2019العدد 177ملف عربي

التطورات المتناقضة في العلاقات الأمريكية التركية ثنائيا وإقليميا

أثار فرض إدارة دونالد ترامب عقوبات اقتصادية على تركيا في مطلع شهر آب/أغسطس 2018، ردا على اعتقال تركيا القس الأميركي أندريه برانسون ووضعه قيد الإقامة الجبرية لاتهامه بالضلوع في محاولة الانقلاب العسكري عام 2016 وإقامة صلات بحزب العمال الكردستاني، وتراجع سعر العملة التركية إزاء الدولار وما واكب ذلك من سجالات متبادلة، اهتمام المراقبين وتساؤلاتهم عن مستقبل العلاقات بين أنقرة وواشنطن وما إذا كانت دخلت مرحلة اللاعودة أم أنها مجرد زوبعة في فنجان.

ومن ثم تمت تسوية المشكلة فأطلقت سراح القس اندريه برانسون في منتصف تشرين الأول/أكتوبر 2018 ووافقت واشنطن بعد شهرين في منتصف كانون الأول/ديسمبر على تزويد أنقرة بصواريخ باتريوت وتسليم طائرات أف 35 المتفق عليها سابقا.

وفي 19 كانون الأول/ديسمبر 2018 أعلن الرئيس ترامب أنه سيسحب قوات بلاده البالغ عددها المبدئي حوالي ألفي جندي من سوريا. وكان القرار مفاجئا للجميع حيث اعترض عليه مسؤولون في الإدارة الأميركية والحزبان الديموقراطي والجمهوري وأدت إلى استقالة وزير الدفاع جوزف ماتيس وآخرين. كما فاجأ القرار كل الدول الصديقة والحليفة للولايات المتحدة. أما تركيا فقد رحبت بالقرار مبدئيا باعتبار أن هذه القوات تحمي وتدعم قوات حماية الشعب الكردية التي تعتبرها أنقرة “إرهابية”. والانسحاب يسهّل نظريا أمام أنقرة التدخل في سوريا وضرب المسلحين الأكراد. وبعد ذلك أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان توصله إلى “اتفاق تاريخي” مع ترامب لإقامة منطقة آمنة في سوريا. لكن ترامب ما لبث أن أعلن معارضته لأي تدخل عسكري تركي يمكن أن يؤدي إلى ضرب الأكراد بل حذّر تركيا من أنه إذا باشرت هجوما عسكريا على الأكراد فإن الولايات المتحدة “ستدمّر” الاقتصاد التركي.

على هذا المنوال من التطورات والمواقف المتناقضة على مدار الساعة كانت تمضي العلاقات التركية – الأميركية في الأشهر بل السنوات الأخيرة.

في الواقع إن أزمة القس أندريه برانسون كما الموقف من الأكراد ليسوا سوى محطتين في سياق سبقته محطات أكثر سلبية وحدّة ليس اتهام أنقرة واشنطن أنها ضالعة بمحاولة انقلاب 15 تموز/يوليو 2016 سوى أبرزها.

تختلط عوامل كثيرة في محاولة تحديد الاحتمالات المستقبلية لهذه العلاقات، من التاريخي إلى المصالح الراهنة وصولا إلى المنطلقات الأيديولوجية لهذه العلاقات.

أ- من المنظور التاريخي

  1. نُسجت العلاقات التركية – الأميركية بعد الحرب العالمية الثانية على قاعدة المصالح المتبادلة. تركيا خدمت الغرب في صراعه مع الكتلة الشيوعية أمنيا واستخباراتيا وعسكريا وفكريا. تحولت تركيا إلى منصة أطلسية ضد الاتحاد السوفياتي، ولعبت دورا مركزيا في كل التكتلات السياسية والعسكرية في الشرق الأوسط المدافعة عن الغرب وأبرزها حلف بغداد، ودخلت في تعاون وثيق مع إسرائيل. وتجنّدت كل الأحزاب التي تناوبت على السلطة في تركيا، ولا سيما الإسلامية أو ذات الطابع الإسلامي منها، لخدمة الدعاية الفكرية المناوئة للشيوعية. وفي الوقت نفسه لعب النظام العلماني حصان طروادة غربيا داخل العالم الإسلامي.

أما الغرب، وهنا لا ينفع كثيرا الفصل بين الولايات المتحدة وأوروبا حيث كان مسار العلاقات التركية مع أميركا بعد الحرب العالمية الثانية يسير بالتوازي الدقيق مع مسار العلاقات مع أوروبا والاتحاد الأوروبي، فكان نصيرا لتركيا في مواجهة التهديدات السوفياتية أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية، وحمى وحدة أراضيها تجاه الحركات الكردية الانفصالية، ولا سيما حزب العمال الكردستاني (إلى حد مشاركة واشنطن في اختطاف واعتقال زعيمه عبدالله أوجالان عام 1999). ووقف الغرب بوجه التحديات التي خلقتها الثورة الإسلامية في إيران على النظام العلماني في تركيا. كذلك كان نصيرا لتركيا، ولو أحيانا بحدود معينة، في مواجهة المشكلات ذات الطابع الحضاري الغربي المسيحي مثل المسألة الأرمنية والخلاف مع اليونان والمسألة القبرصية.

  • عرفت العلاقات التركية مع الولايات المتحدة تحديدا مسارا ثابتا منذ تأسيسها في اتفاقية 12 تموز/يوليو 1947 العسكرية وفق مشروع الرئيس الأميركي هاري ترومان لمساعدة تركيا واليونان وعلى امتداد سبعين عاما.

ورغم أنها شهدت أكثر من 12 توترا، بعضها كبير، فإنها لم تنكسر وسرعان ما كانت تعود إلى طبيعتها ولو بعد سنوات:

  • عام 1962 انزعج المسؤولون الأتراك من عدم استشارتهم من قبل واشنطن التي سحبت صواريخ جوبيتر من إيطاليا وتركيا وفق اتفاقية حل أزمة الصواريخ الكوبية مع موسكو.
  • في العام 1964 وجّه الرئيس الأميركي ليندون جونسون رسالة إلى رئيس الحكومة التركية عصمت إينونو يحذره من أي استخدام للأسلحة الأميركية في قبرص من دون إذن مسبق من واشنطن وإلا فإن الولايات المتحدة لن تتدخل في حال تعرضت تركيا لأي هجوم سوفياتي. وخلقت هذه الرسالة استياء تركيا عاليا.
  • عام 1974 غزت تركيا قبرص ففرضت واشنطن حظرا على بيع السلاح لتركيا، ولم ترفعه إلا بعد أربع سنوات. في المقابل كانت تركيا تغلق جميع منشآتها العسكرية بما فيها قاعدة إينجيرليك على الأراضي التركية أمام استخدامات الولايات المتحدة خلا تلك التي لها صلة بأنشطة أطلسية. ولم تفتح هذه المنشآت للقوات الأميركية إلا بعد الانقلاب العسكري عام 1980 وكانت أحد أسباب حصوله.
  • وفي العام 2003 رفض البرلمان بفضل المعارضة ونواب متمردين داخل حزب العدالة والتنمية مذكرة حكومة حزب العدالة والتنمية المشاركة في غزو العراق وتلا ذلك توتر بين البلدين وتحميل واشنطن لتركيا ولا سيما مؤسستها العسكرية مسؤولية رفض المذكرة في البرلمان. وصدرت عن نائب وزير الدفاع الأميركي بول وولفوويتز بعد ذلك بشهرين تصريحات انتقد فيها بحدة المؤسسة العسكرية التركية لأنها لم تمارس الضغط الكافي على البرلمان لقبول المذكرة.
  • وفي الرابع من تموز/يوليو من العام نفسه كانت حادثة إدخال جنود أميركيين أكياسا من القماش في رؤوس مجموعة من العسكريين الأتراك في السليمانية، وعدّها الأتراك إهانة لهم.
  • وبعد انفجار الأزمة في سوريا كان انحياز الولايات المتحدة، رغم تحذيرات تركيا، إلى جانب قوات الحماية الكردية في شمال سوريا.
  • وبعد ذلك اتهم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إدارة باراك أوباما بأنها ضالعة مع دول أوروبية كذلك (وأخرى خليجية عربية) بمحاولة الانقلاب العسكري في 15 تموز/يوليو 2016 ضد سلطة أردوغان.
  • ثم كانت أزمة تأشيرات الدخول في نهاية العام 2017.
  • ومن بعدها أزمة القس أندريه برانسون في مطلع آب/أغسطس 2018.
  • ومن ثم تهديد ترامب، في كانون الثاني/ يناير 2019، بتدمير الاقتصاد التركي إذا ما حاولت تركيا ضرب الأكراد في منطقة شمال شرق الفرات بعد انسحاب القوات الأميركية من هناك. لكن الطرفين استمرا في التنسيق للانسحاب ومحاولة وضع ترتيبات لمنطقة آمنة في شمال سوريا تشرف عليها تركيا وتحظى بغطاء أميركي.

يتبين لنا من زاوية السياق التاريخي أن العلاقات بين الطرفين مرت بأزمات متعددة ومنها الخطير لكنها كانت تعرف دائما طريقا للمعالجة لتبقى في دائرة التعاون والتحالف (لا الاشتباك) الاستراتيجي.

ب- من زاوية المصالح المتبادلة الراهنة

في العام 2005 تحدث رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان عن شراكته في رئاسة مشروع الشرق الأوسط الكبير. وتحدث أوباما عام 2009 عن “الشراكة النموذج” مع تركيا. وفي الأزمة السورية بدءا من 2011 كانت التنسيق والتعاون كاملا بين تركيا والولايات المتحدة والغرب لاستقدام المسلحين وتدريبهم وتمريرهم عبر الأراضي التركية إلى الداخل السوري، والدعوة والعمل للإطاحة بالرئيس السوري بشار الأسد. كذلك كان هناك تقاطع كبير بين أنقرة وواشنطن في العلاقة مع إقليم كردستان العراق حتى تاريخ إجراء الاستفتاء على الاستقلال.

التوافق شبه الكامل بين الطرفين خرقه تطوران بارزان:

الأول الموقف من سوريا والمنطقة بعد العام 2012 والعلاقة مع الأكراد. حيث ارتكزت الولايات المتحدة في سياستها في سوريا والمنطقة على دعم قوات الحماية الكردية بمختلف الوسائل وهو ما سبب انزعاجا كبيرا في تركيا التي رأت في إنشاء شريط كردي على حدودها الجنوبية تهديدا لأمنها القومي ولاحقا لوحدة الأراضي التركي عبر خلق نزعات تقسيمية كردية في سوريا يمكن أن تنتقل إلى تركيا.

والثاني هو توسع الدور التركي في المنطقة بعد وصول أنظمة موالية لأنقرة في مصر وتونس والمغرب وازدياد الضغوط الجدية على النظام في سوريا وازدياد النفوذ التركي في ليبيا وتحرك تركيا في اليمن فضلا عن رعاية تركيا لحركة حماس الفلسطينية. ويأتي هذا النفوذ في إطار “العثمانية الجديدة” التي سعى إليها حزب العدالة والتنمية. ومثل هذا التطلع خلق مخاوف جدية لدى الولايات المتحدة من تعاظم الدور التركي المندفع من خلفية تاريخية لم ينكرها قادة حزب العدالة والتنمية والتي يمكن أن تحوّل تركيا إلى قوة إقليمية كبيرة خارج السيطرة. من هنا كانت محاولات الولايات المتحدة إضعاف تركيا، في أكثر من مناسبة عبر أدوات داخلية في رأسها جماعة فتح الله غولين. وهذا طبيعي في تعامل الولايات المتحدة مع أي قوة قد تخرج عن السيطرة ولو كانت حليفة. أما التقارب التركي مع روسيا (ومن ذلك صفقة صواريخ أس 400 ومد خط أنابيب نفط وغاز عبر تركيا وبناء مفاعل نووي في مرسين) أو إيران فهذا عامل متأخر في انزعاج واشنطن من أنقرة، ظهر منذ آب 2016 ليس أكثر. وجاء، من الزاوية التركية، ردة فعل على محاولة الانقلاب ضد أردوغان.

أما فيما يتعلق بانزعاج الولايات المتحدة من توتر العلاقات التركية – الإسرائيلية فليس هذا العامل برأينا حاسما في التوتر التركي – الأميركي خصوصا أن تركيا حافظت على علاقات اقتصادية متنامية كما على تعاون أمني مع إسرائيل. كذلك تخلت تركيا عن مطلب رفع الحصار عن غزة ووقعت اتفاقية إعادة التطبيع مع إسرائيل في 28 حزيران 2016.ولم تبادر تركيا إلى أي خطوة جدية تزعج أو تؤذي إسرائيل في المنطقة.

ج- محددات مستقبل العلاقة بين تركيا والولايات المتحدة

تمر العلاقات بين تركيا والولايات المتحدة من وقت لآخر في توترات. لكن مستقبل العلاقات بينهما استمرارا أو انقطاعا تحدده عدة عوامل:

  1. من الزاوية التركية:
  2. تموضع تركيا الاقتصادي

في الأرقام أن صادرات تركيا إلى الاتحاد الأوروبي عام 2017 بلغت 48 في المئة من مجمل صادرات تركيا الخارجية. أما واردات تركيا من الاتحاد الأوروبي فبلغت 40 في المئة من مجمل الواردات. وبلغت صادرات تركيا إلى الولايات المتحدة 5.2 في المئة من مجمل الصادرات التركية والواردات 5.5 في المئة من مجمل الواردات. وشكلت  الاستثمارات الغربية في تركيا نسبة 80 في المئة من مجمل الاستثمارات الخارجية في تركيا.

وبلغت قيمة التعامل بالدولار 42 في المئة من صادرات تركيا و56 في المئة من وارداتها. وباليورو 48 في المئة للصادرات و35 في المئة للواردات. بينما بلغت قيمة التعاملات بالروبل الروسي مثلا 0.1 في المئة من الصادرات التركية و صفر في المئة من الواردات. وبالليرة التركية 5.5 في المئة للصادرات و 7 في المئة للواردات.

ومن ذلك يتبين مدى الارتباط الكبير جدا للاقتصاد التركي بالاتحاد الأوروبي والغرب وبالدولار وبنسبة متقاربة منذ أكثر من ثلاثين عاما.

  • تموضع تركيا العسكري

في حال نظرنا من الزاوية التركية للعلاقات العسكرية مع الولايات المتحدة نجد اعتمادا شبه كامل لتركيا في مصادر تسلحها على الولايات المتحدة .

ففي سلاح الجو تقريبا جميع القاذفات والمقاتلات (300 طائرة) من الولايات المتحدة وكل المروحيات (500 مروحية) من الولايات المتحدة. وفي سلاح البر هناك أكثر من 1600 دبابة من صنع أميركي و750 من بريطانيا. وأكثر من نصف المدرعات (3000 من 6000) من الولايات المتحدة وكل المصفحات التي تحمل مدافع (1000 مصفحة) من أميركا. فضلا عن سيادة المفاهيم الأميركية في التدريب والبناء والتثقيف العسكري.

  • تموضع تركيا السياسي

وعلى الصعيد السياسي فإن جانبا كبيرا من مشكلات تركيا المزمنة هي مع دول مسيحية، مثل اليونان وقبرص وأرمينيا. وتشكل الولايات المتحدة درع حماية من تأثر تركيا السلبي من هذه المشكلات، وهو درع لو رفع عنها لكانت تركيا أمام تحديات صعبة. كذلك فإن تركيا تحتاج إلى الدعم الغربي الكامل لمنع الأكراد في الداخل التركي من الحصول على ضوء أخضر (لم تعطه أميركا أبدا) لتطوير معركتهم ضد الدولة التركية إلى مستوى الحكم الذاتي أو الدولة المستقلة. ولو حصل ذلك لتحولت مناطق جنوب شرق تركيا إلى شمال عراق آخر أو شمال سوريا آخر. ومن المفيد الإشارة هنا إلى أن حاجة الولايات المتحدة لتركيا موحدة وقوية لمواجهة خصومها مثل إيران وروسيا وآخرين من بين أسباب فشل أكراد تركيا في التقدم بمشروعهم نحو حكم ذاتي أو الفدرالية رغم أنهم، بين أكراد المنطقة، الأكبر عددا والأعرق نضالا والأكثر تضحية.

  • تموضع تركيا الحضاري

في نظرة إلى كل حركات التحديث التركية منذ نهاية القرن الثامن عشر وحتى اليوم، فقد كانت وجهتها ونموذجها حركات التحديث في أوروبا وفي الغرب. هذا ما حصل في فرمانات 1839 و 1856 و دستور1876 وحركة 1909 وإصلاحات 1923 (مع مصطفى كمال)، و1946 (الانتقال إلى التعددية السياسية في عهد عصمت إينونو)، وعام 1963 (بروتوكول أنقرة مع أوروبا في عهد عصمت إينونو أيضا)، وعام 2005 (مع بدء مفاوضات العضوية المباشرة مع الاتحاد الأوروبي في عهد حزب العدالة والتنمية). من هنا نرى أن وجهة التحديث كانت دائما التجربة الغربية. ورغم أن تركيا كانت توسع في بعض الظروف، دائرة التفاتتها إلى الشرق فإن بوصلة التحديث استمرت في اعتبار الغرب النموذج الحضاري الوحيد الممكن الاقتداء به للأخذ بسبل التقدم والتطور.

  • من الزاوية الغربية:
  • تشكل تركيا منذ الحرب العالمية الثانية منصة فكرية متقدمة للغرب داخل العالم الإسلامي من خلال التجربة العلمانية التي تجعل من تركيا أقرب إلى الغرب وحالة لا تهدد أوروبا المسيحية كما كان الحال عليه قبل العلمنة وفي عهد الدولة العثمانية. ووفقا للغرب، بقدر ما يتراجع حضور الدين في الدول والمجتمعات الإسلامية بقدر ما يتراجع التهديد الديني الإسلامي للغرب. لذلك فإن احتضان التجربة التركية العلمانية حاجة لاستمرار الاستقرار والأمن في أوروبا ومنع نشوء نزعات دينية وقومية متشددة على حدود جنوب شرق أوروبا.
  • وتركيا تشكل لأوروبا حاجزا جغرافيا واجتماعيا مع مشكلات الشرق الأوسط العرقية والدينية والسياسية ومنع امتدادها إلى الداخل الأوروبي. ومن آخر الأمثلة على ذلك مسألة اللاجئين السوريين الذين عملت تركيا مع الأوروبيين لمنع تدفق المزيد منهم إلى أوروبا وإبقائهم في تركيا طريق مرورهم الأساسية إلى أوروبا.
  • وتشكل تركيا للغرب قاعدة عسكرية (نووية أيضا) أساسية في الصراع على الزعامة العالمية مع روسيا الاتحادية ولمواجهة التهديدات العسكرية والأمنية في إيران وأفغانستان وباكستان وآسيا الوسطى والقوقاز والشرق الأوسط.
  • وتشكل تركيا رقما مؤثرا في صراع الطاقة العالمي لمصلحة الغرب والذي بدأ مع خط باكو جيهان في نهاية التسعينيات مع الرئيس الأميركي بيل كلينتون.
  • وتشكل تركيا للغرب حالة مساعدة لشرعية إسرائيل في الوجود من خلال اعتراف دولة مسلمة وغير عربية بها منذ العام 1949،وحالة مساعدة لاستمرار وجود إسرائيل واستقرارها في المنطقة في ظل العلاقة التركية الوثيقة معها والمستمرة حتى الآن. وهذا أساسي بالنسبة لمصالح الغرب الاستراتيجية في ضمان أمن إسرائيل.

استنتاجات

في ظل الحاجة المتبادلة المتنوعة بين تركيا والولايات المتحدة (كما الغرب) فإن الطرفين محكومان باستمرار التعاون الاستراتيجي بينهما ولا يقلل منه أو تضعفه بعض الخلافات التي تظهر من وقت لآخر ولو كانت أحيانا أساسية وتأخذ وقتا طويلا لحلها (مثل الموقف من الأكراد أو محاولة الانقلاب الفاشلة).

فالولايات المتحدة لن تفرّط بمسار مفيد ومربح عمره أكثر من سبعين عاما (حتى لا نذهب ثقافيا أبعد من ذلك) حتى لو اضطرت أحيانا لاستخدام أساليب غير شرعية أو عنفية (انقلابات 1960 و 1971 و 1980 والقرارات ضد حكومة نجم الدين أربكان في 28 شباط/فبراير 1997 ومحاولة انقلاب 15 تموز/يوليو 2016) لتصويب مسار السياسات التركية. كما إن الغرب لن يضحي بحليف استراتيجي كبير مثل تركيا قياسا مع “حفنة” من المقاتلين الأكراد في شمال سوريا ترى فيهم الولايات المتحدة ورقة تأثير لمصالحها المستقبلية في الداخل السوري أكثر من أن يكونوا تهديدا استراتيجيا للحليف التركي. وأميركا تخلت في لحظة ما عن حليف كردي أكبر بكثير من أكراد سوريا عندما لم تمارس تأثيرها بالنسبة لاستفتاء استقلال كردستان العراق في 24 أيلول 2017. لذلك فلن يكون مفاجئا أن تتخلى واشنطن، بمعزل عمن يكون حاكما في البيت الأبيض، عن قوات الحماية الكردية في سوريا إذا كانت العلاقة مع الأكراد ستكون فعلا عاملا حاسما في كسر العلاقة الأميركية مع تركيا.

وفي المقابل فإن تركيا فضلا عن أنها لا ترغب في، ولا تستطيع، الانفكاك عن الغرب، فلا بديل لها ممكنا أو مربحا يجعلها تتجه إلى دول مشرقية مثل روسيا أو إيران أو العالم العربي أو الصين. فصورة روسيا أو إيران على حد سواء في العقل التركي هي صورة العدو وليس مجرد منافس. بالنسبة لروسيا، هي “عدو” ديني (أورثوذكسي) وعرقي (سلافي) .وبالنسبة لإيران، هي “عدو” مذهبي (شيعي) وعرقي (فارسي).ولا تختلف في المقابل صورة تركيا المذهبية والطورانية والتوسعية لدى روسيا وإيران، وما بين كل هذه الأبعاد من مساحات وساحات للاختلاف والصدام.

كذلك فإن روسيا، التي لا يزيد حجم اقتصادها على تريليون و250 مليار دولار (حجم الاقتصاد التركي 850 مليون دولار)، ليست بديلا اقتصاديا واقعيا لتركيا عن أوروبا والغرب. ولا تمثل روسيا نموذجا سياسيا وثقافيا تبحث عنه تركيا. والأمر نفسه اقتصاديا وسياسيا وثقافيا يسري على إيران.

لكل هذه الأسباب وغيرها، فإن تركيا والغرب وخصوصا الولايات المتحدة الأميركية (بجمهورييها وديموقراطييها)، مهما اتسعت هوة الخلافات بينهما، محكومان بالتفاهم والتحالف. أما محاولات تركيا بناء علاقات متقدمة مع روسيا وإيران وغيرها من الدول المشرقية وغير المشرقية وتحقيق مكاسب وأرباح فلا يمكن أن تكون على حساب الثابت الاستراتيجي مع الغرب بشقيه الأميركي والأوروبي.

اظهر المزيد

د. محمد نورالدين

أستاذ في الجامعة اللبنانية - بيروت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى