2021العدد 185ملف ثقافي

فيروز سفيرة الغناء العربي إلى النجوم

لمحة تاريخية :

تعتبر سنة 1903 م البداية العملية لتاريخ الموسيقى و الغناء العربيين، ففي هذه السنة بدأت في مصر صناعة الأسطوانة(78 لفة) المسطحة وبدأت مجموعات المطربين زحفًا؛ لتسجيل كل ما حفظته من تراث (القرن التاسع عشر) من أدوار وموشحات وأغانٍ أخرى، أمَّا ما قبل هذا التاريخ يعتبر مفقودًا إلَّا من وصف المؤرخين والنقاد في الكتب وكان الغناء محصورًا تقريبًا في الرجال، حتى أنَّه إلى جانب أنَّ الأسطوانات لم تَترك لنا أي تسجيل لأصوات نسائية من (القرن التاسع عشر)، فقد عرفنا من المؤرخين صوتين في نهاية (القرن التاسع عشر): (سُكنه) و (ألمظ)، ولُقبت (ألمظ) باسمها هذا من تشبيه النقاد له بـ(الماس) لحلاوته، لكنها اعتزلت الغناء بعد زواجها من شيخ مطربي (القرن التاسع عشر) (عبده الحامولي) ولم تترك لنا أي تسجيل، لا بل أنَّنا لا نملك إلَّا ما ندرِ من تسجيلات بصوت زوجها أكبر مطرب في (القرن التاسع عشر) مسجلة على أسطوانات (كوب) في (القرن التاسع عشر)، ومنها عرفنا أنَّ قصيدة (أراك عصي الدمع ) التي غنتها وسجّلتها (أم كلثوم) بتحفيظ الشيخ (أبي العلا محمد)، وبعد وفاته سنة 1927 م هي من ألحان (عبده الحامولي) بعد أن كان الشائع أنَّها من ألحان الشيخ (أبي العلا). كانت الصفة الأولى لصوت المغني أو المغنية هو القوة، إذ كان عليه أو عليها إيصال الصوت إلى آخر القاعة (بشكلٍ مباشر)؛ ذلك لعدم وجود الاختراع ناقل الصوت الذي سُمي بـالميكروفون، ولم تكن (أم كلثوم) المطربة الوحيدة في بداية (القرن العشرين)، فقد شقَّت طريقها بصعوبة بالغة كي تصل إلى القمة وكان عليها أن تتخطى عددًا كبيرًا من المطربات المشهورات اللواتي سبقنها إلى الشهرة و أهمهن سلطانة الطرب كما أُطلق عليها (منيرة المهدية)، والمطربة الكبيرة التي أُطلق عليها لقب مطربة القطرين (فتحية أحمد)؛ ولعدم وجود آلة الميكروفون، فقد فرض هذا الواقع على المطربات تقنية محددة في الغناء على مرّ الزمان، وهي تقنية الغناء الصدري أي بواسطة الضغط المباشر على الحبال الصوتية وانعدام التقنية التي ظهرت مع الميكروفون – الغناء المستعار أو الغناء الرأسي – الذي يعمد لتقوية الصوت لا على عظام القفص الصدري بل عظام الجمجمة، وكان أول من بدأ الغناء من النساء بهذه الطريقة وأتقنتها إلى درجة الامتياز والتفوق هي صاحبة الصوت التاريخي الخالد (أسمهان)، ونجد ذلك بكل وضوح في مونولوج (يا طيور) من إبداع (محمد القصبجي)، وكانت النتيجة الكبرى لدخول الميكروفون في الاستعمال في الغناء العربي – أنَّه ظهرت هذه المدرسة الجديدة التي أسستها (أسمهان)، والتي نسميها نحن معشر المؤرخين غناء الميكروفون، وفي لبنان وبالتوازي مع مصر ظهرت أصوات عظيمة بنفس التسلسل التاريخي وأغنى الغناء من دون ميكروفون ثم معه في الفئة الأولى كانت (ماري جبران ) – التي عُرفت في مصر بلقب (ماري الجميلة) – على قمة هذا الفن بصوتها الرقيق والدافئ الأنثوي والقوي في آن، وهو فن نوعه صوت (وديع الصافي) إذ كانا يصلان إلى الطبقات العليا دون الاضطرار إلى الاستعانة بالقوة المدعومة بالحدة لعلوّ اللحن، كانت (ماري جبران) معروفة بغنائها لأدوار (محمد عثمان) وموشحاته وموشحات غيره، ولها في ذلك تسجيلات معروفة، كان ذلك في الأربعينات بعدها ظهرت مجموعة من المطربات اللواتي تأسسن على الغناء الكلاسيكي العربي مع الاستعانة بـالميكروفون، وأهمها (زكية حمدان، نور الهدى، صباح، سعاد محمد، نجاح سلام، وفايزة أحمد)، مع الوقت فقدت الحاجة بالتدريج إلى استعمال القوة في الغناء وتغيَّرت مع الزمن تقنية الغناء، وظهرت تقنية الغناء الرأسي كعنصر مساعد ملازم للغناء العصري وإن لم تستعمله كل المطربات اللواتي بقيت طريقة غنائهن مرتبطة بأسلوب الغناء الكلاسيكي، وهن اللواتي ذُكرت أسماؤهن عاليًا، ثُمَّ ذُكرت( فيروز).

البداية :

في (أواخر الأربعنيات) من القرن الماضي جاء الأخوان (فليفل) بمغنية شابة اسمها (نهاد حداد) إلى الإذاعة اللبنانية، ودخلت كورس الإذاعة كمغنية فيه، الأخوان (فليفل) ضابطان في الجيش اللبناني عُرفا بأناشيدهما الوطنية القومية التي طبقت شهرتها الآفاق في ذلك الوقت، ومن أشهرها: (موطني وطني ، بلاد العرب أوطاني، نحن الشباب لنا الغد، حماة الديار وعليكم السلام)، الذي أصبح النشيد الوطني لسوريا لغاية الآن.

لفت صوت (نهاد حداد) أسماع رئيس القسم الموسيقي في الإذاعة اللبنانية آنذاك الفنان المطرب والملحن الكبير (حليم الرومي) والد المطربة (ماجدة الرومي)، لحن لها أغنية (يا حمام يا مروح بلدك)، وعَرض عليها استبدال اسمها بآخر فني وخيَّرها بين (فيروز وشهر زاد) فاختارت الأول، هناك تَعرَّف عليها الأخوان (رحباني)، اللذان كان من الطبيعي أن يترددا على الإذاعة، وتزوجها الأخ الأكبر (عاصي)، وهكذا بدأت مؤسسة موسيقية لبنانية أصبحت من أهم المؤسسات الموسيقية العربية من ناحية الاكتفاء الفني الذاتي مع صوت (فيروز) وأشعار وألحان وتوزيعات وقيادة الأخوين (عاصي ومنصور رحباني).

صوت فيروز:

إنَّ صوت( فيروز) هو من أهم – إن لم يكن أهم الأصوات العربية النسائية المعاصرة بعد أسمهان – ينتمي إلى فئة الصوت التي نُسميها (أصوات ميكروفون)، حتى أنَّ منصور قال لي مرة: “أنَّها حَصلت على شهادة تقدير من شركة الأسطوانات العالمية الشهيرة (EMI)؛ بسبب أنَّ تسجيلاتها لا تحرك مؤشر القوة في آلات التسجيل، فهي على ضعف حجم صوتها إلاّ أنَّ مساحته كبيرة مع الأخذ بالاعتبار، مساحة صوتها المستعار الذي يضاعف مساحة الصوت والذي تتقنه بالمطلق، أمَّا باقي مساحة صوتها وأقصد المساحة الوسطي والمنخفضة فتَظهر عناصر صوتها الدرامي العميقة التي لم يستغلها (رحباني) للأسف بالشكل الذي يستحقه، ونرى هذه العناصر الدرامية العميقة وبشكلٍ مذهلٍ في سكن الليل، نظم (جبران خليل جبران)، ألحان (محمد عبدالوهاب)، ومرَّ بنظم (سعيد عقل)، وألحان (محمد عبدالوهاب)، وقد ظهرت هذه القدرات الدرامية لصوت (فيروز) في أبهى صورها في المغناة التاريخية السامية (يا بني أمي)، (في ظلام الليل)، التي لحَّنها ووزَّعها الملحن اللبناني العبقري (زكي ناصيف) على مقتطفات من نثر (جبران خليل جبران) اختارها الشاعر اللبناني الكبير (جوزيف حرب)، وقد بالغ الأخوان (رحباني) في استعمال مساحة الغناء الرأسي المستعار من صوت (فيروز) على حساب المنطقة الوسطي والمنخفضة (منطقة الغناء الدرامي) الغنية جدًا في صوتها، وأدى هذا إلى نتيجة تاريخية سلبية، فكل اللواتي يغنين لـ(فيروز) الآن لا يغنين إلَّا من منطقة الغناء المستعار الرأسي، أمَّا عن سبب عدم وجود المنطقة الدرامية في صوتها؛ بسبب عدم ركوزه الطبيعي أو بسبب تجاهلهن لهذه المنطقة المهمة جدًا في صوتها، والتي تُشكّل المنطقة الأساسية للتعبير الدرامي فتلجأ إلى إظهار منطقة الغناء المستعار في أصواتهن التي لا تملكن غيرها.

يُقسم تراث (فيروز) إلى قسمين كبيرين: الأغاني الفردية وأغاني المسرحيات.

الأغاني الفردية الراقصة:

وهذا القسم يُشكل جزءًا كبيرًا من تراثها وأبدأ من البداية: أول ما غنت(فيروز) كانت الأغاني الراقصة الأجنبية عرَّبَها الأخوان (رحباني)، وكانت منتشرة جدًا في الخمسينات من القرن الماضي وأذكر من هذه الأغاني: (تانجو) (من هنا حبنا مرَّ) (La Poema)، (القمر الأخضر) (Vera Luna) ، (تانجو) (عطري حماك) (El Comenito) ، (رومبا) (قمر وردي النور) (Luna Rossa)، (تانجو ماروشكا) و(سامبا) (أيا يا ماريا)، وقد انتشرت هذه الأغاني في تلك الفترة انتشارًا واسعًا وانطلق معها صوت (فيروز) وكل عناصره الجمالية؛ ليبدأ باحتلال المكانة التي يستحقها.

نوعٌ آخر من الأغاني الراقصة والتي لحَّنها الأخوان (رحباني)، ونذكر منها (غيب يا قمر) على إيقاع (السوينج )، (ويا سميرة يا سميرة)(رومبا) غنتها مع زميلة لها في (كورال الإذاعة) واسمها (حنان)، وكان هذا الدويتو مشهورًا واسمه (فيروز وحنان)، (يا بالالا ) (سامبا) ، (يولا) (بازو دوبلي الأسباني)، وتطور تلحينها لهذا النوع من الأغاني؛ لنصل إلى تحف راقصة (تانغو) (ذاكر يا ترى)، وتحفة (بعد الليالي) (تانجو)، وبالرغم من قص هذه الأغنية فقد جاءت تحفة فنية سواء من ناحية المادة اللحنية الرائعة أو استعمال الكورال لعنصر في التلوين الصوتي بين نساء ورجال ثُمَّ دخول الفرقة الموسيقية بزخم إيقاع التانجو المعروف خاصةً عند دخول الأكورديون في هذا الإيقاع (وهو الآلة الأهم في هذا النوع من الأغاني) عند دخول صوت (فيروز)، ومن أجمل العناصر التأليفية في هذا العمل هو استعمال نفس الجملة اللحنية والغنائية عند دخول (فيروز) بالغناء في بداية الأغنية على مقام (الكرد)، تستعمل في القسم الثاني على مقام العجم بطريقة خلاقة وجميلة مما يجعل هذا التانجو من أجمل الأغاني الراقصة العربية.

ومن ضمن هذه النوعية من الأغنيات، ظهرت أغنيات فلكورية معروفة على إيقاعات غريبة نالت استحسانًا كبيرًا و رواجًا شعبيًّا أكبر وأذكر منها: (يا حلو يا قمر) (سامبا) ، (هيك مشق الزعرورة) (سامبا)، (البنت شلبية) (سامبا)، (يا مايلة عالغصون) (رومبا) …وغيرها. كما لحنُّوا من هذه النوعية عدة أغنيات أشهرها (عبدو حابب غندورة).

البداية العربية – المونولوجات:

تبدأ هذه المرحلة المهمة بسلسلة من المونولوجات، والمونولوج قالب من قوالب الغناء العربي مستوحى من قالب الآداء الأوبرالي أبدعه (سيد درويش) في شكله الأول في مونولوج (والله تستاهل يا قلبي) عام 1920 م، وأوصله إلى ذروة تطوره مرورًا ببعض مونولوجات (محمد عبدالوهاب ومحمد القصبجي) في مونولوج (إن كنت أسامح وأنسى الأسية) عام 1928 م، وكانت هذه النقلة النوعية في اتجاه التلحين من الأغنية الراقصة إلى المونولوج قفزةً كبيرةً في تطور أسلوب الأخوين (رحباني) في التلحين وبداية مرحلتها العربية وفى أسلوب غناء (فيروز)، وأذكر من هذه الأغنيات التي لاقت انتشارًا شعبيًّا هائلًا في الخمسينات من القرن المنصرم: (عتاب) (بياتي)، (بتسأل إذا بهواك غيره) (هزام) ، (راجعة) (هزام)، (وراضية)…وغيرها، أمَّا (المونولوج) الموزع العصري فقد ظهر بكل إشراقه وبريقه في أغنية (سمعنا)، وخاصةً في أغنية (مغرور قلبي)، التي ظهرت قبل (مغرور حبيبي كتير) لـ (عبدالحليم حافظ). وحلَّ الأخوان (رحباني) في هذا (المونولوج) إلى ذروة التلحين في هذا القالب، وجاءت هذه الأغنية تحفةً من ناحية التسلسل المقامي الذي يبدأ من مقام (النهاوند) في المقدمة الموسيقية والمطلع الغنائي، ويتحول إلى (البياتي) (ضجرت خدود الورد)، ثُمَّ إلى (مجاز) (مشيني عا درب وعرة بالضباب) ثُمَّ عودة سلسلة جديدة إلى مقام البداية (النهاوند) (أتاريك مش وحدك)، أمَّا الإلهام اللَّحني فجاء عاليًا مذهلًا أعطى الفرصة إلى التوزيع (الهارموني) الملهم، والمعالجة (الأوركسترالية) الرائعة؛ لجعل هذه الأغنية تحفة درامية ندُر مثيلها في الموسيقى العربية المعاصرة، خاصةً عند وصول الأغنية إلى ذروتها الدرامية وطريقة إبراز هذه الذروة بصوتها عند (أتاريك مش وحدك)، حيث ينطلق صوت (فيروز) بشكلٍ مذهلٍ في منطقة المستعار عند كلمة (مجانين) مليء بالقوة التأثيرية الانفعالية، وهي تعاتب قلبها وتأتي من هنا للنهاية رائعة بين صوتها والأوركسترا والتوزيع الرائع ما يجعل هذه الأغنية درة في تاريخ الغناء العربي المعاصر.

القصائد والموشحات:

غنَّت (فيروز) الكثير من الموشحات، إمَّا معروفة أو ضمن أعمال غنائية تراثية تتضمن الموشحات: (أندلسيات) و( شهر زاد)، منها موشح (يا ليل الصب متى غده) ومن أشهر من عارضها شعرًا أمير الشعراء (أحمد شوقي) في القصيدة التي غنَّاها (محمد عبدالوهاب) (مضناك جفاه مرقده) وغنَّت في (قصيدة حب) و (حامل الهوى تعب) و (يا غزالًا من كثيب) من أشعار( أبونواس)، أمَّا القصائد فقد غنَّت (فيروز) الكثير منها أكانت من نظم الأخوين (رحباني) أم غيرهما؟.

 من القصائد المبكرة التي غنَّتها لابد من ذكر ثلاثٍ: (رد يا أسمر، إلى رائعة الرائعتين)، وظهر فيها مقدرة (فيروز) الكبيرة في غناء القصائد بنطقٍ عربي لا غبار عليه، الثالثة:(لملمت ذكرى لقاء الأمس)، وهي قصيدة لا تتعدى ثلاث دقائق قصيرة مركزة وتحتوي على جميع عناصر القصيدة الكبيرة التقليدية من بداية ونهاية على نفس المقام(نهاوند)، وتنقلات مقامية مختلفة (بياتي وعجم)، حتى أنَّها ملَّحنة على إيقاع القصيدة التقليدي حتى عام 1935 م (إيقاع الوحدة الكبيرة)، ومن القصائد التي غنَّتها عدد لا بأس به – غنتها عن الشام ودمشق – وذلك في كل موسم سنوي كانوا يقدمون مسرحية ضمن فعاليات معرض دمشق الدولي وأذكر منها: (خدني بعينيك) شعر الأخوين (رحباني)، (يا شام عاد الصيف) شعر الأخوين (رحباني)، (نسمت من صوب سوريا الجنوب) (نظم سعيد عقل)، (سائلي) (نظم سعيد عقل) ، (يا ربي) (نظم الأخطل الصغير ، بشارة الخوري)، أمَّا القصائد الأخرى خارج قصائد المناسبات هذه؛ فتبرز منها بشكلٍ رائعٍ واضحٍ ولامعٍ قصيدة (بشال) نظم (سعيد عقل)، ذلك التكامل التام بين عناصرها: (القصيدة الرائعة، الإلهام الميلودي الرفيع، التوزيع الهارموني والأوركسترالي) مع استعمال آلات غربية إلى جانب الوتريات (أوبوا، فلوت ، بيانو) بشكلٍ رائعٍ يخدم العمل.

أمَّا أداء (فيروز) الذي يستعصي على أي تقليد، فقد جاء شفافًّا مذهلًا في التعبير عن المعاني الشعرية والجمالية والأعماق الموسيقية في اللحن، شفافًّا لدرجة تجعل المستمع في حالة ذهول وهذيان روحي قل نظيرها، خاصةً عند جملة (يا طيب شال تلم عنه النجوم)، التي تغنيها (فيروز) من دون أية مصاحبة آلية، فيأتي صوتها لوحده على جملة لحنية رائعة من مقام (النهاوند)، الذي يظهر هنا للمرة الأولى في هذه الجملة بعد سيطرة مقام (العجم) من أول الأغنية، إنَّ هذه الجملة مع التغيير المقامي المفاجئ والسكوت المفاجئ – لأيه مصاحبة آلية- وظهور صوت (فيروز) لوحده بأداء مذهل العناصر تجعل من هذه الجملة ذروة فنية وجدانية انفعالية إنسانية شفَّافة مذهلة تُفاجئ المستمع وتكسر المزاج، الذي سيطر عليه من أول الأغنية وتنقله بشكلٍ تصادمي دون تحضير إلي مزاج آخر مختلف لا يقل جمالًا عن الأول؛ ليرجع هذا المزاج فجأة كما اختفى دون تحضير على جملة (مالي سألت الزَّهرْ) وعلى نفس جملة المطلع الغنائي (مُرْخىً على شَعرِ شال) وتنتهي الأغنية بجملة(هناك خلف القمر)، حيث يرتفع اللحن من الدرجة الرابعة إلى الثالثة صعودًا سبع درجات موسيقية تؤديها (فيروز) من دون أية مصاحبة أركسترالية بصوتٍ يشف بشكلٍ يكاد فيه أن يذوب ويختفي خاصةً مع استعمال تقنية الصدى في التسجيل عند هذه الجملة، كل هذه العناصر تجعل من هذه القصيدة درة بين أخواتها أعظم القصائد الغنائية العربية.

الموّال والطقطوقة :

غنَّت منه (فيروز) الكثير ويبرز منها موّال ( يا ربع) هذا الموال البدوي الهادئ(مقام البيات) الذي تغنيه (فيروز) بمنتهى الهدوء والعمق بإبداعٍ كبيرٍ، وينتهي الموال بدخول الإيقاع وكورال الرجال والنساء بتوزيع بوليفوني متعدد الأصوات تجعل من نهاية الأغنية تحفة صغيرة في التوزيع البوليفوني البسيط للمقام العربي (البياتي) بثلاثة أصوات، ومن أجمل مداويها (دقت على صدري) و)إذا كان ذنبي( غنته في قصيدة حب (ولو كان قلبي معي )شعر) عنترة بن شداد).

أما الطقطوقة :هذا القالب الرئيس في الممارسة الغنائية الموسيقية العربية فغنَّت فيه (فيروز) مجموعة كبيرة من أجمل الأغنيات اللبنانية: (كرمالك)، وكان (محمد عبد الوهاب) يحبها كثيرًا ويطلبها منهم كلما زار لبنان (سمرة يا أم عيون وساع ، وقف يا أسمر ، مين ذلك)، والأغنية البدوية الرائعة ( نحنا ودياب الغابات ربينا)، (لا أنت حبيبي)، (حبيتك بالصيف )، (فايق عليي )، (بكتب اسمك يا حبيبي)، ( نسم علينا الهوا)، (عنبية) وجميع الأغنيات التي لحنها لها (فيلمون وهبي)، وسنتكلم عنها لاحقًا.

الأغنية القومية الوطنية:

1- الوطنيات اللبنانية: وردت معظم الأغنيات الوطنية اللبنانية في المسرحيات ومن أهم أغانيها الوطنية التي تتغنى بلبنان أَذكر: (لبنان يا أخضر حلو ) غنَّتها في أول ظهور لها في مهرجانات (بعلبك) الدولية سنة 1957 م، وتمتاز ببدايتها المرسلة على خلفية الأوركسترا (لبنان الأخضر) وتمتاز بطاقة انفعالية كبيرة، (ردني إلى بلادي) من أنواع الكلاسيكي وتظهر فيها عظمة مناطق صوتها الوسطي والمنخفضة (سكروا الشوارع) (يقولوا زغير بلدي) ،(احكيلي احكيلي عن بلدي احكيلي)، وبرزت طاقة صوت (فيروز) الدرامية الكبيرة في أغانيها التي تمحورت حول القضية الفلسطينية بعد عام 1948 م، وبعد عام 1967 م – المرحلة الأولى غنَّت( فيروز) مجموعة ذات وزن تاريخي كبير أذكر منها مغناة(مع الغرباء)، شارك في الأداء فيها الإذاعي المصري الكبير (محمد الطوخي) بدور جد ليلى(فيروز)، ومن هذه الحقبة المصرية سجل الأخوان رحباني في المغناة الثانية عن فلسطين (راجعون)، التي شارك فيها (كارم محمود) وكان هول الكارثة قد فرض على الملحنين والمؤلفين مستوى معينًا لا يصح النزول عنه فجاء العاملان مليئين بالدراما الموسيقية والإنسانية وأظهر الأعماق الدرامية لصوت (فيروز) ، ويعتبر أنَّ بداية الأخوين (رحباني) الدرامية الكبيرة، ومن أهم أعمال الأخوين (رحباني) ، التي تعكس بشكلٍ واضحٍ عظمة الفن الملتزم.

وتأتي نكبة 1967 م، فتغني (فيروز) (مريت بالشوارع المليئة بالحزن والغضب) و(زهرة المدائن) التي يشعر المستمع فيها أن (فيروز) تُصلي ولا تغني؛ بسبب الجرعة الكبيرة من الخشوع فيها وتستمر الصلاة في الجزء الأوسط (الطفل في المغارة) ثم ينفجر الغضب بشكل تحريض واستنهاض (الغضب الساطع آت) وتُغنيها (فيروز) بكل ما تملك من قوة درامية؛ لتعبر عن هول ما حدث. أمَّا (تحفة الرحبانية المركزة) فهي نشيد(سيف فليشهر) – نظم (سعيد عقل)، وهي من نوادر الأناشيد التحريضية الانفعالية، فقد جاء اللَّحن السريع المتوتر مع التوزيع والمكثف مع صوت (فيروز) المنفعل كل هذا في وحدة فنية كثيفة رفعت الشحنة الانفعالية والتحريضية والوطنية إلى درجة الغليان – خاصةً عند الذروة الدرامية (قد جن دم الأحرار) واقتحام الكورال لصوتها بالمذهب.

الأعمال المسرحية الدرامية:

بدأ الأخوان (رحباني) في صناعة المسرح الغنائي الدرامي في الإذاعة في اسكتشات تُعتبر المختَبر الذي ظهرت منه كل مسرحياتها الغنائية لاحقًا، وهذه الاسكتشات تعتبر مسرحيات صغيرة تتخللها أغنيات رائعة خرجت للأسف من حياتنا الموسيقية والثقافية في خضم الهبوط المريع الذي أصاب ثقافتنا الموسيقية العربية، وشارك في هذه الاسكتشات إلى جانب (فيروز) ، (نصري شمس الدين) بشخصية نصري ودربكة، (فيلمون وهبي) سَبِع ،(عاصي الرحباني ومنصور رحباني) وأثبتا أنهما ممثلان كبيران إلى جانب الآخر المعروف وأهم هذه الاسكتشات الإذاعية: (بحر الستات ، بارود اهربوا ، ملحن عصري ، عصفورتي، بشتك بم ، بّراد الجمعية، الناطور ، رابوق، كاسر مزراب العين، روكز خطب، روكز تزوّج )، وشارك في آخر اسكتش( وديع الصافي) بشخصية (روكز).

وفي سنة1957 م، انطلقت مهرجانات (بعلبك الدولية)، وكان لابد أن يكون الفن اللبناني حاضرًا في مثل هذه المهرجانات العالمية فكان برنامج: مهرجان الفن الشعبي اللبناني في (31 أغسطس/آب وسبتمبر/أيلول سنة 1957 م)، وشارك فيه أقطاب المدرسة الموسيقية اللبنانية آنذاك ( الأخوان رحباني، زكي ناصيف ، وتوفيق الباشا ، و فيلمون وهبي ، محمد محسن ، والمطربان وديع الصافي ونصري شمس الدين )، وطبعًا (فيروز) التي ظهرت في بداية البرنامج؛ لتغني (لبنان يا أخضر حلو)، وأغنية (على طول يا كرومي) الرائعة 1958 م، جاءت بثورة شعبية ضد رئيس الجمهورية آنذاك (كميل شمعون) ومشروعه بضم لبنان إلى حلف بغداد ضد الزعيم (جمال عبدالناصر) فألغيت مهرجانات في تلك السنة، وعادت سنة 1959 م، وشارك في مهرجانات (بعلبك) نفس المجموعة من الفنانين غنَّت فيها( فيروز) مجموعة أغنيات من ألحان الأخوين (رحباني) برز منها ثلاث بقيت طويلًا في الأذهان وهي( يا قمر أنا ويّاك) ، (ما في حدا) ، (يا تلال صنوبر ضيعتنا)، سنة 1960 م حملت خلافًا بين المؤسسة الرحبانية ورفاقهما في الطريق (زكي ناصيف وتوفيق الباشا )؛ فانفصل الرحبانية عنهم وقدما في تلك السنة في (بعلبك) مسرحية (موسم العز) بطولة (وديع الصافي وصباح ) بنت ألحانه على الفلكلور اللبناني، ولم تشارك (فيروز) سنة 1961 م. ظهرت مسرحية (البعلبكي) وقدمت في (بعلبك) وفي معرض (دمشق الدولي)، وبرزت منها أغنية (بعلبك أنا شمعة على دراجك) سنة 1962 م، مسرحية (جسر القمر) بقي منها (حبيبي قال انطريني) وخصوصًا (جايبلي سلام)، (فيلمون وهبي) (دموع على مسرح سينما)،وفي (كابيتول) (عودة العسكر) تحية للجيش اللبناني الذي أَحبط سنة 1961 م محاولة انقلابية قام بها الحزب القومي السوري ولم يَبقَ منها في الذاكرة أيّة أغنية سنة 1963 م، كانت مسرحية (الليل والقنديل)في (كازينو لبنان)، سنة 1964 م قدموا مسرحية (بياع الخواتم) في مهرجان الأرز ومعرض دمشق بَرَزَ منها: (يا بياع الخواتم) وخصوصًا (يا مرسال المراسيل) ألحان فيلمون وهبي سنة 1965 م، شاركت (فيروز) في حفلة غنائية مع الكورس في قصر (بيت الدين) 1966 م، ظهرت مسرحية (أيام فخرالدين) بقت منها لمدة قصيرة ( بيتي راح مع العسكر) 1967 م، قدمت (فيروز) في مهرجان الأرز مسرحية (هالة والملك) بقي منها الأغنية الرائعة (شايف البحر شو كبير)، وقدمت بعد المسرحية لأول مرة قصيدة (سكن الليل) الخالدة نظم (جبران خليل جبران) وألحان (محمد عبدالوهاب) سنة 1968 م ، مسرحية(الشخص( (دمشق – مسرح البيكاديللي) برز منها (سوا ربينا) خصوصًا (فايق يا هوى) من ألحان (فيلمون وهبي) سنة 1969 م ، مسرحية( جبال الصوان) (بعلبك – دمشق) برز منها لفترة قصيرة (صيَّف يا صيف) ألحان (فليمون وهبي) سنة 1970 م ، مسرحية (ناس من ورق) (دمشق) برز منها (هيلا يا واسع ) – وخاصةً (دور رجعت ليالي زمان) وهو الدور الوحيد في تاريخ الموسيقى العربية الذي لُحن خارج مصرسنة 1970 م، مسرحية (صحّ النوم) (بيكاديللي – بيروت) نجح منها: (يا رايح ع كفر حالا وشادي ، وخاصة ليلية بترجع يا ليل )، (فيلمون وهبي) سنة 1971 م (يعيش) (بيكاديللي – دمشق) لم يبقَ منها أية أغنية. سنة 1971 م (ناطورة المفاتيح) (بعلبك) بقي منها (طريق النحل، ويْنُن، لا تجي اليوم )، وخصوصًا الأغنية التحفة (بيتي أنا بيتك) وهي مناجاة رائعة بين الإنسان والله تقترب جدًا إلى درجة الصلاة لحنًّا وخاصًة غناء( فيروز) المليء بالخشوع السامي وألحانها مستوحاة من الأناشيد الدينية البيزنطية (الفلكلور الكنسي البيزنطي) سنة 1973 م، البرنامج الغنائي (قصيدة حب) بالاشتراك مع (وديع الصافي) قدَّمت فيه وبرز منها: ( قدّيش كان في ناس) (زياد رحباني) ، (طير الوروار- إلياس رحباني) ، (نحنا والقمر- جيران) الرائعة، وموشحات (حامل الهوى تعب و يا غزالًا من كثب) (نظم أبونوّاس) والأغنية الجميلة (بيلبقلك شك الألماس)، وكالعادة الأبقى في وجدان الناس كانت لحن (فيلمون وهبي) (على جسر اللوزية 9731 م) ، مسرحية المحطة (بيكاديللي)،( كان الزمان وكان، حنا السكران – إلياس رحباني) ، (سألوني الناس – زياد رحباني) والرائعة (رجعت الشتوية) والأكثر بقاءً في وجدان الناس كالعادة لحن( فيلمون وهبي يا دارة دوري فينا 1974 م) ، (مسرحية لولو) (بيكاديللي – دمشق)، أغنية (إلياس رحباني – سهر الليالي) التي ما زالت تقدمها لغاية الآن فرق الموسيقى العربية في مصر والرائعة (راجعين يا هوى) بنجوها الحالم ومزاجها الهادئ والمهادي، وصوت( فيروز) الذي يخترق القلب من دون استئذان ثم أغنية (كانوا يا حبيبي، يوليه مايو يوليه ،أرضي يا أرضي) للملحن الروسي (كنيور) أخذوا منها وأضافوا المقاطع من عندهم بطريقة (Stylisation ) أي محاكاة الأسلوب الأصلي فجاءت الإضافة من طبيعة اللحن الأصلي، أما درة هذه المسرحية فهي أغنية (فيلمون وهبي) (من عز النوم بتسرقني) سنة 1975 م، (ميس الريم) (بيكاديللي – دمشق) بقى منها: (آخر أيام الصيفية، حبوا بعض (زياد رحباني) ، يا سنين اللي راح ترجعيلي) ، واللحن الثلاثي (يا نور حبك) 1970 م. آخر مسرحية شاركت فيها (فيروز) – قبل انفصالها عن زوجها وعن المؤسسة الرحبانية – (بترا) وأجمل ما ورد فيها من ألحان الأغنية الوطنية الجميلة( بيقولوا زغيّر بلدي).

وأخيرًا، ومن أبرز أعمال الأخوين لابد من ذكر فيلم (سفر برلك) الذي جمع فيه كل عناصر الفلكلور الموسيقي اللبناني من الغناء الشعبي (العتابا والميجانا) من المساجلات الشعرية بين الشعراء هذا النوع من المبارزة الشعرية الموجودة في الحياة الثقافية الفنية اللبنانية الشعبية حتى الآن، ولا تنسَ أن أحداث الفيلم تدور أيام الحكم العثماني للبنان، وقد ركز الملحنان جميع العناصر الفلكلورية في أغنية يا (أهل الدار) الرائعة التي أدتها (فيروز) وبمستوى يدل على إتقانها غناء الأشكال الفلكلورية بشكلٍ مطلقٍ، وقد ورد في هذا الفيلم أغنيتان رائعتان( عنبّيه و علموني حبك) ولاسيما الأولى ،التي أظهرت طواعية صوت( فيروز) الغير المحدودة.

ألحان زياد رحباني:

من الأكيد أنَّ الكثير من ألحان (زياد رحباني) ووالدته يخضع للكثير من الآراء المتضاربة بين القبول والرفض؛ بسبب أنَّ بعض هذه الأغاني أخرجت صوت (فيروز) من المسار التاريخي والنوع التاريخي لأغانيه لعشرات السنين بدخوله إلى أغاني تجريبية لم يكن لصوت (فيروز) أية علاقة بها، لكن الواضح للمؤرخ الموسيقي أنَّ (زياد) يستعمل صوت والدته التاريخي كمختبر لنوع معين من ألحانه كان هو الرابح في كل الأحوال. فالذين لا تعجبهم ألحان (زياد) هذه يتقبلون هذه الأغاني لحبهم لصوت( فيروز)، لكن بلا شك أنَّ ثلاث من أغاني (زياد) لوالدته ستدخل تاريخ الأغنية اللبنانية، الأولى: الأغنية الهادئة التعبيرية العميقة والرومانسية (زعلي طول) والأغنية الوطنية العظيمة (من يوم اللي تكون) أو كما عرفت (راح نبقى سوا) بجوها الانفعالي لدرجة الانفجار والتوتر الذي لا يهدأ لحظة واحدة من أول الأغنية إلى آخرها، أمَّا تحفة زياد الخالدة التي تضعه في مصاف كبار الملحنين اللبنانيين فهي مغناه (سفينتي بانتظاري) على نصّ اختاره الشاعر (جوزيف حرب) من نثريات (جبران خليل جبران)، خاصةً من (حديقة النبي) و(النبي) ، وتُعتبر هذه المغناة للأوركسترا والمطرب الفردي والكورال أكبر عمل موسيقي غنائي لبناني، يتضمن أبعاد درامية فلسفية في المعالجة الموسيقية والفكرية للنص الجبراني – لا بل هو الوحيد.

وقد استطاعت (فيروز) بصوتها المطواع أن تصل إلى هذه الأبعاد الفلسفية في البناء الموسيقي والنص وتوصلها إلى المستمع بأداء مبهر ومقدرة درامية كبيرة في فهم النص الفلسفي، ولا ينسى (زياد) إضافة جزء من الجهاز المحبب له عند (الأرض لنا وأنت لماذا إذن تخاصميني)، وتغني) فيروز( بصوتها الذي لا يستعصي عليه أية صعوبة لحنية مهما كانت تغني كلمة (لماذا) بطريقة غناء الجهاز بشكلٍ مبهرٍ، أمَّا في أغنية (من يوم اللي تكون) فقد استطاعت (فيروز) أن تترجم الانفعالية الهائلة الموجودة في اللحن بصوتها المبهر أعظم ما تكون الترجمة ما جعل هذه الأغنية إحدى أعظم الأغنيات الوطنية اللبنانية من دون شك.

فيروز غير الرحبانية:

بدأت مرحلة (فيروز) هذه قبل دخولها إلى المؤسسة الرحبانية عندما كانت مغنية في كورس الإذاعة اللبنانية، فكان أول من لحن لها مكتشفها في الإذاعة الملحن والمطرب الكبير (حليم الرومي) (يا حمام يا مروح بلدك )، وقد أظهر (حليم الرومي)، وهو الملحن التقليدي خريج المعهد الموسيقي في القاهرة سنة 1939 م، أظهر صوت (فيروز) في مساحته الصدري الوسطي دون الاقتراب إطلاقًا من صوتها الرأسي تبع ذلك أغنية قصيدة رائعة نظمها الشاعر اللبناني المهجري الكبير (إيليا أبو ماضي) ولحنها الملحن اللبناني الكبير (خالد أبو النصر) فجاء لحنه (وهو المطلع الكبير على الموسيقى الغربية) موزعًا بين منطقتي صوت( فيروز) (الصدرية والرأسية) دون تغليب واحدة على الأُخرى، وقد أراد (أبو النصر) – كما قال لي – إعادة تسجيل الأغنية مع (فيروز) في السبعينات بعد التحسن التقني الكبير الذي طرأ على وسائل التسجيل ولكن رفض الأخوان (رحباني ) هذا رفضًا قطعيًّا؛ لعدم رغبتهما في أن يظهر صوت (فيروز) بألحان غيرهما، وشذَّ عن هذه القاعدة (فيلمون وهبي) و( محمد عبدالوهاب) لأسباب لا مجال لذكرها الآن، أول الألحان خارج المؤسسة الرحبانية التي غنتها (فيروز) كانت مجموعة (طقاطيق) (سيد درويش) الرائعة: (زوروني كل سنة مرة ، طلعت يا محلا نورها ، الحلوة دي قامت تعجن …وغيرها).

فيلمون وهبي:

مع بداية المهرجانات منذ 1957 م، أصبح ملحنًا دائمًا في كل مسرحية للأخوين (رحباني) بلحنٍ واحدٍ ونادر، وكانت هذه الأغنية تأتي في وسط المسرحية فتنعش الجمهور ويستقبلها بهمهمة حتى قبل أن يعرف من لحَّنها وقد اختارها شخصيًّا ومن هذه الأغنيات أذكر: (خايف يا هوى أنا خوفي من عتم الليل، يا مرسال المراسيل ، يا دارة دوري فينا ، جايبلي سلام، من عز النوم ، على جسر اللوزية) وفي كل هذه الأغاني – والتي سنتكلم عنها لاحقًا- استطاع (فيلمون وهبي) وهو الملحن العربي الأصيل أن يُظهر بكل براعة لصوت (فيروز) في تأدية المقامات العربية: (الهزام و الراست والبياتي والمجاز) بكل أنواعه وكذلك استطاع أن يبرز المكامن الجمالية الهائلة الدفينة في منطقة صوتها الوسطي وصوتها الصدري، وتمتاز هذه الأغنيات بالمستوى اللحني العالي جدًا وبعروبتها العميقة، وبمقدرة( فيروز) غير المحدودة على الوصول إلى الأعماق الجمالية لهذه الألحان العربية الصرفة، بعد انفصال (فيروز) عن المؤسسة الرحبانية تضاعف التعاون بين صوتها وبين ألحان (فيلمون وهبي) بدءًا من صيف 1980 م، حيث غنَّت من ألحانه أربع أغنيات رائعة (ورقوا الأصفر ، ياريت منن ، طلعلي البكي وياقوته شعبية ) كلها من نظم (جوزيف حرب)، وكنت سعيدًا جدًا بمشاركتي في هذه الأغنيات إذ أني دونت الثلاث الأولى منها من عود وصوت (فيلمون وهبي) إلى الورق وقمت بتدريب الأوركسترا عليها وصولًا إلى التسجيل في الاستوديو ، وقد حملت هذه المجموعة من ألحان (فيلمون وهبي) لها اسم (أسطوانة دهب أيلول) إشارة إلى أغنية (ورقو الأصفر)، المجموعة الثانية حملت اسم (أسطوانة بليل وشتي) تبرز منها وبشكل كبير لافت للنظر الأغنية التي حملت الأسطوانة اسمها منها (بليل وشتي) – التي جاءت تحفة شعرية لـ(جوزيف حرب)، ولحنية بنغماتها المذهلة، ومقامها الشجي والمليء بالشجن والحزن (الهزام)، والعمق الإنساني الكبير الذي وصل إليه الملحن في معالجة الشعر الرائع، والذي حرك المقدرة الكبيرة لصوت (فيروز) بأداء المقامات العربية الصرفة، وإبراز كل أبعادها الجمالية والتعبيرية، وإظهار الكنوز الجمالية الهائلة لصوتها في منطقة الوسطي والمنخفضة مستخدمًا في هذه الألحان الصوت الصدري أَروع استخدام؛ مستغلًا إلى أبعد حدود مقدرة (فيروز) المطلقة في استعمال هذه المساحة الصوتية وهذا ما جعل إجمالًا ألحان( فيلمون وهبي) لها الأكثر انتشار شعبيًا والأكثر تعبيرًا عن المزاج الفني الموسيقي العام للشعب اللبناني.

أغنية (أعطني الناي وغن) المعروفة بأنَّها من ألحان (نجيب حنكش) قصة غريبة فهي الأغنية الوحيدة التي لحَّنها في حياته (نجيب حنكش) ، ولو تمعَّنا في اللحن نجد أنَّ المذهب كله مكون من ثلاث جمل كلها مأخوذة من (التانجو الأرجنتيني) الشهير الكومبارسات (La Cumparsita) ولم يكن (حنكش) يُغني غير هذه الجمل الثلاث على كل أبيات قصيدة( جبران) هذه في بـرنامجه التلفزيوني في لبنان، أمَّا باقي الأغنية فواضح فيها بما لا يقبل الشك أسلوب الأخوين (رحباني) وبصماتهم في التلحين ومع ذلك فهي معروفة بأنَّها من تلحين (نجيب حنكش).

أمَّا (محمد محسن) فقد لحن لها موشحًا رائعًا (سيد الهوى قمري)، وبعض الأغنيات في شريط (فيروز) تُغني لـ(زكي ناصيف) وهو ملحن مخضرم يملك روحًا استنباطية في التلحين انتشرت ألحانه الرائعة بصوت العظيمة (سعاد محمد) في الخمسينات (دمعة على خد الزمن ، العمر يوم ومظلومه ياناس)، ونالت شهرة و انتشارًا جماهيريًّا كبيرًا في منطقة المشرق.

زكي ناصيف:

لا يكتمل هذا المبحث عن (فيروز) دون الوقوف عند تجربتها الرائدة مع عملاق الموسيقى اللبنانية (زكي ناصيف)، لقد تمنى – هذا الملحن العظيم – كل عمره أن تُغني ألحانه، وحال دون ذلك زواج (فيروز) من (عاصي الرحباني )، ودخولها عضوًا أساسيًّا في المؤسسة الرحبانية بكامل ألحانها إلى كل العالم بعد أن احتكر الأخوان صوتها ورفضا رفضًا قاطعًا أن تُغني من ألحان غيرهما (باستثناء أخيهما إلياس بن عاصي زياد)، والمعروف في الثقافة الموسيقية العربية منذ بدايتها أنَّ الشخصية المحورية الأساسية في العملية الموسيقية هي المغني أو المغنية، فكان افتقار( زكي ناصيف) لصوتٍ دائم يحمل ألحانه هو سبب جعله لا ينطق عربيًّا كما الأخوين (رحباني)، فبقيت ألحانهما الرائعة والخالدة داخل حدود لبنان وإن تخطت إلى البلاد العربية المجاورة(سوريا، الأردن، فلسطين) بحكم الجوار الجغرافي المباشر، وأعظم ما لحَّن (زكي ناصيف) لفيروز بلا أدنى شك هي مغناة (يا ابن أمي في ظلام الليل)، وظهرت هذه الأغنية التحفة التاريخية في إذاعات لبنان في صيف 1982 م إبان تعرض لبنان للغزو الإسرائيلي وحصار بيروت، وكان بث اسم الأغنية المستمر على مدار الساعة في الإذاعة اللبنانية أحد أهم أسباب صمودنا ورفع روحنا المعنوية في بيروت المحاصرة ونحن نعيش تحت القصف المستمر ليلًا و نهارًا. وأستطيع بكل مسؤوليتي الموسيقية والعلمية و خبرتي ومعرفتي العميقة للموسيقى اللبنانية أن أجزم بأنَّ هذه المغناة هي أهم عمل موسيقي درامي في تاريخ الموسيقى اللبنانية وأعظم مع غنَّت( فيروز) ويأتي معها مغناة (زياد رحباني) الفلسفية (سفينتي في انتظاري) وطبعًا لم تعرف هاتان الأغنيتان الملتحمتان الانتشار الشعبي؛ بسبب ظهورهما في فترة الانحطاط الموسيقي المعروف، ولسبب الظروف التي ظهرتا فيها.

يا ابن أمي : نوع هذه التحفة الموسيقية الغنائية هو المغناة (Cantata) وهو عمل من دون توقف بين أجزائه وإن احتوى على ثلاثة أجزاء واضحة المعالم والحدود، اختار كلمات هذه المغناة الشاعر الكبير (جوزيف حرب) من كتب (جبران خليل جبران ) أديب لبنان والعرب الكبير وخاصةً من كتابه (النبي).

تبدأ الأغنية بمقدمة موسيقية مذهلة في جمالها قائمة في مزاجها وتعصر ألمًا ولا تنسَ ظروف ظهورها في أثناء احتلال لبنان وحصار بيروت كما أنَّ كلام بداية العمل لا يسمح بمزاج آخر أكثر تفاؤلًا.

(في ظلام الليل أناديكم هل تسمعون ؟ مات أهلي و عيونهم محدقة في سواد السماء، في ظلام الليل أناديكم هل تسمعون ؟ مات أهلي و غمرت تلال بلادي الدموع والدماء).

ومن لم يسمع هذه الأغنية لا يستطع أن يتصور عظمة صوت( فيروز) في أداء الألحان الدرامية العميقة ، وبالذات مطلع هذا اللحن الذي وضع فيه الملحن عصارة عبقريته اللَّحنية سيسمعها وكأنه يسمعها لأول مرة، ويستكشف في صوتها كنوزًا درامية لم يسمعها في ألحان الأخوين رحباني أقول هذا من دون أية مبالغة فكلمة (أناديكم) تغنيها بدفء إنساني درامي ووجداني وانفعالي مذهل، ولا يخفى هنا طبعًا عرب صوت (زكي ناصيف) الرائعة الذي لقنها اللحن، أمَّا عن لحن هذا المقطع والمقدمة فحدّث ولا حرج فالمقدمة الأوركسترالية ثرية جدًا بلحنها وتوزيعها الأوركسترالي والآلات التي تنفذها، حيث تأتي آلات الأوبرا والفلوت على خلفية عزف التوزيع على الوتريات تنوح تصويرًا للحالة اليائسة المتشائمة التي تبدأ بها الأغنية وصفًا للكلام المظلم في البداية ويأخذ اللَّحن في التطور والانقطاع ، ويبدأ زحف الإشراق بين غيوم الظلام واليأس والتشاؤم لغاية ما يتغلب كليًا علي المزاج السودوي والمتشائم لنصل إلى القسم الثاني من العمل على كلمات رائعة خالدة في شموليتها، في وصفها لحال الأمة العربية بعد أكثر من مئة عام من نظمها وكأنَّها تتنبأ بما سوف يحدث للأمة العربية بعد أكثر من قرن من الزمان.

  • الويل لأمة كَثُرت طوائفها وقل فيها الدين.
  • الويل لأمة تلبس مما لا تنسج وتشرب مما لا تعصر.
  • الويل لأمة مقسمة وكل ينادي أنا أمة.

ثلاث آفات يتنبأ بها (جبران) في (بداية القرن العشرين) تعيشها الأمة العربية بكل أبعادها الطائفية البغيضة – حالتنا كأمة مستهلكة فقط لما ينتج الغرب، وحالة التشرذم المخيفة-.

وللتعبير عن هول هذه الآفات الثلاث يستعمل( زكي ناصيف) أسلوبًا عبقريًّا قل استعماله في الموسيقى العربية وهو الأسلوب الخطابي في التلحين خصوصًا عند كلمات (الويل) المكررة في عبارة (الويل لها الويل الويل لها)، الذي يرددها الكورال بطريقة خطابية واضحة جدًا ، وإلى جانب هذه اللهجة يأتي عنصر آخر يقوي الأعماق الإنسانية للَّحن، ويكشف عن مزيد من قدرات صوت (فيروز) التعبيرية السامية، فاللحن ملئ بعنصر (الاستنهاض والانفعالية العميقة) التي تشحن المستمع بكل عمق ضد هذه الآفات الواردة في الكلام بلحن في منتهى التركيز والقوة.

نصل إلى الجزء الثالث والأخير الذي يُشكل الذروة الدرامية والجمالية والوجدانية والإنسانية والتفاؤلية للعمل:

يا بني أمي الحق، الحق أقول لكم

وطني يأبى السلاسل

وطني أرض السنابل

وطني الفلاحون ، وطني الكرامون

وطني البناؤون، و الغار والزيتون

وطني هو الإنسان ، وطني لبنان

ومع هذه الكلمات يظهر صوت (فيروز) بكل تجليه وبكل عناصره الفنية والإنسانية، وتتواصل التفاعلات بين عناصر العمل الثلاثة( الأوركسترا، المطربة ، والكورال)؛ لتصل إلى ذروتها النهاية بقوة انفعالية درامية تأثيرية هائلة جارفة عند كلمة (لبنان) التي تتكرر أربع مرات. لقد أظهرت (فيروز) في هذا العمل كل ما نعرفه من عناصر صوتها وكل ما كانت تختزنه من عناصر لم تظهر في أعمال سابقة.

محمد عبدالوهاب:

كان إعجاب (محمد عبدالوهاب) بصوت (فيروز) ظاهرًا ولم يكن يخفيه إطلاقًا فقد وجد فيه مختبرًا فريدًا لألحانه المتطورة، وهو الخبير الذي اكتشف كل أبعاد صوتها قبل ظهورها في أعمال، بل أنَّه كان عارفًا بتلك العناصر التي لم يستعملها الأخوان (رحباني) في صوتها والتي نجدها في الألحان التي يُلحنها لها. غنَّت من أغانيه القديمة (خايف أقول اللي في قلبي) وقصيدة( يا جارة الوادي)، وكأنَّه يقرب صوت (فيروز) إلى أسلوبه اللَّحني عند جماهيره العربية، لكن للذكاء الفني المطلق عند (عبدالوهاب) جعله حذرًا في اختيار الأسلوب المزمع واستعماله في أول أغنية يلحنها لها، فلـ(فيروز) جماهير عريضة جدًا في العالم العربي، فهي أيقونة الغناء العربي الحديث التي فرضت نوعية جديدة من التلحين ابتدعه الأخوان (رحباني)، لذلك فإن حذر (محمد عبدالوهاب ) من أن يبتعد فجأة وبشكلٍ حاد عن هذه النوعية الجديدة لألحان (فيروز)، كان كبيرًا وجعله حذرًا في أغنيته الأولى لها (سهار بعد سهار) فرأى أن يكون لحنها قريبًا من الأسلوب الرحباني في أغنيتها المشهورة جدًا (نحنا القمر – جيران) فجاءت الأغنية بإطار رحباني ولكن بمضمون وهابي صرف. ولم ينسَ هذا العبقري طريقة غناء (فيروز) المحببة عند الجمهور – طريقة الغناء المستعار بالصوت الرأسي – فأظهرها بشكلٍ رائع عند جملة (راح أفتح بوابي وانده علي صحابي)، لكنه إلي جانب هذا نجد بعض الجمل التي تكشف قدرة (فيروز) على الغناء الدرامي في إطار هذا المزاج الخفيف العام وهكذا جمع هذا العبقري بطريقة في منتهى الذكاء جماهير صوت( فيروز).

وبعد اطمئنان(محمد عبدالوهاب) إلى نجاح تجربته الأولى مع هذا الصوت المذهل أطلق كل حريته وخبرته الوهابية في تلحين القصيدة في رائعتيه (سكن الليل) نظم (جبران خليل جبران) و (مرَّ بي) نظم (سعيد عقل)، مطلقًا العنان لكل طاقات وعناصر صوت (فيروز) في جميع مساحاته الرأسية والصدرية المستعارة ومنطقة الغناء الصدري والمساحة المنخفضة العريضة، المنخفضة الدرامية من صوتها وخصوصًا في ختام قصيدة (مرَّ بي) عند عبارة (إن تعدلي) خاصةً عند كلمة (لي)، التي قسَّمها قسمين الأول عند صوتها الصدري، والثانية التي تأتي مع قفزة لحنية مذهلة من ثماني درجات موسيقية (وكتاف كامل) أتت في منطقة صوتها الرأسي، ولا يكتفي هذا الملحن العبقري بذلك بل يستمر في عصر إمكانيات هذا الصوت المذهل إلى النهاية فيختم القصيدة بجملة (أشعلت بري) بجملة لحنية رائعة تتأرجح بين الغناء الرأسي والصدري أدتها (فيروز) بإعجاز صوتي مذهل، أقرب إلى (البهلوانات الصوتية) الصعبة جدًا التي تعكس قدرتها الهائلة في التحكم بمنطقتي صوتها (الصدرية والرأسية).

لابد في النهاية أن نتحدث عن موقع صوت( فيروز) التاريخي في الغناء العربي الحديث. إنَّ صوتها بكل أبعاده وجمالياته ينتمي إلى طريقة الغناء التاريخية التي أحدثتها (أسمهان) المسمع الأوبرالي الخالد (قيس وليلي)، حيث استغل الملحن (محمد عبدالوهاب ) كل قدرات صوتها في منطقة الوسطي والمنخفضة وإمكانياته الدرامية الهائلة وأكمل (محمد القصبجي) استغلال قدرات صوتها في مناطقه العليا بكل عبقرية في منولوجه الخالد (يا طيور)، وأوصل صوتها الرأسي في مناطقه العليا إلي حدود الغناء الأوبرالي الكلاسيكي. إنَّ (فيروز) تعتبر ثاني مطربة عربية بعد (أسمهان) تملك السيطرة الكاملة على كل مساحات صوتها العليا (الرأسية والوسطي والمنخفضة الدرامية) هذا إلى جانب تمكُّنها المطلق في استخدام كل هذه الَمَلَكَات بالمقدار الدقيق المطلوب، وكأنَّه على ميزان ذهب، المقدار الذي يطلبه اللحن الذي تؤديه كل هذا إلى جانب قماشة صوتها الرائعة والنادرة والاستثنائية.

اظهر المزيد

سليم سحاب

قائد اوركسترا وناقد وباحث ومؤرخ موسيقي - لبنان

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى