2021العدد 186ملف عربي

تعدد الأدوار في الأزمة السورية تداعياتها على فرص الحل واحتمالات المستقبل

أولًا: توصيف طبيعة الأزمة السورية.

  1. إن الانتفاضة السورية معقدة وتعترض تسويتها تدخلات إقليمية ودولية. فقد بدأت الأزمة السورية كحراك اجتماعي شعبي طال انتظاره، ويؤرخ له باليوم الخامس عشر من مارس/ 2011، وهو اليوم الذي أطلق عليه الناشطون السوريون “يوم الغضب السوري” وظلت هذه الانتفاضة محافظة على طابعها السلمي لبضع شهور، ثم ظهرت فجأة مؤشرات لعملية تسلح أولى لبعض المجموعات الشبابية، وبعد مرور قرابة شهرين تطور الأمر إلى هجمات غامضة على وحدات الجيش والشرطة السوريين، فردت عليها قوات النظام بإطلاق النار على المتظاهرين وسقط عدد من القتلى والجرحى من الجانبين، ثم ارتفعت وتيرة العنف المتبادل بين الطرفين، وبدأت تكشف تدخل عناصر خارجيه في الأزمة السورية، اضطر معها الرئيس بشار إلى إصدار أوامر رئاسية بوقف إطلاق النار على المتظاهرين ومحذرًا “إن كل من يخالف ذلك سيتحمل كافة المسؤولية”، وكان من المفترض أن يصدر هذا التوجيه قبل وقوع هذا التصادم وانفلات الوضع.
  • وفي 6/6/2011 حدث هجوم واسع على مفرزة الأمن في منطقة جسر الشغور، تم خلاله إبادة معظم رجاله، قدرتهم أحد المصادر بـ 20 عنصرًا، ويشير الكاتب السوري “محمد جمال باروت”_ إلى أنه “قد مُثل بجثثهم ودُفنوا في مقابر جماعية بدائية”([1]). وبثت السلطات السورية معلومات مفادها تواجد قوى مسلحة أجنبيه في هذه المنطقة، تمتلك معدات تفوق مستوى ما يمتلكه الجيش السوري من قدرات تسليحية وتقنية.
  • وفي تلك المرحلة برز اسم المقدم “حسين هرموش”، أحد ضباط الفرقة الحادية عشر، الذي أنشق عنها وانضم إلى ما سُمي بـ “لواء الضباط الأحرار” والذين احتضنتهم تركيا. وقد قام “هرموش” بعملية تهجير مبكر لمعظم أهالي جسر الشغور، إلى منطقة الحدود التركية السورية دون مبررٍ كافٍ لذلك. ثم بدأت عملية تخريب واسع النطاق للمنشآت العامة، وشبكات المياه والكهرباء والاتصالات، والصرف الصحي، وتكشفت معها فصول في لعبة كبرى كانت تركيا وراءها ، حينها بدأت في تعريف الوضع السوري كجزء من مفهوم الأمن القومي التركي، وضمن مصالحها العربية العليا التي تمثل سوريا بوابتها([2]).

وإذا كان عام 2011 عام الثورات العربية، فإن عام 2021 كان يمثل بداية تعثر خياراتها ومسارتها واتجاه بعضها إلى العسكرة نتيجة تدخل التنظيمات الإسلامية الجهادية والتكفيرية.

وفي الواقع كانت الثورة السورية شأنها شأن باقي ثورات الربيع العربي_ تعبيرًا عن القهر والظلم الاجتماعي والكبت السياسي الطويل، وغياب آليات المشاركة السياسية وعدم تجدد النخب، وانسداد الوضع الداخلي بصفةٍ عامة،  وهو ما يفسر قابلية تحول الحركة الاحتجاجية إلى حرب مفتوحه لوجود ثغرات داخلية  تسللت عبرها، إضافة إلى المرتزقة، فتحولت على هذا النحو إلى حرب هجينة.

  • والتقى العاملان الإقليمي والدولي إلى جانب البعد المحلي، في الأزمة السورية وأدى ذلك إلى اتساع مشاركة هذه الأطراف في تحديد مسار الأزمة السورية. وانتهى الأمر بسيطرتها على مسار الحركة الاحتجاجية واستبعاد قادتها الأصليين في مرحلة لاحقة، وتزايد دور العناصر الخارجية فيها، وأصبحت الساحة السورية معها ساحة ميدانية لتصفية حسابات الأطراف الإقليمية الدولية ترتبط بقضايا خارجية.
  • لم تتمكن بعض قوى المعارضة السورية التي اختارت عسكرة الحراك الشعبي بمساعدة بعض الأطراف الخارجية، من إسقاط النظام السوري، وأدى خيارها هذا إلى تصعيد العنف وإلى فتح أبواب سوريا أمام المزيد من القوى الإرهابية والجهادية المسلحة والمتطرفة، والتي أعلنت جهارًا ارتباطها بجماعات “القاعدة” و”داعش” وجحافل المرتزقة، وتحولت الحرب المحلية، إلى حرب هجينة، تعتمد على إثارة العنف السياسي والطائفي وإلإثني، وتهدد الوحدة السورية، فجبهة النصرة”-الحركة الجهادية السلفية- كانت تصنف السوريين طائفيًّا إلى: مسلمين “سنة” و”ذميين”، هم غير المسلمين بل واعتبارهم مرتدين يجب قتلهم وتهجيرهم([3]).
  • رغم أن الانتفاضة السورية، لم ترفع شعارات إسلامية، فقد تصدرت التنظيمات الإسلامية الجهادية منها والتكفيرية_ الساحة السورية بعد بضع أشهر من قيام هذه الانتفاضة، إضافة إلى تدفق الآلاف من المرتزقة، الذين لا يمكن تحريكهم إلى جبهات خارجية إلا بتوافر عنصري( التمويل والتسليح)، وهو أمر تكفلت به أطراف عربية وأخرى إقليمية، ووجد الجيش السوري نفسه يخوض معارك يغلب عليها طابع العصابات وعلى عدة جبهات ويواجه منظومة كاملة من الحرب الإلكترونية تدار من خلال الأقمار الصناعية وهي قدرات لا تتوافر لغير الدول، ودخلت القوات السورية معها في معارك غير متكافئة وجرت عملية تدمير ممنهج لهياكل البنية الأساسية، وأدى إقحام الدين في مسار الحركة الاحتجاجية السورية إلى بروز مدخل العنف المسلح، وإطلاق عملية الجهاد ضد النظام السوري، الأمر الذي عرض النسيج الوطني السوري لصراعات طائفية ومذهبية، وتمكنت التنظيمات الجهادية التكفيرية من السيطرة على مسار الحركة الاجتجاجية باستخدام العنف والإرهاب، وحرفتها عن مسارها، إلى أهداف لا علاقة لها بشعارات الحركة الاحتجاجية.
  • ودارت حلقات هذه الأزمة وسط مجتمع تتعدد مكوناته، فمن المعروف أن سوريا تضم أغلب الطوائف والمذاهب والإثنيات في العالم العربي من:( سنة وعلويين وروم وأرثوذكس وكافة الطوائف المسيحية)، وعلى الصعيد الإثني :(تضم الأكراد والأرمن والسريان والأشوريين والشركس)، وأغلب هذه الفئات والمذاهب تجد لها امتدادات على الجهة المقابلة من الحدود، وإذا كانت هناك أقليات عرقية وطنية عاشت في سلام مع باقي مكونات الشعب السوري ومع سلطات الدولة، وسايرت التيار الرئيسي السائد سياسيًّا واجتماعيًّا وتكيفت معه، إلا أن أقليات أخرى كانت محملة بإمكانات نزاعيه وتشكل عاملًا لعدم الاستقرار ونقاط ضعف حدودية استغلتها بعض دول الجوار( تركيا) في الدفع بالآلاف المرتزقة عبرها؛ لإحداث قلاقل في الداخل السوري.
  • يضاف إلى ذلك افقتاد الحركة الاحتجاجية لقياده موحدة في ظل انقسام المعارضة السورية طائفيًّا ومناطقيًّا وعشائريًّا، وعجز عناصر هذه المعارضة عن تكوين كيان ائتلافي تنسيقي فاعل ويمتلك رؤية وبرنامج عمل منسق، مما ترتب عليه عدم الاهتمام بأخذ المواقف المتعددة للمعارضة في الاعتبار، واستقطاب القوى الخارجية لبعضها لخدمة أهدافها ومصالحها.
  • واستمرار تعدد الأدوار المتدخلة في الأزمة السورية (محلية وإقليمية ودولية) إضافة للتنظيمات الجهادية والتكفيرية والمرتزقة التي تصارعت للاستحواذ على النفوذ على الساحة السورية الضيقة، إلا أنه لم تتوافر لدى أحد هذه الأطراف القدرة العسكرية القادرة على حسم الوضع، أو توافرت لديه هذه القدرات ولكنه كان مترددًا في استخدامها للدروس المستفادة من الحرب على العراق 2003، ولهذا فضلت هذه القوى في الإبقاء على الوضع الراهن لإدارة الصراع دون حسم، بل وتوصل بعضها إلى وضع اتفاقات لتلافي المواجهة والتصادم فيما بينها، وهذه الحالة كانت من أسباب إطالة الأزمة السورية، وزيادة إضعاف مقومات الدولة السورية عسكريًّا وبشريًّا وحلت الكارثة بمناطق واسعة فيها.
  • وتجاوزت الأزمة السورية – على هذا النحو- عقدًا من الزمن، وهذا الزمن الممتد للأزمة شهد عدة متغيرات في الإشكاليات المطروحة على الساحة السورية، كما شهد تغيرًا في الأنظمة السياسية والشخصيات القيادية للأطراف الخارجية المتدخلة في هذه الأزمة، وتغيرًا رؤية ومواقف بعضها، أدخلت الأزمة السورية في حسابات سياسية أكثر تعقيدًا، وأبرز أمثلة ذلك: تولي الرئيس ترامب مقاليد السلطة في واشنطن ورؤيته غير المستقرة للعلاقات الدولية، ولم يكن أحد يتصور حجم المؤامرة الدولية التي رمت بكل جهادي الدنيا في مستنقع الأزمة السورية دون رادع([4])!

ثانيًا: تعدد الأدوار الإقليمية والدولية وتأثيرها على مسار التسوية.

قُدِّر عدد الأطراف الخارجية المتدخلة في تفاعلات الأزمة السورية _بما لا يقل عن خمسة أطراف رئيسة بين أطراف إقليمية (تركيا وإسرائيل وإيران) ، وأخرى دولية (الولايات المتحدة وروسيا الإتحادية)، بالإضافة إلى التنظيمات الجهادية والتكفيرية والمرتزقة. وسنحاول إلقاء الضوء بشكلٍ موجز على مضمون أدوار هذه الأطراف، وصولًا للتعرف على تأثيرها على مسار التسوية السياسية للأزمة السورية، فلكل من هذه الأطراف – كما سنرى- رؤية وأهداف ذاتية تتباين مع رؤية باقي الأطراف.

  1. الدور التركي وتداعياته:

لعلنَّا نتذكر مطالبة “أردوغان” لبشار الأسد، وبإلحاح مشاركة الإخوان المسلمين في الحكومة السورية، وكان رد الرئيس السوري باستحالة ذلك، فقام أردوغان بإثارة مشكلة الأكراد الأتراك إضافة لاستخدام التيار السياسي الإسلامي كغطاء للتدخل المباشر في النزاع السوري الداخلي، وكانت أولى مؤشرات ذلك، قيام السلطات التركية- وفي وقتٍ مبكر- (بعد قرابة ثلاثة أشهر من قيام الحركة الاحتجاجية) بإقامة معسكرات لاستقبال المهجرين السوريين من منطقة جسر الشغور المجاورة للحدود التركية كما سبق أن أوضحنا.

ولم يكن إقامة معسكرات اللاجئين السوريين المبكر انطلاقًا من عمل إنساني مجرد، فالذين يمتلكون تحليلًا سليمًا لطبيعة تفكير أردوغان الاستبدادي _أن يقوم بهذه الخطوة في أطار سعيه لأداء دور حميد في المنطقة، وإنما لاستخدامها كأداة للضغط على الحكومة السورية، ولابتزاز الاتحاد الأوروبي فيما بعد، وكغطاء لسعي تركيا لإقامة منطقة آمنه بحجة الحيلولة دون تهديد الأكراد لأمنها وهذه المنطقة تمتد نحو 480 كيلو متر في محاذاة الحدود التركية السورية من الغرب إلى الشرق وبعمق 32 كيلو متر، وبدأت باحتلال تركيا مدينة “عفرين” ورفعها العلم التركي عليها وبدأت في تنفيذ مخطط تتريك سكانها.

أما فيما يتعلق بتأثير الدور التركي على مسار التسوية السياسية للأزمة السورية، فإنه يتضح بجلاء في عرقلة تركيا بشكلٍ متعمد لتسوية “إدلب” بالعمل على إبقاءها كمنطقة تجميع للجماعات المتطرفة فيها وتحت حمايتها، رغم أنها سبق وتعهدت مع روسيا على وضع ترتيبات لخروجهم منها، ثم تراجعت عن هذا التعهد، وبذلك أعادت تركيا مشكلة “إدلب” إلى المربع رقم واحد التي أصبحت أحد مناطق الصراع الرئيسة في سوريا.

وأتبعت تركيا الأسلوب الإسرائيلي  في استخدام القوة كوسيلة للتوغل في الأراضي السورية تحت دعاء إقامة منطقة آمنه، أو بحجة أنها أراضي كانت تتبع الدولة العثمانية، ثم البدء بعمليات تتريك هذه الأراضي التي تستحوذ عليها بالقوة.

وإضافة لذلك سعت تركيا لتأليب الرأي العام على النظام السوري، كما حدث في واقعة استخدام أسلحة كيميائية؛ لدفع الولايات المتحدة إلى قصف المواقع السورية، ولكن أوباما تراجع عن ذلك بعد أن اكتشفت المخابرات الأمريكية أن مصدر غاز السارين من تركيا.

وإضافة لذلك قامت تركيا بإقامة معسكرات تدريب التنظيمات الإرهابية والجماعات التكفيرية، واستخدامهم في إحداث الفوضى والتخريب بالوكالة في مختلف المناطق السورية وخارجها، وسعيها لتغيير مكوناتها الديموغرافية بالنقل القسري للسكان من مناطقهم إلى مناطق أخرى.

ويلاحظ لجوء تركيا لاستخدام القوات العسكرية بكثافة على مسرح عمليات الإقليم وامتداداته، وقد أنعكس ذلك في التمركز التركي على الحدود مع العراق وسوريا، وتأسيس عدد من القواعد العسكرية في سورية، ثم تدشين قاعدة عسكرية في الصومال وأخرى في قطر وغيرها، ووصل الأمر إلى التمدد إلى ليبيا واستعانتها بالمرتزقة السوريين وغيرهم في هذا الشأن.

ثم شعرت تركيا مؤخرًا بخطورة الامتداد الزائد فنظرية أردوغان لا ترى ما يحول دون توسيع النفوذ التركي خارج حدوده، كان لابد أن تثير كثيرًا من المشاكل والصراعات والعداء مع دول المنطقة، وأدى ذلك إلى شعور القيادة التركية بحالة عزلة إقليمية ودولية متزايدة، مما دفع أردوغان إلى إعلان “البحث عن أصدقاء” خلال إلقاء كلمة أمام مؤتمر حزبه  في شهر إبريل 2021؛ لشعوره المتزايد بالعزلة في المنطقة وحدوث متغيرات وتحولات سياسية فيها معاديه لسياساته منها المصالحة بين دولة قطر ودول مجلس التعاون الخليجي، وبداية تغيير الأوضاع في ليبيا، كما تغيرت الأوضاع في السودان بإقالة البشير.

والعلاقات المتأزمة بين تركيا ودول الخليج العربية والتي تمثلت في تراجع العلاقات الاقتصادية والسياسية منها، وأيضًا فتور العلاقات السياسية بين مصر وتركيا فضلًا عن مجيء “بايدن” إلى سدة الرئاسة الأمريكية وما ترتب عليه دون تغير في المواقف الأمريكية في المنطقة كل هذه المتغيرات أزعجت أردوغان وتسببت في زيادة شعوره بالعزلة الإقليمية والدولية.

ولكن السؤال المطروح هو هل هذه الاستدارة التركية تعبر عن نية حقيقية للتراجع عن سياساتها وأطماعها؟، أم أن الأمر لا يعدو مجرد تحركات تكتيكيه؟! وفي الواقع بأن الدور التركي كان أخطر الأدوار التي أثرت سلبيًّا على مسار التسوية السياسية للأزمة السورية.

  •  الدور الإيراني وتأثيره على مسار التسوية.

تعتبر إيران سوريا جبهة متقدمة لها وإذا سقطت تصبح جبهتها الإيرانية مستهدفة بشكلٍ مباشر والذاكرة الإيرانية لا تنسى الموقف السوري المساند لها طوال الحرب العراقية الإيرانية، فقامت برد الجميل فضلًا عن السعي أيضًا لاستثمار وجودها على الساحة السورية لتحقيق مصالحها الذاتية. وتحاول إيران تحجيم القوى المنافسة له والتي تراها خصمًا من نفوذها في سوريا (تركيا وروسيا)، فضلًا عن إسرائيل بطبيعة الحال، وظلت طوال خمس سنوات تدعم النظام السوري بكل أنواع الدعم، وتحملت في سبيل ذلك الكثير من التضحيات البشرية والمادية، وتعرضت مواقعها في سوريا لضربات إسرائيلية متواصلة وموجعة، ولكن حافظت على موقفها وحرصت على عدم استدراجها لحرب مع إسرائيل أو لتأزيم علاقاتها بروسيا، فضلًا عن جهود الولايات المتحدة وإسرائيل لفك الترابط -الترابط الاستراتيجي- القوي بين سوريا وإيران والذي كان أيضًا من بين أسباب الموقف السعودي لعودة سوريا لمقعدها في جامعة الدول العربية، وتحالف سوريا مع إيران هو تحالف “المصير المشترك”، الذي من المستحيل أن تتخلى عنه سوريا ما لم يتوفر بديل قوي له وذو مصداقية، فالوجود الإيراني في سوريا أسهم في دعم النظام السوري في أكبر فترة حرجة وخطرة قبل التدخل الروسي، الذي حاول التوفيق بين دوره في حماية النظام السوري وبين دوري (تركيا وإسرائيل)، وأدى ذلك إلى التفريط جزئيًّا في التزاماته في هذا الشأن لإحداث توافق مع هذين الدورين، وبقي الدور الإيراني ثابتًا في مواقفه وسعى لإيجاد قواعد شعبية له في الداخل السوري، وهو ما أدى في بعض الحالات إلى تصاعد الخلافات الطائفية.

  • الدور الإسرائيلي في سوريا وتداعياته على التواصل لتسوية سياسية للأزمة السورية:

لاشك أن استمرار الصراع المسلح في سوريا يصب إجمالًا في خدمة ومصلحة إسرائيل دون أن تطلق رصاصة واحدة_ ومن هنا تحرص إسرائيل على عرقلة أي جهد يؤدي إلى تسوية سياسية قريبة للأزمة السورية الراهنة، لعله يتيح في النهاية تقسيمًا لسوريا على أسس مذهبية وإثنية، مما يدعم مشروعها العقائدي كدولة دينية يهودية. وتبدو ملامح خطة إسرائيل في هذا الشأن على النحو التالي:

  • منع قيام جبهة إيرانية ضد إسرائيل في سوريا، تكون شبيهة بالجبهة التي أقامها حزب الله في لبنان.
  • تجنب المبادرة إلى عملية عسكرية إسرائيلية تدخلية بقوات برية إسرائيلية من أجل إسقاط النظام السوري، فهي تميل للإبقاء على نظام بشار الأسد ليس حبًا فيه ولكن خشيةً من المجهول.
  • إطالة أمد صراع الأدوار المتعددة في الساحة السورية وما يترتب على ذلك من إضعاف لعناصر قوة النظام السوري وانشغاله بمشاكل الداخل، ويعرقل مسار التسوية السياسية للأزمة.
  • السعي للحصول على تفاهم بشأن قبول النظام السوري للأمر الواقع بشأن ضم الجولان لإسرائيل الذي أقدم عليه ترامب، وإيجاد الصيغة المناسبة لذلك والتي تعتقد إسرائيل أن النظام السوري قد يضطر لقبولها لحالة الضعف التي يعانيها.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن ما تقوم به مختلف الأطراف المتدخلة في الأزمة السورية يصب في النهاية في صالح إسرائيل، فالدور التركي مثلًا الذي يتضمن احتلال الأراضي السورية بالقوة تحت مبررات وادعاءات أمنية وتاريخية، ودفعها لعناصر المرتزقة عبر الحدود المشتركة، الذين قاموا بعمليات تخريب واسعة النطاق داخل سوريا، يُعني في النهاية إضعافًا لسوريا ونظامها ومعاناة شعبها، كما أن ما قامت به إدارتي( أوباما وترامب) من العمل على إطالة أمد الصراع سواءً بإدارة الأزمة من الخلف في عهد أوباما التي أتاحت للأطراف الإقليمية توسيع نطاق العمل من أجل مصالحها الذاتية وتقويض السيادة السورية، ثم إعلان ترامب ضم الجولان لإسرائيل “كغنيمة حرب”، التي تشجع إسرائيل على استمرار عدم احترامها القوانين الدولية.

ولم تتوقف إسرائيل عن قصف المواقع السورية شبه اليومي بحجة الحيلولة دون تهريب أسلحة لحزب الله أو لإضعاف الدعم الإيراني لسوريا، إضافة للتواطؤ الإسرائيلي مع الجماعات الإرهابية وتوجيهها لضرب المواقع العسكرية السورية، وعلاج جرحاها في المستشفيات الإسرائيلية. فضلًا عن السعي لعرقلة التفاوض بين إيران والولايات المتحدة لعودة الأخيرة للاتفاق النووي.

خلاصة القول أن الدور الإسرائيلي المعادي لسوريا وشعبها يقف على طرف نقيض من الدور الإيراني وأهدافه، وإلى حد ما للدور الروسي والذي تمكنت إسرائيل من تطويعه، الأمر الذي أدى إلى الحد من مدى أداء الدور الروسي في حماية النظام السوري.

  • تأثير الدور الأمريكي على مسار التسوية السياسية للأزمة السورية.

بعد التجربة الأمريكية القاسية في الحرب على العراق 2003 ، تغيرت الخطوط العريضة للإستراتيجية الأمريكية تجاه الأزمة السورية وتمثلت بالحد من التدخل البري المباشر، وزيادة دور القوات الجوية، أو التعامل  مع الأزمة السورية وتطوراتها من خلال أجهزة المخابرات أو من خلال وكلاء محليين (أقلمة الصراع)، وتصورت إدارة أوباما القدرة على السيطرة على توجهاتهم دون إدراك كافٍ بأن من لا يتحكم في آليات التنسيق لا يتحكم في نتائج هذه الآلية. فقيادة الأزمة من الخلف-التي طالت- وفق الرؤية الأمريكية وقتها أدت إلى قيام الأطراف الإقليمية بالتحرك وفق مصالحها الذاتية، وأصبح كلٌ يغني على ليلاه، وبدأت الأطراف الإقليمية تعطي الأولوية لمصالحها الذاتية.

كما تجلت الاستراتيجية الأمريكية بوضوح في إدارة الأزمة السورية، في المراهنة على “الإسلام السياسي” المعتدل!! والمقصود هنا “جماعة الإخوان المسلمين”، للاستعانة به كبديل للأنظمة القائمة، وفق التنسيق والتفاهم مع تركيا كما كان الاعتقاد السائد لدى إدارة أوباما أن نظام بشار الأسد سيسقط خلال أشهر، بناء على تقييم المخابرات الأمريكية- على نحو ما حدث في مصر وتونس، بالإضافة إلى أن التقييم الأمريكي الأولي، أن الأزمة السورية لم ترق إلى مستوى التحدي المباشر للأمن الأمريكي، واعتبار الصراع في سوريا “حرب أهلية” لأناس آخرين، وساد هذا التوجه بداية مع تحول الاهتمام الأمريكي إلى الاتجاه نحو الشرق (الصين).

وبناء على ما تقدم فإن عزوف واشنطن عن التدخل المباشر في الأزمة السورية، لم يكن يستند لحسن النوايا، إنما يعود لاستيعاب إدارة أوباما جيدًا للدروس المستفادة من الحرب الأمريكية على العراق 2003، ولم تكن للدفاع عن حقوق الإنسان، وإنما اتخاذ هذه الدعوة قناعًا للتحرك السياسي في المصالح وحدها هي التي تحدد مؤشر السياسات الأمريكية، فقد استمرت واشنطن في العمل على استمرار الحرب المفتوحة في سوريا، بتمويلها وتسليحها لبعض فصائل المعارضة.

وسادت دبلوماسية التواطؤ الأمريكية التي تراعي مصالح إسرائيل بالدرجة الأولى ولهذا تبنت واشنطن -كما تل أبيب- أسلوب استمرار أطراف النزاع في سوريا في التقاتل وعدم السماح لأي طرف بانتصار عسكري حاسم؛ لأن الهدف المطلوب هو إضعاف النظام السوري ومقوماته، ضمانًا لأمن إسرائيل، كما أن استمرار الحرب الأهلية أو الهجينة في سوريا، وزيادة حجم الدمار الشامل فيها يمكن استخدامه كفزاعة لباقي الدول العربية للإحجام عن أي تحرك لمساعدة سوريا وإبقاءها في العزلة السياسة، وهو ما تحقق بالفعل.

وكان باراك أوباما بمواقفه – نادم عن اقتناعه- بأن التاريخ سيحكم عليه وعلى قراراته ليس بما فعل، بل لما لم يفعله، وبالمقابل فإن الحكم على سلفه جورج بوش (الابن) سيتم تذكره بما قام به من أعمال تدميريه في العراق وإدخاله الولايات المتحدة في نكسه كبدتها خسائر بشرية ومادية.

بقيت نقطة أخيرة تستحق التنويه بها، وهي أن الاقتراب من تسوية الأزمة السورية لن يتم إلا بالتوافق بين واشنطن وموسكو إلا أن مجيء إدارة جديدة تعاني من انقسام شعبي، وتتهم بالضعف الخارجي لا يبشر بتطور إيجابي سريع لصالح تسوية الأزمة السورية، انتظار لحل بعض القضايا الأخرى خارج نطاق الساحة السورية، وهو في تقديرنا أمر لتحقيقه يحتاج لوقت ليس بالقصير، مما يشير إلى أن الأزمة السورية مرشحه للبقاء على جدول الأعمال الدولي، لوقت إضافي.

  • الدور الروسي وتداعياته على مسار التسوية السياسية:

من المعروف أن الوجود العسكري الروسي في سوريا، جاء عام 2015 بِناءً على طلب عاجل وملحٍ من النظام السوري، بعد أن قامت قوات المرتزقة وتركيا، بالاستيلاء على العديد من المدن والمواقع العسكرية التي كانت تسيطر عليها قوات النظام، ولم تكن هذه المرة للاستغاثة بروسيا الاتحادية- بل سبق أن استغاث بها النظام السوري عام 2013، وقامت روسيا الإتحادية بدعمه بوسائل تقليدية محدودة، ولكن عام 2015 يمثل الدعم القوي بدفع القوات العسكرية البرية والجوية والبحرية الروسية إلى الساحة السورية.

ومع تطور الأزمة السورية وتعقيداتها في السنوات الأولى، أصبحت روسيا هي صاحبة الدور الأهم والأكبر في المسألة السورية، فكان التواجد الروسي أكبر داعم لاستعادة الجيش السوري فعاليته، وأدى إلى قلب المعادلة الميدانية على الأرض لصالح النظام السوري بتمكين الجيش من استعادة مواقع ومراكز استراتيجية مهمة كان قد فقدها خلال فترة قياسية.

وتحركت روسيا لاعتبارات متعددة في مقدمتها: الخشية من تداعيات تدخل عناصر المرتزقة -جانب هام وفاعل منها- من مناطق روسية، فضلًا عن استعادة روسيا لجانب من مصالحها، واستخدام الورقة السورية كورقة مساومة في قضايا خارج ساحتها كالأزمة مع أوكرانيا وضم روسيا لشبه جزيرة القرم، مع إدراك روسي واضح وصريح -أن التوصل لتسوية السياسة السورية، تتطلب بالضرورة تفاهمات مع الولايات المتحدة وترتيبات خاصة مع بعض القوى المتدخلة في الأزمة السورية- وبمعنى آخر اتسام القيادة الروسية بواقعية سياسية، فهي لا تسعى لدور في سوريا ينافس الدور الأمريكي وإنما تسعى لتفاهمات وترتيبات مشتركة مع واشنطن.

وقد وجدت القيادة الروسية نفسها، مضطرة للبحث عن حلول وسطى مع بعض القوى الإقليمية الفاعلة في الأزمة السورية (إسرائيل، تركيا، إيران)، فتوصلت إلى ترتيبات مع إسرائيل تتعلق بأماكن التواجد الإيراني في الساحة السورية، راعت إلى حدٍ كبير المصالح الإسرائيلية، وحماية للمصالح المشتركة والمتنامية بين إسرائيل وروسيا (وجود جالية إسرائيلية كبيرة من أصل روسي جعلت اللغة الروسية هي اللغة الثانية في إسرائيل، والتزايد المضطرد لحجم التبادل التجاري بل والتعاون العسكري بين الجانبين).

كما توصلت إلى ترتيبات انتقالية مع تركيا (مناطق خفض التصعيد)، وأن حدث تراجع تركيا عن التزاماتها بشأن “إدلب” فإن روسيا تعاملت مع هذا المتغير ببرجماتية واضحة لإبقاء تركيا قريبه من المحور الروسي، ولأهمية دورها في الصراع على سوريا.

وإجمالًا فإن الدور الروسي في سوريا مكلف ماليًّا لها، وعائده الاقتصادي الحالي محدد إلا إذا تم اكتشاف مصادر نفطية وغازية جديدة في المنطقة البحرية السورية، وعائده الحالي ينحصر أساسًا في المجال السياسي، وتوظيف روسيا للورقة السورية للمساومة على قضايا أخرى ولكن علينا تذكر أن القضية السورية تتمتع بقدرٍ محدود من التأييد الشعبي الروسي. 

ومن مصلحة روسيا التوصل إلى تسوية سياسية للأزمة السورية في أقرب وقت ممكن في وقت تعمل فيه إسرائيل والولايات المتحدة بل وتركيا على إطالة أمد الأزمة السورية بكل الوسائل المتاحة على أمل أن تغرق روسيا في المستنقع السوري، وهو ما أضطر روسيا إلى الاستعانة بأسلوب الترتيبات المرحلة والتحلي بالصبر الإستراتيجي، والعمل على إيجاد حلول وسطية للصعوبات التي تواجهها في سعيها لإيجاد مواقف تقاربية مع الأطراف الأخرى. وهو ما أثر على مدى الدور الروسي في حماية النظام السوري وهو ما أزعج الجانب الإيراني، الذي يتعرض وجوده لهجمات إسرائيلية مستمرة، وتجد روسيا نفسها في وضع صعب؛ لاقترابها أكثر من الجانب الإسرائيلي، دون الانخراط الموازي مع الجانب الإيراني، تحسبًا لعدم التورط في المنافسات الإقليمية التي قد لا تكون في صالحها، ومع إدراك روسي بصعوبة، بل وخطورة الاستغناء عن الدور الإيراني، مما يجعل التحركات الروسية أكثر حذرًا، ويُشعر روسيا أنها وقعت في فخ “التحالفات المتناقضة”.

وفي ظل هذه التعقيدات من غير المؤكد إلى حدٍ كبير قيام روسيا بدور الوسيط النزيه، ولكن يمكنها القيام بدور المُسهّل للتوصل لتسويات مرحلية تمهد الطريق لتسوية نهائية للأزمة السورية ومن المستبعد أن تتحدى القيادة السياسية الروسية الولايات المتحدة، ولكن الأرجح أن تسعى روسيا لعلاقة تعاونية معها إلى أن تتبلور بشكلٍ أوضح التوجهات الخارجية لإدارة بايدن. وكما أوضحنا قبل فإن التسوية النهائية للأزمة السورية تحتاج وتتطلب تفاهمات روسية أمريكية شاملة والتي ستستهلك جانبًا من الوقت الضاغط والحرج.

خلاصة القول أن الأدوار الإقليمية والدولية المتعارضة جعلت المشهد السوري “مشهد الصراع على الأدوار” الذي يعرقل مسار التسوية السياسية للأزمة السورية، فهناك أطماع مستجدة لبعض الأطراف كتركيا، وهي لهذا تروج لمشروع تقسيم سوريا، كما أن عدم قدرة النظام السوري على فرض سيطرته على كافة المناطق السورية، وَلَد بعض الجماعات المسلحة الجهادية، وأمراء الحرب طموح فرض الأمر الواقع في مناطقها بالدعوى لانفصالها عن الدولة الأم (سوريا). كما أن “صراع الأدوار” أنشق عنه اقتراح تطبيق “الفيدرالية”، التي لا تناسب الواقع السوري لضيق الحيز الجغرافي وتداخل التوزيع السكاني وغير ذلك من العوامل، الذي يجعل من هذا الاقتراح مدخلًا لتقسيم سوريا.

وهكذا أصبحنا نرى أطرافًا أجنبية متنافسة في الصراع على سوريا، في ظل نظام إقليمي عربي يتداعى بفعل أعضاءه وحراسه المترددين، وغلبة عدم الثقة المتبادل بينهم، لتآكل معايير القيم التي حمت في السابق هذا النظام ووفرت مقومات صموده.

ثالثًا: الطريق المتعرج للاقتراب من مدخل التسوية السياسية.

في ضوء ما تقدم، نعتقد أن الوصول أو الاقتراب من تسوية الأزمة السورية سياسيًّا سيظل متعثرًا لوقت غير محدد لعدة أسباب لعل في مقدمتها:

  1. تعدد أطرافها: إذ تتدخل في الأزمة السورية بشكلٍ مباشر طرفان دوليان في (الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية) مع ثلاثة أطراف إقليمية (تركيا، إسرائيل، إيران) إضافة للمرتزقة، ورغم تباين أهدافها ومقاصدها، فإن مواقفها وأدوارها، التقت حول (بقاء مصير سوريا معلقًا، وتفتيت كيانها، وتقسيمها إلى عدة مناطق نفوذ). وتتصارع على مساحتها الميادين الضيقة 185180 كم، خمسة جيوش فضلًا عن التنظيمات الجهادية والتكفيرية والمرتزقة، تتغير فيها موازين القوى، والأهداف، مما يجعل أي تسوية سياسية نهائية مسألة متعذرة.

يضاف إلى ذلك أن بداية الاقتراب من طريق التسوية يرتبط بحدوث تفاهم أمريكي روسي على نقاط ومضمون التحرك، وهو أمر لم تتوافر مقوماته بعد، نظرًا لتعدد المسائل والقضايا الإقليمية والدولية العالقة بين واشنطن وموسكو (شبه جزيرة القرم – والأزمة مع أوكرانيا، وما يدور حول الحرب السيبرانية …وغيرها) والتي ستتطلب وقتًا ليس بالقصير_ لا سيما في ظل إدارة أمريكية ديمقراطية ورثت انقسامًا شعبيًّا داخليًّا، وتريد إثبات قوتها خارجيًّا؛ لتعزيز صورتها في الداخل، وبالمقابل وجود قيادة روسية تعاني أيضًا مشاكل داخلية، وتريد استكمال عناصر قوتها العسكرية والاقتصادية وتتصدى لمشاكل الداخل والخارج، ولذا نتوقع أن التفاهم الثنائي حول القضية السورية من منظور أمريكي روسي_سيتطلب بدوره وقتًا ليس بالقليل.

  • أن حسم الصراع في سوريا يتطلب كما سبق أن أوضحنا مسبقًا وجود تفاهم أمريكي وروسي، وهو أمر مازال مغيبًا، ويبدو أن التوصل إليه في ظل الإدارة الديمقراطية الأمريكية ربما سيستغرق وقتًا ليس بالقصير، في ضوء تسييس الولايات المتحدة للماضي، فما زالت ثقافة الثأر الناجمة عن الحرب على العراق 2003 مسيطرة على صانعي القرار في البيت الأبيض، وتَمثل ذلك في قيام إدارة “جو بايدن” بتجديد فرض العقوبات التي فرضتها إدارة جورج بوش الابن على سوريا في 11/5/2004 بعد الحرب على العراق 2003، بحجة انتهاك نظام بشار الأسد لحقوق الإنسان، ويؤكد وجود عناصر استمرار في الاستراتيجية الأمريكية تجاه منطقة الشرق الأوسط، ومحورها الأساسي حماية أمن إسرائيل مهما كانت مواقفها، ويبدو واضحًا، التعسف الأمريكي في التعامل مع سوريا، وازدواجية معاييرها، إذا ما نظرنا لموقف واشنطن من تعامل إسرائيل مع الفلسطينيين وضربها لكل القيم الإنسانية وحقوق الإنسان والقرارات الدولية.
  • ويزيد من صعوبة الاقتراب من التسوية للأزمة السورية عدم امتلاك أي طرف من هذه الأطراف لمقومات حسم الصراع، وإذا أمتلكها البعض، فإنه يتردد في الإقدام على استخدامها للخشية من تداعياتها في ضوء نتائج الاستخدام الأمريكي للقوة المفرطة في الحرب على العراق 2003، لذا ترددت القوى الإقليمية والدولية في حسم النزاع؛ لأنه ستكون نتائجه بالنسبة لها مكلفة للغاية فأحجمت عنه.
  • يضاف إلى ذلك ،كان اعتقاد بعض قوى المعارضة أن فكرة إحداث التغيير السريع للوضع في سوريا بالقوة المسلحة، يتطلب خيار هذه القوى لمبدأ “تسليح الانتفاضة”، أو عسكرتها – في تقدير البعض- ولكن هذا الخيار فتح الباب أمام الانتقال من الحالة الجماهيرية إلى الحالة الميليشاوية، التي سرعان ما استغلتها بعض القوى الخارجية – لا سيما تركيا بصفةٍ خاصة- وكان ذلك في تقديرهم- السبيل الأقصر إلى الحرب الأهلية. وأصبحت هذه القوى أداة في يد الأطراف الخارجية من لاعبين إقليميين ودوليين تحت رحمتهم لتزويدهم بالمال والسلاح والمساعدة اللوجيستية والدعم السياسي([5]). وكان تدخل القوى الخارجية لتسليح المعارضة نقطة تحول رئيسي في الانتفاضة السورية وتعثرها بعد أن أصبحت رهينة للقوى الخارجية.

وأدت الانقسامات بين فصائل المعارضة وبعضها البعض، بين معارضة الداخل ومعارضة الخارج، وفي داخل كل منهما، الأمر الذي عرقل بصفة عامة مهمة المصالحة الوطنية وتوحيد الصف لمواجهة متطلبات التسوية السياسية.

  • والحالة السورية التي التقت فيها قوى إقليميه وأخرى دولية، والتي اتخذت من سوريا ساحة لتصفية الحسابات دولية وإقليمية لا تتعلق بالضرورة بالأزمة السورية، لكن في تداعياتها وتأثيرها السلبي على تطورات الحالة السورية، فالمصالح المتضاربة  والمتعارضة بين هذه القوى خارج الإقليم السوري انتقلت داخله؛ لتغذي عوامل الصراع الداخلي الممتد في سياق جيوسياسي، فالموقف الإسرائيلي مثلًا يجد في تفسيره استهداف إيران وعرقلة عودة واشنطن للإتفاق النووي، والموقف التركي الممتد إلى ليبيا، له علاقة ارتباط بقضايا شرق المتوسط الغازية والبترولية والأطماع التركية فيها، وإيران التي تستمر تواجدها في سوريا تعتبره، أحد العناصر الضاغطة على خلافاتها مع المملكة العربية السعودية في اليمن وعلاقات الإرتباط هذه تعرقل جهود التسوية للأزمة السورية في ظل تنامي العوامل الخارجية المغذية لها.

يضاف إلى ما تقدم أنه علينا أن نتذكر أن استهداف سوريا لا يعود لتحقيق مكاسب اقتصادية، ربما باستثناء الصراع التركي، وإنما المستهدف هو الدور الإقليمي لسوريا في المنطقة، فهي دولة ظلت مؤثرة في محيطها، ولإضعاف دعوتها إلى “الممانعة والمقاومة” للأطماع الإسرائيلية وفك ارتباط النظام السوري بإيران. وإذا كان حزب البعث السوري في الماضي لعب دورًا موقظًا لجانب من الضمير العربي إلا أنه كان محدود التأثير على أكثر القطاعات الفكرية العربية.

وبالرغم من أن الدعوة القومية العربية المستنيرة فقدت الكثير من حرارتها؛ لعدم تجديد روافدها الفكرية، لاسيما بعدما أقدم صدام حسين من إساءة بالغة للدعوة القومية المستنيرة – فإن مجرد ترديد هذه الدعوى، كما كان يفعل النظام السوري لإبقائها حية في النفوس العربية، كانت تسبب إزعاجًا لإسرائيل. وهو ما يفسر تلك الهجمة الشرسة على سوريا لإضعاف وتصفية ما تبقى من عناصر هذه الدعوة، بوأدها في المستنقع السوري، وخلق مناخ سياسي جديد يسود فيه الصمت الإعلامي عن انتهاكات إسرائيل، وتحقيق مزيد من التطبيع بين إسرائيل وبعض الدول العربية، في ظل تغييب الصوت والدور السوريين المعارضين لذلك، واستكمالًا لمخططها في مواجهة الشعب الفلسطيني وابتلاع أراضيه المحتلة.

إن المسألة السورية هي في الأساس قضية عربية والمأزق السوري هو مأزق لكل العرب، وإذا نجح أي مشروع لتقسيم سوريا، فلن تكون باقي الدول العربية بمعزل عن تداعياته ولن نفاجأ إذا حدث ذلك بشكلٍ أو بآخر بدعوة لعقد اتفاق” سايكس– بيكو” جديد يتم فيها تقسيم المقسم من العامل العربي.

ولذا يتطلب الوضع الراهن سرعة النظر في إعادة سوريا لمقعدها في جامعة الدول العربية والإسهام في إعادة تعميرها وعدم تركها في حالة العزلة العربية؛ لتصبح فريسة للطامعين فيها.

كما يتطلب الموقف النظر في القيام بعدد من الخطوات يأتي في مقدمة بعضها:

البناء على القرارات الدولية السابقة والمتعلقة بالأزمة السورية في استصدار قرار جديد من مجلس الأمن تحت البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة يتضمن بعض النقاط في مقدمتها:

  • انسحاب كل القوى الأجنبية والمرتزقة من سوريا في مهلة زمنية محددة.
  • وضع مهام زمنية للأطراف الوطنية السورية للاتفاق على جدول أعمال المرحلة الانتقالية وتحديد مراجع استنادها بوضوح
  • التفكير في تشكيل قوات حفظ سلام لمواجهة رافضي التسوية.
  • تعيين مبعوث دولي ومعاونية لتولي إدارة عملية التمهيد للتسوية، وقد يتطلب الأمر “عربيًّا” تشكيل لجنة خاصة لوضع تصور أولي متكامل للمرحلة الانتقالية يتضمن بنود التسوية السياسية للأزمة السورية العالقة ومراجعها الاستنادية، وسبل تنفيذها.

وتبقى بعض التساؤلات الضرورية وفي مقدمتها: هل التكالب على سوريا وشعبها و شن حرب وتدمير ممنهج عليهما بحجة إسقاط نظام سلطوي وإحلال نظام ديمقراطي محله_ يُبرر تحطيم كامل مقومات دولة وتشريد شعبها في الداخل والخارج؟ وهل تصدير النموذج الغربي إلى دولة من دول العالم الثالث يعتبر الخيار الأفضل والأكثر مثالية وأخلاقية، وأدى إلي سقوط أكثر من نصف مليون فرد من شعبها بخلاف الجرحى والمعوقين والأرامل؟ وهل السوابق الأمريكية تعطي مصداقية لنواياها؟ وهي التي سبق وساندت في السابق أنظمة تسلطية تفوق النظام السوري، ودون إيلاء أهمية للقيم الإنسانية والأخلاقية والحقوقية_ أن ما ارتكب في حق الشعب السوري من جانب الأطراف الأجنبية التي تدخلت في سوريا تستوجب المحاكمة أمام المحكمة الجنائية الدولية والزامها بالتعويض عن ما ارتكبته من جرائم([6]).


([1])  محمد جمال باروت، العقد الأخير في تاريخ سوريا، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، مارس 2012 ص 268 – 273.

([2])  المرجع السابق ص 274.

([3])  د. عزمي بشارة، سورية: درب الآلام نحو الحرية، المركز العربي للأبحاث والدراسات، بيروت، أغسطس 2013 ، ص 210.

([4])  سمير العيطة، “وتبقى سوريا وطننا”، صحيفة الشروق- القاهرة، 1/6/2020.

([5])  من أصحاب هذا الرأي مثلًا د. عبد العزيز بلقزيز في مقاله “الربيع العربي”: جردة حساب أوليه”، المستقبل العربي، مركز الوحدة العربية بيروت العدد 447 – مايو 2016، ويرى أن القول بأن تسلح المعارضة كان ردًاعلى عنف النظام وأجهزته، وتوفير وسائل الدفاع الذاتي، وهو مبرر عار من الوجاهة، بل ومغرض، … وما من نظام في العام يسمح لجماعة بحمل السلاح واستخدامه ولو كان ديقراطيًّا،، ص 37 وما بعدها.

([6])  لمزيد من التفاصيل حول القوة الأخلاقية في العلاقات الدولية أنظر ملحق مجلة السياسة الدولية عدد يوليو 2017 والمعنون “اتجاهات نظرية القوة الأخلاقية في العلاقات الدولية: ملامح الحضور وإشكاليات الفاعلية” تحرير د. خالد حنفي علي.

اظهر المزيد

د. مصطفى عبدالعزيز

دبلوماسي سابق وكاتب مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى