2022العدد 191ملف ثقافي

مفهوم الكلاسيكية في الموسيقى الغربية والعربية

ظهرت كلمة كلاسيكي أو كلاسيك Classic في بداية عصر النهضة الأوروبي الذي جاء بعثًا للمدارس القديمة اليونانية والرومانية بعد إطلاق هذا اللقب “كلاسيكي” عليها، وقبل ذلك على اللغتين الإغريقية (اليونانية القديمة، والرومانية)، ولكن لماذا فجأة تظهر الحضارات القديمة بعد عدة قرون من اختفائها؟ يعود سبب ذلك إلى بداية عصر المسيحية في أوروبا في القرن الأول الميلادي، وسيطرتها (الدينية، والاجتماعية، والسياسية، والحضارية) على أوروبا بعد الانتشار الأوروبي لهذا الدين الحديث. فقد رأت الكنيسة أن الحضارتين (اليونانية، والرومانية) النابعتين من ديانتين وثنيتين هما بدورهما وثنيتان وبالتالي وجب عدم التعامل معها والانقطاع عنها، وهكذا انقطع التطور (الإنساني ، والاجتماعي، والثقافي الحضاري) عن الحضارة الأم لغاية عصر النهضة، الذي رأي أن لا تقدم للمجتمع والفكر والفنون والحضارة إلا بالرجوع إلى هاتين الحضارتين لبناء حضارة جديدة نابعة منهما.

وسُمي هذا العصر عصر “النهضة”Renaissance  أو حرفيًّا “الولادة” الجديدة بمعنى عودة الحضارتين الكلاسيكيتين (الإغريقية، والرومانية) إلى الحياة من هنا جاءت هذه الصفة “كلاسيك” التي أُطلقت في عصر النهضة على اللغتين القديمتين (الإغريقية ،والرومانية) وعلى الحضارتين اللتين انبثقتا عنهما.

وكان القرن السابع عشر، وكان من الضروري وضع القواعد الجديدة لهذا العصر الجديد عصر الكلاسيكية فظهرت هذه القواعد أول ما ظهرت في الأدب، وبالذات في المسرح الذي عرف بالكلاسيكي. وجاءت هذه القواعد من منظور المسرح الإغريقي الفيلسوف “أرسطو” ومنها أذكر في تصنيفه الحالات المأسوية التي تحدد مجرى المأساة المسرحية:

  1. (أ) يعرف (ب) ويقتله مثل ميديا Media  التي تقتل أولادها.
  2. 2-   (أ) يقتل (ب) دون أن يعرفه ثم يتعرف عليه مثل أوديب الذي يقتل لايوس Laius  دون أن يعرفه ثم يعلم بعد ذلك أنه أبوه.
  3. 3-   (أ) يريد أن يقتل (ب) دون أن يعرفه ولكن يعرفه لاحقًا كما يحدث مع إيفيجينيا Ifigenia  التي تهم بقتل أورست Oreste.
  4. 4-   (أ) يعرف (ب) ويريد قتله ولا يقتله.

انطلق “كورنيي” Corneille من هذه القواعد والمفاهيم ووضعها تحت مظلة غمرت كل أعماله المسرحية : الصراع بين العاطفة والواجب حيث ينتصر الواجب دائمًا، وكانت مسرحية السيد elcid  التي اقتبسها عن مسرحية El cid (السيد) للكاتب الأسباني المعاصر “جيليرمو دي كاسترو”Gillermo di Castro  ، فكانت بداية العصر الكلاسيكي للمسرح. وقربني كورنيي مسرحيته هذه على القواعد الجديدة الصارمة التي وضعها منظرو المفهوم الكلاسيكي الجديد في الأدب : “الفرنسي مالرب” Malherbe  وخاصة “بوالو” Boileau  في ديوانه: “الفن الشعبي” lart Potique ،  الذي تضمن المفاهيم والقواعد الجديدة التي يجب التقيد بها حسب المفهوم الكلاسيكي الجديد، وقد أعلنت القواعد الصارمة التي تحكمت بالإنتاج المسرحي سنة 1640.

من أهم هذه القواعد الصارمة :

  1. وحدة الزمن:  أن يكون وقت الأحداث محصورًا في 24 ساعه فقط.
  2. وحدة الموضوع : أن تكون المسرحية بموضوع واحد لا يُسمح الخروج عنه.
  3. وحدة المكان: أن تجري كل الأحداث في مكان واحد فلا خروج إلى مكان الأحداث الخارجية بل تسرد هذه  الأحداث على  المسرح.

قاعدة ثانية كلاسيكية فرضها مؤسسو القواعد الكلاسيكية والرب وبوالو: البيت الشعري الذي يتألف من 12 مقطعًا إيقاعيًّا، ويُسمى بالفرنسية “بيبي” Pied أي قدم واسمه الإسكندري Alexandria ، وكانت أبيات الشعر قبل ذلك مختلفة الأطوال الإيقاعية.

وظلت هذه القاعدة سارية المفعول لثلاثة قرون لغاية العصر الرومانتيكي.

قاعدة ثالثة: ألا تتخطى الفكرة الشعرية آخر البيت الشعري إلى البيت التالي، هذه القاعدة كسرها “فكتور هيجو” (زعيم المدرسة الرومانتيكية الوليدة) بصخب في بداية مسرحيته “ريجوليتو” فأحدث انفجارًا في المسرح بين مؤيد ومعارض، ونجد هذه القواعد الصارمة في الموسيقى وذلك في بداية العصر الكلاسيكي. وصلت الموسيقى الأوروبية قبيل العصر الكلاسيكي إلى مستويات سامية بمفاهيمها (الروحانية، والفكرية، والجمالية، والإنسانية)، وشكلت المرحلة الأخيرة. وخاتمة الباروك التي سبقت المرحلة الكلاسيكية، وكان على رأس هذه  المرحلة “هندل وباخ” (ألمانيا)، وقد جمعا في أعمالهما كل الأدوات المتاحة في ذلك العصر في التأليف الموسيقي من الرقصات التي كانت سائدة في القصور، ثم تحررت منها فأصبحت منتشرة في الحياة الموسيقية العامة، وقد صنع عظماء التأليف الموسيقي الذي كان مسيطرًا على الحياة الموسيقية في حقبة الباروك، وكان عدد الرقصات المتتالية يختلف من مؤلف إلى آخر ومن مقطوعه إلى أخرى، ثم بدأت الصناعة الموسيقية تتركز وتتلبور إلى أن وضحت المدرسة الجديدة الكلاسيكية بآلياتها وقوالبها الجديدة ووحداتها المركزة العملية التي تتطابق مع وحدات العمل في المسرح الكلاسيكي.

وظهرت قوالب جديدة انبثقت من القوالب التي استعملها عصر الباروك ومن أهم هذه القوالب إلى جانب المتتاليات ما سُمي بال “كونشرتو جروسو” Concerto Grosso  أو “الكونشرتو الكبير” وسنأتي عليه بإسهاب لاحقًا، فبدلًا من قالب المتتاليات ( من 3 إلى 7 حركات أو رقصات) ظهر القالب الكلاسيكي الجديد الذي سمي بالسمفونية والذي حدد عدد حركاته بأربع كما حدد طابع كل حركه: الأولى سريعة، الثانية هادئة، الثالثة رقصة المنيويت Minuet، والأخيرة سريعة. ولزيادة ضبط العمل وربط أجزائه بكيان واحد بقيت القاعدة التي تُحتم إنهاء العمل في الحركة الرابعة على نفس مقام الحركة الأولى.

ويجدر الذكر هنا أن الرقصة الوحيدة التي بقيت في هذا الكيان الموسيقي الجديد (السيمفونية) هي رقصة المينويت Minuet التي تشكل الحركة الثالثة، لغاية ما استبدله “بيتهوفن” في سيمفونيته الثالثة بال “سكيرتسيو” الكونشرتو الكبير Concerto Grosso ، الذي كان عبارة عن حوار بين جسم الأوركسترا: الوتريات، ومجموعة آلات النفخ، والباص المستمر (Continuo)، الذي يعزف النسيج الموسيقي بكاملِه بما فيه من معالجة هارمونية وبوليفونية أقول: “كان عبارة عن حوار بين الأوركسترا ككيان موحد وآلة منفردة من الآلات ممكن أن تكون آلة الكمان المنفرد، أو أية آلة من مجموعة آلات النفخ، وذلك بالتناوب” كيف نحوّر هذا القالب في العصر الكلاسيكي؟ لقد حافظ الكونشرتو الكلاسيكي على مبدأ الحوار ولكن المحاور مع الأوركسترا أصبحا آلة واحدة.

وظهرت الأعمال مثل: ( كونشرتو للكمان والأوركسترا، أو كنشرتو للأوبرا والأوركسترا، أو الفلوت والأوركسترا …وهكذا).

هذا في أوروبا ماذا عن الموسيقى العربية؟ وهل يمكن أن نطلق عليها لقب الكلاسيكية؟

إن الموسيقى الأوروبية الكلاسيكية سُميت كذلك بسبب تقيدها بقواعد سرت عليها منذ قرون، وطبعًا لم تبقَ هذه القواعد على حالها فقد تغيرت مع الزمن والتطور الحتمي للمجتمع والحضارة وعناصرها في هذه القرون، لكن بقي عبر هذه القرون قواعد ومفاهيم ثابته لمفهوم الكلاسيكية نجدها في المراجع الموسوعية الكلاسيكية وأذكر منها:

  1. قاموس أوكسفورد الإنكليزي الصادر عن جامعة أوكسفورد سنة 1982 في صفحة 152 نقرأ حرفيًّا:

كلاسيك : ذو نوعية عليا -ما يحتل مركزًا ويتضمن قيمة معترفًا بها وغير قابلة للجدال – مشهور لتاريخه الطويل تقليدي غير جديد. وعلى نفس الصفحة تقرأ:

كلاسيكي : ما يملك قيمه فنية ثابتة لاجتياز اختبار الزمن، الموسيقى الكلاسيكية هي عادة الموسيقى التقليدية ذات القوالب المحددة.

نأخذ مرجعًا آخر من لغة ثانية :القاموس الفرنسي”لاروس” إصدار مكتبة (لاروس -باريس) سنة 1958 في صفحة 202 نقرأ حرفيًّا:

كلاسيك : مطابق للقواعد التي وضعها الأقدمون (مؤلف ما أو عمل ما) يصبح بفضل كمالة مثالًا يُحتذى به.

في القاموس الموسوعي الكبير “لاروس” وفي المجلد الثالث صفحة 175 نقرأ حرفيًّا:

كلاسيكي : ما يعتبر مثال في نوعه ما هو مطابق للمثال الأعلى وللقواعد.

مرجع آخر: القاموس الموسوعي الروسي، من منشورات( الموسوعة السوفياتية – موسكو) سنة 1981 ونقرأ حرفيًّا على الصفحة 593:

كلاسيكي : أعمال أدبية وفنية نموذجية فذة، ومتعارف عليها عمومًا، لها قيمتها الفائقة في الحضارة القومية والعالمية.

مرجع أخير، القاموس الموسوعي الموسيقي، إصدار (الموسوعة السوفياتية – موسكو) 1966 في صفحة 227 نقرأ حرفيًّا:

كلاسيك: (من اللاتيني كلاسيكو نموذجي) المخزون الذهبي للموسيقى القومية لكل شعب وللحضارة الموسيقية العالمية، تنتمي إلى الكلاسيكية الموسيقية أعمال نوابغ الملحنين وبشكلٍ خاص الأقدمين (أحسن نماذج التراث الموسيقي )، وأيضًا الأعمال الحديثة.

هذا في المراجع الكلاسيكية الغربية، ولكن هناك سؤال مهم ألم يكن قبل دخول كلمة “كلاسيك ” في قاموس الحضارة الإنسانية نتاجات حضارية تتسم بالكلاسيكية؟

سؤال فيه بعض السذاجة؛ ذلك لأن الحضارة الإنسانية لم تبدأ مع هذه الكلمة ولا من أوروبا، فالشرق الأقصى مليء بحضارات كلاسيكية من الفنون الشعبية التقليدية القديمة التي أصبحت بسبب انتمائها لحضارة شعبها تحمل لقب كلاسيكية بكل جدارة تاريخية وحضارية . هل الطب بالإبر الصينية لا يعتبر طبَّا كلاسيكيًّا وعمره فوق 4000 عامًا ، ومستمر لغاية الآن في التداول الطبي ودخل في الطب الأوروبي؟

هذه دلائل بسيطة تدل على أن أي شعب يملك فنونًا كلاسيكية بالرغم من أنها لا تتبع المفهوم الأوروبي لكلمة كلاسيكي. وبالطبع فالموسيقى (اليابانية، أو الصينية، أو الهندية الكلاسيكية) لا علاقة لها بالموسيقى الكلاسيكية الأوروبية؛ لسبب واحد لكنه في غاية الأهمية أن الموسيقى لغة قومية وليست عالمية كما هو سائد بشكلٍ خاطئ. ونذكر هنا بحدث ثقافي حضاري مهم (اختراع لغة الإسبرانتو)، التي كان من المفروض أن تكون لغة واحدة عالمية لكل البشرية، لكن المشروع فشل فشلًا ذريعًا لسبب في غاية الأهمية أنه لم يكن لهذا الوليد انتماء قومي.

نصل الآن إلى الموسيقى العربية وما علاقتها بالكلاسيكية للرد على هذا الموضوع نعود بالتاريخ للقرن التاسع عشر، كان (الموشح) القالب الموسيقي السائد طوال القرن وامتدت صناعته لغاية ثمانينيات القرن العشرين مع الموسيقار الكبير” فؤاد عبدالمجيد”.

(المونولوج) وهو قالب ظهر جنينه في أواخر الربع الأول من القرن العشرين على يد الشيخ سيد درويش في أغنية “والله تستاهل يا قلبي” وتتميز صياغة المونولوج بالسرد الموسيقي الذي لا يعتمد على مادة موسيقية سبق ووردت في العمل.

هذا القالب الجديد استوحاه سيد درويش من القالب الأوبرالي ال “آريا” Aria  وتطور هذا القالب مع محمد عبدالوهاب ليصل إلى ذروة كماله مع محمد القصبجي في أغنيته لأم كلثوم “إن كنت أسامح وأنسى القسية” سنة 1928.

العنصر الأساسي في هذا العمل هو عنصر السرد وعدم استعمال مادة موسيقية سبق أن استعملت وبقي هذا القالب في قلب صناعة الموسيقى عند كبار الملحنين العرب في القرن العشرين(رياض السنباطي، ومحمد عبدالوهاب) لغاية أواخر الربع الثالث من القرن العشرين، ونذكر من هذه الأعمال: (ساكن قصادي، وفاتت جنبنا) محمد عبدالوهاب، ورائعة محمد الموجي قصيدة (قارئة الفنجان) وهي من أواخر وأهم ما لحن في قالب المونولوج.

الطقطوقة :ظهرت وانتشرت في العشرينات من القرن العشرين على يد “محمد علي لعبة”، وكان مستواها الفكري والفني والأدائي ضحلًا إجمالًا ثم تطورت لغاية ما وصلت إلى ذروة تطورها مع زكريا أحمد في أغنيتيه لأم كلثوم “اللي حبك يا هناه” و “جمالك ربنا يزيده” 1931، وجعل هذا التطور الكبير من كل مقطع من مقاطع الطقطوقة الثلاث كيان موسيقي مستقل (يشبه المونولوج)، يسرح فيه الملحن ويمرح حسب خياله الموسيقي وموهبته اللحنية كما في أغنيات السنباطي لأم كلثوم، وأغاني محمد عبدالوهاب الكبيرة، وأغاني غيرها من كبار الملحنين. وتخطى قالب الطقطوقة القرن العشرين؛ ليصبح الآن القالب الوحيد تقريبًا المعتمد في التلحين من المحيط للخليج مع كل مساوئ هذا الانتشار الكبير.

بعد كل هذا العرض لتطور الموسيقى العربية في القرنين المنصرمين هل نستطيع أن نطلق عليها لقب “كلاسيكية”؟

للبت النهائي في هذا الموضوع نعود مرة أخرى إلى المراجع الكلاسيكية  التي أخذنا منها معاني هذه الكلمة.

إن الأعمال الموسيقية الكبيرة لكبار الموسيقيين العرب كلاسيكية؛ لأنها -كما ورد في هذه المراجع- ذات نوعية عليا وتملك قيمة معترف بها وغير قابلة للجدال لسبب تاريخها الطويل، ولأنها تقليدية، ولأنها تملك قيمة ثابتة لاجتيازها اختبار الزمن، ولأنها ذات قوالب موسيقية محددة (الموشح، المونولوج، القصيدة، الطقطوقة)، ولأنها مطابقة للقواعد التي وضعها الأقدمون، ولأنها بفضل كمالها الفني أصبحت مثالًا يُحتذى به، ولأنها تعتبر مثال في نوعها، ولأنها مطابقة للمثال الأعلى وللقواعد، ولأنها أعمال موسيقية نموذجية فذة ومتعارف عليها عمومًا ولها قيمتها الفائقة في حضارتنا القومية، ولأنها أخيرًا المخزون الذهبي للموسيقى القومية للشعب العربي.

وهكذا يتضح أن لقب كلاسيكية ليس مفهومًا عالميًّا حكرًا على أوروبا، بل إنه يخضع للعناصر القومية لهذا الفن أو ذاك، وكما ذكرنا هناك عشرات الحضارات القومية خاصة في الشرق لا يخضع للمفهوم الأوروبي لكلمة كلاسيكية لكونه موجود قبل ظهور هذه الكلمة في الغرب بمئات السنين وأحيانًا بآلاف السنين كـالطب الصيني، والعمارة المذهلة للصين واليابان والهند وفي كل منطقة الشرق الأقص، والموسيقى والرقص التقليدي الكلاسيكي في هذه البلاد كفن الكابوكي الياباني.

إن عقدة التعالي الغربية على ما هو غير غربي لا يستطيع إخفاء حقيقة ساطعة كالشمس، وهي أن جميع اللغات الأوروبية المنبثقة من لغة واحدة مشتركة وهي اللاتينية، وكما أن هذه اللغات الأخَوات تملك كل منها عناصرها القومية تجعل منها لغة مختلفة تمامًا عن اللغات الأخرى، فإن حضارات الشعوب تملك هي الأخرى عناصرها القومية الواضحة المعالم من مئات السنين.

اظهر المزيد

سليم سحاب

قائد اوركسترا وناقد وباحث ومؤرخ موسيقي - لبنان

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى