2022الحرب الأوكرانيةالعدد 191

الأزمة الأوكرانية في إطار الصراع الروسي الغربي

يمكن اختزال الدوافع الرئيسة  للصراع الدائر على الأراضي الأوكرانية، والذي جاء على خلفية الغزو الروسي لأوكرانيا تحت  مسمى “عملية عسكرية خاصة”_ في مقولات ثلاثة تتداخل وتتقاطع فيما بينها: الأولى: أنه إرهاصات لسعي روسيا إلى استرجاع إمبراطوريتها المفقودة إبان فترة الاتحاد السوفيتي، الذي انهار وتفكك في أوائل التسعينيات. والثاني: أنه صراع أيدولوجي بين النظم الشمولية ممثلة في روسيا،  والنظم الليبرالية ممثلة في الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة. والثالث: أنه مسألة أمن قومي بحت في الإطار الأوروبي؛ لإجهاض نهج إستراتيجي أوكراني يتضمن تهديدًا للأمن والاستقرار في روسيا وعلى الحدود مباشرة بدعم من جانب دول تتآلف في حلف يستهدف روسيا كقوة معادية له .

واقع الأمر، أن مجمل هذه الدوافع، تفسر التوجه نحو التصعيد من الطرفين المتصارعين، حيث يسعى كل طرف ألا  يكون الخاسر في هذا الصراع، سواء في مواجهة الطرف الآخر أو في مواجهة المجتمع الدولي. هذا التصعيد يفرض نفسه سواء بتعذر إنهاء الحرب بعملية عسكرية خاصة كما اعتقدت روسيا، سواء بتواصل الدعم الغربي لأوكرانيا للحد من نجاحات روسيا والحيلولة دون فرض إرادتها بواقع جديد. وقد يحمل هذا التصعيد في طياته  احتمالًا -ولو ضعيفًا وربما بالخطأ أو بسوء التقدير- نحو توسيع نطاقها على نحو قد تقترب  معه من  حرب  عالمية ثالثة قد تستخدم فيها أسلحة دمار شامل، وهو أمر يتجنبه أطراف الصراع.

 لقد احتفظت أوكرانيا بعلاقات وثيقة مع روسيا عقب تفكك الاتحاد السوفيتي، وفي عام 1994 تم التوقيع على اتفاقية “بودابست”، والتي بموجبها وافقت أوكرانيا على التخلي عن أسلحتها النووية، ووقعت على مذكرة الضمانات الأمنية التي بموجبها تضمن كل من (روسيا، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة) عدم استخدام القوة حفاظًا على وحدة الأراضي الأوكرانية وسلامتها الإقليمية أو الاستقلال السياسي لأوكرانيا، وفي عام 1999 تم التوقيع من جانب روسيا على “ميثاق الأمن الأوروبي” في إسطنبول، وبموجبه تم إعادة التأكيد على الحق الطبيعي لكل دولة في أن تكون حرة في اختيار أو تغيير ترتيباتها الأمنية. بموجب هاتين الاتفاقيتين- وقد شاركت روسيا كطرف في كل منهما- تحددت وضعية أوكرانيا قانونيًّا وسياسيًّا وأمنيًّا في الإطار الأوروبي بصفة خاصة والدولي بصفة عامة. وجاءت عقب ذلك في عامي 2014 ، 2015 اتفاقيتا  “مينسك” الأولى”، حيث تم التوقيع عليها في 5 / 9 / 2014 ، و”مينسك الثانية”، حيث تم التوقيع عليها في 12 / 2 / 2015، وكلتاهما نتاج مشاورات مجموعة اتصال ثلاثية بهدف وقف حرب أهلية في منطقة دونباس بأوكرانيا التي تقطنها أغلبية روسية، وتسعى – بدعم روسي – إلى الانفصال عن الدولة الأم أوكرانيا. تضمنت اتفاقيتا مينسك: وقفًا فوريًّا لإطلاق النار، إنشاء منطقة آمنة على الحدود، بدء حوار لإجراء انتخابات محلية، إصلاحًا دستوريًّا يتخذ من اللامركزية أساسًا، مع مراعاة خصوصية مناطق محددة في كل من (لوهانسك، ومينيتسك). وعلى الرغم من عدم تطبيق أيٍّ من الاتفاقيتين إلا أنهما اُعتبرا الأساس لأية تسوية للقضية الأوكرانية، خاصة أن مجلس الأمن أصدر قرارًا داعمًا لهما.

ولكن على الرغم من هذا التحديد لوضعية أوكرانيا كدولة مستقلة ذات سيادة ومعترف بها منذ عام 1991، إلا أن القيادة الروسية ظلت تنظر إليها كجزء من مجال نفوذها الحيوي، فقد تحدث بوتين عام 2008 بوضوح ضد عضوية أوكرانيا في حلف الناتو بما يحول دون توسع الحلف على طول الحدود الروسية. شهدت المناطق الشرقية في أوكرانيا -دونباس- في فبراير عام 2014  في ظل نظام “يانوكوفيتش” في كييف  الموالي لروسيا  _اضطرابات موالية لروسيا بتلك المنطقة (دونيتسك، ولوهانسك)؛ ليسقط هذا النظام (الموالي لروسيا) نتيجة لاحتجاجات قوية في المنطقة -استجابة لضغوط روسية- برفض قبول اتفاق لانضمام أوكرانيا للاتحاد الأوروبي. إزاء هذا التطور ضمت روسيا عقب ذلك شبه جزيرة القرم، وعملت على إنشاء دولتي (دونيتسك، ولوهانسك) الشعبيتين التي تضم كلٌّ منهما مناطق ناطقة بالروسية؛ لتشهد أوكرانيا على مدى ثماني سنوات حربًا أهلية مع الانفصاليين المدعومين من روسيا خروجًا على اتفاقيتي مينسك التي لم يتم تنفيذهما مطلقًا .

وفي التقدير يُعد هذا النهج  الروسي في ظل النظام الدولي القائم بمواثيقه واتفاقياته وقوانينه الدولية ذات الصلة وخاصة اتفاقيتي (بودابست، وإسطنبول) انتهاكًا صارخًا وتدخلًا في الشأن الداخلي، والنيل من وحدة دولة أوكرانيا وسلامة أراضيها بالتفتيت والتقسيم .

من ناحية أخرى، وردًا على النهج الروسي المشار إليه، أعلن زيلينسكي في سبتمبر 2020 ، الذي تولى السلطة عقب سقوط نظام يانوكوفيتش، عن إستراتيجية الأمن القومي الأوكرانية الجديدة التي تنص على تطوير شراكة مميزة مع الناتو بهدف الحصول على عضوية داخل الحلف، كما وقع في مارس 2021 مرسومًا  بالموافقة على إستراتيجية انتهاء الاحتلال وإعادة دمج واسترجاع الأراضي المحتلة لشبة جزيرة القرم المتمتعة بالحكم الذاتي ومدينة سيفا ستوبول الإستراتيجية، وهو ما قد يُعد في المجمل أن تلك الإستراتيجية خروجًا عن الاتفاقيتين المشار إليهما. نشر بوتين مقالًا في يوليو 2021 بعنوان الوحدة التاريخية بين الروس والأوكرانيين أكد فيه على وجهة النظر القائلة بأن “الروس والأوكرانيين شعب واحد”، وأكدت روسيا أن انضمام أوكرانيا المحتمل إلى حلف الناتو وتوسيع الحلف بشكلٍ عام يهدد أمنها القومي، وفي المقابل وجهت أوكرانيا والدول الأوروبية الأخرى المجاورة لروسيا اتهامًا للرئيس بوتين بمحاولة استعادة الإمبراطورية الروسية / الاتحاد السوفيتي واتباع سياسة عسكرية عدوانية توسعية.

في 21 فبراير 2022 اعترفت روسيا بموقف أحادي بجمهوريتي (دونيتسك، ولوغانسك) الشعبيتين، وقامت بإرسال قوات روسية إلى دونباس في مهمة لحفظ السلام ، وفي نفس الشهر تقدمت روسيا بمشروعي معاهدتين تضمنتا طلبات لما وصفته بالضمانات الأمنية بما في ذلك تعهد ملزم قانونًا بعدم انضمام أوكرانيا لمنطقة حلف شمال الأطلنطي، وخفض قوات الناتو والعتاد العسكري المتمركز في أوروبا الشرقية، وهددت برد عسكري غير محدد، إذا لم تلبي هذه المطالب، إلا أن روسيا لم تتلقَ ردًا على أي من المشروعين.

 وفي 24 فبراير أعلن بوتين أنه اتخذ قرارًا بشن عملية عسكرية في شرق أوكرانيا مؤكدًا على أنه “لا توجد خطط لاحتلال الأراضي الأوكرانية”، وإنما نزع سلاح أوكرانيا مع دعم حق شعب أوكرانيا في تقرير المصير. وبموجب هذه المواقف والقرارات الأحادية لفرض أمر واقع جديد بالاحتكام إلى القوة العسكرية_ انتهكت روسيا المواثيق والاتفاقات والقوانين الدولية ذات الصلة، بالسعي نحو تغيير الخريطة الجيوسياسية بين (روسيا، والاتحاد الأوروبي)، وتهديد وحدة أوكرانيا وسلامة أراضيها بالتفتيت والتقسيم باستحداث دولتين من أراضيها، بل إن الأمر بمضمونه على هذا النحو  يطال الأمن الأوروبي أيضًا، خاصة وأن الغزو الروسي اتسع نطاقه ليشمل أوكرانيا بالكامل وليدمر العديد من المدن والمنشآت المدنية والعسكرية، واقترن ذلك بضحايا مدنيين كُثر( قتلى، وجرحى، ولاجئين، ونازحين) بالملايين،  وحديث عن ارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب بل وإبادة جماعية. وقد جسدت قرارات الأمم المتحدة في هذا الصدد إدانات دولية لروسيا والمطالبة بسحب قواتها ، من مجلس الأمن ( أبطلت روسيا القرار بتفعيل حق الفيتو ) ، ومن الجمعية العامة  للأمم المتحدة ( أدانت الجمعية العامة روسيا وطالبت بانسحاب قواتها حوالي 140 دولة وامتنعت عن التصويت حوالي أربعون دولة )،  وتم تعليق عضوية روسيا في مجلس حقوق الإنسان بجنيف، وتنامت المطالبة بعرض ما تم ارتكابه من جرائم على المحكمة الجنائية الدولية والتوجه نحو تعاملها مع تلك الجرائم.

في التقدير أن القيادة الروسية قد اندفعت نحو الاحتكام إلى القوة العسكرية بشن عملية عسكرية  خاصة على أوكرانيا- ولم تكن في الحقيقة بخاصة . وفي التقدير أنها جاءت على خلفية ما يمكن تسميته “غطرسة القوة ” استنادًا إلى قدرات وإمكانات عسكرية واقتصادية متقدمة على المستوى الإقليمي والدولي في مواجهة دولة أوكرانيا، وفي إطار رؤية لمعركة سريعة غير متكافئة من حيث توازن القوى بينهما تنتهي لصالح روسيا، تحقق بموجبها  أهدافها المعلنة وهي تدمير الجيش الأوكراني، وليمارس الشعب الأوكراني عندئذ حق تقرير المصير، وعلى نحو لا ينضم معه للاتحاد الأوربي أو لعضوية الناتو. وبتقدير أن دولًا بالاتحاد الأوروبي ستتخذ مواقف غير عدائية لهذا النهج تحت ضغوط مصالحها الاقتصادية الحيوية مع روسيا فيما يتعلق بإمداد الطاقة والغاز الروسي لهم في إطار مشروعات قائمة مع روسيا بعشرات المليارات من الدولارات.

وجاء رد الفعل الأمريكي والغربي على هذا النهج الروسي من منطلق رؤية تقضي بأن أوكرانيا تنتمي إلى العالم الغربي، والغزو الروسي يعد عدوانًا انتهك سيادة الدولة وتدخل في شأنها الداخلي، بل ومهددًا لها بالتقسيم والتفتيت، ويعكس توجهًا عدوانيًّا توسعيًّا بالسعي نحو استعادة الإمبراطورية الروسية، وبالتالي يشكل تهديدًا للأمن والاستقرار الأوروبي  . كما جاء هذا الرد على أكثر من محور، بهدف استنزاف روسيا عسكريًّا واقتصاديًّا وعزلها دوليًّا بإطالة أمد الحرب، الأول: عسكري بفتح ترسانات الأسلحة الغربية ومد أوكرانيا بالعديد من الأنواع التي تمكنها من مقاومة الغزو الروسي، الذي جاءت قواته بأحدث الأسلحة والمعدات العسكرية عالية الدقة والأكثر تطورًا. والثاني: فرض حزمة من العقوبات التصاعدية المتنوعة الصارمة على روسيا. والثالث: تجييش المجتمع الدولي ضد روسيا في الإطار الثنائي وفي المتعدد عبر منظماته ومؤسساته (السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية). ورابعًا: بفتح الباب أمام دول بالجوار الروسي للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي والناتو( السويد، وفنلندا )؛ لتتغير من وضعيتها الحيادية إلى التحالفية كجبهات جديدة في مواجهة روسيا. ( تقدر خسائر روسيا البشرية على المسرح العسكري  بحواليّ أربعين ألف جندي قتيل، بجانب عدد من كبار القادة العسكريين، وخسائر مادية من جرَّاء الحرب والعقوبات تقدر بأقل قليلًا من مليار دولار يوميًّا ).

إزاء هذه التطورات شهدت الساحة الدولية عملية استقطاب حادة بين طرفي المعادلة السياسية ( روسيا من جانب، والولايات المتحدة من جانب آخر) وخلف كل منهما عدد من الدول أبرزهم على الجانب الروسي بعض دول الجوار الموالية لروسيا، فضلًا عن مجموعة دول البريكس( الصين، الهند، جنوب إفريقيا، البرازيل، ومعهم روسيا )، وإيران، وكوريا الشمالية . أما على الجانب الآخر حيث الولايات المتحدة، الدول الغربية بمؤسساتها وخاصة دول الاتحاد الأوروبي ومجموعة السبعة، لقد كرس كل طرف مواقفه ومساره المناهض للآخر وتحميله مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع الدولية من تدهور بسبب تداعيات الأزمة الأوكرانية خاصة في مجالات (الطاقة، والغاز، والأمن الغذائي) ، وهو الأمر الذي يشكل دافعًا قويًّا لتحركات كل طرف على المسرح الدولي لاستقطاب أعضاء المجتمع الدولي والسعي نحو التوصل لحلول لمشكلات تلك التداعيات وتعزيز العلاقات عبر شراكات مستحدثة أو متطورة .

لعل أبرز ما يُقال في هذا الصدد على الجانب الروسي، إعلان روسيا في بداية العمليات العسكرية -لكسب تأييد الدول العربية- بأن القدس عاصمة دولة فلسطين، ثم جاء ما انتهت إليه قمة دول البريكس الرابعة عشر من نتائج . فقد عقدت تلك القمة في 24  يونيو 2022 برئاسة الصين عبر تقنية الفيديو وشاركت فيه (مصر، والجزائر) عربيًّا، (السنغال، إثيوبيا) إفريقيًّا، بجانب (إيران، وماليزيا، وإندونيسيا، وكمبوديا، وكازاخستان، والأرجنتين، وفيجي). فقد جرى حديث عن فتح باب العضوية  “للبريكس +( بلس)” للدول ذات الاقتصاديات الواعدة، ومن بين الدول المرشحة (مصر، والجزائر، وإثيوبيا، وإيران ) سعيًا لكسبهم إلى جانب توجه دول المجموعة، تمكين وإصلاح النظام الدولي متعدد الأطراف، وأن يكون أكثر شمولية وتشاركية، تعزيز مشاركة البلدان النامية في عمليات وهياكل صنع القرار، فضلًا عن دور إيجابي وبناء للتجمع  بالإسهام في حل قضايا الطاقة والأمن الغذائي، وتغير المناخ بما لديهم من إمكانات وثروات في هذه المجالات، والتخلص من الدولار في التعاملات التجارية بين الدول وإنشاء عُملة احتياطية دولية على أساس سلة عملات دول البريكس، وتوسيع دائرة استخدام منظومة “مير” الروسية للمدفوعات، دعم الدور الريادي لمجموعة العشرين في الحوكمة الاقتصادية العالمية، حل قضية إيران النووية بالطرق السلمية، احترام سيادة أفغانستان ووحدة وسلامة أراضيها. تجدر الإشارة إلى أن إنشاء مجموعة البريكس ذات السمة العالمية ارتبطت بإيجاد نظام دولي مستحدث بمنظومة سياسية اقتصادية ومؤسسات مالية ونقدية موازٍ للنظام الدولي الحالي .

لعل أبرز ما يقال في هذا الصدد على الجانب الأمريكي ما انتهت إليه، قمة جدة الأمريكية العربية ( الولايات المتحدة ، دول مجلس التعاون، مصر، والعراق، والأردن ) من نتائج ، والتي عقدت في يوليو الماضي. فقد جاء بايدن مهرولًا بعد أن كان متمنِّعًا إلى الدول العربية ، متصورًا أنه سيطلب وسيُجاب طلبه  بإقامة ناتو شرق أوسطي ، والتغلب على أزمة الطاقة والغاز التي تواجهها جماعته بدور تضطلع به الدول العربية النفطية، وإقامة تحالف إستراتيجي معهم يضم إسرائيل في مواجهة إيران التي تقترب من امتلاك السلاح النووي. واقع الأمر، جاءت مواقف الدول العربية تاريخية وفارقة في إطار رؤية عربية واحدة اتسمت بالحكمة والتوازن في علاقاتها الخارجية، وجسدت عملًا عربيًّا مشتركًا وكأنهم على قلب رجل واحد. فقد أكدت على شراكة جديده في إطار تعاون إستراتيجي وليس تحالف إستراتيجي، وأدرجت القضية الفلسطينية على قمة أولوليات الدول العربية، والتركيز على بناء مؤسسات الدولة وتقويتها، ومحاربة الإرهاب وتسوية القضايا الإقليمية والدولية بما في ذلك (تغيرات المناخ، والأزمة الأوكرانية، وجائحة كورونا) في تعاون إقليمي ودولي ، وأن قضية الملف النووي الإيراني جزء من قضية أكبر بأن تكون منطقة الشرق الأوسط خالية من أسلحة الدمار الشامل ويقصد بذلك إسرائيل التي تمتلك أسلحة نووية . ومن الغريب أن بايدن لم يشر في اجتماع جده إلى القضية الفلسطينية، وقد جاء إلى تلك القمة قادمًا من إسرائيل؛ ليؤكد هناك على حل الدولتين وفي نفس الوقت يفرغ الموقف من مضمونه بالقول بأن “هذا الحل يصعب تحقيقه” ، وبذلك  عزز موقف إسرائيل في كل شيء ولم يقدم للقضية الفلسطينية شيء .

توالت التحركات من الجانبين فجاء “لافروف” وزير الخارجية الروسي في جولة عربية إفريقية، وقام بوتين بزيارة لإيران، وتوجه ماكرون إلى دول أفريقية، وقامت مبعوثة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة بزيارة عدد من الدول الإفريقية، وتحرك المبعوث الصيني إلى إفريقيا خاصة في منطقة القرن الإفريقي، بل وعقد مؤتمرًا للسلام والتنمية في “أديس أبابا”، أكد خلاله على رغبة الصين – بنهج مستحدث – الإسهام في حل القضايا الإفريقية، وأعلنت الولايات المتحدة عن مؤتمر أمريكي إفريقي في ديسمبر القادم، وبعثت الولايات المتحدة بحوالي 700 جندي إلى الصومال خلافًا لسياساتها المعلنة في هذا الصدد، كما قام وزير الخارجية الأمريكي بزيارة عدد من الدول الإفريقية. كما تحرك المبعوث الأمريكي الجديد إلى القرن الإفريقي مشيرًا إلى أنه سيبذل جهدًا لحل أزمة سد النهضة تحقيقًا للأمن القومي المائي. تجدر الإشارة إلى أن قضية سد النهضة وربطًا بالأمن القومي المائي العربي، أثيرت في كافة الاجتماعات على المستوى الثنائي والمتعدد خلال الفترة التالية لبدء الحرب الأوكرانية وحتى الآن، وهو أمر له مغزى عميق واضح الدلالة .

واقع الأمر، أن المناطق التي يجري بصددها عملية الاستقطاب هما (المنطقة العربية، والقارة الإفريقية)، بما تشهده من تحركات (أمريكية، وغربية، وروسية، وصينية)، كل يسعى لدعم تواجده ونفوذه بما يتسق ومصالحه ورؤيته، وفي هذا الصدد قد يتعين على دول المنطقتين أن تتبنى توجهًا متوازنًا بما يتسق ومصالحها مستثمرة ذلك التنافس الاستقطابي لمصلحتهم بالدرجة الأولى، خاصة وأنهما الأكثر تأثرًا والأقل سببًا في تداعيات الأزمة الأوكرانية ( وأيضًا تداعيات تغيرات المناخ وجائحة كورونا)، وهو النهج الذي تبنته دول قمة جدة، بل قد يتعين على دول المنطقة العربية ودول القارة الإفريقية تعميق التعاون بينهما لتجاوز تلك التداعيات عبر الآليات المشتركة للمنظمتين الأم (الجامعة العربية، والاتحاد الإفريقي)، وأبرزها مؤتمرات القمم العربية الإفريقية. تلك القمم التي من المنتظر أن تنعقد قمتها القادمة قريبًا لتعميق العلاقات بينهما في إطار التكامل القاري والاندماج الإقليمي مع إمكانية الدفع في توجه يجمع بينهما نحو استحداث قطب عربي إفريقي في إطار نظام دولي متعدد الأقطاب .

تمضي الحرب بين الطرفين ولا يلوح في الأفق القريب أي دلائل على فرص إنهائها ، بل يتبنى الجانب الغربي رؤية إطالة أمدها استنزافًا للجانب الروسي وتقوية للمركز التفاوضي لأوكرانيا عند المقتضى، مع إجهاض آثار وتداعيات مشاكل الطاقة والغاز التي فرضتها روسيا عليه من جرَّاء سياسة العقوبات وذلك بإيجاد بدائل تفرغها من مضمونها في نهاية هذا العام ولتتواصل وحدة وتماسك الجانب الغربي . في الوقت الذي تكثف روسيا من عملياتها العسكرية على الأراضي الأوكرانية محققة تقدمًا وإن اتسم بالبطء نحو تحقيق أهداف إستراتيجية تتسم بتغيير الخريطة الجيوستراتيجية لدول بالجوار الروسي وخاصة وضعية أوكرانيا كدولة سياسيًّا وقانونيًّا في الإطار الأوروبي. وهكذا يتواصل الصراع في حلقة مفرغة بين الجانبين ما لم تتحرك قوى دولية لكسر تلك الحلقة في محاولة للتوصل إلى حل سياسي – وهو ما أشارت إليه مصر إبان زيارة لافروف للقاهرة- عبر مفاوضات تجمع الأطراف المتصارعة حول مائدة بمرجعيات المواثيق والاتفاقات والقوانين الدولية ذات الصلة من جانب ومتطلبات الأمن والاستقرار لدول المنطقة  من جانبٍ آخر .

اظهر المزيد

د. صلاح حليمه

نائب رئيس المجلس المصرى للشؤون الإفريقية ومساعد وزير الخارجية الأسبق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى