوسائل لمساعدتها على استعادة أراضيها أيًّا كان الوقت الذي سيستغرقه ذلك، وهو ما سيقابله تواصل للتصعيد من جانب روسيا، مما يعني صراعًا غير محدد. وبعد الانسحاب الروسي من خيرسون والتمركز شرق نهر “دينبرو”، يعتقد بعض الخبراء أن الإستراتيجية الروسية تحت قيادة الجنرال “سيرجي سوروفيكين” تهدف إلى وضع حد للقتال المكثف قبل حلول فصل الشتاء، وتجميد الصراع فعليًّا والاحتفاظ بالمكاسب الإقليمية التي حققتها موسكو حتى الآن. ويضيف هذا التحليل أن الأوامر صدرت إلى سوروفيكين لجعل الأهداف السياسية لـ”العملية الخاصة” تتماشى مع القدرات العسكرية والاقتصادية الفعلية لروسيا، وذلك بالنظر إلى أن الدعم اللوجسيتي والعملياتي للعدو يجري توفيره من قبل حلف الناتو بكامل دوله وبتكلفة عشرات المليارات من الدولارات. أما الهدف السياسي الجديد لموسكو فهو الحفاظ على ممر بري روسي إلى شبه جزيرة القرم على طول شاطئ بحر آزوف، وعلى طول الضفة اليسرى لنهر “دينبرو”؛ لضمان عدم سيطرة كييف على إمدادات المياه إلى شبه جزيرة القرم. ويقدر هذا التحليل أن العنصر الآخر في إستراتيجية سوروفيكين هو إجبار أوكرانيا على وقف المرحلة النشطة من الحرب، وتجميد الخطوط الأمامية، والدخول في مباحثات بشروط روسية معدلة تعكس “الهدف الجديد الواقعي للعملية الخاصة”، وهذا هو السبب في أن روسيا تستهدف البنية التحتية للطاقة في أوكرانيا من خلال الغارات الجوية وهجمات الطائرات بدون طيار. فالانقطاعات الواسعة في إمدادات الكهرباء تقلل من قدرة كييف على شن الحرب، وسوف تؤثر-عاجلًا أم آجلًا- على الإمدادات للقوات، وبالتالي إبطاء التقدم الأوكراني.

والخلاصة: هي أن المشهد كما نراه الآن لا يبعث على التفاؤل، ولا يوحي بأن حدة الصراع سوف تخف، وإنما على العكس باتت مسألة إطالة أمد الحرب بمثابة السيناريو الأرجح، ورغم ما أعلن عنه مؤخرًا حول اتصالات تجري بين (واشنطن، وموسكو)، والتي يرجح بأن تكون حول مسألة استخدام السلاح النووي في أوكرانيا والتهديدات النووية الروسية عمومًا، إلا أنه من الواضح أن الطرفين (الروسي، والغربي)، غير راغب في إجراء مفاوضات مباشرة أو القبول بصيغة ما لإنهاء الحرب طالما أن الظروف السياسية والتوازنات العسكرية لم تتغير، ولذا يسعى كل طرف إلى تعظيم مكاسبه على الأرض وفرض أمر واقع يطرح مجددًا ويعطيه اليد العليا عندما يحين وقت التفاوض.

وإذا كان من المنطقي القول بأن “هذه التطورات التصعيدية تشير إلى الحاجة الملحة إلى المفاوضات”، يواجه قادة الدول المنخرطة في الصراع ضغوطًا داخلية تجعل من التسوية مسألة صعبة للغاية؛ فعلى الجانب الروسي يتعرض بوتين لهجوم علني من قبل القوميين الذين يحثونه على اتخاذ المزيد من التحركات التصعيدية، بينما تدفع نتائج انتخابات التجديد النصفي لمجلسي الكونجرس في 8 نوفمبر 2022_ الجانب الأمريكي إلى المضي قدمًا في تصعيد لهجته المناهضة لروسيا، وهي الدعامة الأساسية لإستراتيجيته منذ انتخاب دونالد ترامب. أما داخل أوكرانيا، فإن الرئيس الأوكراني يعلم أن المعارضة القومية لن تتسامح مع أي تنازلات، ومع الدعم الهائل من الولايات المتحدة والنجاحات التي حققتها في ساحة المعركة، فإن كييف ليست في حالة مزاجية لتقديم تنازلات.

وعلاوة على ما تقدم، فإن حربًا طويلة الأمد تضر بشدة بالاقتصاد العالمي، بما في ذلك أهم شركاء الولايات المتحدة التجاريين وحلفائها في أوروبا، بجانب الدول النامية التي تعاني انعدام الأمن الغذائي والتداعيات الكارثية لارتفاع أسعار الطاقة والتضخم.

أما بالنسبة للدول غير الغربية، فرغم الضغوط الهائلة التي تمارسها الولايات المتحدة وحلفائها لعزل روسيا، إلا أن عددًا كبيرًا من دول العالم، بما فيهم الصين والهند، تعتبر الحرب في أوكرانيا صراعًا أوروبيًّا لا يجب أن يؤثر على مصالحها. ولدى الأغلبية الساحقة من البلدان النامية – وبحق– اقتناعًا بأن الموقف الغربي ينطوي على ازدواجية صارخة في المعايير، وصحيح أن هذه الدول تؤكد على السلامة الإقليمية والاستقلال السياسي لجميع الدول، وفقًا لمبادئ ميثاق الأمم المتحدة، إلا أن هناك العديد من الأزمات الدولية التي لم تعبأ الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون بمبادئ الميثاق وقواعد القانون الدولي ارتباطًا بها.

اظهر المزيد

د.عزت سعد

سفير مصر السابق في موسكو ومدير المجلس المصري للشئون الخارجية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى