2019العدد 177ملف عربي

من حل المجلس التشريعي إلى استقالة الحكومة انعطافة جديدة في النظام السياسي الفلسطيني

شهد النظام السياسي الفلسطيني، في الأشهر القليلة الماضية، تطورات لافتة، تمثلت في قيام القيادة الفلسطينية، وهي قيادة المنظمة والسلطة و”فتح”، بحلّ المجلس التشريعي (المنتخب عام 2006)، وبتقديم حكومة رامي الحمد الله استقالتها إلى الرئيس محمود عباس (28/1/2018)، مع تسريبات تفيد بإجراء مشاورات لتشكيل حكومة جديدة من الفصائل المنضوية في منظمة التحرير، برئاسة شخصية قيادية من “فتح”، التي تعتبر بمثابة حزب السلطة، وذلك بدلاً من تشكيل حكومة تضم الكفاءات من المستقلين، الأمر الذي يوحي بوجود قرار باستبعاد حركة “حماس”، وبنفض اليد من حوارات ومحاولات المصالحة.

على ذلك فإن هذه التطورات تفيد بأن النظام السياسي الفلسطيني، الناشئ عن اتفاق أوسلو (1993)، أي بعد تحول الحركة الوطنية الفلسطينية من حركة تحرر إلى سلطة (تحت الاحتلال)، في جزء من أرض لجزء من شعب مع جزء من الحقوق، بات يقف في مواجهة انعطافة نوعية ثالثة في تاريخه.

وللتذكير فإن الانعطافة الأولى حصلت إبان الانتفاضة الثانية (2000ـ2004)، وذلك عبر فصل منصب رئيس الحكومة عن منصب الرئاسة، بعد أن كان الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات يجمعهما في شخصه (1994ـ2003)، إضافة إلى كونه رئيسا لمنظمة التحرير، وقائدًا لحركة “فتح”، وذلك نتيجة للضغوط الخارجية (بخاصّة الأمريكية)، التي فرضت ذلك، لإضعاف نفوذه، وخلق بدائل له. هكذا تم، في حينه، تعيين الرئيس الفلسطيني الحالي محمود عباس رئيسا للحكومة (2003)، وقتها، إلا أنه سرعان ما قدم استقالة مدوية (بعد خمسة أشهر)، بسبب خلافه مع أبو عمار، وهي الاستقالة التي وثقها في خطاب موجه إلى المجلس التشريعي، شكا فيها ضعف صلاحياته، والافتقاد لقيادة جماعية، ومحاولة التشكيك بسيرته والتحريض عليه (راجع تفاصيل نص الاستقالة وخطاب أبو مازن في مجلة الدراسات الفلسطينية، العدد 56 ،2003).

النتيجة بعد ذلك أن منصب رئيس الحكومة ذهب إلى كل من أحمد قريع (2003، 2006)، ثم إلى إسماعيل هنية (2006، 2007)، بعد فوز حركته “حماس” في الانتخابات، وبعده إلى سلام فياض (2007، 2013)، على خلفية الانقسام الفلسطيني في السلطة بين الضفة وغزة، وأخيرًا إلى رامي الحمد الله (منذ 2013)، والاثنين الأخيرين من الشخصيات المستقلة.

أما فيما يخصّ الانعطافة الثانية، فهي حصلت نتيجة انقسام النظام السياسي الفلسطيني، وفصل سلطة الضفة عن سلطة غزة (2007)، بعد الانقلاب السياسي الكبير المتمثّل بفوز حركة “حماس” بأغلبية مقاعد المجلس التشريعي في الانتخابات (2006)، وهو الأمر الذي خلق مشكلة كبيرة، إذ أضحى الكيان الفلسطيني برأسين، فثمة رئيس السلطة محمود عباس من جهة، ورئيس الحكومة إسماعيل هنية من جهة أخرى، إضافة إلى وجود مرجعيتين سياسيتين مختلفتين، أي “فتح” و”حماس”. المهم أنه في ذلك الوقت وجدت “فتح” نفسها في مواجهة حركة منافسة لأول مرة في تاريخها، في حين وجدت “حماس” نفسها فجأة في قيادة سلطة، هي في الأصل مختلفة معها، إضافة إلى أنها معادية لاتفاق أوسلو جملة وتفصيلا، فضلا عن أنها غير منضوية في أطر منظمة التحرير، بحيث ذهبت الأمور، بنتيجة ذلك الاختلاف، إلى اقتتال دام (2007) في غزة، ثم إلى انقسام كيان السلطة الفلسطينية. 

هكذا، فإن النظام السياسي الفلسطيني، اليوم، بناء على كل ما تقدم، هو في خضم انعطافة ثالثة في تاريخه، سيكون لها تداعياتها الكبيرة، والخطيرة، على نظام ضعيف ومنقسم، ولا يملك سوى سلطة على شعبه، أصلاً، في واقع تمتلك فيه إسرائيل السيادة على الأرض والموارد والمعابر، وتهيمن على الفلسطينيين من كل النواحي السياسية والإدارية والاقتصادية، وهي تريد استمرار السلطة فقط لتجويف الحركة الوطنية الفلسطينية، ووضع الفلسطينيين في مواجهة بعضهم، والتحرر من العبء السياسي والأمني والاقتصادي للاحتلال.

حلّ المجلس التشريعي

وبخصوص حلّ المجلس التشريعي (22/12/2018) فقد أعلنه الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وهو رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير ورئيس السلطة وقائد حركة “فتح”، بناء على قرار صادر عن المحكمة الدستورية، وباعتبار أن ذلك المجلس ليس فاعلاً وأنه استنفذ فترته الدستورية، ما أثار عديدًا من التساؤلات، التي تفيد، أو تشتبه، بأنه مجرد قرار سياسي، وأن من شأنه مفاقمة الأزمة الفلسطينية، وإنهاء جهود المصالحة، وقطع محاولات استعادة الوحدة، علما أن تلك الأزمة، أكبر وأعمق وأخطر من مجرد إنجاز مصالحة وتشكيل حكومة، باعتبارها من نوع الأزمة الشاملة التي تطال مجمل الإطارات والكيانات والخطابات السياسية وأشكال العمل.

وفي حينه بدا أن ثمة ملاحظات كثيرة على القرار يمكن تبين أهمها في الجوانب الآتية:

أولا: لم تطرح، أو لم تشرح، المحكمة الدستورية الحيثيات القانونية، أو الدستورية، التي استندت إليها في قرارها المذكور، القاضي بحل المجلس التشريعي، ما يعني أن تلك المحكمة خضعت للقرار السياسي، الصادر من القيادة الفلسطينية، الأمر الذي يفيد بأنه لا يوجد فصل بين السلطات، وهذا أحد مكامن الخلل في النظام الفلسطيني السائد، سيما بتحويل المحكمة الدستورية إلى مجرد غطاء لقرارات القيادة السياسية.

 ثانيا: ما يؤكد أن ذلك القرار مجرد تعبير عن إرادة سياسية، أن المحكمة المذكورة لم تتحرك قبلاً، لوضع حد لكثير من التجاوزات، وضمنها انتهاء الآجال الدستورية لكل الإطارات القيادية، وضمنها منصب الرئاسة، ومثلاً فكيف يسري الحكم الصادر على المجلس التشريعي، ولا يسري، ذات الأمر، على منصب الرئاسة (المستمر منذ 2005)، سواء لجهة الاستمرار، إلى حين تنظيم الانتخابات التالية (كما تنص لوائح المنظمة وأعرافها)، أو لجهة اعتبارها منتهية الأجل؟ ثم لماذا لم ينص القرار على إجراء انتخابات رئاسية أيضًا بعد ستة أشهر؟

 ثالثًا: لماذا لم تتخذ المحكمة أي قرار بشأن عدم تنفيذ السلطة لقرارات المجلس الوطني والمجلس المركزي، الخاصة بوقف التنسيق الأمني وسحب الاعتراف بإسرائيل وإنهاء العمل باتفاق باريس الاقتصادي، علما أن تلك القرارات يفترض أنها مرجعية للسلطة، وعلما أنه ثمة قرارات للمجلس المركزي بهذا الشأن (منذ العام 2015) ولم تنفذ بعد؟

رابعًا: هذا يطرح سؤالا على المحكمة الدستورية، فلماذا الآن؟ أي لماذا لم تقم تلك المحكمة بحل المجلس المنتهية ولايته منذ 12 عاما مثلاً، وهل كان فقهها القانوني يعني أن المجلس كان شرعيا طوال الفترة السابقة مثلا؟ وكيف انتهت تلك “الفتوى”، وبناء على أية أحكام قانونية؟

خامسًا: يتضح من كل تلك الملاحظات أو التساؤلات بأن قرار حل المجلس التشريعي الفلسطيني، هو مجرد قرار سياسي، وأن الحديث عن قرار لمحكمة دستورية هو لمجرد التورية، إذ أنه ليس من صلاحيات المحكمة الدستورية ولا بأي شكل، والأنكى من كل ذلك أن الرئيس طرحه مباشرة، بدون تقديمه للنقاش في الهيئات القيادية المعنية، بل وقام بإعلان العمل به، الأمر الذي يثير التساؤل؛ هذا من جهة. ومن جهة أخرى، فمن الواضح أن هذا القرار يستهدف قطع الطريق على حركة “حماس” الاستحواذ على أية شرعية سياسية، قد تتيح لها تصدّر المشهد الفلسطيني، على حساب حركة “فتح”، مع علمنا أن هذا الأمر سيكون مطروحا في حال غياب الرئيس محمود عباس (84 عاما)، إذ أن رئيس المجلس التشريعي هو الذي سيحل محله، بحسب الدستور الفلسطيني، وهو ما حصل إبان وفاة الزعيم الفلسطيني الراحل، حيث حل رئيس المجلس التشريعي (روحي فتوح)، وقتها، في مكانة رئيس السلطة، إلى حين تنظيم انتخابات رئاسية فاز فيها الرئيس محمود عباس (2005).

وقد يجدر التذكير هنا أن الجهة التي قررت حل المجلس التشريعي هي ذاتها التي قامت بتهميشه، وعدم السماح بتفعيله، لاعتبارات المنافسات الفصائلية، الأمر الذي أفضى إلى انقسام السلطة، حيث حركة “فتح” هي سلطة في الضفة، وحركة “حماس” هي سلطة في غزة، مع تحميل الحركة الأخيرة المسؤولية، أيضًا، وضمن ذلك المسؤولية عن الاقتتال والانقسام، المستمر منذ 12 عاما، رغم الأثمان الباهظة التي دفعها الشعب الفلسطيني، ورغم تبين عدم جدواه وضرره على الشعب وعلى قضيته الوطنية وحتى على حركة “حماس” ذاتها.

الأهم من ذلك أن القيادة الفلسطينية، هي المسؤولة، أيضا، عن تهميش منظمة التحرير الفلسطينية، وعن إخراج اللاجئين من المعادلات الصراعية ضد إسرائيل، باختزالها الشعب الفلسطيني بفلسطينيي الضفة وغزة، وحصر ولايتها بهم. وكما نعلم فإن المجلس الوطني الفلسطيني لم يعقد سوى دورتي اجتماعات له، بعد إقامة السلطة (1993) بموجب اتفاق أوسلو، حيث عقدت الدورة 21 في العام 1996، أي بعد الاتفاق المذكور، وعقدت الدورة 23 في النصف الأول من هذا العام 2018 (بخصوص الدورة 22 للمجلس الوطني فقد عقدت في 2009 فقط لترميم عضوية اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير).

والفكرة هنا باختصار أن قرار حل المجلس التشريعي سيفاقم من أزمة النظام السياسي والحركة الوطنية الفلسطينيين، مع علمنا أن هذا المجلس لا يعمل وليس له أية صلاحيات، منذ العام 2007، وأنه كان الأجدى التوجه لتنظيم انتخابات رئاسية وتشريعية بدل القيام بهذه الخطوة التي لا معنى حقيقي لها، سوى مفاقمة المشكلات الفلسطينية البينية، واستنزاف الفلسطينيين في نقاشات جانبية وثانوية، بدل الانشغال في معالجة المشكلات الجوهرية، أو البنيوية، التي تعاني منها حركة التحرر الوطني الفلسطينية، خصوصا بنتيجة تحولها إلى سلطة، تحت سلطة الاحتلال.

على ذلك ثمة هنا أسئلة أخرى، مثلا، فهل سيخدم حلّ المجلس التشريعي إعادة بناء منظمة التحرير أم سيفاقم تهميشها؟ وهل سيؤدي إلى إنهاء الانقسام أم إلى ترسيخه؟ هل سيسهم ذلك في إنهاء الافتقاد للشرعية أو سيفاقم من واقع الافتقاد للشرعية وللإجماع الوطني سواء على صعيد الأطر أو الخيارات السياسية؟ وأخيرا هل سيفضي ذلك إلى إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية حقا؟ وهل ستجري الانتخابات في الضفة وغزة والقدس أم في الضفة فقط؟ والأهم من كل ذلك هل تعرف القيادة الفلسطينية إلى أين يقود ذلك أم أنها قفزة في المجهول؟ وماذا بعد؟

استقالة الحكومة الفلسطينية

أما في ما يخصّ استقالة الحكومة الفلسطينية (رامي الحمد الله) فهي حصلت بعد أسابيع قليلة (28/1/2018) على حل المجلس التشريعي، لتثير المزيد من التساؤلات والمخاوف بشأن مستقبل النظام السياسي الفلسطيني، سيما أن خطوة الاستقالة أتت بعد توجه صادر عن اللجنة المركزية لحركة “فتح”، يفيد بالدفع نحو تشكيل حكومة فصائلية (تضم بعض مستقلين)، علما أن كل الحكومات السابقة كانت مسيرة من “فتح”، منذ إنشاء السلطة الفلسطينية، قبل ربع قرن، ناهيك أن “فتح” اشتغلت في الواقع بوصفها حزبا للسلطة، بدل مواصلة دورها كحركة تحرر وطني.

عموما فإن خطوتي الاستقالة، والتبشير بحكومة فصائلية، أثارتا المخاوف من جوانب عديدة، أهمها:

أولاً: احتمال اعتبار تشكيل حكومة فصائلية بديلاً عن مطلب إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية، وهو الأمر الذي يجب تركيز الجهود عليه، سيما أن تجربة العقود الماضية، المتعلقة بتهميش المنظمة، وإضعاف مؤسساتها، وتعليق الاجتماعات الدورية للمجلس الوطني الفلسطيني، تؤكد على ذلك.

ثانيًا: في هذا التوجه، وبدلاً من قيام القيادة الفلسطينية بفكّ الارتباط الوظيفي والإداري بين المنظمة والسلطة، وحصر السلطة بإدارة وضع الفلسطينيين في الضفة وغزة، فإنه تم تكريس ذلك الارتباط المضرّ، الذي همّش المنظمة ولم يفد السلطة.

ثالثا: بدلاً من تقوية المجتمع المدني وتعزيز حضوره وتنمية مؤسساته، لأهمية ذلك في الصراع ضد السياسات الإسرائيلية، فإن هكذا تشكيل سيسهم في إضعاف هذا المجتمع، وسيزيد الفجوة بين الفصائل والشعب، علما أن أغلبية الفلسطينيين خارج الفصائل.

رابعًا: عبر هذا القرار فإن القيادة الفلسطينية تكرّس نظام المحاصصة الفصائلية “الكوتا”، الذي أكل عليه الدهر وشرب، بدلا من النظام القائم على الانتخابات، سيما مع فصائل لم يعد لمعظمها أي مكانة في مجتمعات الفلسطينيين في الداخل والخارج، ولا أي دور في مواجهة إسرائيل، ولا أية هوية فكرية أو سياسية.

ويستنتج من ذلك بأن القيادة الفلسطينية (وأقصد قيادة “فتح” والمنظمة والسلطة) مطالبة بمراجعة هذه السياسات، التي لا تثير إلا مزيدًا من الانقسامات والخلافات والتوترات في الساحة الفلسطينية، بدلاً من توحيدها، بخلق إجماعات وطنية فيها، والتي تبدد، أيضا، الطاقات في صراعات جانبية (على مواضيع المصالحة وحل المجلس التشريعي والخلاف حول تشكيل حكومة)، عوض حشد الطاقات في مواجهة إسرائيل. وعلى أية حال فقد شهدنا أن معظم الفصائل الفلسطينية عارضت هذا التوجه، وأعلنت رفضها المشاركة في حكومة تستأثر بها حركة “فتح”، مع تأكيدها أن الأولوية لتعزيز جهود إنهاء الانقسام ووضع حد للاستئثار بتقرير الشأن الفلسطيني وإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية.

التداعيات

المشكلة أن هذه التحولات الفلسطينية أتت في ظروف سياسية صعبة، تعاني منها القيادة الفلسطينية، سيما في الجوانب الآتية:

أولاً: انسداد أفق التسوية، وفقًا لاتفاق أوسلو، مع سياسات إسرائيل الرامية لترسيخ الاحتلال والاستيطان وتهويد القدس، واعتبار الكيان الفلسطيني مجرد كيان لحكم ذاتي، على السكان، وليس على الأرض. ومن الواضح هنا أن الهدف الإسرائيلي، من إقامة كيان فلسطيني، أو سلطة، إنما يتمثل بتعزيز المنازعات والتنافسات والخلافات الداخلية بين الفلسطينيين، وتجويف حركتهم الوطنية، إن بتحويلها من حركة تحرر وطني إلى سلطة على شعبها فقط، أو بوضع كياناتها في مواجهة بعضها، بحيث تتصارع فيما بينها على المكانة والموارد والسلطة بدلاً من التصارع مع إسرائيل، التي باتت ترسّخ هيمنتها على الفلسطينيين، أكثر من ذي قبل، أي أكثر مما كان قبل قيام السلطة (1993)، وبديهي في هذا الإطار أن إسرائيل مرتاحة للوضع القائم، مع وجود كيانين فلسطينيين، أحدهما تحت الحصار المشدد، حيث ثمة مليوني فلسطيني في غزة، والثاني تحت الهيمنة الإسرائيلية من مختلف النواحي في الضفة الغربية، تفرق بين مدنه وقراه المستعمرات الإسرائيلية.

ثانيًا: منذ مجيء دونالد ترامب إلى رئاسة الإدارة الأمريكية وجدت القيادة الفلسطينية نفسها في وضع جديد وغريب وصعب، بخاصة مع قيامه بسلسلة من الخطوات والمواقف التي تسهم في ضعضعة مكانة القيادة الفلسطينية، ونزع شرعيتها، وقضم عناصر قوتها، ويأتي في هذا الإطار، مثلاً، الاعتراف الأمريكي بالقدس كعاصمة موحدة لإسرائيل، وتحت سيادتها، والسعي لتصفية قضية اللاجئين وحق العودة، من خلال وقف التمويل الأمريكي لمنظمة غوث وتشغيل اللاجئين (“أونروا”)، وقدره 368 مليون دولار سنويا، ما يشكل نصف الموازنة تقريبا. كما يأتي، في ذات السياق، إغلاق مكتب منظمة التحرير، ووقف المساعدات الأمريكية للسلطة الفلسطينية، وأخيرًا وقف تمويل برنامج “الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، وهو ما حدث مؤخرًا (1/2/2019)، علمًا أن ذلك تم بناء على طلب من السلطة، سعيًا منها لتجنّب تداعيات قانون مكافحة الإرهاب (الأمريكي) وتطبيقه على الذين يتلقون مساعدات أمريكية في الضفة الغربية وغزة”، وهذا يشمل وقف مساعدات أمريكية قدرها 60 مليون دولار مخصصة لقوات الأمن الفلسطينية للحفاظ على الهدوء في الضفة بالتنسيق مع أجهزة الأمن الإسرائيلية.

الفكرة هنا أن الولايات المتحدة الأمريكية، وهي طرف أصيل في اتفاق أوسلو، الذي أنشأ السلطة الفلسطينية (1993)، وبعد انحيازها الصارخ، في ظل الإدارات الأمريكية السابقة، إلى جانب إسرائيل، وتغطيتها للمواقف  المتعنّتة التي اتّخذتها إن للتملّص من الاستحقاقات الواجبة عليها بحسب الاتفاق المذكور، أو خلقها الوقائع لتكريس الاحتلال كأمر واقع، أضحت اليوم، عبر المواقف المذكورة، غير مبالية بإعلان انقلابها على ذلك الاتفاق، والتحرر نهائيا من مزاعم كونها راعيًا نزيهًا وطرفًا محايدًا وحليفًا موثوقًا للفلسطينيين في عملية التسوية الفلسطينية ـ الإسرائيلية، وهي المزاعم التي داعبت أوهام القيادة الفلسطينية، ودفعتها إلى توقيع اتفاق أوسلو، وظلت عليها لفترة طويلة من الزمن بعدها.

ثالثًا: لا شك أن تلك التحولات في النظام السياسي الفلسطيني تعكس خشية القيادة الفلسطينية من مساعي الالتفاف عليها، وتهميشها، على نحو ما جرى في مراحل سابقة، بدعوى أن تلك القيادة غير مهيئة للسلام. ويبدو من مراجعة المواقف الأمريكية، وضمن ذلك أحاديث الرئيس ترامب وأركان إدارته عن السعي لإيجاد تسوية إقليمية، أو طرح نوع من خطة تسمى “صفقة القرن”، أن التوجه الأمريكي العام يقضي بتجاوز القيادة الفلسطينية، في حال أصرّت على مواقفها، أو في حال لم ترضخ للإملاءات الأمريكية والإسرائيلية. وتستند إدارة ترامب في مسعاها هذا إلى البيئة السياسية الحالية المواتية في الشرق الأوسط، ولاسيما حال الاضطراب السياسي والأمني والاجتماعي والاقتصادي في العالم العربي، ولاسيما في المشرق العربي (بخاصة سوريا والعراق)، وضمن ذلك تغوّل الوجود الإيراني، وتزايد النفوذ التركي، باعتبارها أن هذه الأوضاع تشكل الفرصة السانحة للتحرر من القضية الفلسطينية، وإيجاد إطارات مناسبة لنوع من سلام إقليمي، بهذا المستوى أو ذاك.

وقد يجدر التذكير هنا أن الولايات المتحدة، حتى قبل مجيء إدارة ترامب، أي منذ عهد بوش الابن (مطلع الألفية الجديدة)، مثلا، كانت تروّج لفكرة مفادها أن سبب الاضطراب في العالم العربي لا ينبع من وجود إسرائيل، وإنما ينبع من الفقر والتخلف والأمية وفقدان الحرية وتعثر التنمية، وهو ما أتت عليه بطريقة جيدة تقارير “التنمية الإنسانية العربية”، التي صدرت في تلك الفترة.

رابعًا: ما يفترض الانتباه إليه هنا، أيضًا، أن خشية القيادة الفلسطينية تنبع من تلازم المسارات الأمريكية والإقليمية مع التطورات السائدة في إسرائيل ذاتها، سيما الانزياح نحو اليمين المتطرف، الديني والقومي، وهو ما تمثل باستصدار قانون القومية اليهودية (يوليو 2018)، وتعزيز الاشتغال على تهويد القدس، وتكثيف الاستيطان في الضفة، وتكريس الهيمنة على حياة الفلسطينيين، لاسيما من الجهة الأمنية والإدارية والاقتصادية، ويشمل ذلك التعود على اقتحام مدينة رام الله، التي يفترض أنها مركز القيادة الفلسطينية. وبديهي أن تلك التطورات تنعكس على الخريطة السياسية الإسرائيلية، وهو ما تمثل بصعود نجم الجنرال السابق بيني غانتس، رئيس أركان الجيش الإسرائيلي سابقا، الذي يبدو أنه يشكل البديل لرئيس الحكومة الحالي بنيامين نتنياهو (2009ـ 2019)، في الانتخابات القادمة، بعد شهرين، علمًا أن غانتس يتحدث عن تسوية إقليمية، وعن حدود شرقية لإسرائيل تتمثل بغور الأردن، وعن القدس كعاصمة موحدة لإسرائيل، في تجاوز لحقوق الفلسطينيين، ولوجود السلطة الفلسطينية.

من كل ذلك يمكن الاستنتاج بأن كل المعطيات، الدولية والإقليمية والعربية والإسرائيلية تفيد بإمكان تجاوز القيادة الفلسطينية (المنظمة والسلطة)، وفرض نوع من سلام إقليمي مع إسرائيل، أي تطبيع وجود إسرائيل في المنطقة، برضا تلك القيادة أو رغما عنها، ولعل هذه الهواجس كلها تكشف عمق المخاوف الفلسطينية، سيما مع تسريبات تتحدث عن شمول قطاع غزة في مشاريع تنضوي في إطار صفقة القرن، تقوم على تهدئة، وتنمية اقتصادية، مع الإبقاء على الوضع الراهن أي على سلطة “حماس”.

 باختصار، الوضع الفلسطيني اليوم يمر بظروف حرجة، وخطيرة، ولا أحد يمكنه التكهن بالتداعيات التي يمكن أن تنجم عنه، فإذا كان من المستحيل توقع إقامة دولة فلسطينية مستقلة في الضفة والقطاع، وفقا للظروف والمعطيات الراهنة، فهل ستبقى السلطة الفلسطينية كسلطة حكم ذاتي؟ أم أن هذه السلطة ستنتهي بشكل أو بآخر؟ أو ما الذي سيبقى للفلسطينيين؟

اظهر المزيد

ماجد كيالي

بــاحــث فلسطيــني - سورية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى