2022العدد 192ملف دولى

التداعيات الفكرية والإستراتيجية للحرب الروسية – الأوكرانية

انطوى مشروع التنوير منذ بدايته على تيارين متناقضين: الأول (نفعي)، يقبع الفيلسوف ليبنتز على رأسه، أراد تسخير الآخرين في بلورة هوية أوروبا الصاعدة، فدعى إلى استعمار الأقاليم المركزية في العالم وضمنها مصر، حيث حرَّض ليبنتز الملك الفرنسي لويس الرابع عشر على احتلالها في القرن السابع عشر قبل أن يحضر إليها نابليون بونابرت، بعد أن وعى الدرس واستوعب الرسالة في نهاية القرن الثامن عشر ولكن باسم الثورة والجمهورية. والتيار الثاني (إنساني)، رمزه الشاهق هو الفيلسوف كانط، الذي دعى إلى التعايش على أرضية الإنسانية المشتركة والحكومة العالمية، ففي كتابه “نقد العقل العملي” أكد على أن ثمة أخلاق كونية تتأسس على المبادئ الكلية للعقل البشري، يلهمها مفهوم “الواجب” كأساس للقيم المدنية، وفي كتابه “مشروع للسلام الدائم” دعى إلى تأسيس منظومتين قانونيتين تسيران جنبًا إلى جنب، إحداها تُسيّر الشؤون الداخلية للمجتمع الواحد على أساس من الحرية وصولًا إلى الديمقراطية، والأخرى تنظم العلاقات بين الأمم على أساس من العدالة وصولًا إلى السلام، مؤكدًا على أنه لا يمكن تحقيق الحرية داخل الأمم إذا لم يتحقق العدل والسلام بين هذه الأمم.

ورغم مرور قرنين ونيِّف على بلوغ تلك الذروة النقدية، فإن الحروب والصراعات لم تتوقف جوهريًّا، والمجتمع العالمي لم يتشكل فعليًّا، إما لأن الديمقراطية الليبرالية لم تصبح نهجًا سياسيًّا لجميع الدول، وإما لأن الليبراليات الغربية اعتبرت قيمها الإنسانية والتحررية حقًا سياديًّا لشعوبها وحدها، وليس لجميع البشر، فتخلت عن كانط وسارت خلف ليبنتز. ومن ثم ولدت الإشكالية المعروفة بالمعايير المزدوجة، التي استمر الغرب نفسه يغطي عليها بطرائق ذكية ونجاح واضح حينًا، وبطرق فجة وإخفاق شامل أحيانًا، مثلما كان الأمر في قصة احتلال العراق. 

أما في ظل الحرب الروسية الأوكرانية، فبدت الإشكالية أكثر حدة، مع تهاوي الكثير من القيم والمعايير التي طالما نُظر إليها كثوابت مرجعية، فضد احترام الملكية الخاصة إلى درجة التقديس، سارعت دول الغرب إلى تجميد أصول الأفراد والشركات الروسية على أراضيها، من أندية كرة القدم، إلى العقارات الخاصة، إلى شركات عاملة في قطاعات مختلفة، ناهيك عن تجميد الكثير من الأموال السائلة في البنوك. هذه العقوبات لا يمكن أن تصدر إلا ردًا على خطأ محقق، أكدته أحكام قضائية، ما يعني أن تلك الدول نصَّبت نفسها حكمًا في صراع هي أصلًا طرف فيه، فأدانت روسيا، وحتى لو كان ثمة خطأ روسي يستحق العقاب، فما هو ذنب المستثمرين ورجال الأعمال الذين وثقوا بتلك الدول، ومارسوا أنشطتهم فيها؟ خصوصًا وأن أغلبهم ضد الحرب، والمؤكد أنهم لم يستشاروا فيها.. وضد قاعدة الفصل بين الرياضة والسياسة التي لاكها الغرب كثيرًا، سارعت الاتحادات الأوروبية والدولية في جل الألعاب إلى إصدار إجراءات عقابية ضد الرياضيين الروس تمنعهم من المشاركة في مسابقاتها، حتى أولئك الذين أعلنوا إنهم ضد الحرب، كما تم حرمان روسيا كدولة من حق تنظيم أية مناسبات رياضية كانت أسندت إليها، بل من التنافس على المشاركة  في مونديال الكرة الأخير بقطر؛ حدث ذلك لأن تلك الدول تسيطر فعليًّا على جل الاتحادات الرياضية، ناهيك عن اللجنة الأوليمبية الدولية، وتستضيف معظم مقراتها الأساسية، ولذا اندفعت إلى تحطيم القواعد والأعراف التي تفرضها على الآخرين. الأمر نفسه جرى في المجال الفني، حيث قاطعت كل المسارح والمهرجانات الفنانين الروس وتوقفت عن عرض أعمالهم أو مساهماتهم في نشاطها، بل إن بعض المنتديات الثقافية والجامعية أعلنت عن نيتها التوقف عن تدريس أو الاحتفاء بأعمال الأدباء الروس العظام وعلى رأسهم (ليوتولستوي، وديستوفيسكي)، في نوع من العقاب الجماعي الذي لا يبالي بالخطوط الفاصلة بين السياسة وغيرها، ولا حتى بين الحياة والموت.

فضلًا عن ذلك جرت وقائع عدة نالت من النزعة الإنسانية التي تمجد حقوق وحريات البشر بصفتهم المجردة بعيدًا عن أي انتماءات عرقية أو دينية أو قومية، أول تلك الوقائع تتمثل في إجلاء الرعايا الأوكرانيين إلى بلدان مجاورة؛ حيث جرى تمييز البيض الأرثوذكس منهم على حساب الملونين والمسلمين سواء عند  نقلهم أو استقبالهم، ونوعية الإقامة التي مُنحت لهم، والحقوق التي يتمتعون بها. كما تناثرت أقوال مواطنين عموم ومعلقين تبرر منسوب التعاطف المرتفع مع عذابات الأوكرانيين وآلامهم بأنهم يشبهونهم، بيض وشقر مثلهم، وليسوا شرق أوسطيين، عربًا أو مسلمين، ولعل هذا ما يفسر ضعف التعاطف الغربي مع الفلسطينيين ضد القمع الإسرائيلي، فحتى عندما اُغتيلت الإعلامية البارزة “شيرين أبو عاقلة”، كان تعليق وزير الخارجية الأمريكي باهتًا، استنكر فقط العدوان على جنازتها، مؤكدًا حقها في أن تواري التراب في هدوء وسكينة ولم ينتفض، كما تفترض النزعة الإنسانية، ضد الجريمة الإسرائيلية التي بلغت الحد الأقصى من الغباء والجنون، مطالبًا بتحقيق عادل فيها، إلا باكتشاف جنسيتها الأمريكية، وتعاطف الكونجرس مع أعضائه ذوي الأصول العربية.

نهاية المركزية الأوروبية وأفول الهيمنة الأمريكية:

بقوة دفعِ الثورات (العلمية، والصناعية، والسياسية)، باتت أوروبا منذ مطلع القرن التاسع عشر مركزًا يتحكم في شؤون العالم سياسيًّا وعسكريًّا، على قاعدة اقتصاد رأسمالي واسع يتسم بالديناميكية، وبانتصاف القرن نفسه صارت أوروبا بمثابة الحقيقة الإستراتيجية الكبرى في توازنات الكوكب الأرضي، تنتشر مصالحها بامتداده، فلماذا لا يتمدد جسدها أيضًا في أربعة أنحائه؟. لقد ولدت النزعة الاستعمارية وعبرت عن نفسها في سياسات غزو وموجات احتلال لم تتوقف قبل أن تخضع لسلطانها ثلاثة أرباع الجغرافيا العالمية إبَّان النصف الأول من القرن العشرين، حيث جرت وقائع الحربين الكبريين: الأولى، وقد خلَّفت عشرة ملايين من القتلى، وأضعافهم من الجرحى والمصابين بعاهات مستديمة وأزمات نفسية، في دراما كونية هي الأكثر بربرية حتى ذلك الوقت. ومن ثم انشغلت أوروبا لعقدين تاليين على الحرب بمصيرها كحضارة، وساد لدى عدد من فلاسفتها ومؤرخيها، خصوصًا “أوزوالد أشبنجلر”، نزعات تشاؤمية حول مصيرها الذي بدا كئيبًا، يخيم عليه الموت والخراب، لكن- ولحسن حظه- كان لدي الغرب فائض قوة لا يزال كامنًا غرب الأطلنطي هو (أمريكا الفتية). أما الثانية فخلَّفت ستين مليونًا من القتلى فقط، وقد حملت وصف العالمية كسابقتها؛ لأن أوروبا كانت قد منحت لنفسها حق الحديث باسم الإنسانية، وبانتهائها سقطت الإمبراطوريات العتيقة، خصوصًا (الفرنسية، والبريطانية)، وصعد القطبان الإستراتيجيان: الاتحاد السوفيتي، والولايات المتحدة التي دخلت الحرب متأخرة لتحسمها بضربة نووية دون أن تُمس أراضيها، بل خرجت من الحرب عملاقًا يرتاد أفق الثورة الصناعية الثانية، يستحوذ على 40% من الاقتصاد العالمي.

 نحن- إذن- إزاء عملية وراثة تاريخية للهيمنة العالمية ولكن في إطار الحضارة نفسها، وهو أمر ليس جديدًا على التاريخ؛ فقبل أكثر من عشرين قرنًا قامت روما بعملية وراثة ناجحة لليونان، نهضت على أساطيرها الدينية وفلسفاتها العقلية وآدابها الإنسانية، بعد أن أجادت توظيف حيويتها العسكرية في إذابة الروح الإغريقية، ومن ثم تمدد الجسد الروماني في نصف جغرافية العالم تقريبًا، صانعًا سلامه الخاص، حتى واجه تحديين: أولهما: لم يكن جذريًّا، من قبل الإمبراطورية الفارسية، جرى التعايش معه لفترة قبل أن يجري التغلب عليه. أما ثانيهما: فكان جذريًّا، أنتج قطيعة تاريخية، وأنجز عملية وراثة حضارية كاملة، من قبل الإمبراطورية العربية الإسلامية التي طوت تحت ظلالها كل المستعمرات الرومانية على الشاطئ الجنوبي للمتوسط. إنها عين الوراثة الأمريكية الناجحة لأوروبا، حيث نهضت الولايات المتحدة على أساس تقاليدها الثقافية الممتدة في عصور النهضة والإصلاح الديني والتنوير، قبل أن تصبح هي ابنتها الكبرى، التي أسهمت في إعادة بناءها من خلال مشروع مارشال، وإن واجهت تحديًا عابرًا من قبل الاتحاد السوفيتي جرى تقنينه في الصراع الأيديولوجي بين المعسكرين: الغربي الرأسمالي، والشرقي الشيوعي، حيث دارت الحرب الباردة عبر آليات ضابطة قصرتها على مناطق طرفية، لتدور عبر وكلاء إقليمين، تجنبًا لحرب عالمية ثالثة. خلال تلك الحقبة بدت الولايات المتحدة في مظهر المتحرر من المركزية الأوروبية، ورغم أنها خاضت الكثير من الحروب التوسعية داخل القارة الأمريكية بهدف التمدد جنوبًا وغربًا، كان ممكنًا لها أن تدَّعي عدم ممارسة الاستعمار التقليدي في العالم القديم، وأنها منذ أعلن ويلسون مبدأ حق تقرير المصير، كانت المدافع الأكبر عن المثل العليا للحداثة السياسية.

بنهاية الحرب الباردة انفردت بالهيمنة العالمية، التي مارستها من داخل بنية العولمة‏ وعبر مبدأ “حق التدخل الإنساني”، فلم يكن الخطاب الكوكبي الرائج آنذاك سوى قفزة إلى الأمام، تبشر بعالم جديد يسع الجميع ظاهرًا لكن تحت قيادة الطرف المنتصر، يجنبه مخاطر إعلان الانتصار بوضوح يستفز الخصوم القدامى والمنافسين الجدد. وعندما وقعت أحداث ‏11‏ سبتمبر، تصاعد اليمين المحافظ وتفجرت نزعة إمبريالية جديدة، واكبها العقل الأمريكي بصياغة خطاب شرعي اتسم بالنرجسية، وكأنه نزعة تمركز حول الذات الأمريكية، اعتمد خليطًا ثلاثيًّا من: المصطلحات الميتافيزيقية كـ(العدالة المطلقة، والحرية اللانهائية، والحرب العادلة)، والمفاهيم المانوية( ثنائية الخير والشر) من معنا ومن ضدنا، والخطابات الصراعية كـ(نهاية التاريخ، وصدام الحضارات). إنها القيادة التاريخية وقد هرمت فعليًّا، فأخذت تبرر مظاهر عجزها وانحرافها.

وخلال عقود ثلاث تلت نهاية الحرب الباردة، باتت الولايات المتحدة تعيش وضعًا يمكن وصفه بالتناقض، فهي من ناحية تظل قاعدة التكنولوجيا الجديدة، ركيزة الشركات عابرة الجنسية، والحائزة على أفضل مستويات القوة العسكرية بإنفاق عسكري ناهز الـ 800 مليار دولار، يتجاوز مجموع إنفاق الدول الخمسة عشرة التالية لها ومن بينها (روسيا، والصين)، وقد أتاح لها شمول قوتها فرصة احتلال موقع شبكي يؤثر في جميع منافسيها داخل فضائي الجغرافيا(السياسية، والاقتصادية)، ويجعل مصالحهم معها أهم من مصالحهم معًا، ومن ثم يعجزهم عن التحالف ضدها، كما يقضى منطق الجغرافيا السياسية التقليدي. ولكنها- من ناحية أخرى- باتت مرهقة؛ ديونها ضخمة وأزماتها كبيرة، تناقص نصيبها في الإنتاج العالمي، خصوصًا وقد بات عرش الدولار كمخزن قيمة وعملة احتياط مهددًا من عملات أخرى، فيما الصين الكونفوشية تصعد بقوة إلى موقع القطب الاقتصادي الأول ومن خلفها العالم الآسيوي، بديناميكيته الواضحة، وجغرافيته الطبيعية والبشرية الضخمة، وامتلاكه المتزايد للتقدم التكنولوجي الذي لم يعد سرًا على أحد. ومن ثم أصبح عالمنا على وشك عملية وراثة إستراتيجية، سوف تعبر بالهيمنة من فضاء الأطلسي إلى الهادي، أو على الأقل تقاسم الهيمنة بينهما، ما يعني أن نهاية المركزية الغربية باتت حقيقة تاريخية، وأن مستقبل الهيمنة الأمريكية بات على المحك، تتنازعه اتجاهات ثلاث أساسية تتراوح بين (التفاؤل، والتشاؤم):

الاتجاه الأول: متفائل، مثله المؤرخ “بول كينيدي”، الذي حذر في كتابه “صعود وهبوط القوى العظمى” من توسعها الإمبريالي خشية انهيار هيمنتها حسب قانون حاول أن يجرده عن العلاقة بين القدرة الاقتصادية للقوة العظمى، وبين مستوى التزاماتها العسكرية. انهار الاتحاد السوفيتي بعد صدور الكتاب بثلاث سنوات فقط، فانخفضت تكلفة أمنها القومي، والتزاماتها الإستراتيجية، وتحقق لها فائض قوة شاملة‏ استخدمته في تكريس قيادتها المنفردة للكوكب من داخل بنية العولمة‏ طيلة التسعينيات. بعد 11 سبتمبر عاد كيندي ليعبر عن مخاوفه من تدهور أمريكيّ في مقال بصحيفة “فايننشال تايمز”، داعيًا إلى استبدال نزعة التوسع في أفغانستان والعراق بإستراتيجية العمل من أجل “السلم الأمريكي” في العالم، ورغم تأكيده على أن التاريخ لم يشهد اختلالًا في القوى بين المتصارعين على الهيمنة مثلما تحقق للولايات المتحدة مطلع الألفية، حيث كان لفرنسا النابليونية، وإسبانيا فيليب الثاني أعداء أقوياء، وكانتا جزءًا من نظام متعدد الأقطاب، ولم تكن “إمبراطورية شارلمان” توسعية إلا في إطار أوروبا الغربية، بينما واجهت الإمبراطورية الرومانية إمبراطوريتي (فارس، والصين)، فقد حذَّر من السير على طريق التوسع الإمبريالي خوفًا من تأثيراته السلبية، خصوصًا على الاقتصاد، وهو ما حدث بالفعل.

والاتجاه الثاني: متشائم، يمثله بامتياز “إيمانويل ولارشتاين”، الباحث الأمريكي الشهير في دراسة النظم العالمية من منظور الجغرافيا السياسية، والذي ذهب في مقال طويل بعنوان “سقوط النسر”- نشر بمجلة السياسة الخارجية  عدد يوليو/ أغسطس 2002- إلى أن الولايات المتحدة إمبراطورية تنهار بالفعل، وأن صقور الإدارة ومنظريها من اليمين المحافظ يدفعونها إلى سقوط مريع بدل من أن يتركونها تنهار تدريجًا وبأقل الخسائر الممكنة. ذهب ولارشتاين إلى أن ذروة التفوق الأمريكي كانت بعيد الحرب العالمية الثانية عندما كان نصيبها من الناتج العالمي 40 %، وقد تقلص في 2002 إلى نحو 22 %، عبر أربعة مراحل أساسية وهي: حرب فيتنام التي أهدرت كثيرًا من القوة الاقتصادية والعسكرية، فضلًا عن المكانة الأخلاقية للولايات المتحدة. وثورات الشباب عام 1968 ضد الهيمنة التقليدية على العالم. والانهيار السوفيتي الذي لم تكن مستعدة له بسياسات تضبط الواقع الدولي. وأخيرًا  اعتداء 11 سبتمبر الذي كشف عن فشل أمريكي في توقع وتوقي المخاطر الكبرى. ونضيف هنا أن ناتجها القومي انخفض الآن إلى نحو 18 % بتأثير ما تلى الاعتداء من حروب ممتدة ومعقدة في العراق وأفغانستان.

أما الاتجاه الثالث: فمعتدل، يمثله المفكر الفرنسي “إيمانويل تود” في كتابه “ما بعد الإمبراطورية: دراسة في تفكك النظام الأمريكي”، الذي لا ينطلق من فرضية نهائية بأن الولايات المتحدة تصعد إلى موقع الإمبراطورية كما يخشى كيندي، أو تنزل منه كما تصور ولارشتاين، بل يؤكد  أنها لا تزال تملك القوة الإستراتيجية اللازمة لممارسة هيمنتها القطبية رغم قصور أدائها الاقتصادي، الذي تجسّده في تراجع الإنتاجية والزيادة المفرطة في الاستهلاك مع عجز يتصاعد باستمرار في الميزان التجاري منذ 1990م، حتى تجاوز التريليوني دولار، فما يحسم مستقبل الهيمنة الأمريكية لديه هو الأداء السياسي الذي قد يجعلها قوة استقرار أو عامل فوضى في النظام الدولي، فإذا أدركنا أن عجز أمريكا التجاري قد زاد على الترليوني دولار الآن، وأنها صارت في العقدين الأخيرين أقرب إلى عامل فوضى يثير الشكوك ويحفز النزاعات صرنا متشائمين، أقرب إلى موقف ولارشتاين.

 اليوم، تبدو أمريكا مهووسة بالسيطرة على حلفائها الأوروبيين، تقوم بترهيبهم من صراعات محتملة، متوهمة أن مجرد احتشادهم خلفها سيعوق إعادة صياغة التوازنات العالمية أعقاب الصحوة الروسية والصعود الصيني، فإذا بها تسرع من وتيرة تلك العملية. لقد أرادت حصار روسيا فدفعتها إلى غزو أوكرانيا، وربما نجحت في حصارها بالعقوبات، أو في استنزافها بفواتير الحرب، ولكنها- في المقابل- خلقت تشققات عميقة في نظام سياسي عالمي كانت تقوده، وفي نظام اقتصادي عالمي كان يدور في فلكها، منذ اتفاقية “بريتن وودز”، التي جعلت الدولار عملة احتياطي عالمي مقاسة بالذهب ومغطاة بمخزونه لديها بين (1944 –1971)، ثم دون هذا الغطاء لعقود خمسٍ ماضية، كأمر واقع استقر بفعل هيمنتها الإستراتيجية، ودعم حلفائها الخليجيين الذين ربطوا سعر البترول بالدولار، فمنحوه غطاءً بديلًا عن احتياطيها المتناقص من الذهب. وبدلًا من الاستماتة في حماية هذا النظام أفرطت في العقوبات علي روسيا فدفعتها إلى التخلي عن الدولار، وهو نهج تسير عليه الصين تدريجًا، حيث بات الروبل شريكًا للإيوان في الصراع مع دولار لم يعد لديه حائط صد سوى البترول، فإذا أقدمت دول الخليج على ربطه بعملات أخرى فقد بريقه كعملة احتياط، وفقدت أمريكا أحد أسرار تفوقها الاقتصادي وهيمنتها الإستراتيجية.

هكذا تهتز هيمنة الولايات المتحدة أسفل قدميها، فيزداد اضطرابها، وتصبح خطرًا على العالم، ربما لعقود قادمة، قبل أن تعترف بالواقع العالمي الجديد، وتقبل بمشاركة الآخرين لها في مسرح الهيمنة، ولعب أدوار كانت حكرًا عليها في مناطق مختلفة وقطاعات حيوية. فكما أن للصعود الإستراتيجي مسارات وتقاليد، فإن للهبوط أيضًا مسارات وتقاليد، كي لا يكون عنيفًا ودمويًّا. لقد ورثت أمريكا بريطانيا العظمى بعد ثلاثة أرباع القرن من هيمنة إمبراطورية شاملة كانت خلالها سيدة البحار والمحيطات، امتدت طيلة العصر الفيكتوري (1837 -1901)، تنازلت بريطانيا عن هيلمانها بحكمة أعقاب الحرب الثانية، نعم كانت مضطرة لأن عصر التحرر القومي حرمها من مستعمراتها في أربعة أنحاء العالم، ولم يترك لها سوى جسد ضعيف، جغرافيا ربع مليونية من جزر متعددة، ولكنها تنازلت بسلاسة معقولة لم يشُبْها مغامرات كبيرة سوى مساهمتها في العدوان الثلاثي على مصر 1956، أسهم في ذلك أنها كانت تنزل من مسرح القوة لصالح ربيبتها الأنجلوسكسونية، وأن وريثها الشرعي كان من صلبها الحضاري يقينًا، والديني عمومًا، والعرقي غالبًا. أما أمريكا فلا تزال تمتلك جسدًا قويًّا، نحو أربعين ضعف الجسد البريطاني، قارة غنية بالموارد الطبيعية، لم تُهزم في حرب قط على أرضها، ولم يكن لديها مستعمرات كي تفقدها. والخوف هنا من أن يغطي كبرياء القوة على حكمة التاريخ، فيثير الكثير من التشنجات والاضطرابات، ففي سياق الجدل النفس حضاري، قد تتحول أمريكا إلى أسد جريح، يرفض مغادرة المسرح، أو حتى الهبوط بعض الدرجات على سلمه، وهنا يكمن سر نظرية صدام الحضارات، وهو رغبتها الحارقة في استمرار تكتل أوروبا خلفها، عبر تفجير مخاوفها من مجهول تاريخي قادم هو الصراع الثقافي الديني. ففي القسم الثالث من كتابه الأثير يقول صامويل هانتنجتون: “إن نظامًا عالميًّا قائمًا على الحضارة يخرج إلى حيز الوجود، حيث المجتمعات التي تشترك في علاقات قُربى ثقافية تتعاون معًا والدول تتجمع حول دولة المركز أو دولة القيادة في حضارتها!”. والحق أن أوروبا قد رفضت توظيف أمريكا لتلك النظرية في مرحلة ما بعد 11 سبتمبر وبالذات في احتلال العراق وأفغانستان، لكنها لم تنجح في لجمها عن الحرب بل إنها تعرضت للتقسيم، بين أوروبا الجديدة- أي الدول الخارجة من الهيمنة السوفيتية والتي انصاعت لخياراتها العسكرية آنذاك، فجرى امتداحها- وأوروبا القديمة التي ناكفتها، خصوصًا (ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا)، فجرى هجاؤها، رغم أن البلدان الثلاث هي خلاصة ما يعرفه العالم عن أوروبا كقارة للحداثة، حيث جسدت على الترتيب عصور الإصلاح الديني والتنوير والنهضة.

 الاضطراب نفسه يتكرر الآن في أتون الحرب الروسية الأوكرانية، فأوروبا التي تعتمد على روسيا في النفط والغاز، وتتبادل معها مصالح مؤكدة يفترض أن تسمو على المخاطر المتوهمة، ولا يعنيها تمديد حلف الأطلسي إلى حد الإحاطة بخصرها_ وجدت نفسها داخل دائرة الاضطرابات، بعضها يتخلى عن حياده التاريخي ويطلب الانضمام للناتو كـ(السويد، وفنلندا)، وبعضها يعود للاستثمار الكبير في التسلح، وربما يستعيد نزعته العسكرية كألمانيا.  يحدث ذلك لأن أمريكا تريد ذلك، أمسكت بخناق روسيا حتى دفعتها إلى الحرب، وتشجع أوكرانيا لتستمر فيها، لا تريد حلًا يضمن السلم والأمن، بل تورطًا روسيًّا ممتدًا، ينهي احتمالات صعودها. هكذا تفرض أمريكا حروبها على أوروبا، المحرجة من الصدام معها، وهي التي كانت حررتها من النازية، وأسهمت في إعادة بناءها قبل ثمانين عامًا.

وهنا تتبدَّى لنا المفارقة التاريخية، وهي تبادل المواقع بين أوروبا والولايات المتحدة في اتجاه عكسي لما جرى عليه الأمر عند منتصف القرن العشرين، فبعد أن كانت أمريكا هي المدافع الأبرز عن حكمة الغرب ضد السياسات الإمبريالية والتحالفات العدوانية، التي ورطت أوروبا في حربين كُبريَين هددتا مكانتها وسمعتها، أصبحت أوروبا هي الطرف المدعو إلى الدفاع عن قيم (التعايش، والأمن، والسلام) مطلع القرن الحادي والعشرين، بل والإسهام في إنقاذ أمريكا من نفسها، ولجمها عن صراعاتها المهلكة، ولعلها قادرة على ذلك، لو اتخذت قرارها وأصرت عليه، فهي التي عاشت لحظات حوار وصدام وتساؤل وشك، حاربت وسالمت، ولهذا كله امتلكت رؤية للتاريخ تتحسب لعقُده وهواجسه، وتسعى إلى تفهم منطقه، ومن ثم بات أقرب إلى أوربا منطق الجغرافيا الاقتصادية القائم على سياسات الاندماج والعمل الجماعي وتوازن المصالح، بينما تنتكس الولايات المتحدة إلى منطق الجغرافيا السياسية، المهجوس بمفاهيم السيادة والأمن، كأسد جريح مسكون بهواجس الأفول، يندفع نحو مصيره كبطل ملحمي في أسطورة إغريقية.

من التنوير النفعي إلى المجتمع العالمي:

طالما اعتبر الغرب أن التنوير رسالته  التي يبشر بها، وقد أثار جدلًا لا ينتهي حول أنماط تلقي المناطق الحضارية له، متهمًا الثقافات الممانعة بالتخلف، وضمنها المشرق العربي الذي أوقعته ممانعته في مشكلات كالإرهاب!. غير أن تلك السردية تظل أقرب إلى قرية تاريخية، فما سعى الغرب إلى تصديره للمجتمعات الأخرى لا يعدو نمط الحياة الاستهلاكي، كي تصبح أسواق مفتوحة لسلعه وخدماته دون إنتاج، وهوامش تستهلك إعلامه دون ثقافة. أما تحديث هذه المجتمعات جوهريًّا، أي نشر المكونات الأساسية للحداثة( الفلسفية، والعلمية، والسياسية)، فظل موضع مقاومة منه، خصوصًا وقد استعمر عشرات الدول في أربعة أنحاء العالم، وعطل تطورها الطبيعي. نعم أنشأ بعض المرافق الحديثة في البلدان المحتلة ولكن لتخدم وجوده فيها، وتُسهل استنزافه لها. بل إنه أبدى انزعاجًا واضحًا عندما أفضت آليات العولمة إلى إحداث تنمية واسعة في بعض البلدان الآسيوية كـ(الصين، وإندونيسيا، وسنغافورة، وماليزيا)، حيث كشفت الطبقات العاملة والمتوسطة لديه عن حنقها البالغ إزاء هجرة صناعات الثورة الثانية وبعض صناعات الثورة التكنولوجية- خصوصًا الكمبيوتر المحمول والتليفون المحمول- إلى العالم الآسيوي، ما أدى إلى تبطل فئات عديدة سواء من الطبقة العاملة أو حتى من الشرائح الدنيا للطبقة الوسطى، ذات المهارات العادية، والتي دخلت في منافسة خسرتها بوضوح أمام نظيرتها الأسيوية ذات الأجور المنخفضة إلى نحو 15% من أجورها، ومن ثم نبتت مفارقة مناهضة العولمة من داخل المجتمعات الغربية التي ارتادت مسيرتها.

تفسير تلك المفارقة هو أن الفجوة بين الثراء والفقر قد اتسع خرقها على نحو يصعب رتقه، فلم تعد بين دول غنية/ مركزية وأخرى فقيرة/ طرفية، وإنما صارت واضحة داخل كل المجتمعات بين طبقات غنية تزداد غنى، وأخرى فقيرة تزداد فقرًا، بل إن التفاوت شق طريقه إلى قلب الطبقة الوسطى نفسها داخل المجتمع الواحد، وذلك بين الفئات الأكثر اندماجًا في الثورة التكنولوجية، والقادرة بمهاراتها الفائقة على تحدي هجرة رأس المال الصناعي، ونمو معدلات الأتمتة (الاستخدام المتزايد للتكنولوجيا بديلًا عن العمل البشري في أداء العديد من الخدمات التي لا تحتاج إلى مهارات خاصة)، وبين الفئات الأكثر ارتباطًا بالصناعات الثقيلة، ربيبة الثورة الصناعية الثانية (الهندسية، والكهربائية)، والتي واجهت اختيارًا مريرًا بين الاستمرار في أعمالها مع دخول أقل في بعض الأحيان، وبين تسريحها تمامًا في أغلب الأحيان، الأمر الذي دفع المتضررين إلى الانتفاض ضد العولمة، بهدف إعادة احتباس الثروة والتقدم التكنولوجي.

 قبل عقدين، تحدث المفكر الأرجنتيني “إنريك داسل” عن حد “تدمير البشر”، ويعني به الحد الأقصى الذي يمكن احتماله لعمق وسعة الفجوة الفاصلة بينهم، والذي يؤدي تفاقمها إلى اختلال بنية النظام العالمي بفعل زيادة عدد المحتجين ضده والمتمردين عليه. وظني أننا اليوم قد تجاوزنا ذلك الحد، بعد أن بات بعض الأفراد من رجال الأعمال ورواد التكنولوجيا أكثر ثراء من دول بكاملها. وقد أسهمت حالة الانكشاف الإعلامي في مجتمع الاتصال الرقمي المعولم في تعميق الشعور بحدة تلك الفجوة الاستقطابية، حيث وجد العالم نفسه ضمن مشهد إنساني واحد مفعم بالتناقضات بين أقصى درجات الجمال والقبح، الثراء والفقر؛ ولذا بات شديد التوتر، وهو توتر يسبق الحرب الروسية الأوكرانية، لكنه أيضًا يتغذى من رحمها. ومن ثم تكمن حاجة البشرية إلى نموذج تنموي أخلاقي عالمي منصف وتعددي، يُمكِّنها من مجابهة المخاطر المحدقة بها، يؤسس لـمجتمع عالمي بالمعنى الجوهري الذي تحدث عنه الفلاسفة والمفكرون كثيرًا، ولاكته ألسنة الساسة والمسؤولون مرارًا، لكنه لم يتأسس أبدًا اللهم إلا في حدود دنيا لا تكفي لمجابهة مخاطر الحروب والأوبئة والكوارث البيئية التي لم تعد تتواني في ضرب  الإنسانية. نموذج يطمح إلى ترسيخ مفهوم “القرية العالمية” بالمعنى الجوهري، أي بكل المثاليات المرتبطة بمفهوم القرية في السوسيولوجيا الثقافية كـ(التكافل، والتعاطف، والتراحم)، التي يمكن ترجمتها عالميًّا إلى( قيم العدالة، والتجانس، والنمو المتوازن). يتطلب بناء هذا المجتمع العالمي توزيعًا شبه متكافئ للاستثمارات وشروط عادلة للتجارة الدولية، والأهم من ذلك السماح بانتقال التكنولوجيا وتوطينها مع رأس المال لدى الدول الأقل تقدمًا وهو ما لم يسمح به المشروع الحضاري الغربي إلا في حدود ضيقة رافقت حركة العولمة، سرعان ما عاد وندم عليها، تحت ضغط التيار الأناني في وعيه وثقافته.

نحتاج إذن إلى ثورة كوكبية تنتصر للتيار الإنساني في التنوير، يفترض أن تخوضها العائلة البشرية بكل ما تملكه من معرفة وإرادة وأمل، فهي ليست ثورة كتلة على كتلة، أو أيديولوجية ضد أيديولوجية، تنتصر لطرف على حساب الآخر، بل هي ثورة إنسانية على (الفقر، والجهل، والثراء الفاحش، والتخمة، والغرور، والعنصرية)، تنشد مجتمعًا عالميًّا حقيقيًّا يوفر لتلك المواجهة ما يلزم من الأموال، ويستوفي لأجلها التشريعات والقوانين، انطلاقًا من إيمان جميع سكانه بالواجب المشترك تجاه بعضهم البعض. قد لا يكون سهلًا بلوغ المثال الأعلى لهذا المجتمع لكن لا طريق للإنسانية إلا السعي نحوه لتصيب ولو قدرًا منه أو تتمكن- على الأقل- من إيقاف حركة التاريخ العكسية، نحو أنانية عالمية مسلحة بكل عوامل الدمار والموت. ومن ثم يحتاج التنوير الغربي إلى تطعيمه ببعض القيم الآسيوية، فبدلًا من العلم الوضعي المفرط في السيطرة على الطبيعة وفي تلويث البيئة نحتاج إلى الحكمة الكامنة خصوصًا في “الطاوية”، والتي تنادي باحترام الطبيعة، والإصغاء إلى نبضها، وبدلًا من النزعة الفردية المطلقة، التي استحالت أنانية مقيتة، وتجسدت في عالم استهلاكي موتور، نحتاج إلى القيم الجماعية التي تحض على (العمل المشترك، والمسؤولية التضامنية، والقناعة الشخصية).

اظهر المزيد

صلاح سالم

كــاتب ومفــكر بجريدة الأهرام

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى