2020العدد 184ملف عربي

دلالات الإصرار التركي على الامتداد العسكري ـ رغم المشاكل الداخلية ـ عربيًا ومتوسطيًا وآسيويًا

تركيا من الدول القليلة في العالم التي تملك ثروات طبيعية وموارد بشرية وموقعًا جغرافيًا استراتيجيًا وتلعب دورًا بارزًا في السياسات الإقليمية والدولية، وهي نجحت في إرساء موقع ثابت ومؤثر في العلاقات الدولية من دون أن تمتلك ثروة من النفط ومن الغاز الطبيعي حيث بالكاد تنتج أقل من ثلاثة في المئة فقط من حاجتها للطاقة فيما تستورد ما تبقى وبفاتورة سنوية لا تقل عن خمسين مليار دولار.

لذلك عندما أعلن الرئيس التركي “رجب طيب إردوغان” في( 21 آب/ أغسطس 2020 م) عن اكتشاف حقل من الغاز الطبيعي في البحر الأسود بحجم (320) مليار متر مكعب كان ذلك بمثابة إنجازٍ كبيرٍ يُدخل تركيا لاحقًا في نادي الدول المنتجة للطاقة وإن كان ذلك يتطلب انتظار بضع سنوات إضافية.

مرت تركيا بعد إعلان الجمهورية في مرحلتين من نظامها الاقتصادي وفي علاقاتها الدولية.

فقد عملت على إقامة اقتصاد بتوجيه مركزي اقتداء بالنموذج السوفيتي حتى بداية الثمانينيات، حين بدأت بالانتقال التدريجي إلى الاقتصاد الحر الذي لم يكتمل إلى حين وصول حزب العدالة والتنمية الذي أطلق مشاريع التحرر والخصخصة والانفتاح على الاستثمارات الأجنبية.

واكب ذلك تحرر تركيا سياسيًا إلى حدٍ كبيرٍ من نظام القطبين خلال الحرب الباردة وانفتاحها على محيطيها الإقليمي والدولي ضمن سياسة تصفير المشكلات الأمر الذي أنتج “توليفة” سياسية واقتصادية دفع تركيا قدمًا في سلم الاقتصادات العالمية والتأثير الخارجي.

لكن ذلك لم يكن كافيًا لحياكة مشروع نفوذ خارجي، فاتساع نفوذ القوى الكبرى يفترض وجود رافعة فكريةــ إيديولوجية تشكل إطار دفع وتصويب وتحفيز للمشروع. والمشروع التركي في محيطاته الإقليمية ارتكز على أكثر من عنوان  لايزال يرفده بالطاقة والحافز ليبقيه حيًا وحيويًا.

الإطار الإيديولوجي:

حتى في ذروة الانفتاح التركي على العالم العربي والبلقان والقوقاز(أرمينيا خصوصًا في العام 2009 م) ، فإن منظّري حزب العدالة والتنمية كانوا يجاهرون بأنَّهم يحملون مشروعًا عثمانيًا جديدًا يشمل كل الأراضي التي كانت تحت السيطرة العثمانية، ولم ينأى أحد بنفسه عن التصريح في هذا الاتجاه من “إردوغان وعبدالله غول وأحمد داود أوغلو” إلى آخرين، وكان الاهتمام منصبًّا جغرافيًّا  على سوريا والعراق وسياسيًّا على سائر الدول وفي رأسها مصر وبعض دول الخليج العربية.

في ما يتعلق بسوريا ومصر باشر حزب العدالة والتنمية وضع اليد على ما كان يدخل ضمن (الميثاق الملّي) لعام 1920 م أي شمال سوريا والعراق، وكان البحث في وضع مشروع دستور فدرالي في العراق بعد غزوه عام 2003 م بداية اعتراض “أنقرة ” حيث صرح وزير الخارجية عام 2005 م “عبدالله غول” قائلًا:” إنَّ تركيا سلَّمت عام 1926 م ولاية الموصل إلى عراق موحد والآن إنَّ أي تقسيم للعراق يعني حتمية استرجاع الموصل، والموصل هنا كانت في نهاية الدولة العثمانية اسم ولاية تشمل كل شمال العراق الحالي بما فيها الفيدرالية الكردية الحالية.

وفي سوريا كان اندلاع الأزمة الفرصة السانحة؛ لوضع اليد على شمال سوريا، فدعمت تركيا المعارضات المسلحة واحتضنت “داعش” ماليًا وتنظيميًا وتسليحيًا ولوجستيًا وتهريبًا للنفط السوري المسروق، وجهدت “أنقرة”؛ لإسقاط نظام الرئيس السوري بشار الأسد، وكانت ذروة العدائية التركية لسوريا هو إعلان “إردوغان” قبل سنوات قليلة جدًا أنَّه لا يعترف حتى بالدولة السورية، شاطبًا بذلك سوريا كدولة وسيادة وجغرافيا ناهيك عن النظام من الوجودــ كل ذلك كان ؛ لتسهيل السيطرة على شمال سوريا بعدما بات مستحيلًا اقتلاع الأسد من السلطة.

وبذلك احتلت تركيا تقريبًا كل منطقة شمال غرب سوريا وأجزاء من شمال شرق “الفرات”، وفي “إدلب” أقامت تركيا محمية ضخمة من عشرات آلاف الإرهابيين الذين تحولوا إلى جيشٍ موازٍ للجيش النظامي التركي يستخدمه النظام التركي حيثما احتاج إليه من شمال سوريا والعراق إلى ليبيا وصولًا مؤخرًا إلى جنوب “القوقاز”.

ورغم كل المصالح الاقتصادية في شرق المتوسط وفي ليبيا فإنَّ نظام حزب العدالة والتنمية  كان يظلل دائمًا حركته بأنَّها لحماية “الوطن الأزرق” التركي ــ أي وضع تركيا يدها على أكبر مساحة ممكنة من مياه شرق المتوسط ــ فضلًا عن رغبة بلاده في “حماية” قبائل من أصل تركي في ليبيا.

أمَّا في مصر فقد حاول “إردوغان” دغدغة غرائز المتدينين  وإظهار أنَّه خليفة المسلمين ومجدد الخلافة، ولم تكن دعوته في جامعة القاهرة إلى عدم الخوف من العلمنة سوى محاولة لذر الرماد في العيون وإخفاء مشروعه الفعلي في إقامة الخلافة بطريقة عصرية عبر جماعة الإخوان المسلمين وهو الأمر الذي تنبه له أركان “الدولة العميقة” في مصر فأطاحوا بحكم الإخوان في ثورة 30 يونيو 2013 م.

بطبيعة الحال فإنَّ الدول الطامحة والتوسعية مثل “تركيا” مهما عظمت أهدافها الاقتصادية والسياسية فإنَّها تبقى تحتاج إلى دعامة إيديولوجية  تشبع الغرائز القومية والدينية في الداخل.

ومن الأمثلة الساطعة على ذلك قرار “إردوغان” في صيف 2020 م بتحويل كنيسة “آيا صوفيا”  إلى جامع في لحظة لا تبرر هذا النوع من القرارات الحساسة، ولم يكترث “إردوغان” لردود الفعل العالمية، وكان على حق في توقعه حيث اقتصرت ردود الفعل في إطار الاحتجاجات اللفظية. لكنه بهذه الخطوة حقق ما لم يحققه أسلافه وبأبخس الأثمان تحول إلى بطل قومي وبطل ديني وبدا كما لو أنَّه أعاد فتح إسطنبول من جديد، وهو بذلك يعزز من صورته كزعيم عالمي  يواجه ويتحدى ويهدّد.

والأمر نفسه انسحب على التوتر مع اليونان عندما  اعتبر “إردوغان” أنَّ معركته هناك هي معركة تصحيح ما جاءت به معاهدة “لوزان” عام 1923 م التي فرّطت برأيه بمصالح تركيا، وكان يقصد بذلك “مصطفى كمال أتاتورك” الذي كان رأس تركيا عند توقيع المعاهدة، وقد ساعد “إردوغان ” في تحدّيه لليونان وإرسال سفن تنقيب إلى مياه اقتصادية يونانية بأنَّ تركيا ليست بين الموقّعين على اتفاقية ( البحار) لعام 1982 م التي تعطي اليونان مساحات واسعة جدًا في “إيجه ” والمتوسط . وبالمناسبة فإنَّ إسرائيل هي أيضًا لم توقع على الاتفاقية؛ لتكون نموذجًا للدول المتمردة على القانون الدولي تمامًا مثل عدم انضمام إسرائيل  لمنظمة الطاقة النووية وتفلتها من مراقبة منشآتها النووية.

وما يحسب في الفترة الأخيرة هي اشتداد النزعة القومية من خلال توسيع دائرة التدخلات العسكرية؛ لتطال ما لم يكن تابعًا للدولة العثمانية ويدخل في نطاق تعزيز الفكرة الطورانية أي التدخل التركي في “قره باغ” دعمًا مطلقًا لأذربيجان والذي انتهى حتى الآن إلى خطوة يراد منها تعزيز “خط طوران” من إسطنبول إلى نخجوان فممر بري جديد وغير مسبوق من “نخجوان “عبر الأراض الأرمنية إلى “أذربيجان”.

وما يمكن أن يأخذ تركيا إلى مسارات مدمرة هو أن ينغرز في رأس قادتها اعتقاد بأنَّ الدوافع الإيديولوجية قد تكون كافية لرسم حدود جديدة لتركيا برية وبحرية. وفي هذا الإطار يتقدم نموذجان  من التاريخ التركي والتاريخ الأوروبي، إذ مع وصول جمعية الاتحاد والترقي إلى السلطة عام 1909 م حاملة نزعة طورانية شديدة ما لبث قادتها أن تورطوا في حروب في (البلقان وشمال أفريقيا) ثم انخرطوا مع ألمانيا في الحرب العالمية الأولى مدفوعين بإقامة “طوران الكبرى”، وكانت النتيجة انهيار الدولة واحتلال الإنكليز للعاصمة إسطنبول في ربيع العام 1920 م.

وفي ألمانيا استولت على فكر زعيم الحزب النازي “أدولف هتلر” فكرة تفوق العرق الألماني الآري والسيطرة على أوروبا وانتهى الأمر إلى اندحار ألمانيا وتقسيمها إلى دولتين وانتحاره هو شخصيًا.

الاقتصاد التركي:

ليس من بلد أو مشروع يمكن أن يتكيء فقط على النوازع الإيديولوجية مهما كانت عظيمة ونبيلة ومحقة، والقاعدة في الصراعات الدولية أنَّه ليس هناك دولة قوية من دون اقتصاد قوي.

ولقد عملت تركيا منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة على انتهاج سياسات سياسية واقتصادية عملت على تحفيز الاستثمار الخارجي ورفع وتيرة الإنتاج الصناعي وتحفيز التبادل التجاري مع الخارج.

وبالفعل فقد نجحت  الإجراءات الحكومية في بناء اقتصاد قوي ورفع معدل الدخل الفردي إلى أكثر من (10) آلاف دولار ووصول الصادرات والواردات إلى حوالي (450) مليار دولار، وبلغ حاصل الناتج القومي غير الصافي (850) مليار دولار ووصل الاقتصاد إلى المرتبة (16) في سلم الاقتصادات العالمية، وأقيمت مشاريع عمرانية ضخمة مثل الجسور والأنفاق والمطارات.

تعرض الاقتصاد التركي بطبيعة الحال إلى ضغوطات كبيرة من بعض الجهات نتيجة سياسات “أنقرة” الخارجية، ومن ذلك العقوبات الأمريكية والأوروبية والخلاف مع كل من السعودية والإمارات ومصر، وتراجع سعر صرف الليرة التركية التي فقدت ثلثي قيمتها بين(2016 و 2020 م). كما تراجعت في الأشهر الأخيرة ؛ بسبب وباء كورونا حجم احتياط العملة الصعبة في البنك المركزي ليخسر نصف موجوداته خلال فترة قصيرة بحيث تراجع الاحتياط من (110) مليارات دولار إلى حوالي الخمسين مليار دولار، كما بلغت البطالة أرقامًا قياسية وكذلك الدين الخارجي الذي يلامس (500) مليار دولار.

مع ذلك فإنَّ الاقتصاد التركي ليس اقتصادًا صغيرًا يمكن  إضعافه بسرعة وبرزمة عقوبات أو نتيجة خضة من هنا أو من هناك، قد لا يكون قادرًا على تغطية مغامرات عسكرية كبيرة وواسعة لكن حتى الآن لم ينكسر بسبب العمليات العسكرية في أكثر من جبهة.

إلى ذلك  كانت تركيا حتى الأمس القريب تعتمد بصورة كاملة على واردات السلاح ؛ لتلبية حاجاتها العسكرية، ولا سيما المقاتلات والسفن الحربية والصواريخ والدبابات والمدرعات، لكن الصناعة العسكرية التركية بدأت تظهر حضورها من خلال التركيز على تصنيع طائرات بلا طيار وطائرات مسيرة وقد أثبتت هذه الطائرات فعاليتها في الحرب في ليبيا وفي شمال العراق وفي حرب “قره باغ ” الأخيرة كان لهذا النوع من الطائرات دور بارز في تقدم الجيش الأذري، وتحولت تركيا بفضل هذه التكنولوجيا إلى بلد مُصدر للسلاح للعديد من الدول منها (أذربيجان وأوكرانيا وغيرها)، وبالتالي فإنَّ الصناعات العسكرية التركية ترفد حروب تركيا الخارجية وتقلل من اعتمادها وارتهانها لشروط الدول المصدرة للسلاح.

ولقد شكلت العلاقات التركية ــ القطرية مثالًا على علاقات الاندماج والتكامل بين بلدين: واحد قوي بقدراته البشرية والعسكرية والاقتصادية ، وآخر بموارده المالية التي لا تنضب.

ولذلك عندما كان الاقتصاد التركي  يمر بفترات صعبة من ضغوط على الليرة التركية  ومن عقوبات خارجية وتراجع احتياط العملة الصعبة، كانت دولة قطر تتقدم وتقدم في كل مرة مساعدات مفتوحة إلى تركيا بعشرات مليارات الدولارات إلى أن يستعيد الاقتصاد توازنه وعافيته، وبذلك فإنَّ الرئيس التركي “رجب طيب إردوغان” كان يبدو مطمئنًا إلى أن بلاده يمكن أن تتجاوز أي صعوبات مادية قد تظهر، بفضل التحالف الوثيق مع إحدى أغنى دول العالم، وقد ازداد  هذا التحالف متانة مع الدور العسكري التركي في توفير الحماية لقطر من خلال القاعدة العسكرية التركية هناك التي تعززت مع بداية انفجار الصراع بين قطر وبعض الدول الخليجية العربية من دون أن يغير ذلك من ثابتة أن الحماية الأساسية لقطر تأتي ليس من القاعدة العسكرية التركية بل من قاعدة العديد الأمريكية ــ إحدى أكبر القواعد الأمريكية في منطقة الخليج والشرق الأوسط.

خريطة القوى المواجهة لتركيا:

تستفيد تركيا في حروبها ومغامراتها العسكرية الخارجية من عوامل أخرى تشجعها ضمنًا على المضي بهذه المغامرات التي تبدو أحيانًا بعيدة عن البرّ التركي مثل الوضع في ليبيا.

  1. انقسام جبهة القوى العربية المعادية لتركيا، وتبرز في هذا الإطار كل من (سوريا والسعودية والإمارات ومصر)؛ ذلك لأنَّ هذه الدول هي الأكثر عداوة لتركيا ومشاريعها في المنطقة، ولكن قاعدة المواجهة الأساسية التي يمكن أنَّ تلحق الضرر في تركيا وإلحاق هزيمة كبيرة بها هي سوريا، وعلى الرغم من انفتاح الإمارات ومصر على دمشق، فإنَّها لم تصل إلى حدٍ يوفر قاعدة صلبة لمواجهة “أنقرة”؛ فالضغوطات الأمريكية لا تزال تحول حتى الآن دون تطوير العلاقات المصرية ـــ الإماراتية ــ السعودية مع نظام الرئيس السوري “بشار الأسد” كذلك لا تزال هذه الدول العربية وغيرها تحاذر القيام بأي خطوات عملية للتعاون مع نظام لم يتخل ولا يمكن له أن يتخلى عن إيران في سياساته منذ(40) عامًا والتي كان لها دور بارز في مواجهة الهجمة الإرهابية على سوريا خلال السنوات العشر الأخيرة، كما أنَّ الدول العربية التي بيدها الحل والربط مثل (مصر والسعودية والإمارات) لا تزال عاجزة عن إعادة سوريا إلى جامعة الدول العربية.

وينسحب موضوع الانقسامات أيضًا على العراق  التي تتشلع قواه إلى أكثر من جهة، وهو ما يسمح لتركيا بأن تستبيح الأراضي العراقية وتنشيء هناك أكثر من(20) مركزًا وقاعدة عسكرية،  ولا يتورع رئيسها “إردوغان” من توجيه الإهانات العلنية لرؤساء وزراء العراق حيث السلطة المركزية ضعيفة ومشلعةـ بمعنى أنَّ الحلقتين الأقوى لمواجهة تركيا ميدانيًا أي (سوريا والعراق )لا تعرفان تعاونًا وثيقًا بين القوى المعادية لتركيا، كما أنَّ الانكفاء الخليجي عن لبنان منذ أكثرمن سنة ترك الساحة اللبنانية لقمة سائغة للقوى المعادية لمصر والخليجيين مثل تركيا التي بدأت بالتعاون مع قطر وفقًا لتقارير أمنية لبنانية رسمية بملء فراغ (مصر والسعودية والإمارات). ولعل سياسة الانكفاء هذه غير المقنعة كانت خطأ جسيمًا استفادت منها تركيا لتواجه علنًا كلًا من (مصر والخليجيين وفرنسا) في لبنان، ولم تكن طائرات المساعدات الغذائية بعد انفجار بيروت في (الرابع من آب/ أغسطس) من هذه الدول كافية لأنَّها لم تأت ضمن خطة للعودة تفترض وجود خطوات مالية وسياسية وليس فقط غذائية، والدفع بـ لبنان لمزيد من الانهيار لن  يكون سوى هدية كبرى تقدم إلى من يمكن أن يملأ هذا الفراغ وفي مقدمتها كل من تركيا وقطر، ولعل التجربة الليبية هي الوحيدة حتى الآن التي أظهرت فعالية التعاون العربي من خلال وقف التمدد التركي الداعم لحكومة السراج وبداية مرحلة جديدة تلجم الاندفاعية التركية هناك وصولًا إلى تنظيف البلاد من كل أثر للنفوذ التركي.

  • واجهت تركيا في مغامراتها الخارجية موقفًا أوروبيًا ضعيفًا وموقفًا أمريكيًّا مترددًا، وتجلى ذلك بوضوح في ردات الفعل الأوروبية على التوتر الأخير بين تركيا وكل من (اليونان وفرنسا)، ورغم أنَّ فرنسا دولة كبرى ورغم أنَّها عضو في اتحاد أوروبي يضم (28) دولة من بينها (اليونان وقبرص اليونانية ) لكن فرنسا كما الاتحاد لم تتخذ أي موقف عملي ضاغط على تركيا  في انعكاس للضعف العسكري للإتحاد الأوربي من جهة ولخوف الأوروبيين من استغلال تركيا لملف اللاجئين والسماح لهم بالتدفق من جديد إلى أوروبا، فبدت أوروبا مكبلة اليدين وبدا ذلك أيضًا ساطعًا في العجز الكامل عن التدخل في “القوقاز”؛ لوقف الحرب الأذرية ــ التركية على (أرمن قره باغ وأرمينيا)، وفيما كان الأرمن يفرّون من أمام القوات الأذرية في “قره باغ”، في استعادة مصغرة لمشهد الإبادة الأرمنية على يد الأتراك عام 1915 م، وفيما كانت الأرمن يحتاجون إلى ممارسة الغرب لضغوط عسكرية وسياسية على (باكة وأنقرة)، كانت فرنسا تكتفي وبعد وقف إطلاق النار في (التاسع من تشرين الثاني/ نوفمبر 2020 م) بإرسال طائرة مساعدات إنسانية إلى “يريفان”!

أمَّا الولايات المتحدة فليس من سياسة واضحة لها في عهد “دونالد ترامب” تجاه تركيا. تارة تفرض عقوبات وتارة تغض النظر عن التعاون التركي مع روسيا وتهديدات “إردوغان” لبلد أطلسي آخر هو(اليونان وقبرص اليونانية)، واكتفى “ترامب” في آخر سنة من عهده بإقامة علاقات شخصية مع “إردوغان” لا توفر أي أساس لعلاقات مستقرة وثابتة، وهذه العلاقة الشخصية استغلها “إردوغان”؛ ليتوسع في سوريا في خريف 2019 م وفقًا لاتفاقية (نبع السلام) مع “ترامب” . كذلك ليتوسع في القوقاز من دون أن تبادر “واشنطن” إلى إنقاذ صديقها وحليفها الذي تركته ينتحر على قارعة الطريق “نيكول باشينيان” رئيس وزراء أرمينيا.

لذلك فإنَّ فوز “جو بايدن” بالرئاسة الأمريكية قد ينهي حالة “انعدام التوازن” التي كانت عليها السياسة الأمريكية في عهد “ترامب” تجاه تركيا. والتي استفاد منها “إردوغان” مجيء “بايدن” المعروف بمواقفه العدائية لـ”إردوغان” لا شك سيثير قلق “أنقرة” التي ستحاول فتح صفحة جديدة مع “واشنطن” تتجنب فيها تركيا السيناريوهات الأسوأ.

أمَّا بالنسبة لروسيا فقد كانت الرافعة الأكبر لمغامرات “إردوغان”ــ خصوصًا في سوريا والآن في “قره باغ”، وهذا انطلاقًا من حسابات ومصالح متبادلة خاصة بهما.

 المعارضة الداخلية:

ما يشجع “إردوغان” على مواصلة مغامراته الخارجية هو أنَّه لم يتعرض حتى الآن لضغوط داخلية قوية من جانب المعارضة، فقد نجح “إردوغان” في كل الانتخابات السابقة في أن يكون الملك المتوج ولو بفارق ضئيل جدًا، وهو ينجح في ذلك من خلال العزف على الوتر العرقي والديني، والمفارقة أن بعضًا من مغامراته الخارجية، ومن ذلك تحويل “آيا صوفيا” إلى جامع، كانت من أجل تعزيز وضعه الداخلي، وعلى الرغم من أنَّ المعارضة توحدت بنسبة عالية جدًا في انتخابات الرئاسة والتعديلات الدستورية عام 2018 م والانتخابات البلدية عام 2019 م ، فإنَّها لا تزال تفتقد إلى مشروع داخلي موحد وتكتفي انتظار مواعيد الاستحقاقات الانتخابية مرة كل أربع سنوات.

خاتمة:

تبدو كل الظروف مهيأة لـ”إردوغان” ولتركيا في أن تقوم بحروب خارجية وتدخلات واسعة ومغامرات في أكثر من منطقة ودفعة واحدة، ولا شك أنَّ العامل الإيديولوجي يلعب دورًا مهمًا جدًا في تحفيز “إردوغان” للمضي في مشروعه، لكن الإمكانات الاقتصادية رغم الأزمات وانقسام المعارضة في الداخل لا يزالا يتيحان له المضي في هذه المغامرات.

كما أنَّ “إردوغان” يستفيد للغاية من ضعف الجبهات والتكتلات المعادية له، فلا العرب يقفون خلف موقف موحد ضده ولا الاتحاد الأوروبي يملك رؤية وقوة تلجم الإندفاعة الإردوغانية ولا الولايات المتحدة في موقف معترض بقوة على التوسعات التركية ولا سيما في الفترة الأخيرة في عهد “دونالد ترامب”.

في ضوء هذه الظروف مجتمعة أمكن لـ”رجب طيب إردوغان” الاستمرار في مشروعه التوسعي بل الدخول إلى مناطق جديدة مثل جنوب “القوقاز” تجعل من مشروعه ليس عثمانيًا جديدًا فقط بل في الوقت نفسه طورانيًا.

اظهر المزيد

د. محمد نورالدين

أستاذ في الجامعة اللبنانية - بيروت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى