2022العدد 189دراسات

من الرؤى الاستراتيجية في العالم العربي: تطوير البحث في الحوْسبة الكمومية

اليوم، هناك جزء كبير من خصوصيات حياة الأفراد والجماعات معروض على شبكة الإنترنت: بياناتنا المصرفية والطبية، برقياتنا الإلكترونية، رسائلنا على شبكات التواصل الاجتماعي، صورنا، بيانات المرافق الحكومية والشركات بمختلف أحجامها؛ وحتى نضمن النقل الآمن لهذه المعلومات والبيانات دون اختراقها من قبل الغير، يتمّ تطوير تقنيات تشفير جديدة مبنية بالدرجة الأولى على الفيزياء (فيزياء الكم) وليس على الرياضيات (نظرية الأعداد)، كما هو الحال الآن. ينتظر العلماء حدوث ثورة حقيقية، بعد نحو عقدين، في عالم الاتصالات والتشفير المعتمد على التقنية الكمومية، ترمي هذه الدراسة إلى تسليط الضوء على هذه القضية الشائكة لإبراز الخطر الداهم على كل بلد يهمل جانب البحث العلمي في هذا الموضوع.

1. مقدمة:

تُعتبر صناعة جهاز الحاسوب (الكمبيوتر) من أعظم إنجازات القرن العشرين، وهذا لا يحتاج إلى بيان إذ يكفي أن نشاهد عبر العالم استعمالاته اليومية لدى الأفراد والجماعات والمؤسسات بمختلف فئاتها. وفي بداية الأمر، كان الغرض من هذا الجهاز يتمثل في مهمة واحدة، وهي المساعدة على إجراء العمليات الحسابية الأربعة التي يستغرق تنفيذها وقتًا طويلًا إذا ما اكتفينا باستعمال الطريقة اليدوية التي نتعلّمها في المدارس؛ ولذا قدّر أحد العلماء في نهاية الأربعينيات من القرن العشرين أن الولايات المتحدة مثلًا لن تحتاج إلى أكثر من ثلاثة أو أربعة أجهزة من هذا القبيل لتغطية حاجياتها المستقبلية في موضوع الحساب باستعمال الآلة! والأغرب من ذلك، أن “كين أولسن Ken Olsen” (1926-2011)، كان قد صرّح عام 1977 بأنه “لا حاجة للفرد في أن يكون له حاسوب بالمنزل”![*] والمهندس كين أولسن هو أحد مؤسسي شركة المعدّات الرقمية (Digital Equipment Corporation) الرائدة عام 1957 في الولايات المتحدة. والكل يدرك الآن كم كان هؤلاء الخبراء مخطئين في تقديراتهم.

وما يدلّ على تطوّر هذه الآلة أن أول حاسوب ظهر في العالم كان يزن أكثر من ثلاثين طنًا، وينجز حوالي 5 آلاف عملية في الثانية، كانت تلك بداية الجيل الأول من الحواسيب (1945-1955). وقد رفع الجيل الثاني (1955-1965) هذا الرقم إلى 200 ألف عملية في الثانية، ثم تضاعف الرقم عشر مرات بظهور الجيل الثالث (1965-1980)، وتطوّر الحاسوب سنة بعد سنة فصار ينجز مئات ملايين العمليات في الثانية. أما وزنه فقارنه بوزن الريشة، ولا حرج!

وفي سياق التطوّر التكنولوجي المدهش، تزايدت الحاجة إلى سرعة إنجاز العمليات المطلوبة من الحاسوب في كثير من الميادين، منها بوجهٍ خاص مجال التشفير (Cryptography)، ومختلف الدراسات التوقّعية الأخرى، مثل: (توقع أحوال الطقس، وعمليات الفرز والبحث المختلفة في جهاز الحاسوب). وقد تبيّن أن قدرات الحواسيب الموجودة حاليًّا، مهما تطورت، لن تفي بهذه الحاجة المتزايدة في مجتمعاتنا؛ ولذلك شرع العلماء منذ أواخر القرن الماضي في التفكير في تصميم نوع آخر من الحواسيب، سمي الحاسوب الكمومي (Quantum computer)، وهو حاسوب لا يرتكز بالدرجة الأولى على الأداة الحسابية الرياضية، بل يعتمد على فيزياء الكم (أو الفيزياء الكمومية).

2. ما هي الحوسبة الكمومية؟

      يعمل العلماء منذ سنوات في العالم المتقدم على صناعة الحاسوب الكمومي؛ لأنهم يعتبرون أن الحاسوب التقليدي (الحالي) بلغ نهاية عهده بعد أن أدى أقصى ما يمكن أداؤه ضمن القواعد التي تسيّره، والمبنية من الناحية التقنية على استخدام الوحدة الأساسية في الحوسبة التقليدية وهي “البيت” bit (التسمية مختصر لعبارة binary digit، أي “الرقم الثنائي”)، ويأخذ “البيت” قيمتين يرمز إليهما الباحثون بـ (0 و 1). أما الحوسبة الكمومية فوحدتها الأساسية هي “الكيوبيت” qbit (“البيت الكمومي” quantum bit)، الذي يمكنه أن يأخذ جميع القيم بين (0 و 1) في آن واحد، ويسمح ذلك بإجراء حسابات متوازية في وقتٍ واحد، وليس بالتتابع، عملية تلو الأخرى، ومن ثمّ حلّ معادلات معقّدة بسرعة مذهلة ومسائل مستعصية.

لا بد أن نلاحظ بأن الخبراء يميّزون بين “الحاسوب الكمومي” و”الحاسبة الكمومية” (Quantum calculator) : فالحاسوب الكمومي، مثله مثل أي حاسوب، ينبغي أن يكون قادرًا على معالجة وتنفيذ أي برنامج كمومي. أما الحاسبة الكمومية، فهي أضعف من الحاسوب الكمومي؛ إذ يقتصر دورها على تشغيل برنامج واحد، أو فئة ضيقة من البرامج. وقد تمت صناعة حاسبة صغيرة من هذا القبيل خلال سنوات التسعينيات، ومنذ ذلك الوقت ما فتئت هذه الصناعة تتطور تطورًا معتبرًا دعمته ماليًّا العديد من الشركات والحكومات بحكم أهمية هذا الإنجاز في المجال الكمومي. أما الحاسوب الكمومي فصناعته تتطلب استخدام تقنيات معقدة لا يتحكم فيها العلماء بعد.

ومن العوائق البارزة التي تعترض ظهور الحاسوب الكمومي والحاسبة الكمومية عائق عدم التناسق الكمومي الذي يجعل أداء الجهاز يتأثر باضطرابات المحيط الموجود فيه؛ ولذا يذهب بعض الخبراء إلى التأكيد بأن إنتاج حاسوب كمومي عالي الأداء لن يتمّ قبل عام 2050.

وينبغي ألا ننسى التطور المذهل الذي يعرفه الآن الذكاء الاصطناعي. ومن المتوقع أن تتزايد هذه السرعة بتقدم البحوث في الحوسبة الكمومية، والجميع ينتظر حدوث ثورة عارمة في العديد من القطاعات الصناعية مستقبلًا: (الصحة، المواد الكيميائية والصيدلانية، الصناعة بمختلف فروعها، أمن المعلومات، السيارات المسيرة ذاتيًّا، النقل، إدارة النقل والمرور). على سبيل المثال، فإن أحد أكبر التحديات التي تواجه البشرية هو إنتاج الطاقة. في الوقت الراهن، لا يمكننا تسخير ضوء الشمس واستغلاله بشكلٍ فعال، ومن المتوقع أن نستفيد كثيرًا من أجهزة الحواسيب الكمومية في تحسين إنتاجية الألواح الشمسية.

لِم الاهتمام الكبير في الدول المتقدمة بالحوسبة الكمومية؟ الجواب : في ظل التطوّر الرقمي الكبير الذي يشهده العالم في الوقت الراهن، أصبحت الدول والمؤسسات الحيوية تولي اهتمامًا كبيرًا لتشفير البيانات والأمن وسرية المعلومات، وهنا تأتي أهمية الحواسيب الكمومية لقلب الموازين؛ إذ تمتلك هذه الأجهزة قدرات هائلة في هذا المجال، فعلى سبيل المثال: استطاعت شركة “جوجل” عام 2019 إنجاز عمليات حسابية بحاسبتها الكمومية خلال دقائق معدودات، بينما يتطلب القيام بنفس العمل عند استعمال أسرع حاسوب موجود الآن في السوق مائة قرن! هذا ما تمكنت منه حاسبة كمومية، فما بالك في إمكانيات الحاسوب الكمومي عندما يتمّ إنتاجه؟

3. السباق على أشدّه:

تُعدّ الحوسبة الكمومية -بالمعنى الواسع للمصطلح- قطاعًا تكنولوجيًّا استراتيجيًّا، وجانب الأمن والتشفير وحده يكفي لتأكيد ذلك حيث تكون سيادة كل بلد على المحكّ عندما يتعلق الأمر بحماية الاتصالات الحساسة. وفي هذا الباب فإن الحوسبة الكمومية تتضمن تطبيقات هامة ستوسع مجال التكنولوجيا الرقمية إلى أبعد الحدود، لاسيما في مجال (الأمن، والصحة، والبيئة، والذكاء الاصطناعي).

في الوقت الحالي، يتم البحث العلمي في الحوسبة الكمومية بشكلٍ أساسي في المؤسسات الحكومية داخل البلدان المتقدمة التي تستثمر فيه بقوة، ثم يتم أيضًا عند كبريات الشركات المختصة في الرقمنة وتواجهها الكثير من الرهانات التكنولوجية، مثل: “جوجل”، و”إنتل” (Intel)، و”مايكروسفت” (Microsoft)، و”آي بي آم” (IBM)، و”آليبابا” (Alibaba)،… إلخ. وتأتي في الدرجة الثالثة بعض الشركات الناشئة، لاسيما في أمريكا الشمالية، مثل: “دي- ويف” (D-Wave)، و”آينكيو” (IonQ)، و”ريجيتي” (Rigetti)، ولا تزال صناعة برامج الحاسوب الكمومي في مهدها. وقد استثمرت جميع تلك الشركات في ما له صلة بالبرمجيات الكمومية، ورغم أن التمويلات في مجال الحوسبة الكمومية تعدّ بمليارات الدولارات وأن عدد الباحثين فيها يعدّ بالآلاف، فإن الخبراء يقدّرون أن هذه الحوسبة هي الآن في مستوى الحوسبة التقليدية الذي كانت عليه خلال الخمسينيات من القرن الماضي!

ويتساءل البعض : هل البحث في مجال الحوسبة الكمومية، وما تواجهه المعمورة من تحديات عالمية، لا يتطلب سوى التمويلات الضخمة لحل المستعصي من المشاكل العلمية المطروحة على مستوى الحكومات ومختلف مرافقها، وكذا مستوى الشركات التجارية والاقتصادية العالمية؟ لا أبدًا! فالنجاح في هذا الحقل يقتضي أمورًا كثيرة، منها دمج العديد من التخصصات العلمية الأخرى في هذا البحث العلمي والتوفيق بينها، فضلًا عن حتمية ظهور فروع علمية جديدة.

4. الوضع في العالم العربي:

لا توجد، حسب علمنا، في العالم العربي جهود بلغت أشدّها في موضوع الحوسبة الكمومية إذا استثنينا معهد أبوظبي للابتكار التكنولوجي في الإمارات العربية المتحدة المتكوّن من سبعة مراكز بحثية متخصصة تُعنى بـ(الروبوتات الكمومية، والتشفير، والمواد المتقدمة، والأمن الرقمي، والطاقة، والأنظمة الآمنة)، يتعاون هذا المعهد مع المواهب والجامعات ومعاهد البحوث والشركاء الصناعيين في جميع أنحاء العالم، وهو يعدّ ركيزة البحوث التطبيقية في مجلس أبوظبي لأبحاث التكنولوجيا المتقدمة (ATRC)، ومن بين الهيئات الموجودة فيه “مركز الأبحاث الكمومية” (QRC) الذي ينتسب إليه فريق من الباحثين يشرف عليه الأستاذ الإسباني “خوسيه إجناسيو لاتوري José Ignacio Latorre”، وتسعى هذه الأبحاث إلى تحقيق إنجازات تؤدي إلى بناء الحاسوب الكمومي بالتعاون مع باحثين من شركة “كيليمنجارو كنتم تيك” (Qilimanjaro Quantum Tech) التي يوجد مقرّها في مدينة برشلونة الإسبانية.

يقول الأمين العام لمجلس أبوظبي لأبحاث التكنولوجيا المتقدمة فيصل البناي: “نحن على أعتاب حقبة جديدة مع ظهور الحوسبة الكمومية… نحن فخورون بالشروع في بناء واحدة من هذه الآلات الرائعة التي ستكون قادرة على مساعدتنا في مجموعة متنوعة من المجالات، من اكتشاف عقاقير جديدة، إلى صنع مواد جديدة، إلى تصميم بطاريات أفضل ومختلف تطبيقات الذكاء الاصطناعي”[†].

أما الأستاذ لاتوري، فيشير إلى أن هناك العديد من التقنيات لبناء الأجهزة الكمومية، مثل: (الحاسبات، والكيوبتات فائقة التوصيل، ومصائد الأيونات والكيوبتات البصرية)، موضحًا أن مركز الأبحاث الكمومية الذي يشرف عليه اختار استخدام الكيوبتات، وهي نفس التقنية التي تستخدمها شركة “جوجل” وشركة “آي بي آم” في هذا المجال. ومن المعلوم أن الجهود في هذا المركز على قدمٍ وساق لتنفيذ المشاريع المسطرة الخاصة بالحوسبة الكمومية.

5. الوضع في الولايات المتحدة وكندا:

في الولايات المتحدة، تمّ تنسيق البحث في الفروع الكمومية المختلفة في أكتوبر 2014، وقد صدر في يوليو 2016 تقرير تضمن 23 صفحة بعنوان “النهوض بعلم المعلومات الكمومية” يقدم بعض التفاصيل عن مجريات الأبحاث الكمومية في البلاد. ومن المعلوم أن الحكومة الفيدرالية تموّل مشاريع بحثية حول الحوسبة الكمومية للشركات الناشئة، كما تستثمر المختبرات التابعة للدولة في الحوسبة الكمومية بالتعاون مع المجمعّات الصناعية والعسكرية. 

كما تموّل وكالة مشاريع البحوث المتقدمة الاستخباراتية مشاريع لتطوير الحاسبات الكمومية. وتستثمر وكالة الأمن القومي بكثافة في البحث الكمومي، وتتعاقد بخصوص بعض أبحاثها مع شركات خاصة، رغم أنها تعتبر أبحاثها سرية. وكذلك تفعل وكالة “ناسا” الفضائية حيث أنشأت عام 2013 مختبر الذكاء الاصطناعي الكمومي بالاشتراك مع مؤسسة “جوجل”.

أما القوات الجوية الأمريكية، فتركز أبحاثها على التشفير الكمومي. ومن جهة أخرى، يعمل مكتب البحوث البحرية على استخدام البحوث الكمومية في المسائل البحرية، ولدى مكتب أبحاث الجيش برنامج خاص بالأبحاث الكمومية يتناول الحوسبة الكمومية والتشفير والاتصالات الكمومية. أما مختبر لوس ألاموس القومي، فأنشأ عام 2002 معهدًا للعلوم الكمومية يستثمر في الحوسبة والتشفير الكمومي ويموّل الأبحاث التي تجريها عدة جامعات في الولايات المتحدة وتشارك فيها أحيانًا أستراليا.

نشير إلى أن المؤسسة القومية للعلوم (NSF) تموّل أيضًا العديد من المشاريع البحثية الكمومية، ومع ذلك يشتكي البعض في الولايات المتحدة من قلة التمويل في هذا المجال مقارنة بما يجري في الصين، ودارت حول هذا الموضوع نقاشات حادة عام 2018 ظهر فيها تخوّف من المساس بالسيادة القومية في الولايات المتحدة إذا ما تفوّق عليها الغير في مجال الحوسبة الكمومية.

وفي جوار الولايات المتحدة، نجد كندا تتميّز باستثمارات قوية في البحوث الأساسية حول الحوسبة الكمومية، ولاسيما في جامعتي (واترلو وشيربروك)، وقد حصلت جامعة واترلو على ميزانية قدرها 120 مليون دولار عام 2017 لتطوير البحث في هذا المجال، والمثير للدهشة أنها حصلت أيضًا على تمويل أسترالي بقيمة 53 مليون دولار.

6. الوضع في أوروبا:

وفي أوروبا، يبدو أن بريطانيا هي أول بلد انشغل بالحوسبة الكمومية، وذلك منذ عام 2013 عندما سُطّر برنامج لتطوير التقنيات الكمومية في مجالات الأمن والتصوير الطبي. وفي هذا السياق، تهتمّ الحكومة البريطانية بشكلٍ أساسي بنقل التكنولوجيا من المختبرات إلى الشركات لتطبيقها ميدانيًّا، ونجد في الخطة البريطانية الحديث عن إنشاء شبكة تُعنى بالابتكار في المجال الكمومي مستغلين في أداء هذه المهمة، طلاب الدكتوراه إذ أن هناك عددًا معتبرًا من الجامعات البريطانية التي تبحث في الكموميات، مع أنه لا يبدو أن هناك شركة بريطانية كبيرة تستثمر بشكلٍ خاص في الحوسبة الكمومية.

ومن الدول الأوروبية الرائدة في مجال الحوسبة الكمومية سويسرا، لاسيما من خلال جهود جامعة” زيورخ” التي تتعاون مع شركة “آي بي إم” حول التشفير الكمومي وغيره. وقد قامت الدولة بالترويج لجهود البحث الكمومي، جعل عديد الجامعات القومية الأخرى في سويسرا (جنيف، بازل، لوزان…) تتعاون في حقل الكموميات حتى تم تمويلها بعشرات ملايين الدولارات، ومن المعلوم أن هذه التمويلات غطت كل المواضيع الكمومية المعتادة مع التركيز على الاتصالات الكمومية.

وفي ألمانيا، نشرت الوكالة الفيدرالية التي تحمي نظم المعلومات تقريرًا في شهر مايو 2018 تضمن 231 صفحة يقيّم وضع الحوسبة الكمومية في العالم وفي ألمانيا بوجه خاص، مركزًا على قضايا الأمن السيبراني. ويمثّل هذا التقرير وثيقة من أفضل الوثائق حول وضع أبحاث الحوسبة الكمومية العالمية، ونستخلص منه أن البحث الكمومي في ألمانيا ليس نشطًا حيث لا يوجد سوى مختبرين أساسيين يهتمان بهذا الحقل، وهما معهد ماكس بلانك Max-Plank للبصريات الكمومية (MPQ)، ومعهد المعلومات الكمومية في مدينة آخن. ومع ذلك ستحتلّ ألمانيا مرتبة متقدمة في العالم من حيث عدد المنشورات العلمية في قطاع الحوسبة الكمومية، بعد الولايات المتحدة والصين.

وتنشط هولندا بشكلٍ لافت في المجال الكمومي، خاصة في جامعة دلفت Delft؛ ففي عام 2015، أطلقت الحكومة خطة لإنشاء حاسوب كمومي في غضون 10 سنوات، وتم تخصيص 135 مليون يورو لتمويل هذا المشروع، ويوظف المشروع نحو 180 شخصًا أكثر من نصفهم أجانب، وبالموازاة مع ذلك يتعاون القائمون على هذا المشروع مع شركات أمريكية.

ويرتكز استثمار النمسا على الحوسبة الكمومية في العاصمة فيينا، ويُعنى بالدرجة الأولى بتصميم ما يسمى بالكيوبتات الأيونية المحاصَرة، وتستثمر النمسا أيضًا في التشفير الكمومي وتتعاون مع الصين، حيث أجرت معها تجارب في إرسال مفاتيح كمومية عبر القمر الصناعي “ميسيوس” Micius؛ لإنشاء اتصال فيديو آمن. كما يتعاون النمساويون مع المركز الفضائي بجامعة جرونوبل Grenoble الفرنسية بهدف تطوير قمر صناعي يهتمّ بالمفاتيح الكمومية على غرار ذلك الموجود في سنغافورة.

ويتم تنظيم الأبحاث الكمومية بالدنمارك في جامعة العاصمة “كوبنهاجن” غير أن الفريق العامل يتكوّن، فيما يبدو، من عدد ضئيل من الباحثين، ولا يمكنهم الاعتماد على الصناعيين الدنماركيين أو الأوروبيين للنظر في تحويل أبحاثهم إلى إنتاج أجهزة كمومية. وهذا المشكل مطروح أيضًا على المستوى الأوروبي! ومع ذلك، هناك محاولات للتعاون الأوروبي في هذا المجال؛ كما يتعاون العديد من المصنّعين الأمريكيين مع المختبرات الأوروبية.

أما في روسيا، فالوضع غير مرئي بصفةٍ واضحة في التنافس الصناعي حول الحوسبة الكمومية، لكن المعلومات المنشورة في روسيا تفيد أنه تم في عام 2012 إنشاء “المركز الكمومي الروسي”، وهو مركز أبحاث مخصص لمختلف مجالات تطبيق الحوسبة الكمومية، ومنها التشفير الكمومي. يغطي نشاط هذا المركز العديد من فروع الحوسبة الكمومية ويوظف مئات الباحثين، ويتعاون الباحثون الروس مع العديد من المنظمات البحثية الدولية (الولايات المتحدة، وكندا، وألمانيا، وبريطانيا،…وغيرها). وليس من المستبعد أن تكون هناك بعض الشركات الناشئة في مجال التشفير الكمومي في روسيا تساعد على حفاظ البلاد على مكانتها بين كبريات الدول في العالم مثل الصين والولايات المتحدة.

7. الوضع في الصين:

كما هو الحال في الكثير من القطاعات التكنولوجية، تؤكد الصين بصوت عالٍ طموحاتها وقوّتها في القطاع الكمومي، وشرعت مبكرًا في بذل جهود شاملة في مجال التشفير والاتصالات والمحاكاة الكمومية والحوسبة، وكان الرئيس الصيني قد طلب بتسجيل الاتصالات الكمومية ضمن الأولويات العلمية للبلاد وإدراج الحوسبة الكمومية في أولويات الخطة الثالثة عشرة، التي تغطي الفترة (2016-2020)، وبلغ إجمالي التمويل للأبحاث في الحوسبة الكمومية منذ عام 2006 ما يقارب ملياريْ دولار، وكان المشروع الأكثر طموحًا هو افتتاح عام 2020 المختبر القومي لعلوم المعلومات الكمومية في الصين بتمويل يصل إلى 10 مليار دولار، سيركز هذا المختبر على الحوسبة الكمومية والتطبيقات العسكرية والمدنية، ويتعاون الصينيون في هذا الحقل مع جهات بريطانية وأسترالية.

يقول الباحثون الصينيون إنهم خططوا لإنشاء حاسوب كمومي بسعة بسيطة تبلغ 50 كيلوبت بحلول عام 2023! وهم يعتقدون أن ظهور حاسوب كمومي كامل الأوصاف سيستغرق من 30 إلى 50 عامًا! كما تم إنشاء شراكات بين القطاعين العام والخاص في الصين، وأشهرها شراكة الدولة مع شركة “إليبابا” Alibaba، التي استثمرت قبل 5 سنوات مليار دولار في الحوسبة الكمومية التي تركّز على التشفير الكمومي. وتتقدم الصين في هذا النوع من التشفير على معظم الدول الأخرى، وقد أثبتت ذلك من خلال عديد التجارب الميدانية التي تتبعها الخبراء.

وفي هذا البلد، تعمل عدة فرق منذ عام 2017 على النقل الآني الكمومي عبر الفضاء، باستخدام الأقمار الصناعية وأشعة الليزر. لقد نجح الصينيون عدة مرات في إرسال معلومات فورية لا يمكن المساس بتشفيرها أو اختراقها وذلك عبر مسافات طويلة تفوق ألف كلم، ويصف هؤلاء الباحثون شبكتهم المستقبلية، التي تعمل بين مدينتي (بكين وشنجهاي)، بأنها جهاز سيدمج في نهاية المطاف الاتصال عبر الألياف البصرية والأقمار الصناعية؛ وذلك من أجل تزويد الشركات الصينية بتكنولوجيا موثوقة. ويعتقد بعض العلماء أن نسخة أولية من الشبكة العاملة بالكوبيتات ستكون جاهزة في غضون الخمس سنوات القادمة.

كما تخطط الصين لإطلاق “سحابة” من الأقمار الصناعية بحلول عام 2030 مخصصة لإرسال المفاتيح الكمومية، وهكذا نرى أن الصينيين يأخذون مسألة تأمين الاتصالات على محمل الجدّ! وخلاصة القول أن الصين لا تتردّد في الاستثمار وتزويد باحثيها بموارد منقطعة النظير؛ ولذلك فقد لحقت الآن بركب البلدان الغربية وتجاوزتها. وللمقارنة، فأوروبا بدأت للتو في الردّ الجاد على هذه المنافسة الصينية، وهكذا ندرك أن هناك اختلافًا جوهريًّا في الاستراتيجية المتبعة في الصين وتلك المتبعة في الدول الغربية، لاسيما في سبل التمويل والاستثمار.

8. الوضع في دول آسيوية أخرى:

في اليابان، ثمّة استثمار طويل المدى في مجال الحوسبة الكمومية، بما يتماشى مع جهود البلاد في صناعة حاسبات كمومية عملاقة، وقد أنشأت اليابان معاهد للعلوم والتكنولوجيا الكمومية في أبريل 2016 بميزانية سنوية قدرها 487 مليون دولار، والظاهر أن المشروع يركّز على القياس الكمومي في مجال التصوير الطبي. وفي عام 2017، قدم المعهد القومي لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات الياباني عرضًا توضيحيًّا للاتصالات الكمومية باستخدام قمر صناعي صغير، كما فعلت الصين في نفس السنة.

وفي القطاع الخاص، تركز المجموعات الصناعية اليابانية الكبيرة بشكلٍ أساسي على الاتصالات الكمومية والتشفير، وحالها شبيه بما يحدث في الصين وكوريا الجنوبية. وعلى سبيل المثال، انطلقت شركة “توشيبا”  Toshiba في البحث في مجال التشفير الكمومي عام 2003 بالتعاون مع جامعة كامبريدج البريطانية. وفي عام 2014 قدمت الشركة أول عرض توضيحي للاتصالات الكمومية، وذلك عبر إرسال 878 جيجابت من البيانات الآمنة عبر الألياف البصرية بطول 45 كم بين منطقتين في ضواحي طوكيو. وتواصلت التجربة خلال عام 2016 مع شركة “برتيش تلكوم”  British Telecom البريطانية، وتمتلك شركة “هيتاشي”  Hitachi أيضًا مختبر أبحاث في جامعة كامبريدج يعمل بوجه خاص على تطوير المفاتيح الكمومية. ومن جهة أخرى، تمتلك موسسة “نتيتي”  NTTأربعة مختبرات للأبحاث الكمومية التطبيقية.

 أما سنغافورة فتشتهر رغم صغر مساحتها بديناميكية اقتصادية مذهلة وبريادة لافتة في مجال الأعمال، لقد ظهر اهتمام جامعة سنغافورة الوطنية بالبحث الكمومي منذ عام 2007 من خلال تمويلات تقارب 15 مليون دولار سنويًّا موجهة إلى الاستثمار في كل من الحوسبة الكمومية والتشفير الكمومي، ولهذا البلد عدة اتفاقيات شراكة مع الصين. ومن المعلوم أن سنغافورة أطلقت قمرها الصناعي النانوي عام 2015 الذي استخدم في تجربة الاتصالات الكمومية المشفرة.

وتستثمر أستراليا في هذا الحقل على مستويات مختلفة، نذكر على سبيل المثال البرامج القومية الأسترالية للابتكار والعلوم -المعلن عنها عام 2015- التي احتوت على 24 مبادرة في هذا المجال وعلى تمويلات تقدّر بـ 820 مليون دولار على مدى 4 سنوات، كما أن البلاد غزيرة الإنتاج في مشاريع الشراكة بين القطاعين العام والخاص. وفي باب التعاون مع الخارج، ارتبطت الدولة بجامعة سنغافورة لإنشاء أقمار صناعية للاتصالات الكمومية.

وفي كوريا الجنوبية، تستثمر شركة الاتصالات “س ك تلكوم” SK Telecom في الاتصالات الكمومية بالشراكة مع إحدى جامعات ولاية فلوريدا الأمريكية، كما استثمرت مع شركة ناشئة سويسرية وجهات أجنبية أخرى.

وهكذا يتضح أن الولايات المتحدة والصين تتصدران العالم في هذا القطاع مع التركيز على التشفير الكمومي والحاسبات الكمومية، لكن الموضوع يؤرق أيضًا عديد الدول المتقدمة، مثل: ( ألمانيا، وبريطانيا، وكندا، واليابان، وسويسرا، وأستراليا، وفرنسا). ويشير المتتبعون إلى أن الصين لا شك تتقدم بسرعة نظرًا لضخامة تمويلاتها للبحث العلمي في هذا المجال ولفاعلية استراتيجيتها.

9. الخاتمة:

سيكون الحاسوب الكمومي أسرع وأنجع من أي حاسوب بحوزتنا الآن، ولذا يمكنه بسهولة اختراق مفاتيح التشفير التي نفترض أنها تضمن لنا سرية تبادلاتنا وبياناتنا على مستوى الحكومات والمؤسسات المختلفة والأفراد، ومن المنتظر أن تكون هذه الأجهزة الكمومية متاحة وعملية نسبيًّا في غضون 15 سنة. وقد تبيّن أن وعي المستهلكين عبر العالم بالمخاطر المرتبطة بهذه الظاهرة ضعيف إلى حدٍ كبير، رغم أن الوعي العام بالتهديدات المحتملة للحوسبة الكمومية في تزايد. ومن هذا المنظور، فهذه الحوسبة تمثّل خطرًا داهمًا سيهزّ العالم، ولذا يدقّ الخبراء ناقوس الخطر: يجب من الآن على كل بلد رسم استراتيجية دقيقة لتطوير معيار تشفير يحول دون تمكّن الحاسوب الكمومي اختراق أسرارنا بعد سنوات.

كما يوصي هؤلاء الخبراء بإنشاء هيئة تنسيق مركزية في كل دولة تُعنى بالتهديدات الناجمة عن الحوسبة الكمومية القادمة ومخاطبة أصحاب المصالح الحكومية والمشرفين على القطاع الخاص لنشر الوعي في صفوفهم، ويمكن لهذه الهيئة إصدار إرشادات محدّثة دوريًّا حول الانتقال إلى التشفير الكمومي بعد سنوات، وينبغي أيضًا على الهيئة تقييم نقاط الضعف الحالية والمستقبلية بالبلاد في مجال أمن المعلومات، بما في ذلك وضع المعلومات التي تمّ أو سيتم التقاطها من قبل المتسللين والتي سيخزّنونها لاختراقها لاحقًا باستعمال الأدوات التي سيتيحها التشفير الكمومي، ثم يستغلونها ضد أصحابها لاحقًا في الوقت المناسب.

يحتاج صنّاع السياسات اليوم قبل غدٍ إلى ضمان التعامل مع تقنية التشفير باعتبارها جزءًا مهمًا من البنية التحتية لتكنولوجيا المعلومات وتوفير الاستثمارات الكافية وتقييم المخاطر والتخطيط. وفي هذا النطاق، يجب أن تقوم استراتيجية بلدان العالم العربي على عدة عوامل، منها:

• المراقبة عن كثب للتطورات الجارية في مجال الحوسبة الكمومية.

• وضع خطة وطنية لإعادة تشفير البيانات في الوقت المناسب.

• عدم الحفاظ على تقنية الأمان المتقادمة في البنية التحتية بعد فترة استبدالها في مختلف المؤسسات.

من المحتمل أن تظل سوق الحوسبة الكمومية سوقًا متخصصة لفترة طويلة، وقد جاءت توقعات المحللين حول هذه السوق بأرقام متضاربة : فتوقعات صيف عام 2017 تقول إنها ستصل إلى 553 مليون دولار خلال عام 2023، ثم قيل إنها ستصل إلى 1.9 مليار دولار في بحر تلك السنة، وبعدها قيل في توقعات 2018 إن حجم هذه السوق سيبلغ 2.64 مليار دولار في عام 2022، ومنهم من توقع عام 2018 أن السوق ستتجاوز 8.45 مليار دولار عام 2024. وهناك من توقع عام 2017 أن السوق ستفوق 10 مليار دولار عام 2028. وفي يوليو 2018، قُدّر حجم هذا السوق بـ 15 مليار دولار عام 2028.

ومن ثمّ، علينا أن ندرك في بلدان العالم العربي أن سوق الحوسبة الكمومية غير ناضجة وأن التركيز فيه يدور حول سوق التشفير الكمومي، وأما الحاسوب الكمومي فهو بعيد المدى، وهذا ما يفسّر استثمار معظم الدول في التشفير الكمومي، ونلاحظ أن الدول متحمسة للاستثمار في المجال الكمومي باعتباره عاملًا استراتيجيًّا يمسّ بأمن وسيادة الأوطان، ذلك ما يجعل هذا السباق بين البلدان المتقدمة على أشدّه، وهي تعمل في ظلّ سرّية تامة تخوّفًا من العواقب؛ لذلك كله من حقّ بل من واجب كل البلدان العربية طرق هذا الباب بقوة قبل فوات الأوان.

المراجع:


[*] Schofield, Jack, “Ken Olsen obituary,” The Guardian, February 9, 2011.

[†]  عزمي، أحمد، “معهد أبو ظبي للابتكار التكنولوجي يطور أول كمبيوتر كمي في الإمارات العربية المتحدة”، معهد أبوظبي للابتكار التكنولوجي”، 27 مارس 2021 (https://bit.ly/3C6RN48)، شوهد يوم 30 يناير 2022.

اظهر المزيد

د ابوبكر خالد سعد الله

استاذ دكتور بالمدرسة العليا للأستاذة (قسم الرياضيات) بالجزائر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى