2023العدد 194ملف إقليمي

تناقضات السياسة والهُوية والمجتمع في إسرائيل

باتت إسرائيل في حالة قلقة، بعد انتخابات الكنيست الـ 25 (نوفمبر 2022)، بين انقلاب سياسي، من جهة، وانتفاضة شعبية أو عصيان مدني، من جهة أخرى؛ إذ تمخّضت تلك الانتخابات عن تشكيل حكومة ائتلافية من اليمين القومي والديني برئاسة “بنيامين نتنياهو” زعيم حزب ليكود، وبمشاركة كل الأحزاب الدينية، وضمنها حزب القوة اليهودية بقطبيه “إيتمار بن غفير” و”بيتساليل سموتريتش” (الوزيرين المتطرفيْن)، بحيث باتت تلك الحكومة تُعرَّف- داخليًّا وخارجيًّا- بوصفها الأكثر تطرفًا في تاريخ إسرائيل. وفي نظر المحلل الإسرائيلي “ناحوم برنياع”، فإن ما حصل هو بمثابة “ثورة، انعطافة تاريخية ستغير وجه الدولة، بداية النهاية لعصر الصهيونية الليبرالية والعلمانية الإسرائيلية” (“يديعوت”، 5/11/2022).

ويجدر الانتباه إلى أن نتنياهو بات في مكانة الرجل الذي احتل منصب رئيس حكومة إسرائيل لفترة زمنية أطول، بين رؤساء حكومات إسرائيل، مع 15 عامًا حتى الآن، في ثلاث حقب (1996- 1999، ثم من 2009- 2021، ثم من أواخر 2022)، وذلك مقابل “دافيد بن غوريون” الزعيم الإسرائيلي المؤسس والأشهر، وأول رئيس لحكومات إسرائيل، والذي تبوأ المنصب 13 عامًا.

انقسام اجتماعي وسياسي:

المهم إن هذه النتيجة أدت إلى انقسام المجتمع الإسرائيلي على نفسه، وشمل ذلك مؤسسات الدولة، التي شهدت نوعًا من التمرد غير المسبوق في تاريخها، ما يؤشّر إلى تخلخل الإجماع الداخلي، الذي بنت إسرائيل عليه أسطورة “الصهر” خاصّتها؛ للتعبير عن فرادتها، باعتبارها دولة تأسّست من فوق لتحت؛ إذ إن الصهيونية جلبت المستوطنين اليهود من “الدياسبورا” (الشتات)، من كل أنحاء العالم إلى “أليشوف”، أي فلسطين قبل إقامة إسرائيل (1948)، وأقامت لهم المؤسسات التي تحولت إلى أجهزة للدولة الناشئة بواسطة القوة.

وقد شملت مظاهر ذلك الانقسام، أو تلك الأزمة، طبقة رجال الأعمال الفاعلة والمؤثرة في المجتمع والدولة في إسرائيل، كما شملت قطاعات النخبة في الجيش، وضمنه سلاح الطيران، كما شملت العمال باستخدام سلاح الإضراب في بعض الأيام، بحيث تم وقف وسائل المواصلات (المطارات، والموانئ، والسكك الحديدية)، والذي شاركت فيه الجامعات والبنوك. أيضًا فقد هددت بعض الشركات بالإغلاق، وتهيأت بعض الجهات الاستثمارية للمغادرة، حتى الجيش تأثر بذلك، ما تُرجم بتلويح قطاعات من الضباط بعدم تلبية الدعوة إلى الاحتياط، أو الانخراط في دورات التدريب الروتينية، وذلك كله في خضم تظاهرات عمت الشوارع بمئات الألوف، لا سيما في تل أبيب والقدس، وكل تلك المظاهر أدت إلى فرملة إجراءات وقرارات حكومة نتنياهو ولو إلى حين.

يقول بن كسبيت: “255 مستثمرًا ورجال أعمال أمريكيين استثمروا مليارات في إسرائيل، بعثوا بكتاب إلى رئيس الوزراء يهددون فيه بوقف الاستثمارات…المال يواصل الخروج من إسرائيل بسرعة وبضخ متصاعد، شركات دولية نشطة هنا تعيد النظر في خطاها… الشرخ الاجتماعي المتعمق والاحتجاج المتصاعد في الجيش وأذرع الأمن الأخرى… بدأ هذا مع رجال المدرعات، وتواصل مع رجال الاحتياط، وثمة احتجاج كبير للمدفعيين، والمظليين، وغولاني”. (“معاريف” 13/3/2023).

إسرائيل كدولة غير طبيعية:

إذًا، ثمة تحوُّل أو حدث جديد في إسرائيل مفاجئ وغير مألوف منذ إقامة تلك الدولة، التي استمرت وتطورت، رغم التناقضات التي نشأت معها وعايشتها طوال 75 عامًا، بين المتدينين والعلمانيين، والشرقيين والغربيين، واليسار واليمين، والأغنياء والفقراء.

ويشمل ذلك الصراع بين الإسرائيليين على هوية الدولة، بين كونها دولة ديموقراطية أم يهودية (أي لليهود فيها)، ليبرالية أم عنصرية، وهل هي دولة لليهود من سكانها أم دولة ليهود العالم، يضاف إليها التناقض بين إسرائيل والفلسطينيين، سواء من مواطنيها أو في الأراضي المحتلة، وأيضًا التناقض بين كونها دولة شرق أوسطية، أو في محيط عربي، وكونها امتدادًا للغرب في المنطقة، وكلها تناقضات تتشكل من مركّب متداخل من الاختلافات (الثقافية، والإثنية، والدينية، والطبقية)، التي يتشكل منها المجتمع الإسرائيلي؛ لذا فهي اكتست بطابع التناقضات، أو الصراعات، الهوياتية أيضًا. 

وربما كان يمكن لذلك الحدث أن يكون طبيعيًّا بالنسبة لدولة نشأت بصورة طبيعية، لكنه كحدث في إسرائيل يكتسي أهمية أكبر؛ لأن تلك الدولة تأسّست من مهاجرين مستوطنين من شتى أنحاء الدنيا على مشروع سياسي من نقطة الصفر في علاقتهم بالأرض والتاريخ، وحتى في علاقة أفرادها ببعضهم، على اختلاف لغاتهم وثقافاتهم وتقاليدهم. وهي دولة أخذت على عاتقها صهر المستوطنين فيها عبر مؤسسات الدولة (القطاع العام)، والجيش ومؤسسات التعليم وأجهزة الإعلام، وذلك على عكس الدول العادية التي تنشأ عبر علاقة الأفراد ببعضهم في إقليم جغرافي معين، في سياق تطور تاريخي طبيعي.

إذًا المسألة هنا أن المشروع الصهيوني هو الذي جلب المستوطنين اليهود، أي اقتلعهم من أوطانهم وثقافاتهم، واغتصب الأرض الفلسطينية لإحلال اليهود المهاجرين، وأقام دولتهم بدعم أطراف دولية مؤثرة، في وضع إقليمي مواتٍ، وعلى حساب الشعب الفلسطيني.

التناقض الديني العلماني بطابعه الإثني:

اللافت أن التناقض العلماني – الديني، بين التناقضات الأخرى كان الأكثر تأثيرًا في إسرائيل منذ إقامتها؛ إذ هي برّرت إقامتها بالدين، وفقًا لمعتقدات يهودية عن الوعد الإلهي “أرض الميعاد”؛ لاستقطاب يهود العالم، وبحكم أن الصهيونية كحركة سياسية علمانية اعتبرت اليهودية بمثابة قومية، فيما يعتبر (قومنة للدين، وتديين للقومية)، الأمر الذي شكّل علامة ضعف وتشويش في المكوّن العلماني للإسرائيليين، وقوة مضافة للمكوّن الديني عندهم.

بيد إن ذلك التناقض تفاقم أكثر بحكم تداخل البعد الديني بالبعد الإثني؛ إذ انضوت غالبية الجمهور الإشكنازي (اليهود الغربيين)، التي تشكّلت من الأفواج الأولى للمهاجرين اليهود الذين أسسوا الدولة: في الأحزاب اليمينية الوسطية، والعلمانية، والأقرب إلى اليسار (بالمفهوم الإسرائيلي)، بينما انضوت غالبية الجمهور السفاردي (اليهود الشرقيين)، ومعظمهم من المهاجرين اليهود من الدول العربية، في: الأحزاب الدينية، والقومية اليمينية، الأمر الذي عزز الشرخ في المجتمع الإسرائيلي.

ويشرح ب. ميخائيل هذه المعادلة بأن “الصهيونية الدينية، تسير خلف الصهيونية العلمانية… بدأ بن غوريون بهذه المهمة عندما فضّل ضمهم إلى ائتلافه الأول، وإبقاء مبام (حزب العمال الموحد) خارج الحكومة، وخلال سنوات كثيرة من التسمين بالأموال والسلطة خضعوا لعملية تحول، المجتمع المتفاخر بالتوراة وبمبادئها، أصبح تجمعًا للمشردين والعاطلين… من أجل الاستمرار في الرضاعة من الأموال العامة وافقوا على التعاون؛ كي يصبحوا صهاينة قوميين…لكن خلافًا للحريديين، الذين هم فقط تهديد على جيب الدولة، “الصهيونية الدينية” تهديد وجودي. القاعدة التاريخية تقول أعطوا للدين التوحيدي سلطة، جيشًا ومنطقة جغرافية، وستحصلون على وحش في نهاية المطاف سيدمر نفسه” («هآرتس»، 14/12/2022).

حرب 1967 وأثرها على المجتمع الإسرائيلي:

المهم أن تلك التناقضات توسّعت، وتعمّقت باستيلاء إسرائيل بالقوة على باقي فلسطين، في الضفة وغزة والقدس الشرقية (في حرب يونيو/حزيران 1967)، باعتبار أن التيارات اليهودية الدينية والقومية حققت حلمها فيما تعتبره “أرض إسرائيل الكاملة”، و”أرض الميعاد”.

هكذا، نجم عن ذلك ظهور تناقض آخر بين يهودية الدولة وديمقراطيتها، كما بين دعاة “تكامل الأرض”، الرافضين لأي تنازل للفلسطينيين في الأرض المحتلة 1967، والمطالبين بالاستيطان في كل شبر من النهر إلى البحر (ليكود ومعه الأحزاب القومية المتطرفة والأحزاب الدينية)، وبين دعاة “وحدانية الشعب”، الذين يعطون الأولوية لهوية الدولة ونقائها كدولة يهودية، تحسبًا من خطر “القنبلة الديموغرافية” (الفلسطينية)، ومن خطر الاحتلال والضم، الذي يؤدي إلى إقامة دولة ثنائية القومية، ما يثير الشبهات حول إسرائيل بوصمها بالعنصرية (أبارتايد)، ويشكّك بنظامها الديمقراطي، يضاف إلى ذلك التناقض- أيضًا- بين المعتدلين من دعاة التسوية الإقليمية، أي منح الفلسطينيين كيان سياسي؛ للتخلص من العبء الديمغرافي، وتأكيد إسرائيل كدولة ديمقراطية، وبين المتطرفين الذين يرفضون أي تنازل للفلسطينيين، ويصرون على الاستيطان في كل شبر بين النهر والبحر.

وعن ذلك يقول المؤرخ الإسرائيلي “شلومو ساند” : “الديمقراطية اليهودية تشبه دول شرق أوروبا من ناحية المركزية العرقية، إذا كانت الدولة اليهودية بين (1948 و1967) قد ميزت ضد الأقلية العربية، فإنها منذ 1967 سيطرت على شعب كامل منزوع السيادة الذاتية ومحروم من الحقوق الأساسية (المدنية، والسياسية)، الاحتلال سمم قواعد الأخلاق الصهيونية التي كانت هشّة من البداية”. (“هآرتس”، 11/3/2023).

أما إبراهام بورغ (أحد قادة حزب العمل ورئيس الكنيست سابقًا) فيلخص الوضع بقوله: “في إسرائيل ثلاث حروب باردة، وهي الصراع بين الاستقلال اليهودي والنكبة الفلسطينية، والتوتر البنيوي بين السيادة الحاخامية والديمقراطية، والحرب بين المحافظة الراسخة والليبيرالية المنفتحة، وجدّ هنا تفوق عرقي، احتلال فاسد، ديانة يهودية…ومبدأ “شعب الله المختار”، الذي يناقض مبدأ الديموقراطية” (“هآرتس”، 17/12/2022).

خصخصة الاقتصاد والسياسة في إسرائيل:

عمومًا، فإن تلك التناقضات ظلّت تتعمّق مع الزمن في المجتمع الإسرائيلي، بالتضافر مع تطورات أخرى خارجية؛ فعلى الصعيد الخارجي ثمة مسارات العولمة، وانتهاء زمن وعالم الحرب الباردة، وهيمنة الولايات المتحدة على النظام الدولي، وانحسار الصراع العربي الإسرائيلي، الذي يعتبر الوتر الذي يشد العصبية الإسرائيلية، ثم أتى عقد اتفاق أوسلو (1993)، مع نشوء سردية فلسطينية أخرى تتعلق بالانزياح من الصراع على كل فلسطين، إلى الصراع على دولة في جزء من فلسطين (22 بالمئة هي الضفة وغزة).

أما على الصعيد الداخلي فقد انعكست التطورات الخارجية بتسارع موجات الخصخصة في الاقتصاد الإسرائيلي، وتراجع المؤسسات العامة (الهستدروت، الكيبوتزات، الموشاف، القطاع العام)، وانحسار دور الدولة لصالح الشركات، وهو ما تم التعبير عنه سياسيًّا بإزاحة حزب العمل (الماباي سابقًا)، الذي ينتمي لمنظومة الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية، والذي أسس الدولة لصالح حزب ليكود والأحزاب اليمينية القومية والدينية المتطرفة، وهو المسار الذي ترسخ أكثر منذ ما بعد الانتفاضة الثانية (2000)، وتقويض اتفاق أوسلو.

هكذا، فإن كل تلك العوامل والمعطيات، وضعت إسرائيل على مفترق طرق، على خلفية محاولة رئيس الوزراء “بنيامين نتنياهو” تقويض مكانة السلطة القضائية (المحكمة العليا) لصالح السلطة التشريعية التي يسيطر عليها ائتلافه الحكومي (ليكود + الأحزاب الدينية)، وسن القوانين التي من شأنها إعلاء شأن يهودية الدولة على نظامها الديمقراطي (الخاص بمواطنيها اليهود)، وتغليب طابعها الديني على طابعها العلماني، والتخفّف من المكوّن الليبيرالي، بإطاحة المساواة في الحقوق بين المواطنين، وإنهاء الفصل بين السلطات، بحجة وجود غالبية سياسية في الكنيست، بما يعني احتكار السلطة من قبل رئيس الوزراء.

 ولعل ذلك يفسّر توصيف إسرائيليين لما يجري باعتباره محاولة تحول نحو الديكتاتورية والفاشية، وكوصفة للحرب الأهلية، كما يفسر حال الغضب والتوتر بين الإسرائيليين والتظاهرات العارمة التي شهدتها مدنُهم، للجْم محاولة الحكومة المتطرفة إحداث انقلاب في النظام السياسي لصالح اليمين القومي والديني في إسرائيل.

ويلخص تسفي بارئيل الوضع بالآتي: “سيؤلف بنيامين نتنياهو حكومة تنهي عهد “الديموقراطية” الإسرائيلية كما عرفناها في أكثر من 70 عامًا، هذه هي نتيجة حكم نتنياهو الطويل والعقيم المملوء بالتضليل، والفساد، والتحريض، والعنصرية وجرى خلاله الاحتفال بحرية واحدة هي حرية المستوطنين …نتائج الانتخابات… لخصت الرؤية التي صيغت بتصميم ودقة، وكان الهدف منها القضاء على العلاقة الكاذبة بين “اليهودية” و”الديموقراطية”، وصوغ وحش إثني – فاشيّ”. (“هآرتس”، 2/11/2022).

وأهمية التوصيف بـ(الديكتاتورية، والانقلاب، والأبارتايد، والفاشية)، أنه لم يعد يصدر عن جهات فلسطينية فقط، إذ بات ذلك يشمل شخصيات وجهات إسرائيلية حتى من بين تلك المحسوبة على اليمين، بل إن حال إسرائيل، في ظل حكومة المتطرفين من مثل وزير المالية “بتسلئيل سيموتريتش”، ووزير الأمن “إيتمار بن غفير”، ونتنياهو نفسه_ باتت مبعث قلق أيضًا لحلفاء إسرائيل الإستراتيجيين والتاريخيين في الغرب، بخاصة الولايات المتحدة.

دلالات أزمة الانقسام الإسرائيلي:

أولًا: يشكّل افتقاد الإسرائيليين لدستور يعبر عن إجماعاتهم، وينظم علاقاتهم، ويضبط العلاقة بينهم وبين الدولة، ويوازن بين السلطات (التشريعية، والقضائية، والتنفيذية)، ويرسم حدود دولتهم الجغرافية والبشرية_ سببًا أساسيًّا لتفجر الأزمة الحالية. وكان مؤسسو إسرائيل تعمدوا، منذ البداية، التملص من الالتزام بحدود إسرائيل(البشرية، والجغرافية)، ففي مشروعهم كل يهودي هو مشروع مواطن في إسرائيل، في أي وقت ومن أي مكان، أما الحدود الجغرافية، فبانتظار توسيعها (كما حصل في حرب 1967). ولعل ذلك يفسر- أيضًا- تملص إسرائيل بكل تياراتها من التزاماتها في اتفاقات أوسلو، وإصرارها على الاستيطان في كل شبر من النهر إلى البحر.

ثانيًا: طوال الـ75 عامًا الماضية استطاعت إدارة أو تجاوز التناقضات المذكورة بالاستناد إلى نظامها الديمقراطي (نسبة إلى مواطنيها اليهود)، والذي يتضمن تداول السلطة، والتمثيل في الهيئة أو السلطة التشريعية (الكنيست) بالطريقة النسبية، التي تتيح لأي كيان سياسي التمثل، ما يضمن أوسع إجماع، وأيضًا تم لها ذلك من خلال تأسيس إدراكات الإسرائيليين على مواجهة ما أسمته “الخطر الخارجي” من محيطها، علمًا أنها هي التي ظلت تشكل تهديدًا لمحيطها. هكذا، فإن التطورات الناجمة عن انكفاء الصراع العربي – الإسرائيلي، وعلاقات التطبيع مع إسرائيل، وضمنها تحول الحركة الوطنية الفلسطينية إلى سلطة تحت الاحتلال، أدت إلى نشوء شعور لدى الإسرائيليين بنوع من الاحتلال المريح والمربح، ما خفّف حساسيتهم إزاء المظالم المرتكبة بحق الفلسطينيين، الذين يعيشون على الأرض ذاتها من جهة، والتخفف من سيطرتهم على تناقضاتهم الداخلية من جهة أخرى. وفي محصلة ذلك، فقد تفجرت تلك التناقضات بخاصة مع محاولة التيارات اليمينية والدينية إلى التعبير عن نفسها بفجاجة، إلى درجة تجرُّئها على حسم الازدواجية في طبيعة إسرائيل، بتغليب طابعها اليهودي على الديمقراطي، والديني على العلماني، من دون التحسّب لانكشاف صورتها كدولة استعمارية أمام العالم، ومن دون الاهتمام بصورتها كامتداد للغرب في المشرق العربي، ومع القطع مع قيم الديمقراطية والليبرالية والحداثة التي يتبناها. وفي هذا السياق- أيضًا- فإن ذلك يفيد بأن التيار الديني يسعى إلى أخذ المشروع الصهيوني إلى جهته، بعدما كان آباء الصهاينة العلمانيون استخدموا الدين كسلم لاستقطاب اليهود، ما يمكن اعتباره بمثابة “سخرية التاريخ”.

ثالثًا: إن الانتفاض على حكومة نتنياهو- في اتجاهه العام- لا يمسّ بطبيعة إسرائيل كدولة استعمارية، تحتل أراضي شعبٍ آخر، وتسيطر بواسطة القوة عليه، وتمارس ضده التمييز العنصري، فهي خاصة بالإسرائيليين، ولا علاقة لها بسياسات دولتهم إزاء الفلسطينيين، سواء كانوا من مواطنيها أو مواطني الأراضي المحتلة 1967، أي إن سقفها هو فقط إسقاط حكومة نتنياهو، أو تفكيك الائتلاف الحكومي، الذي يستهدف تقويض السلطة القضائية (محكمة العدل العليا)، علمًا أن ذلك يهمّش النصف الآخر من الإسرائيليين، أو يجحف بحقوقهم وتطلعاتهم، ما يعني أن تلك الانتفاضة تريد الديمقراطية من أجل المواطنين اليهود فقط، وأيضًا لضمان صورة إسرائيل في الغرب، كامتداد لذلك الغرب في الشرق.

في هذا الإطار يسخر جدعون ليفي- بشجاعته الأخلاقية- من تلك المخاوف على ديموقراطية إسرائيل، ويعتبرها مجرد “عاصفة في الأبارثايد”: “لا ديموقراطية يعيش فيها خمسة ملايين شخص من دون مواطنة ودون حقوق…إسرائيل لم تعد ديموقراطية… فالاحتلال تحول إلى جزء لا يتجزأ منها، وهو الذي يعرف النظام فيها معرفةً سلبية كأبارثايد” (“هآرتس”، 16/1/2022). ويتابع أيضًا، قوله: “الاحتلال والمستوطنات هزما دولة إسرائيل…هذا جذر كل شر، فيه تكمن بذور السم… وصل إلى صميم قلب الدولة واستوطن فيها، وأفسدها… لو لم يكن هناك احتلال لما كانت هناك مستوطنات، ولو لم تكن هناك مستوطنات لما كان سموتريتش وبن غفير” (“هآرتس”، 13/3/2023).

عدوى العنصرية

رابعًا: يستنتج مما يحصل أن التطرف والكراهية إزاء الآخر، يعنيان تقلص هامش الديموقراطية والليبرالية في المجتمع الإسرائيلي ذاته، أي أن العدوى ستنتقل إلى علاقة التيارات والمجتمعات الإسرائيلية بعضها ببعض، وبحسب “تسيبي ليفني”، فإسرائيل ستكون “دولة ضعفت فيها أجهزة القضاء وإنفاذ القانون، وباتت تنفذ كلمة “حكم عديم الكوابح”، من شأننا أن نجد وزير دفاع يعطي الأذون للمزيد فالمزيد من المستوطنات؛ كي لا نتمكن أبدًا من الانفصال عن ملايين الفلسطينيين، ويخضع الجيش الإسرائيلي إلى قيادة المستوطنين، من شأننا أن نرى وزراء بدلًا من أن يحيدوا برميل البارود المتفجر الذي نجلس عليه يفجرونه باسم أيديولوجيا دينية مسيحانية… العزة الوطنية هي في وجود الدولة كدولة يهودية وديموقراطية، ليبرالية، تكون جزءًا من العالم الحر”. (“يديعوت أحرونوت”، 1/11/2022).

هكذا، ففي وثيقة الخطوط العريضة -للائتلاف الحاكم- تم التأكيد على أن “للشعب اليهودي حقًا حصريًّا وغير قابل للتقويض على كل مناطق أرض إسرائيل…ستدفع الحكومة الاستيطان وتطوره في كل أنحاء أرض إسرائيل، في: الجليل، والنقب، والجولان، ويهودا، والسامرة، أي الضفة الغربية”. أيضًا، وبالتوازي، جاء في تلك الخطوط أن “الحكومة ستنفذ خطوات من أجل ضمان القدرة على الحكم وإعادة التوازن اللائق بين السلطة التشريعية، والسلطة التنفيذية، والسلطة القضائية”؛ في إطار محاولة الحد من السلطة القضائية (المحكمة العليا)، التي تتهم أنها صرح للعلمانية لصالح السلطتين (التشريعية، والتنفيذية).

في المحصلة، فإن الجديد الذي يأتي به نتنياهو له وجهان، واحد للفلسطينيين والثاني للإسرائيليين، الأول: يتمثل بإحداث قطيعة شاملة مع فكرة، وعملية التسوية مع الفلسطينيين. أما الثاني: فيتمثل بالقطيعة التي يحدثها بين الإسرائيليين (علمانيين، ومتدينين)، وهي في الوجهين المذكورين بمثابة قطع بين اليهودية والديموقراطية لصالح الأولى، إذ بات من المتعذر الاستمرار في تلك المعادلة الصعبة، التي نشأت مع إسرائيل منذ قيامها، ولو شكليًّا.

في كل ذلك بدا نتنياهو، لدى العديد من أصحاب الرأي في إسرائيل، كخطر على الإسرائيليين أيضًا، إذ يقول يوسي فيلتر: “نتنياهو 2022 – 2023 فوضوي، خطير، عديم المسؤولية، وعديم الكوابح والعنان… هو شخص يشكل خطرًا واضحًا وملموسًا على الأمن القومي”. (“هآرتس”، 28/11/2022). أما يوسي هدار، فبرأيه أن “إسرائيل آخذة في التفكك… لم يعد الحديث يدور فقط عن التوترات المعروفة بين اليمين واليسار، المتدينين والعلمانيين، المركز والمحيط … هذه المرة يدور الحديث عن كانتونات حقيقية، بغياب حوكمة وبفقدان سيادة … منذ نشأت وإسرائيل تعيش تهديدات لا تتوقف من الخارج، لكن يُخيَّل أن التهديد الأخطر هذه المرة، هو التهديد الوجودي، هو من الداخل”. (“معاريف”، 23/12/2022).

أخيرًا، قد يفيد هنا إدراك أن ما يجري في إسرائيل، من تناقضات، وصراعات سياسية، وانتخابات تلو أخرى، لا يدل على تضعضع استقرارها-على ما يعتقد البعض- وإنما يدل ذلك على قوة نظامها السياسي، وترسخ مؤسساتها (السياسية، والعسكرية، والاقتصادية)، سيما في التوافق على مبدأ تداول السلطة، والتنافس أو التصارع بواسطة الوسائل الديمقراطية، وعبر الاحتكام لصناديق الاقتراع، وهذا ما يميزها ويضفي عليها قوة مضافة. والمشكلة الأخرى هنا تتمثل بغياب قدرة الفلسطينيين، أو الأطراف العربية على الاستثمار في التناقضات والأزمات الإسرائيلية.

اظهر المزيد

ماجد كيالي

بــاحــث فلسطيــني - سورية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى