2021العدد 186ملف إقليمي

المحاولات التركية للتقارب مع الدول العربية استراتيجية أم ظرفية؟

أحدث وصول جو بايدن إلى البيت الأبيض صدمة في تركيا لا يُخفي مسؤولوها آثارها على الوضع في تركيا وعلى العلاقات التركية- الأمريكية، فتركيا كانت تأمل أن ينتصر الرئيس السابق “دونالد ترامب”؛  لتستمر العلاقات بين الطرفين جيدة كما كانت في السنوات الأخيرة من حكم ترامب.

وعلى الرغم من بعض الخلافات فقد أمكن لأنقرة و واشنطن تجاوزها نتيجة اعتقاد ترامب الراسخ بأنَّ الولايات المتحدة يجب ألَّا تخسر تركيا؛ وليُظهر الرئيس الأمريكي- الذي دخل في خصومات مع معظم رؤساء العالم- أنَّ هناك من يعقد معه الاتفاقيات والصفقات الرابحة مثل الرئيس التركي “رجب طيب إردوغان”، ولعل الإنجاز الأهم لتركيا في عهد ترامب هو انتزاع موافقة ترامب على دخول الجيش التركي إلى منطقة شرق الفرات بموجب عملية )نبع السلام(، واحتلال الشريط الممتد من تل أبيض إلى رأس العين بعمق ثلاثين كيلومترًا قابلة للتمدد وهي التي كانت تسيطر عليها قوات الحماية الكردية وذلك في الشهر العاشر من العالم 2019 م.

في تلك الفترة كان جو بايدن ،كمرشح محتمل للحزب الديموقراطي، يُدلي بتصريحات أقل ما فيها أنَّها كانت استفزازية لأردوغان حيث توعد- في حال فوزه بالرئاسة- بإسقاط إردوغان من السلطة مستدركًا بالقول في انتخابات ديموقراطية، ولم يعرف عن المسؤولين في الحزب الديموقراطي أيّة تصريحات  قريبة من أردوغان، لذا عندما فاز بايدن بالرئاسة كان أردوغان متوجسًا من نواياه قلقًا.

وكانت هذه النوايا في محلها، حيث تأخر بايدن في التواصل مع أردوغان إلى أن دَعاه للمشاركة في قمة المناخ الافتراضية في واشنطن في 22 نيسان/إبريل الفائت.

توالت تصريحات وزير الخارجية الأمريكي الجديد “أنطوني بلينكين” التي تبدي الانزعاج من صفقة صواريخ (أس 400) بين تركيا وروسيا داعية أنقرة إلى التخلي عن الصفقة أو على الأقل تجميدها.

وفي الأشهر الأخيرة من العام 2020 م كانت تركيا تدخل في توترات متنقلة مع معظم دول الحوض الشرقي للبحر المتوسط، وكانت ترسل سفنها للتنقيب عن النفط والغاز في مناطق يعتبرها الاتحاد الأوروبي مناطق تابعة لسيادة دول أوروبية عضوة في الاتحاد وكانت بالتحديد (اليونان وقبرص اليونانية)، وكادت صدامات عسكرية تعقب هذه التوترات لولا تدخلات وتهديدات من هنا وهناك.

ولما كان بايدن يتقدم إلى منبر البيت الأبيض أدركت تركيا أن عهد الغزل الأردوغاني – الترامبي قد انتهى، وأنَّها أمام تحديدات جديدة وجَدِّية هذه المرة، بل حتى لم يسبق لرئيس أمريكي أن يتأخر في الاتصال الجدي بأردوغان مثلما فعل بايدن الذي كان كذلك بعد الرئيس رونالد ريغان عام 1981م أول رئيس أمريكي يعترف في 24 نيسان/إبريل 2021 م -بأنَّ ما حصل في العام 1915 م من مجازر ضد الأرمن هو “إبادة جماعية”، ويستخدم اسم “قسطنطين بوليس” بدلًا من الاسم الفعلي للمدينة عام 1915 م وهو إسطنبول.

وفي الوقت نفسه كانت التطورات في بعض المناطق والساحات -التي لتركيا نفوذ فيها- تقلق  القيادة في أنقرة ومن ذلك التطورات في ليبيا حيث رضخت الأطراف الليبية وبضغوط أوروبية ومصرية للتوصل إلى اتفاقيات؛ لتشكيل سلطات جديدة على مستوى المجلس الرئاسي والحكومة، وبدت التطورات كما لو أنَّها تنتزع من يد تركيا المبادرة حيث اجتمعت الأطراف في جنيف من دون رعاية أو تشجيع تركيا وتم تشكيل المجلس الرئاسي والحكومة الجديدة، وعلى الرغم من أنَّ رئيس الحكومة الجديد “عبد الحميد دبيبو” يميل إلى جهة أنقرة لكن تركيا فقدت إلى حد ما أوراقًا سابقة ومؤثرة مثل “فايز السراج”، كما  مواكبة المفاوضات في جنيف وهي من المسائل التي تعكس تراجعًا في الدور التركي في ليبيا، ومن ثم جاءت تصريحات اللواء خليفة حفتر ومسؤولين أوروبيين “إنَّ اتفاقيات المرحلة الجديدة تلحظ سحب القوات الأجنبية من البلاد والمقصود هنا تحديدًا القوات التركية ومرتزقتها؛ لتراكم عناصر الدفع المطالبة بخروج تركيا من ليبيا”.

ومن بعد الضغط الأمريكي فإنَّ التحذيرات الأوروبية كانت كبيرة؛ لكي تعيد تركيا النظر في حساباتها الإقليمية، ولا حاجة للتذكير بأنَّ التدخل التركي في سوريا والعراق لا يحظى بعين الرضا من السلطات المركزية في دمشق وبغداد، وإذا أضفنا الخلافات والتوترات مع مصر والسعودية، وعدم فتح صفحة جديدة حتى الآن مع إسرائيل والخطوات الاستفزازية لأردوغان بتحويل “آيا صوفيا” إلى جامع ، فإنَّ كل العوامل تجتمع لتضع تركيا في موقع حرج لا يحسدها عليه أحد.

لذلك كانت الخطوات التركية المتتالية تؤشر إلى محاولة انتهاج تكتيكات جديدة تخفف عبء الضغوط عن تركيا وتعمل على مواجهة الخصوم بطريقة مرنة.

وكان في بداية هذه الخطوات (غير المباشرة) المصالحة التي عقدت في الخامس من كانون الثاني /يناير 2021 م في الرياض بين أمير قطر وولي العهد الأمير “محمد بن سلمان”، الذي استقبل الأمير تميم شخصيًّا في المطار، وقد أعلنت المصالحة عن عودة العلاقات بين قطر والسعودية ودول الخليج الأخرى ومنها مصر، التي كانت فرضت حصارًا على قطر.

ولا شك أنَّ تطبيع العلاقات بين دول الخليج ومصر وبين قطر يساعد على فتح نوافذ اتصال بين حليفة قطر )تركيا( وبين الدول الخليجية.

ثُمَّ بدت رغبة تركيا في تخفيف التوتر مع الجيران في سحب سفنها من مناطق التنقيب المتنازع عليها أولًا ومن ثَمَّ عقد لقاء أول في إسطنبول في 25 كانون الثاني/ يناير  2021 م بعد انقطاع عدة سنوات مع أثينا؛  لبحث نقاط الخلاف المشتركة، وقد قُوبِلَ الاجتماع “الاستكشافي” بترحيب دوليِّ وأمريكي  وهذا دفع بالاتحاد الأوروبي في قمته في آخر آذار/ مارس لتأجيل حزمة عقوبات على تركيا إلى شهر حزيران/يونيو مع احتمال تكرار التأجيل المقبل.

كذلك بدا عدم محاولة تركيا عرقلة المفاوضات في ليبيا -على أنَّه رسالة إيجابية للأطراف المعنية وفي مقدمتها مصر والإمارات، علمًا بأنَّ الوضع في ليبيا لا يعكس بَعد موقف ليبيا النهائي من العلاقة مع تركيا رغم استقبال أردوغان لـ” دبيبو” في أنقرة في 12 نيسان / إبريل 2021 م، وتعبير إردوغان عن رضاه التام عن  تطور العلاقات مع ليبيا.

في هذه اللحظة بالذات كانت مصر تعلن طرح إحالة تلزيم التنقيب عن النفط والغاز على الشركات وذلك في منطقة محاذية للمنطقة التي كانت تركيا قد رسمتها سابقًا وتعتبرها منطقة بحرية تركية خالصة، وهو إجراء اعتبرته أنقرة احترامًا من مصر للخريطة التركية واعترافًا بها.

لا شك أنَّ الخطوة المصرية في شرق المتوسط أثارت ارتياح تركيا الكامل، فعبَّر مسؤولوها بما لا يخفي سرورهم بالخطوة المصرية، وبدا كما لو أنَّ الأتراك كانوا ينتظرون هذه الخطوة بعد المصالحة الخليجية .

فالرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” أكدَّ أنَّ اللقاءات قائمة على قدم وساق اقتصاديًّا وسياسيًّا واستخباراتيًّا، وقال بعد خروجه من صلاة جمعة في إسطنبول في مطلع آذار/مارس 2021 م: ” إنَّه لا يوجد داع للقلق وهي ليست على أعلى مستوى ولكنها متواصلة”. وقال: “أملنا أن تتواصل بصورة قوية جدًا هذه العملية مع مصر، والشعب المصري ليس منفصلًا عن الشعب التركي، وليس واردًا أن يقف الشعب المصري إلى جانب اليونان، ونريد أن نراه في المكان الذي يجب أن يكون فيه”. وفي التصريح نفسه أعرب أردوغان عن أسفه لمشاركة السعودية في مناورات مع اليونان و”لم نكن نريد أن نرى السعودية في هذا الموقف ولم يكن يتوجب أن يحصل ذلك”.

وقبله كان وزير الخارجية التركية “مولود تشاووش أوغلو” يقول :”إنَّ الحدود القارية الأطول في شرق المتوسط هي بين مصر وتركيا ولذلك نحن مستعدون للتباحث لتحديد المناطق المنحصرة البحرية غدًا، ويمكن لنا أن نُوَّقِع اتفاقية بهذا الخصوص”.  وأضاف: ” إنَّ مصر تحترم جرفنا القاري الجنوبي ونقابل ذلك بإيجابية”.

 وأضاف: ” إنَّ إعادة بناء العلاقات بين تركيا ومصر منذ العام 2013 وحتى اليوم ستأخذ بعض الوقت”. وحول السعودية يقول تشاووش أوغلو: ” إنَّه ليس من سبب لعدم تصحيح العلاقات بين البلدين، وفي حال بادرت السعودية لخطوة إيجابية سنبادلها بالمثل، والأمر نفسه بالنسبة للإمارات العربية المتحدة”.

وانضم وزير الدفاع “خلوصي آقار” إلى المدافعين عن التقارب التركي– المصري بالقول: ” إنَّ هذا التقارب والتطورات الأخيرة تصب لمصلحة المنطقة والبلدين معًا، وهي خطوة مهمة للسلم الإقليمي”. وأكدَّ على: “أنَّ إحالة مصر التنقيب عن الطاقة في منطقة تحترم الحدود البحرية التي رسمتها تركيا في المتوسط تليق بالروابط الثقافية والتاريخية بين البلدين”.

كما صرَّح الناطق باسم الرئاسة “إبراهيم قالين” قائلًا:” إنَّنا أمسكنا بلحظة بنَّاءة جدًا،والخطوات بين البلدين تفتح صفحة جديدة والعلاقات ستُحرز تقدمًا”. وأضاف في حديث لوكالة”بلومبرغ” إنَّه: “إذا أقدم البلدان على خطوات متبادلة، فإنَّ مثل هذه الشراكة سوف تخفض التوتر في المنطقة وتساعد على الاستقرار في شمال أفريقيا وشرق المتوسط”.

وتبرز في هذا الاطار التصريحات أو المواقف التي يدلي بها مقربون جدًا من أردوغان وحزبه الحاكم وفي مقدمتهم الباحث الاستراتيجي “برهان الدين دوران” الذي يعلق أهمية بارزة  على التقارب التركي- المصري فيقول: ” إنَّ الجميع الآن يعيدون النظر في حساباتهم، وإنَّ تصريح وزير الخارجية “تشاووش أوغلو” عن بدء اللقاءات الديبلوماسية يؤشر إلى وضع خارطة طريق للمحادثات”. وقال: ” إنَّه من الواضح أنَّ تركيا بصدد توقيع اتفاقية ترسيم للحدود البحرية مع مصر ومن الواضح أنَّ اليونان سوف تتخلى عن مطامعها المتطرفة بهذا الصدد، والتي تتعارض مع مصالح كل من (تركيا وليبيا ومصر وإسرائيل ولبنان وفلسطين)”. وقال: ” إنَّ بدء الاتصالات الدبلوماسية مهم بالنسبة لمصر، ومصر بحاجة إلى نجاحات في السياسة الخارجية في ظل الانهيار الاقتصادي والقلق على مياه النيل”.

ورأى دوران أنَّ تطبيع العلاقات مع مصر يفتح صفحة جديدة من علاقات تركيا مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ، وتركيا بصدد ترميم علاقاتها مع السعودية والإمارات العربية المتحدة وإسرائيل، ولكن دوران يقول: ” إنَّ التقييم الاستراتيجي لا يقول بتخلي تركيا عن “السياسات الخاطئة” بل بتقوية وتثبيت المكاسب التي حصلتها طيلة أربع سنوات في سوريا وليبيا وشرق المتوسط، وربما في قره باغ أيضًا، ويمكن استخدام هذه المكاسب في عملية استغلال الفرص المتاحة إقليميًّا ودوليًّا، وفي السؤال حول لماذا لم تقدم تركيا على هذه الخطوات قبل الآن؟ فإنَّ الجواب هو: أنَّ هذه الدول لم تكن مستعدة لذلك، ومن الطبيعي أن ترمم العلاقات في اللحظة المناسبة، فالتوجه لتطبيع العلاقات في عهد ترامب بين إسرائيل ومصر والسعودية والإمارات كان يحول دون ذلك، ومع ذهاب ترامب انقسم الخليج على نفسه وبدت إيران أكثر وُثُوقًا بنفسها وحلفائها وهو ما أظهر أنَّ التحالف الإسرائيلي العربي ليس كافيًا أو مهيِّأً لدحر إيران ووكلائها، وهو ما فعله “سيرغي لافروف” من خلال محاولة استغلال نقاط الضعف التي همّشت دول الخليج. أمَّا إسرائيل فقد وجدت أنَّ الضرورة الاقتصادية تقتضي التعاون مع تركيا بل حتى ضمَّها إلى منتدى شرق المتوسط.

تبدو العلاقات التركية- المصرية “بيضة القبان” في الانفتاح التركي المفترض على دول المنطقة، والاستفادة التركية من هذا الانفتاح ستكون كبيرة جدًا وتطال موضوعات مختلفة.

لكنَّ المحادثات بين الطرفين، التي بدأت سياسيًّا على مستوى مساعدي وزيري الخارجية في مطلع أيار/مايو 2021 م، تسير حتى الآن ببطءٍ شديد نتيجة أكثر من عامل دون أن يعني فشلها أو وقفها.

العامل الأول هو الموقف التركي من نشاطات الإخوان المسلمين السياسية والإعلامية على أرضها وهل ستكون في وارد تجميده أو منعه أو عدم المس به نظرًا لأهميته على صعيد العلاقة التركية مع الشارع العربي؟!.

والثاني هو الموقف من حكم الرئيس المصري “عبدالفتاح السيسي” وهل ستتخلى تركيا عن اعتباره انقلابيًّا أم لا؟!.

والثالث هو مدى قبول أنقرة بالمطالب المصرية وغير المصرية لسحب القوات التركية من ليبيا.

 والرابع هو مدى قبول تركيا بتغيير الاتفاقية البحرية مع ليبيا بما يخدم التقارب المصري- اليوناني، وحتى لا تخرج مصر من مشكلة مع تركيا وتدخل في مشكلة أخرى مع اليونان.

والعامل الخامس ولعله الأوسع هو مدى التنسيق المصري مع دول الخليج الحليفة مثل السعودية والإمارات في عملية التقارب مع تركيا وهل هذه الخطة جديدة أم لا، أم دونها شروط وعقبات كثيرة؟! خصوصًا أنَّ تركيا تُشكّل رقمًا ضاغطًا جدًا على الخليج من خلال قاعدتها العسكرية في قطر. ومصر هنا بحاجة إلى مثل هذا التنسيق الذي يُحصن موقفها وموقعها كما يُحصن مواقف ومواقع دول الخليج الأخرى.

من مجمل التطورات الحاصلة فإنَّه بعد وصول بايدن إلى الرئاسة، فإنَّ معظم دول المنطقة التي كانت على علاقة جيدة مع ترامب بدأت تعيد النظر في حساباتها بحيث تتلافى “الهجمة الأخلاقية” الجديدة لإدارة بايدن من خلال إحياء معادلات جديدة في المنطقة تعزز التحالف فيما بينها وتقوي مناعة القوى المتأذية من سياسات بايدن وفي مقدمة هذه القوى تركيا والسعودية والإمارات ومصر، فيما تنسج تركيا بعضًا من خيوط التقارب مع الاتحاد الأوروبي؛ لتخفيف (الهجمة البايدينية).

لا ينكر أحد -وهذا ثابت بالوقائع والخطوات العملية- أنَّ تركيا في عهد رجب طيب إردوغان تحمل مشروعًا عثمانيًّا جديدًا تجلى في أكثر من منطقة، وهو مشروع يعمل على شقين: (بري وبحري)، في البري يتطلَّع المشروع إلى توسيع حدود النفوذ التركي الجغرافي وغير الجغرافي إلى كامل شمال سوريا والعراق وهو يعرف نجاحات منذ العام 2016 ، حيث يحتل الجيش التركي مساحات شاسعة من أراضي سوريا وأماكن متعددة في شمال العراق عبر مراكز عسكرية، وهو يتمدد برًا حتى في منطقة القوقاز بعد التدخل الواضح في الحرب التي انتصرت فيها اذربيجان على أرمينيا، أمَّا في الشق البحري  فالمشروع يسعى إلى الوصول إلى الحدود القصوى للوطن الأزرق أي اعتبار المناطق البحرية التركية الخالصة وفقًا للمفهوم التركي لها وليس وفقًا لقانون البحار لعام 1982 م تابعة لتركيا، وهو ما يستدعي توترات مع اليونان ومع قبرص الجنوبية، وتركيا حتى اليوم لم تتخلَ عن هذا المشروع وإن كانت تقوم بمهادنات تكتيكية من وقت لآخر.

وفي الشق الثالث من المشروع التركي تبرز المصالح الاقتصادية في صلبه، ولا سيما تلك الموجودة في ليبيا وفي شرق المتوسط، وتركيا حتى الآن تؤكّد أنَّها ليست في وارد التخلي عن الاتفاقيتين البحرية والأمنية مع ليبيا؛ لأنهما إنجازان كبيران لتركيا تعمل أنقرة على ترسيخهما وآخر مثال على ذلك الزيارة التي قام بها وزيرا خارجية ودفاع تركيا ورئيسا الأركان والمخابرات فيها إلى طرابلس الغرب في الثالث من مايو 2021 م.

وفي هذا السياق فإنَّ الانفتاح التركي على مصر ودول الخليج يحمل لتركيا الكثير من المكاسب الاقتصادية ومنها كسر طوق العزلة وتدفق المنتجات التركية على دول الخليج التي رفعت شعار مقاطعة البضائع التركية، وتعزيز الاستثمارات العربية في تركيا التي تراجعت كثيرًا في السنوات الأخيرة. وتبرز مصر هنا كما لو أنَّها مفتاح معنوي لعودة تركيا إلى محيطها الشرق أوسطي العربي.

وإذ لا يوجد في عالم الصراعات والتنافسات الدولية مكان لغير المصالح فإنَّ تركيا، التي تعمل في محيط إقليمي واسع جدًا ومتوتر ومتفجر، تتمسك بتكتيكات متعددة قد تكون متباينة أحيانًا تبعًا لطبيعة الظروف التي تواجهها، ففي حين لا تبدي تركيا أيّة مرونة في طبيعة تدخلها في سوريا ولا تزال تصر على بقاء قواتها هناك وعدم الاعتراف بنظام الرئيس بشار الأسد بل العمل للإطاحة به، كما العمل على مزيد من قضم المزيد من الأراضي وإنشاء المراكز العسكرية في شمال العراق وآخرها عملية (المخلب والبرق والصاعقة)، والإعلان في أواخر نيسان/إبريل 2021 م عن نيتها إقامة قاعدة عسكرية في منطقة ميتينا في شمال العراق، فهي في الوقت نفسه تبدي مرونة شكلية غير واضحة تمامًا حتى الآن في ما خص العلاقات مع مصر ودول الخليج وصولًا إلى حد الاعتراف بحكم المحكمة السعودية في قضية جمال خاشقجي، وطي صفحة هذه القضية مع محاولة الإبقاء على نفوذها في ليبيا بطرق جديدة، والانحناء الآمن لعاصفة جو بايدن “الأرمنية” ريثما تمر. وفي كل ذلك فإنَّ المشروع التركي – العثماني قائم بكل قوته في الداخل وفي الخارج وإن اختلفت أحيانًا بعض تكتيكاته، حيث العبرة في التراجعات الميدانية من سوريا والعراق إلى ليبيا وشرق المتوسط والقوقاز ومصر والخليج وهو الأمر الذي لم يحصل بل يعرف المزيد من الإصرار على استكماله.

اظهر المزيد

د. محمد نورالدين

أستاذ في الجامعة اللبنانية - بيروت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى