2018العدد 175ملف خاص

المجاز والحرب .. جدل العلاقة بين الكلمة والرصاصة

لا يمكن للحرب أن تتفادى الاستعارات، طالما أن فيها من الحمولات الثقافية والمعنوية والأيديولوجية والدعائية بقدر ما فيها من الموجودات المادية المتعلقة بالسلاح والإمداد والخطط القتالية والتدريب. ويدرك القادة العسكريون التاريخيون هذه المسألة جيدًا، لذا يحضر المجاز بشدة في خطاباتهم التي تسبق الحرب، أو يطلقونها أثناء جريانها، وحتى بعد أن تضع أوزارها، وهم يعظمون النصر، إن ظفروا به، ويقللون من شأن الهزائم إن سقطت على رؤوسهم.

فالمقولة الرئيسية التي تحكم النظر إلى الحرب في أغلب الأدبيات التي تناولتها، والتي نطق بها الجنرال البروسي كارل فان كلاوزفيتز: “الحرب سياسة تُقام بوسائل أخرى”، تحمل استعارة واضحة، إذ إنه بها  ينظر إلى السياسة كصفقة تجارية، تحتمل الربح والخسارة، وبذا يمكن تبريرها وفق شروط المنفعة، وليس طبقًا لأي مبدأ أخلاقي. وعبارة غارقة في المجاز مثل “الجيوش تزحف على بطونها” التي أطلقها نابليون بونابرت، حكمت بعض العقائد والاستراتيجيات العسكرية زمنًا، رغم أن هذا القول قد يبدو صحيحًا من ناحية ما يتعلق بالإمداد والتموين أثناء الحرب، لكن القوات المسلحة تحتاج إلى ما هو أكثر وأبعد من القوت كي تبدأ وتواصل عملياتها، وفي مطلع هذا “القوام الفكري” الذي يخاطب العقل، وليس الوجدان أو الجسد، أي “العقيدة العسكرية”.([1])

في الحقيقة ليست الاستعارة وحدها التي تُستخدم في مجال الحرب، إنما حيل وتقنيات بلاغية أخرى، فعلى سبيل المثال قام توين فان دايك في كتابه “الخطاب والسلطة” بتحليل الاستراتيجيات البلاغية الكلاسيكية في الخطاب السياسي لرئيس الوزراء الإسباني أزنار الذي برر فيه اشتراك بلاده في الحرب على العراق عام 2003، وأراد حشد الدعم الجماهيري لشرعية قراره، الذي كان يواجه وقتها بمعارضة ملموسة. وقد قام أزنار في خطابه هذا بتقديم النفس إيجابيًا، وتقديم الآخر سلبيًا، إلى جانب عدد من الخدع والتقنيات المألوفة، كتوظيف الأرقام والحقائق، وسياسة إجماع الرأي، وأسلوب الموازنات، ومفاهيم الضرورة، وآليات التبرير، لربط الفعل السياسي بالحدث السياسي، وتضمين معارف سياسية في خدمة الواقع الجاري.([2])

لكن الاستعارة كانت حاضرة بشدة في الخطاب الرسمي الأمريكي الذي برر الحرب على العراق، في سياق “الحرب على الإرهاب” ليبرز خطاب “القاعدة” في وجه الخطاب الأمريكي، وينقسم الخطابان المتصارعان إلى “خيِّر” و”شرير” أو “بطل” و”وغد”، وفي كل رواية للطرفين كان هناك دومًا بطل وجريمة، وضحية وشرير، ففي حكاية الدفاع عن النفس، يمثل البطل والضحية شيئًا واحدًا، وتقدم الولايات المتحدة نفسها إلى الآخرين على أنها الدولة المعنية بالأساس بمحاربة الإرهاب. أما الشرير، فإنه في الحكايتين معًا نذل دائمًا وغير عاقل، ولذا لا يمكن للبطل (الأمريكي) أن يتفاهم مع الشرير (العربي)، بل عليه أن يحاربه ويهزمه هزيمة منكرة، أو يقتله وينهي وجوده.

ولم يكن هذا مختلف عن الخطاب الغربي الذي ساد طيلة الحرب الباردة، والذي قسم الأشياء إلى “أبيض” و”أسود” ولم ير ما بين اللونين من درجات عديدة، وانعكس هذا على الحرب الفيتنامية، حيث كان يتم تصوير الفيتناميين عادة باعتبارهم ساديين وروبوتات وشيوعيين بلا قلب، لا يحترمون الحياة الإنسانية، وهي استعارات مزيفة تخفي حقائق أن الفيتناميين كانوا بشرًا عاديين، تحدوهم مشاعر الحب والكره، والأمل واليأس، شأنهم شأن سائر البشر.([3])

هنا تحدث الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن قبيل الحرب على العراق عن “ضرورة إخراج الإرهابيين من جحورهم”، ليجعل صورة “الشر” الذي تجب محاربته بكل الطرق، تستقر في أذهان الشعب الأمريكي، بل في أذهان الكثيرين في العالم، ممن آمنوا وقتها بأن التقاعس عن محاربة الشر عمل غير أخلاقي، وأن استعمال كل الوسائل في الحرب على الأشرار مباحة، وهي مسألة متعارف عليها في الحروب، وفق المقولة ذائعة الصيت: “في الحب والحرب كل شيء مباح”.

وهنا استعمل الأمريكيون قاعدة استعارية تقوم على “التماثل” حيث تمت مقارنة القاعدة، كتنظيم إرهابي يرتب جرائم بشعة، بما يُقدم صدام حسين على فعله، وظهرت مقالات وتصريحات تتحدث عن علاقة الديكتاتور العراقي بالإرهاب، أو استعداد الإرهابيين للرحيل إلى العراق ليتخذوا منه أرضًا لقتال الغرب، أو احتمال أن يمدهم صدام بسلاح غير تقليدي يصلون به إلى الولايات المتحدة ([4])، وهنا تم استعمال استعارة تمثيلية أخرى، حيث أصبح الإرهابيون بديلاً لصواريخ بعيدة المدى لا يمتلكها صدام.

وبرز في هذا المضمار كتاب جورج لايكوف “حرب الخليج أو الاستعارات التي تقتل” ([5])، الذي يؤكد في مستهله أننا نمضي في الحياة مكللين بالاستعارة عطفًا على كتابه الآخر “الاستعارات التي نحيا بها”. فالاستعارة في حرب الخليج  تم استعمالها لبناء استدلال على تسويغ الهجوم على العراق، وفي إخفاء الوجه البشع للحرب، حين تعبث بمصائر الشعوب والدول.

لقد دخلت الولايات المتحدة الحرب مدججة بـ “ترسانة استعارية”، استعملت عبارات من قبيل “إعادة ترتيب المنطقة” و”الحرية للعراق” و”كسر الطاغية” وسط خطاب ينظر إلى السياسة بشكل عام على أنها “صفقة”، لا يتم التفكير فيها إلا من خلال منطق الربح والخسارة الاقتصادية، فهذه حرب مربحة، ومهما تكلفت فعوائدها مضمونة. هنا تنزاح كل الفظائع من أمام عيون الرأي العام، لتبقى الحسبة التجارية الباردة، بكل إغراءاتها، ويبقى أيضًا الوعد الذي تجلى في تأكيد بوش أن الحرب تؤذن بميلاد نظام عالمي جديد، وشراكة بين الأمم ([6])، وتبقى ضآلة التكلفة في الأرواح مقارنة بحرب فيتنام، والتي جعلت بوش يصنع استعارة جديدة بعد سقوط بغداد بقوله: “لقد تخلصنا من متلازمة فيتنام” ([7])، وجعلت خبراء استفادوا مما جرى في المعركة ينتجون استعارة أخرى حين وجدوا أنه من المفيد للجيش الأمريكي أن يعرف أكثر عن شعوب الدول التي يريد غزوها، وهي “نظام التضاريس الإنسانية”، لأن بعض الحروب جوهرها ثقافي ([8])، أو أن الثقافة تكون أحيانًا أهم عنصر فيها، وركيزة لها.

وفي ركاب هذه الحرب تم استعمال حادث نسف برجي مبنى التجارة العالمي في نيويورك يوم 11 سبتمبر 2001، في حشد استعارات متوالية نظرت إلى البنايات على أنها رؤوس، والمجتمع على أنه بناية، والأمن احتواء، والأمة شخص، ليتم تصوير العراق على أنه “صدام حسين”، وطالما أنه شرير فبلده شرير بالطبع.

ويعطف لاكوف على هذه الحرب ليبين كيف يتبارى السياسيون في استخدام الاستعارة لتزييف الوعي، وقلب الحقائق، وتمرير الجرائم والقتل والإبادة، وبذا فإن الاستعارة تقتل بدم بارد، تقتل تحت أغطية من العبارات المستعارة التي تحيل القتل إلى تحرير، والدمار إلى بناء، وهي مسألة طالما تكررت في التاريخ الإنساني كحيلة من السياسيين كي يبرروا فظائعهم، إذ لا يمكن لأي منهم أن يعترف بأنه ذاهب ليغزو ويقتل ويدمر ويحتل، وأنه سيصحب معه الألم والموت وتقطيع الأوصال والتشريد والظلم والقهر، إنما من الطبيعي أن يغلف فعلته هذه بخطاب إنساني يزعم فيه أنه فاتح، ومنتصر للحق، وساعٍِ إلى الخير، ورسول للحرية، وتمدين الشعوب الهمجية، أو الأخذ بيد الدول المتخلفة إلى التقدم، وقد توسعت الإمبراطوريات في كل الأزمنة وفق هذا المنطق، وأنتجت استعارات تواكب زحف جيوشها إلى مختلف البلاد.([9])

ولم تسلم الكتب المقدسة نفسها من توظيف بلاغتها، في تأويلات فاسدة، لتبرير القتال، وهي مسألة إن كانت ظاهرة بشدة في أدبيات الجماعات والتنظيمات الإسلامية المتطرفة والعنيفة والإرهابية، فإننا نراها حاضرة بقوة في “الحروب الصليبية”، وفي توظيف “الكتاب المقدس” لتبرير الاستعمار، بل تبرير العذاب الأليم الدائم والمقيم لشعوب بأكملها، بل وحتى إبادتها أحيانًا.([10])

ولا تقتصر الاستعارة في مجال الحرب على العبارات، إنما تمتد إلى الصور والرموز، فتنظيما “القاعدة” و”داعش”، اتخذا “راية سوداء” تسبق مقاتليهم في المعارك التي يخوضونها، زاعمين بأن راية الرسول محمد كانت “سوداء”، ثم ظهر تنظيم في العراق مثلاً، بعد انكسار داعش هنا، يحمل “راية بيضاء” يتوسطها رسم لأسد. وكان الفرنجة يرفعون “الصليب” أثناء زحفهم الاستعماري على الشرق، بعد أن وظفوا استعارات لفظية حاشدة صورت العرب والمسلمين على أنهم “برابرة” و”كفرة” بينما هم كانوا “المخلصين” و”المؤمنين”، وقد جاء بوش الابن ليستعمل لفظ “البرابرة” قبيل الهجوم الأمريكي على أفغانستان في أكتوبر من عام 2001، قاصدًا بهم حركة طالبان والقاعدة، ووقتها عاد البعض إلى استعارة نبوءة نوسترادموس الشهيرة التي توقع فيها حدث 11 سبتمبر والحرب التي تقوم بسببه، والتي قال فيها: “نار في مركز الأرض سوق. تتناطح صخرتان عظيمتان. وتسيل أنهار من الدماء، وينهزم البرابرة”.

ويكون المتصارعون في الحروب بحاجة ماسة إلى المجاز، ليس فقط في الدعاية أثناء المعركة، حيث اللغة ذات الجرس والإيقاع المدوي، الذي لابد أن يجاري دقات طبول الحرب، إنما أيضًا في الادعاءات التي تعقب توقف القتال، ويبدأ كل طرف في رواية ما جرى من وجهة نظره، التي تخدم مصالحه، ويسعى إلى إقناع الشعب بها، وتسجيلها في كتب التاريخ.

ولعل الشاعر الكبير محمود درويش قد تمكن من التعبير عن هذه الحالة في روعة وإيجاز حين قال:

“مجازًا أقول: انتصرت

ومجازًا أقول: خسرت

ويمتد واد سحيق أمامي

وأمتد في ما تبقى من السنديان

وثمة زيتونتان

تلمانني من جهات ثلاث

ويحملني طائران

إلى الجهة الخالية

من الأوج والهاوية

لئلا أقول: انكسرت

لئلا أقول: خسرت الرهان”.([11])

ويمتد حضور المجاز في الحروب إلى مساحات يندلع فيها قتال من نوع جديد، ليس حول وصف ما جرى، إنما في صياغة المصطلحات والتعبيرات المجازية، التي لا تلبث أن يذيع صيتها، ويرسخ وجودها، ويرددها الناس كمسلمة لا تقبل النقاش ولا الجدل.

فنحن مثلاً حين نسمع كلمة “حرب” في زماننا هذا فإن أول صورة ترتسم في الذهن هي انطلاق نيران كثيفة من مختلف أسلحة القوات البرية والبحرية والجوية. ومثل هذه النار لا يمكن أن تكون باردة، إلا على سبيل المجاز. لكن نظرًا لأن اندلاع مواجهة مباشرة بين القطبيين العالميين آنذاك الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي المنهار صار ضعيف الاحتمال، في ظل رفض الشعوب الغربية لحرب أخرى بعد حربين عالميتين مدمرتين، ومع نتاج سباق التسلح الرهيب بين القوتين العظميين الذي وصل إلى مستوى “الردع” المتبادل، فقد ساد ارتياح لصك الغرب مصطلح “الحرب الباردة”، وتداولته الأغلبية الساحقة من الساسة التنفيذيين والدبلوماسيين والباحثين والكتاب في مختلف أنحاء العالم على أنه مسلمة، لا تقبل الجدل والنقاش، أو أن كثيرا منهم لم يفكروا أصلاً في مراجعته.

فبينما أدارت واشنطن وموسكو حروبا بالوكالة، ومناطحة قوية بين أجهزة المخابرات، وصراعًا أيديولوجيًا حادًا بين الليبرالية والشيوعية، كانت الحركة الدبلوماسية الدائمة، ومحادثات التسلح، والخطابات المتبادلة التي تتسم بها العلاقات المباشرة بين الشرق والغرب، توحي كلها بأن هناك ارتياحًا لإضافة كلمة “الباردة” إلى “الحرب”، ولكل ما يرتبط بها من مفردات مثل “جليد” و”ذوبان” و”برود” و”صقيع” .. إلخ، وجميعها استعارات مستقاة من أحوال المناخ والطقس إلى السياسة الدولية في أعلى صورها، كان بوسعها أن تلفت الانتباه إلى جمود العلاقات بين القوى الكبرى، وهي وافقت رغبة الغرب في هذه اللحظة.

لكن هذا المجاز له جذور أبعد قليلاً من اللحظة التاريخية التي رسخ فيها المصطلح، فالأديب الشهير جورج أورويل أتى على ذكره في مقال نشره عام 1945 تحت عنوان “أنت والقنبلة الذرية”، ليطرح نبوءة أخرى تضاف إلى تلك التي وردت في روايته ذائعة الصيت “1984”، يرى فيها أن حصول قوتين أو ثلاث على أسلحة ذرية سيكرس الاستبداد السياسي، وإصابة الشؤون الدولية بشلل، حيث ستصبح الهزيمة مستعصية على أي من هذه القوى، ومن ثم تدخل في حرب باردة طويلة. كما ذكره عام 1947 برنارد باروخ ممثل الولايات المتحدة في لجنة الطاقة الذرية.

وهناك من يرى أن المصطلح قد صكه الصحفي الأمريكي إتش. بي. سووب ودعمه والتر ليبمان، واصفًا به حالة “اللاحرب” و”اللاسلم” التي استمرت بين القطبين المتناطحين، وقد تجنب كل منهما الصدام المسلح المباشر، مثلما تم اختباره في أزمة كوبا 1962 والحرب العربية-الإسرائيلية 1973، وأدار كل منهما العداء بطريقة مختلفة، منها سباق التسلح، ونشر الأيديولوجيات المتصارعة.

ويقلب جون لويس جاديس المصلح نازعًا عنه مجازيته وكل ما تحمله من دلالات، ليرى أن الفترة التي تراوحت بين نهاية الحرب العالمية الثانية وسقوط حائط برلين ليست حربًا باردة إنما هي “سلام طويل”. لكن هناك من أصاب هذا المجاز في مقتل، إذ إن ما دار بين القوتين العظميين لم يحمل أي برودة، إنما سخونة دائمة، انتقلت من المركز إلى الأطراف، ومن الأطراف الأصيلة أو الأصلية إلى الوكلاء. ففي إطار رعاية الاتحاد السوفيتي للأنظمة اليسارية عبر العالم، ومقاومة الولايات المتحدة لتمدد الشيوعية، سقط أكثر من عشرين مليون في حروب دارت رحاها في كوريا ولاوس وكمبوديا وفيتنام وأفغانستان، وفي الصومال وأثيوبيا وأنجولا وغيرها، وفي الانقلابات العسكرية التي وقعت بقارة أمريكا اللاتينية وحملت إلى السلطة نظم حكم دموية تلقت دعمًا ماليًا وعسكريًا من الولايات المتحدة، وكذلك في حوادث الحدود أو خطوط التماس الجغرافي بين المعسكرين المتناطحين، وجراء السجون والمعتقلات في أوروبا الشرقية، وفي الغزو السوفيتي للمجر وتشيكوسلوفاكيا، وفي ركاب كل هذا العدد من الموتى، تم تدمير البيئة وانتشار الأوبئة وانتهاك حقوق الإنسان بشكل صارخ.

وبذا يكون وصف الصراع العالمي على مدار نحو أربعة عقود ونصف بأنه “بارد” هو مجاز خادع، ساهم في تزييف الوعي، وينطوي على نوع من القصور الذاتي وفقدان التوازن، علاوة على أنه يساهم في تكريس نزعة المركزية الأوروبية التي تحدد وفق أحوالها ومصالحها وتقدير الغرب فقط ما إذا كان الوضع العالمي باردًا أم ساخنًا، علاوة على أنه مجاز فاضح لنوايا الغرب أو فهمه للآخر، ومدى عدم تعاطفه مع أحواله، وعدم إدراكه لمصالحه، واحترام حق شعوبه في السلام. فكل هذه الملايين التي سقطت خلال خمسة وأربعين سنة، وكل هذا الدمار والخراب والتشريد والتهجير والتعذيب وتشييد تلال من الجماجم، لم يره أولئك الذين اعتبروا تلك الفترة أطول فترة سلام شهدها العالم منذ بسمارك، واصفين هذه الحروب التي انتقلت من أوروبا وأمريكا إلى قارات ثلاث هي: أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، بأنها نزاعات دارت في المناطق الطرفية من العالم، وأن ما يستحق أن يُطلق عليه حرب هو ما يقع من قتال بين القوى الكبرى.([12])

وفي ركاب هذا التصور أو الاتجاه السياسي والفكري “كان التلاعب باللغة والصور في المجال العام سببًا رئيسيًا في ذلك التشكك الذي يراه كثيرون ملمحًا محددًا لثقافة الحرب الباردة، مع أعمال الدعاية المستمرة ومناخ التجسس السائد والاستخبارات  المضادة والتآمر الدولي، ولم يكن هناك سوى القليل من الحقيقة التي يمكن أن يؤسس عليها المرء اقتناعاته الأيديولوجية”.([13])

وإمعانًا في تكريس المجاز الغربي حول “الحرب الباردة” تم تجاهل الغرب للآداب والفنون التي عبرت عن الصراعات المسلحة والمنافسات السياسية الحادة والتطاحن الاجتماعي الذي ساد في دول خارج أوروبا وأمريكا، والتي أنتجها أدباء عالمثالثيون تفاعلت مضامينها مع البنى السياسية والعسكرية والفكرية والثقافية واللغوية والدبلوماسية لتلك الفترة، ويخلص من يطلع عليها إلى أن فترة “الحرب الباردة” كانت ساخنة بمعايير دول ومجتمعات غير غربية.

إن ما في الحرب من قسر وإجبار وإرغام وعنف انتقل في العقل الأوروبي مجازًا من ميادين القتال الموزعة على خرائط العالم غير الغربي إلى عالم اللغة، الذي يمكن فيه أن يمارس عنفًا من نوع آخر، فتم فرض اصطلاح “الحرب الباردة”، ونسجت حوله عبارات كانت ترجمة لنيات وحسابات وإدعاءات ومزاعم، لا تساق من فراغ إنما لتحقيق أهداف محددة، استقرت في يقين الغرب بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، وفرضها على الجميع، مثلما فرضت الولايات المتحدة بعد انهيار غريمها الأول الاتحاد السوفيتي مصطلح “النظام الدولي الجديد”. ومع أن المصطلحات ربما تكون قد تغيرت من “التدخل الحميد” إلى “تغيير النظام”، ومن “الخطر الأحمر” إلى “الرعب الكوني” فإن المشهد السياسي ظل على حاله، متمثلاً في قوة تسعى إلى الهيمنة وعالم يتمرد بعضه على الوضع السائد ويقاومه.

يبقى المجاز الذي لم يسع من صكوه إلى مخاتلة أو خداع وكان من نتاج ما تسمى “الحرب الباردة” هو “سباق التسلح”، الذي ظهر في سياق التنافس بين بريطانيا وألمانيا في الفترة من 1900 إلى 1914، هو الذي قاد إلى اندلاع الحرب العالمية الأولى. وذاع صيت المصطلح حين كان الصراع على التفوق في تصنيع واقتناء السلاح بين موسكو وواشنطن على أشده. وكلمة سباق مجازية تعني أن التقدم في حيازة السلاح من قبل طرف يقابله مسارعة من الطرف الآخر لحيازة أسلحة أكثر كي يسبقه، وولدت في ركابها مجازات أخرى مثل تعبير “حرب النجوم” الذي أطلقه الرئيس الأمريكي رونالد ريجان، ووصفه بأنه أوسع وأعلى من أن يبلغه الروس أو يتجاوزوه.


([1]) بيرت تشابمان، “العقيدة العسكرية: دليل مرجعي”، ترجمة: طلعت الشايب، القاهرة، المركز القومي للترجمة، 2014، الطبعة الأولى، ص11.

([2]) لمزيد من التفاصيل انظر: توين فان دايك، “الخطاب والسلطة”، ترجمة غيداء العلي، مراجعة تقديم عماد عبد اللطيف، القاهرة، المركز القومي للترجمة، 2014، الطبعة الأولى، ص383.

([3]) دانا هيلي، “الشعر والسياسة والحرب: تمثيلات الحرب الأمريكية في الشعر الفيتنامي”، في: أندرو هاموند (محرر)، “أدب الحرب الباردة: كتابة الصراع الكوني”، ترجمة طلعت الشايب، القاهرة، المركز القومي للترجمة، 2015، الطبعة الأولى، ص264.

([4]) جون ستون، “الاستراتيجية العسكرية: سياسة وأسلوب الحرب”، ترجمة مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، أبو ظبي، 2014، ص167.

([5]) جورج لايكوف، “حرب الخليج أو الاستعارات التي تقتل”، ترجمة عبد المجيد جحفة وعبد الإله سليم، دار الرباط، دار توبقال للنشر، 2005، الطبعة الأولى.

([6]) كريستوفر كوكر، “الحرب في عصر المخاطر”، ترجمة مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، أبو ظبي، 2011، الطبعة الأولى، ص28.

([7]) جون ستون، مرجع سابق، ص148.

([8]) المرجع السابق، ص171-174.

([9]) لمزيد من التفاصيل، انظر: هيرفريد مونكلر، “الإمبراطوريات: منطق الهيمنة العالمية من روما القديمة إلى الولايات المتحدة الأمريكية”، ترجمة مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، أبو ظبي، 2008، الطبعة الأولى.

([10]) القس مايكل بريور، “الكتاب المقدس والاستعمار”، ترجمة وفاء بجاوي، مراجعة أحمد الشيخ، القاهرة، مكتبة الشروق الدولية، 2006، الطبعة الأولى، ص16 و 17.

([11]) محمود درويش، “أثر الفراشة”، بيروت، رياض الريس للكتب والنشر، 2008، الطبعة الأولى، ص38.

([12]) أندرو هاموند (محرر) “أدب الحرب الباردة: كتابة الصراع الكوني”، ترجمة طلعت الشايب، القاهرة، المركز القومي للترجمة، 2014، الطبعة العربية الأولى، ص9-19.

([13]) المرجع السابق، ص19 و20.

اظهر المزيد

د. عمار على حسن

روائي وباحث في علم الاجتماع السياسي - القاهرة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى