2021العدد 188دراسات

دفاعًا عن نشر الثقافة العلمية باللغة العربية

أُنشئت جامعة الدول العربية بعد مخاض عسير عام 1945؛ تعبيرًا عما يربط هذه البلدان من لغة مشتركة ومعتقدات دينية متقاربة إلى جانب الجغرافية والتاريخ. وما فتئ القائمون على هذه الهيئة ومختلف المؤسسات الثقافية والفكرية والتعليمية في كافة البلدان العربية- يشيدون بمكانة اللغة العربية مُبدين حرصهم الشديد على الارتقاء بها ونشرها على أوسع نطاق.

 نركّز في هذا المقام على مدى العناية بنشر الثقافة العلمية بلغة الضاد لدى المنظمات والهيئات العربية، وعلى التقصير بشأنها رغم الدور البارز الذي يؤديه هذا النوع من الثقافة في المجتمعات المتقدمة اليوم.

أهمية الثقافة العلمية

كان أول ظهور لمفهوم الثقافة العلمية في الغرب خلال الثلاثينيات من القرن العشرين، ومنذ تلك الحقبة، صار العالم المتقدّم يُوليها اهتمامًا خاصًا، ويعتبرها هدفًا أساسيًّا في مجال التعليم، بل أصبحت تحظى بالأولوية لإسهامها في التقدم والازدهار العلمي والتقني في عديد البلدان([1]). وقد تميّز عهدنا، بدءًا من منتصف القرن العشرين، بالتطوّر المتسارع للتقنيات الجديدة، وهو ما استدعى انتشار الثقافة العلمية عبر العالم.

لكن ما هي “الثقافة العلمية”؟ يعتقد المتتبّعون أن هناك اتفاق على أن “الثقافة العلمية” يجب أن تشير إلى ” كل ما يتعلق بالعلم في السياق الاجتماعي”. غير أنه ليس هناك تعريف واضح يجمع عليه المثقفون لمفهوم “الثقافة العلمية”، والافتقار إلى مثل هذا التعريف يعني أن الثقافة العلمية ودنيا العلوم في أزمة: ( تزايد انعدام الثقة بين رجال العلم والمجتمع، قلة الاهتمام بهذه الثقافة على مستوى الجمهور العريض وحتى بعض المثقفين، تزايد كمّ الأخبار الزائفة (Fake News)… إلخ)، لذلك فمن الضروري والعاجل معالجة هذا الأمر لاسيما أن الثقافة العلمية ضرورية من وجهة النظر الاقتصادية والسياسية والثقافية، وكذا تنمية التفكير النقدي، وهي أفضل سلاح يحدّ من تأثير الأخبار الزائفة على المجتمع.

ومن المؤكد أن من سمات الثقافة العلمية أنها ترتقي بحياة الإنسان، وتدعم الجهود الرامية إلى محو الأمية العلمية والتكنولوجية بين الجماهير. وكما أسلفنا، فمن الصعب أن نجد لمفهوم “الثقافة العلمية” تعريفًا موحدًا، لكننا نستطيع أن نردّد التعريف -الوارد في موقع جامعة ستانفورد (Stanford) الأمريكية الشهيرة- القائل إن الثقافة العلمية هي: “مجموعة القيم التي ترفع شأن العلم كمصدر وحيد لإنتاج المعرفة”([2]).

وإذا قارنَّا ثقافة المجتمعات المختلفة، فإننا ندرك أن من مميزات المجتمعات المتقدمة اليوم انتشار الثقافة العلمية فيها باستغلال كل الوسائل التقليدية والحديثة، التي تتيحها الأدوات التكنولوجية، وأبرزها شبكة الإنترنت.

 وبهذا الصدد، نذكر أنه يوجد في البلدان المتقدمة الآن حوالي مائة مجلة متخصصة في الثقافة العلمية وتبسيط العلوم، أبرزها : الولايات المتحدة (25 مجلة)، بريطانيا (10 مجلات)، الهند (7 مجلات)، فرنسا (5 مجلات)، أستراليا (4 مجلات)، إيطاليا (4 مجلات)، روسيا (4 مجلات)، البرازيل (3 مجلات). وكل هذه المجلات لها مواقع إلكترونية، جلّها يتواصل مباشرة من القراء عبر البريد الإلكتروني.

فالثقافة العلمية هي التي تؤدي إلى ما يسمى بالمجتمع المعرفي؛ لأنها تدعم التفكير العلمي وتساعد على حسن التعامل مع شؤون الحياة، ثم كيف يمكن أن يعيش الإنسان مع الجديد مما تقدمه التكنولوجيا والعلوم التطبيقية بدون الاطلاع الحثيث على بعض تفاصيله بشكل يخدم مصالحه ومتطلباته؟ ولذا فمن بين الأمور الأساسية التي تُعنى بها الثقافة العلمية تبسيط المعلومات حول المستجدات التكنولوجية وأخبارها اليومية.

وبطبيعة الحال، فالثقافة العلمية درجات، منها ما يستهدف السواد الأعظم من المجتمع، ومنها ما يتوجّه إلى تلاميذ المرحلة الثانوية من التعليم وطلاب الجامعات بمختلف تخصصاتهم، ومنها ما يستهدف فئة أكثر تخصصًا مثل أساتذة العلوم في التعليم الثانوي وطلبة كليات العلوم… إلخ. ولا يفوتنا في هذا المقام أن نشير إلى أن نشر الثقافة العلمية ينفع بوجه خاص التلميذ ويسهل عليه استيعاب الكثير من المفاهيم العلمية التي يجدها في مناهج التعليم.

وأهمية الثقافة العلمية تكمن أيضًا في كون جلّ القرارات التي تتخذها حكومات الدول وسلطاتها المختلفة على كافة المستويات (المحلية والوطنية والإقليمية والدولية) تحمل بين طياتها جانبًا ذا صلة بالثقافة العلمية، ثم إن إقناع المواطن بجدوى بعض تلك القرارات لا يتحقق إلا إذا كان لهذا المواطن زاد من الثقافة العلمية، كما أن التشبّع بهذه الثقافة يجعل المواطن يحسن تسيير شؤونه المختلفة ويمنحه أدوات التفكير العقلاني المعتمدة على منهجية علمية متأثرة بالمحيط المعرفي. يكفي أن نشير- على سبيل المثال- إلى الثقافة الخاصة بالجانب الصحي للإنسان والحيوان، وإلى سلامة المنتجات الزراعية التي نتناولها، وإلى الاستخدام السليم للتجهيزات الكهرومنزلية والإلكترونية.

الجامعة العربية والثقافة العلمية

لقد أكد الأمين العام الحالي لجامعة الدول العربية السيد “أحمد أبو الغيط” بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية في 18 ديسمبر 2019- “أن الحفاظ على اللغة العربية وتطويرها والعمل على نشرها يعدّ مجالًا مهمًا من مجالات العمل العربي المشترك الذي تهتم به الجامعة”، ولاحظ أن “اللغة العربية هي لغة حضارة وثقافة وعلم، وأنها من أكثر لغات العالم غنى وثراءً، ومن أسرعها انتشارًا في الوقت الحالي”، وأنها “الحاملة للثقافة العربية بامتداداتها التاريخية لقرون بعيدة، وأنها تمثل الجسر الواصل بين أبناء الأمة عبر 22 دولة عربية، وأنها تمثل كذلك حلقة الوصل بين العرب وتراثهم الممتد”.

كما أشار إلى أنه “يندر أن نجد في هذا العصر لغة يستطيع أبناؤها قراءة واستيعاب منتجها الثقافي الذي يعود لما يزيد عن 15 قرنًا من الزمان، ذلك أن اللغة العربية تُعدّ استثنائية في قدرتها على البقاء والتكيّف”. وفي هذا السياق، دعى السيد الأمين العام لجامعة الدول العربية الحكومات العربية ” للعناية بتدريس اللغة العربية ومناهجها، وناشد المثقفين العرب استكشاف السبل الكفيلة بتطوير اللغة العربية لتواكب العلوم الحديثة([3])“.

      أما الدكتور “محمود أحمد السيد” رئيس هيئة الموسوعة العربية بدمشق فيقول: “ردّدنا في عملنا التربوي أننا نعيش عصر التدفق المعرفي، وأن المعارف كانت تتطلب مئات السنين حتى تتضاعف، أما في عصرنا الحالي فإنها تتدفق في أقل من ثلاثة أشهر، وما دام هذا التدفق يتسم بهذه الغزارة كان على أبناء الأمة أن يواكبوه حتى يعيشوا روح هذا العصر، ولكن يُلاحظ أن هناك فجوة بين هذا التدفق ومواكبته على الصعيد العربي”.([4])

وغنيُّ عن البيان بأن ترقية اللغة العربية لا تتمّ بالتغني بجمالها وأصالتها وماضيها المجيد، وإنما تتمّ اليوم بكثرة استعمالها وانتشارها وسلامة استعمالها، ولا يغيب عن أحد مثلًا أن الترجمة ونقل المعارف من اللغات الأخرى أمرٌ أساسي لدى كل الشعوب الغيورة على لغاتها وتقدمها، وما نلاحظه في حالة اللغة العربية أن أغلب ما يُترجم في المؤسسات العربية يُعنى بميدان العلوم الإنسانية والأدب دون الاكتراث بمجال العلوم البحتة والتطبيقية، وهذه ثغرة في واقعنا اللغوي تدعونا إلى المزيد من العناية بنشر الثقافة العلمية العربية، بالترجمة والتأليف؛ لتقليص هذه الهوّة.

وليس سرًا بأن من أبرز القضايا الثقافية في المجتمعات المعاصرة في الشرق والغرب هي قضية نشر الثقافة العلمية بين المواطنين. وقبل نحو خمسة عقود كان هذا النوع من النشاط مُهمَلَّا في عالمنا العربي رغم أننا كنا نعثر من حين لآخر في مكتباتنا على بعض الكتب والمؤلفات العربية ذات الصلة بالثقافة العلمية البسيطة، غير أن تلك المبادرات كانت تغلب عليها الاجتهادات الشخصية والمحلية الضيقة.

لقد بذلت جامعة الدول العربية جهودًا واضحة منذ نشأتها للاهتمام بالجانب الثقافي والعلمي، لاسيما بعد أن أنشأت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم عام 1970، التي أوكل إليها هذا القطاع، فراحت المنظمة تصدر مجلات ثقافية وعلمية، منها المجلة العربية للعلوم والمجلة العربية العلمية للفتيان. فنحن ندرك من خلال النص التوضيحي التالي للمنظمة مدى عنايتها بالثقافة العلمية ونشرها : “ولأن الثقافة العلمية تغطي مساحة شاسعة من التنوّع والتعدّد على مستويات مختلفة، فإنّه من البديهي أن تُمنح للثقافة العلمية مكانة الصدارة في التنمية الشاملة؛ لتصبح جزءًا لا يتجزأ من التكوين الثقافي للمجتمعات العربية.”([5]). وكانت المنظمة قد وضعت خطة استراتيجية عام 2006، لنشر الثقافة العلمية في الوطن العربي جاءت في أربعة فصول استعرضت القضايا الرئيسة، منها:

  • الثقافة العلمية والتقنية: مفاهيم، مبادئ، اتجاهات
  • الحالة الراهنة لنشر الثقافة العلمية والتقنية.
  • الاتجاهات المستقبلية لنشر الثقافة العلمية والتقنية.
  • دور وسائل الإعلام.
  • دور النشاط التعليمي اللاّصفـّـي (والمجتمعي).
  • دور المجتمع المدني.
  • دور المنظمات والمؤسسات الدولية.
  • مواجهة معوّقات نشر الثقافة العلمية والتقنيّة وتحدياتها.
  • دور أجهزة الثقافة العامة ووسائل الإعلام في تنمية التفكير العلمي في المجتمع.
  • نظم التربية والتعليم ودورها في نشر الثقافة العلمية وتنمية التفكير العلمي.

كما أنشأت المنظمة بدورها عدة هيئات للنهوض بالثقافة العلمية ونشرها، ولعل أبرز هذه الهيئات -المركـز العربـي للتعريب والترجمة والتأليف والنشر الكائن بدمشق، والذي انطلق في عمله بشكلٍ فعلي عام 1991([6]).

غير أننا لا نرى أن كل هذه الجهود تفي بالحاجة على الرغم من أنها زادت في وعي مختلف الهيئات الحكومية في الوطن العربي من إدراكها لأهمية الثقافة العلمية ونشرها. ذلك أن التعامل الميداني مع هذا الموضوع يتطلب إمكانيات بشرية ومادية ليست دائمًا متوفرة على مستوى الأقطار العربية، والأمثلة على ذلك كثيرة، يكفي هنا أن نذكر مجلة العربي الكويتية الشهيرة التي ارتأت في مرحلة معينة تخصيص كمّ من الصفحات لهذا النوع من الثقافة في كل عدد، ثم عدلت عن ذلك، وقررت إصدار “مجلة العربي العلمية”، وبعد ذلك تخلّت عنها ورجعت إلى ما كانت عليه.

كما أصدرت مجلة الفيصل السعودية الذائعة الصيت منذ سنوات “مجلة الفيصل العلمية” التي تُعنى بنشر الثقافة العلمية، وذلك برعاية مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية، ثم توقفت عدة سنوات، وعادت هذه السنة إلى الصدور برعاية مؤسسة جائزة الملك فيصل. وحسب علمنا فقضية تمويل مثل هذه المجلات كانت السبب الرئيس في هذا التذبذب، وهناك أمثلة عديدة أخرى تثبت قلة توفر المقالات ذات الطابع العلمي الموجهة للجمهور العريض نظرا لقلّة المحفّزات الموجهة للكتّاب والمترجمين، ونتيجة لذلك تظهر مشاريع مجلات علمية كثيرة في الوطن العربي ثم تندثر.

وهكذا ندرك أن قضية نشر الثقافة العلمية وتطويع المصطلحات الجديدة([7]) ليست قضية جامعة الدول العربية وحدها، بل قضية ينبغي أن تسهر عليها العديد من القطاعات الحكومية والخاصة في كل قطر عربي، فضلًا عن جهود الجامعة العربية. دعنا فيما يلي نقدم مؤسّستين عربيتين كنموذجين بذلتا جهودًا كبيرة خلال أربعة عقود في مجال نشر الثقافة العلمية في الوطن العربي، ليتهما تكونان قدوة لمؤسسات عربية أخرى. هاتان المؤسستان هما: مؤسسة الكويت للتقدم العلمي، ومدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية السعودية.

مؤسسة الكويت للتقدم العلمي

أُنشئت مؤسسة الكويت للتقدم العلمي غير الربحية عام 1976، وصممت قوانينها بحيث تكون دائمة التمويل من قبل الشركات العاملة في الكويت، وفي هذا السياق، نجد في النصوص المسيّرة للمؤسسة أن من مهامها تطوير الثقافة العلمية؛ ولذا احتوت المؤسسة على عدة مراكز علمية متخصصة وساهمت في عمليات التنمية المستدامة بشكلٍ كبير في البلاد. ومن بين المراكز التي أنشأتها المؤسسة ذات الصلة بنشر الثقافة العلمية في المجتمع “مركز صباح الأحمد للموهبة والإبداع”، الذي رأى النور عام 2010. وخدمةً لنشر الثقافة العلمية قررت المؤسسة إصدار أربع سلاسل من الكتب العلمية هي : (سلسلة الثقافة العلمية، سلسلة الكتب المترجمة، سلسلة التراث العلمي العربي، سلسلة المؤلف الناشئ)، وهذا فضلًا عن سلاسل كتب متخصصة.

أما الفروع العلمية التي تتطرق إليها هذه المنشورات فهي تغطي كافة فنون المعرفة العلمية والتكنولوجية والطبية، وقد ناهز عدد هذه المؤلفات مائتي (200) كتاب، نقرأ في موقع بوابة مؤسسة التقدم العلمي نصًا تعريفيًّا كُتب عام 2016 : “بوابة الكويت للتقدم العلمي هي أول مكتبة إلكترونية علمية باللغة العربية توفّر للطلاب والمعلمين والباحثين معلومات علمية معتمدة بجودة عالية وبرامج وثائقية”، ثم جاء في نفس النص: “وتتميز البوابة بسهولة استرجاع وتحميل المحتوى المفهرس كما يتمتع الباحث بيسر البحث في هذه البوابة الزاخرة بالمعارف العلمية من موسوعات وكتب علمية ومراجع نشرتها مؤسسة الكويت للتقدم العلمي على مدى السنوات الماضية… “([8]).

وفي نص آخر صادر في مارس 2017 جاءت على لسان مدير المؤسسة في سياق استعراضه خطة الفترة (2017-2021) : “إن الاستراتيجية تستهدف تعزيز نشر الثقافة العلمية من خلال وسائل عديدة، منها التطبيقات الإلكترونية ودعم وتشجيع الشباب وزيادة نسبة الدعم المقدم للقطاع الخاص عبر برامج مميزة لتعزيز الابتكار”. ويدرك المتتبع لمنجزات واستراتيجيات المؤسسة أن محور نشر وتعزيز الثقافة العلمية يعتبر من أولويات نشاط هذه الهيئة([9]).

ولعل أبرز ما قدمته المؤسسة في مجال الإعلام العلمي هو إصدار ترجمة لمجلة راقية بدءًا من عام 1986، أطلق على نسختها المترجمة اسم “مجلة العلوم”، يتعلق الأمر بالمجلة الأمريكية “ساينتفيك أميركن” (Scientific American) التي صدرت عام 1845؛ وبذلك تكون الكويت هي السبّاقة في العصر الحديث إلى نشر الثقافة العلمية الراقية باللغة العربية. وقد اشتهرت “مجلة العلوم” خلال ثلاثة عقود وانتشرت في المؤسسات التعليمية والأكاديمية عبر الوطن العربي، لِما فيها من أخبار موثقة وترجمة علمية دقيقة ينجزها أساتذة جامعيون في مختلف الاختصاصات.

ومما يزيد من مكانة المجلة أن طاقمها كان يمنح للمترجم شهرين كاملين لإنجاز ترجمة مقال وفق معايير دققتها هيئة التحرير في وثيقة داخلية، ثم يقوم بمراجعة الترجمة مختص آخر في نفس الحقل؛ كل هذا لإتقان الترجمة ومصطلحاتها، ثم عكفت المؤسسة على إصدار قائمة طويلة من المصطلحات وما يقابلها باللغة العربية ووضعتها في موقعها خدمة للمترجمين وغيرهم، وهذا يعدّ خدمة جليلة للغة العربية العلمية.

غير أنه لأسباب تبدو مادية ارتأت المؤسسة التوقف عام 2016 عن إصدار ترجمة مجلة “ساينتفيك أميركن” والإبقاء على تسمية “مجلة العلوم”، التي أصبح محتواها يضم ترجمة لمقالات مختارة لا تُستقَى من مجلة علمية واحدة بل من عدّة مجلات راقية، منها مجلة “نيوساينتيست” (New Scientist) البريطانية، التي صدرت في لندن عام 1956، ومجلة “ساينس” (Science) الأمريكية، التي ظهرت إلى الوجود عام 1880. وبذلك تواصل “مجلة العلوم” مشوارها في أداء مهمتها النبيلة. نشير بهذا الصدد إلى أن مجلة Scientific American أصبحت منذ سنوات تترجم في مصر تحت عنوان “للعِلم”([10]) وتنشر إلكترونيًا فقط، والولوج إلى موقعها مجاني، بل لها نشرة أسبوعية تُوجه لكل من يطلبها من القراء عبر عنوانه الإلكتروني.

ومن المعلوم أن مؤسسة الكويت للتقدم العلمي تصدر مجلة أخرى فصلية (غير مترجمة) تسمى “مجلة التقدم العلمي” صارت الآن بفضل تجربتها الطويلة من المجلات التي يُعتدّ بها في مواكبة الأخبار العلمية والتكنولوجية ونشر الثقافة العلمية، لكن يبدو أن توجّه المؤسسة الآن يفرض النشر الإلكتروني دون الورقي لهذه المجلة مع نشرة أسبوعية للمشتركين في بريد المؤسسة.

مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية

في عام 1977، أنشأت الحكومة السعودية بمدينة الرياض “المركز الوطني العربي السعودي للعلوم والتقنية”، وألحق برئاسة مجلس الوزراء، ثم في عام 1985 أطلق على هذا المركز اسم “مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية”، وصار أبرز قطب علمي في المملكة.

ومن المهام الرئيسية التي أوكلت للهيئة الجديدة، الإشراف على البحوث العلمية التي من شأنها خدمة التنمية في البلاد، وتسهر هذه الهيئة بوجهٍ خاص على تشجيع الابتكار والنشر العلمي والثقافة العلمية بين الشباب والطلبة والجماهير العريضة، وفي هذا السياق، بذلت المدينة جهودًا كبيرة في سبيل تنمية المعرفة العلمية وتعزيز الوعي بأهمية العلوم والتقنية والهندسة والرياضيات لدى أفراد المجتمع العربي، ومن البرامج التي تُعنَى بإعداد جيل مزّود بالمعرفة في مجالات العلوم والتقنيات والابتكار( إقامة ورشات عمل، ومخيّمات صيفية، ومسابقات، ودورات تدريبية في شتى المعارف).

      ومن أبرز أهداف تلك البرنامج نذكر: تحفيز المشاركين على الاهتمام بالمجالات العلمية والمهنية، وتعزيز ثقافتي البحث العلمي والاختراع، وإثراء المحتوى العلمي العربي، وتشجيع الطلبة على التنافس والتميّز والإبداع، وتفعيل دور الشبكات الاجتماعية التعليمية…وهكذا، عملت المدينة بصفة تدريجية على تحقيق ما يلي :

  • إعداد الخطط ورصد مؤشرات نشر المعرفة العلمية في المجتمع.
  • اقتراح وتنفيذ البرامج المعنية بالتواصل العلمي وتنمية المعرفة.
  • المشاركة في المعارض العلمية المتخصّصة.

      وهكذا تقوم المدينة بإنتاج حلقات رسوم متحركة ذات طابع علمي تسهم في إيصال المعرفة العلمية إلى الجيل الناشئ بطرق مشوّقة، بحيث تتناول مفاهيم علمية مثل أبرز الاكتشافات والاختراعات، والقوانين الفيزيائية والرياضية، وتفسير الظواهر العلمية في حياتنا. ولم تغفل المدينة عن استغلال التواصل الصوتي عبر تسجيلات يتعرّف متتبعها- بالمجّان-على مستجدات الثقافة العلمية وعلى النشاطات المختلفة للمدينة.

وتعدّ مجلة “نيتشر” Nature من أعرق المجلات العلمية في العالم، إذ ظهرت عام 1869 في بريطانيا وذاع صيتها بمرّ السنين! وقد عرف ناشرو هذه المجلة عبر الزمن كيف يجعلون منها منارة تضيء عالم العلوم في مختلف بقاع العالم؟ وكانت لها (ولا يزال) السبق في الإعلان عن الكثير من الاكتشافات والابتكارات. وعلى ضوء ذلك، وحرصًا من مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية على نشر الثقافة العلمية باللغة العربية في أرجاء المملكة والبلاد العربية- قررت التكفل بترجمة هذه المجلة العريقة إلى لغة الضاد. وهكذا تمّ الاتفاق مع أصحاب المجلة عام 2012 على ترجمتها، وأُطلق على النسخة العربية اسم “مجلة نيتشر، الطبعة العربية”، وانطلقت هذه النسخة العربية للمجلة بصدور عددها الأول في أكتوبر 2012.

نشير إلى أن هذه المجلة تضع في متناول متصفحها معجم إنجليزي- عربي للمصطلحات العلمية([11]) التي لا توجد في قاعدة المصطلحات “باسم” السعودية، وقاعدة ”باسم”([12]) للمصطلحات العلمية من المشاريع الرائدة التي كانت المدينة قد أنجزتها منذ عقدين حيث ضمّنتها نحو 300 ألف مصطلح علمي، جلّها بأربع لغات (عربية-إنجليزية- فرنسية- ألمانية)، وهي مفتوحة للجميع بالمجّان، ومع ذلك فإن الكثير من المصطلحات الواردة في مجلة “نيتشر” غير موجودة باللغة العربية بَعد بسبب حداثتها. ولذلك وضعت المجلة هذا المعجم في موقعها الإلكتروني الذي يُثرى تدريجيًا بظهور الأعداد المتوالية للمجلة.

 ومنذ عام 2012، صارت النسخة العربية للمجلة تصدر شهريًّا، ورقيًّا وإلكترونيًّا في قائمة إصدارات المدينة، مع نشرة أسبوعية تصل إلى من يطلبها عبر البريد الإلكتروني تلخص المستجد من الأخبار والمقالات.

أما الفتيان العرب فخصصت لهم المدينة منذ 2012 ترجمة المجلة الفرنسية “العلم والحياة” (Science & Vie)([13])، التي تحتلّ المرتبة الأولى على المستوى الأوروبي في نشر الثقافة العلمية، وقد تأسست عام 1913، وأطلقت المدينة على النسخة العربية اسم “مجلة العلوم والتقنية للفتيان”، ولحد الآن تصدر سنويًّا أربعة أعداد من هذه المجلة. وبالموازاة مع ذلك، تصدر المدينة مجلة “العلوم والتقنية”، وهي مجلة فصلية تنشر الثقافة العلمية لعموم المواطنين.

ومن الأعمال الجليلة التي قامت بها المدينة في سبيل تعميم الثقافة العلمية بلغة القرآن إصدار سلاسل كتب متنوعة منها: سلسلة “كتب المستقبل”، وسلسلة “طبيب العائلة”، وسلسلة “كتب الأطفال”. فعلى سبيل المثال، نجد في السلسلة الأخيرة الخاصة بالأطفال العنوانين التالية: (عبْر الماء، عبْر البرّ، عبْر الفضاء، عبْر الجوّ، العلوم والعلماء، تجارب عملية مع المواد، المغناطيس، اكتشاف الكون، مع أجسامنا، النجوم، …إلخ). أما قائمة الكتب المترجمة الموجهة للشباب والطلبة والأساتذة والجمهور العريض فنجدها تغطي كل فروع العلوم والتكنولوجيا بما فيها تاريخ العلوم والعلماء، ولم تقتصر جهود المدينة على ترجمة الكتب في مختلف فنون المعرفة بما يفيد شرائح كثيرة من المجتمع العربي، بل راحت تفتح باب التأليف أمام العلميين العرب فنتج عن ذلك إصدار عدد كبير من الكتب القيّمة، والأجمل من ذلك أن كل هذا الإنتاج العلمي والثقافي القيّم متاح بالمجان لجميع القراء بدون استثناء.

وفي بقية العالم العربي.

لا زلنا في العالم العربي بعيدين عن بلوغ المرحلة التي وصل إليها الغرب في نشر الثقافة العلمية على الرغم من أن الاهتمام بهذا الموضوع قد بدأ منذ قرابة قرن ونصف من خلال إصدار مجلة “المقتطف” المصرية عام 1876، وقد ظلت تصدر شهريًّا حتى عام 1952، حيث كانت تُعنى بتعريف القارئ بالجديد في مجال العلوم والفلك بأسلوب مبسط، وما يدل على مضمونها ما كُتب تحت عنوانها الرئيس، وهو العبارة “مجلة علمية صناعية زراعية”([14]).

نحن لا ننكر أنه كانت هناك محاولات عديدة في البلاد العربية مثل مصر وتونس، في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين من أجل بعث الثقافة العلمية باللغة العربية عبر بعض المجلات، لكن هذه المنشورات لم ترق إلى المستوى الرفيع الذي تبنّته مؤسسة الكويت للتقدم العلمي ومدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية في مختلف إصداراتهما سواء تعلق الأمر بالمضمون أو بالإخراج.

ومن المبادرات الطيبة في باب نشر الثقافة العلمية على الصعيد العربي نجد الإمارات العربية المتحدة تصدر منذ نحو ثلاث سنوات ترجمة عربية للمجلة الأمريكية “بيوبلار ساسينس” (Popular Science([15]))، التي رأت النور عام 1872، وأطلقت على النسخة العربية الإلكترونية عنوان “العلوم للعموم”([16]).

ومنذ نحو سنة أنشأ فريق من الباحثين العرب في كاليفورنيا منصّة علمية ذات جودة عالية تُعنى بالذكاء الاصطناعي أطلق عليها “منصّة الذّكاء الإصطناعيّ باللغة العربيّة”([17]). ولا يمكن أن نغفل في هذا الاستعراض المبادرة القطرية في تأسيس منظمة المجتمع العلمي العربي عام 2010([18])، وقد رسمت المنظمة 15 هدفًا منها :

  • الاهتمام بأوضاع وهموم المجتمع العلمي العربي، وتسليط الضوء عليها والسعي في إيجاد حلولًا فعَّالة وعاجلة لها.
  • تقوية الروابط والعلاقات بين العلماء العرب، ومدّ جسور التواصل بينهم.
  • السعي من أجل توطين وامتلاك المعرفة في الوطن العربي، وجعل العلم جزءًا أساسيًّا من الثقافة والحياة الاجتماعية.
  • نشر مجلات ودوريات وكتب مطبوعة وإلكترونية.
  • دعم وتكريس اللغة العربية في الكتابة العلمية.
  • تشجيع الصحافة العلمية وتكوينِها تكوينًا منهجيًّا جيدًا، قائمًا على أُسُس الجودة والأمانة.
  • المساعدة على زيادة إنتاج ونشر الفكر والمعرفة والثقافة العلمية في العالم العربي.

إنها أهداف نبيلة وبعيدة المدى تلخص ما تصبو إليه لغة الضاد والمدافعون عنها. نتمنى أن تتكاتف جهود جميع الهيئات العربية الحكومية منها والخاصة، حتى تتجسد هذه الأهداف على أرض الواقع في جميع ربوع الوطن العربي.


(*) أستاذ دكتور بالمدرسة العليا للأساتذة بالجزائر -الجزائر

([1])  انظر مثلًا الثمانين محورًا في الثقافة العلمية التي يعالجها المرجع التالي

Bowdoin Van Riper A. : Science in popular culture, Greenwood Press, London, 2002.

([2])  M. J. Feuer M.J, Towne L., & Shavelson R.J.: Scientific Culture and Educational Research, Zeitschrift für Erziehungswissenschaft, 7th Year, Supplement 4, 2004, p. 24.

([3])  انظر مثلا الموقع :  https://www.arabiclanguageic.org/view_page.php?id=14152.

([4])  محمود أحمد السيد : عالمية اللغة العربية وتحديات العصر، مجلة التعريب، 60، يونيو 2021، ص 13.

([5])  للاستزادة، انظر الصفحة التالية في موقع المنظمة :

 http://www.alecso.org/nsite/ar/mn-science/%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B4%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%B9/%D9%86%D8%B4%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%84%D9%85%D9%8A%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A

([6])  انظر تفاصيل منجزات هذا المركز في مجال التأليف والترجمة في الرابط : http://www.acatap.org

([7])  انظر سويسي، محمد : العربية ولغة العلم، مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق، 61، 1986، ص 671-675.

([8])  انظر التعريف بمؤسسة الكويت للتقدم العلمي وأهدافها في موقعها الإلكتروني : http://www.kfas.org/ar

([9])  انظر النشرات الفصلية لمؤسسة الكويت للتقدم العلمي في الموقع :

http://www.kfas.org/ar/Media-Publications/KFAS-Newsletters

([10])  انظر التفاصيل في موقع المجلة الإلكتروني : https://www.scientificamerican.com/arabic/about

([11])   رابط قائمة المصطلحات (إنجليزية-عربية)  في مجلة “نيتشر” : https://arabicedition.nature.com/terminology/a

([12])  رابط موقع “قاعدة “باسم” للمصطلحات : http://basm.kacst.edu.sa

([13]) رابط موقع مجلة “العلم والحياة (Science & Vie) التي تقوم المدينة بترجمتها : https://www.science-et-vie.com

([14])  محمد سعد عبد الحفيظ : “المقتطف”.. أول موسوعة علمية عربية حملها القارئ بين يديه، صحيفة أصوات الإلكترونية، 4 سبتمبر 2019.

https://aswatonline.com/2019/09/04/%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%82%D8%AA%D8%B7%D9%81-%D8%A3%D9%88%D9%84-%D9%85%D9%88%D8%B3%D9%88%D8%B9%D8%A9-%D8%B9%D9%84%D9%85%D9%8A%D8%A9-%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%A9-%D8%AD%D9%85%D9%84%D9%87/

([15])  موقع المجلة الأمريكية : https://www.popsci.com

([16])  موقع مجلة “العلوم للعموم” : https://www.popsci.ae

([17])  موقع المنصّة : https://aiinarabic.com

([18])  تقدم هذه المنظمة أسبوعيا الجديد في العلوم في موقعها https://arsco.org/aboutus-Arab ، فضلا عن مقالات في الثقافة العلمية ومجلة علمية أكاديمية محكمة تنشر بحوثها باللغة العربية دون سواها.

اظهر المزيد

د ابوبكر خالد سعد الله

استاذ دكتور بالمدرسة العليا للأستاذة (قسم الرياضيات) بالجزائر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى