2023العدد 194ملف إقليمي

تركيا : هل يمكن تصفير المشاكل عبر المشروع الإقليمي نفسه؟

في العام 2002 نجح حزب العدالة والتنمية في الفوز في الانتخابات النيابية بنسبة 34 بالمئة، وهي نسبة لا تخوله أن ينفرد بالهيمنة على البرلمان ولا بتشكيل الحكومة بمفرده،غير أن النظام الانتخابي التركي الذي يجيّر أصوات الأحزاب التي فشلت في تجاوز عتبة العشرة بالمئة الضرورية لدخول البرلمان- ولما لم يفز حينها سوى حزبان- مكّن حزب العدالة والتنمية من الحصول على ثلثي مقاعد البرلمان، وبالتالي تشكيل الحكومة بمفرده.

كانت هذه بداية سلطة حزب استمر لاحقًا في الفوز في كل الانتخابات، وهذا كان عاملًا مهمًّا مساعدًا لكي يندفع أكثر في سياسته الجديدة التي حملت مع مستشار رئيس الحكومة ووزير الخارجية اللاحق “أحمد داود أوغلو” عنوان “تصفير المشكلات”، وأساس هذه السياسة أن تحل تركيا مشكلاتها القائمة مع الدول الأخرى وتخفيضها إلى درجة الصفر.

وقد نجحت تركيا إلى حد ما في تخفيف التوتر مع جيرانها وإبرام اتفاقيات تجعل من تركيا مركزًا لا طرفًا وتفتح حدودها، ولا سيما على الصعيد الاقتصادي مع العديد من الدول، وقد برز في هذا الإطار التقارب التركي مع (سوريا، والعراق، ولبنان، وبعض الدول الخليجية، ومصر)، حتى مع أرمينيا تم التوصل إلى اتفاق مبدئي لحل المشكلات القائمة، وتحسن الوضع مع اليونان، وبلغت العلاقات مع إسرائيل في هذه السنوات ذروتها.

وعلى الصعيد الداخلي قدم حزب العدالة والتنمية وعودًا بحل المشكلة الكردية والعلوية وتعزيز الحريات.

غير أن التطورات التي تلت انفجار “الربيع العربي” سرعان ما نقلت تركيا من ضفة إلى ضفة، وكان الضحية الأولى لهذا التحول سياسة تصفير المشكلات نفسها، التي بدا كما لو أنها كانت مجرد فقاعة هوائية انفجرت وتلاشت مع أول تحدٍّ أو أول فرصة ظهرت أمام انتهاج سياسات تتعارض كلية مع سياسة تصفير المشكلات، وهكذا انقلبت سياسة “صفر مشكلات” إلى سياسة “صرف مشكلات”، وانقلب كل أصدقاء تركيا-باستثناء قطر- إلى أعداء ومن لم يتحول عدوًّا انكفأ خارج دائرة الصداقة.

لا يصعب العثور على أسباب ذلك؛ إذ إن المواقف التي سبقت حتى “الربيع العربي” والسلوكيات التي رافقت بدء هذا الربيع من جانب سلطة حزب العدالة والتنمية، كانت تضمر نشر النفوذ التركي بداية على المنطقة العربية، انطلاقًا من نظرية صفر مشكلات ذاتها لكن بالمقلوب، أي إقامة كومنولث عثماني بقيادة تركيا يضم كل المناطق العربية التي كانت تحت سيطرة الدولة العثمانية، على غرار الكومنولث الإنجليزي الذي يجمع المستعمرات الإنجليزية السابقة وبقيادة بريطانيا العظمى، وعلى أساس هذه الخطة عملت سلطة العدالة والتنمية بقيادة رجب طيب أردوغان بعد العام 2011 على محاولة إسقاط الأنظمة العربية واستبدالها بأنظمة موالية لها ركيزتها جماعات الإخوان المسلمين، التي نشطت في كل الدول العربية حتى في الدول الخليجية التي تعتنق المذهب الوهابي.

يمكن المقارنة هنا والقول إن تغير طبيعة السلطة في تركيا من أحزاب علمانية إلى حزب يقوم على عقيدة إسلامية – قومية تجمعهما ” النزعة العثمانية”، كان في أساس الاختلاف بين مرحلة ما قبل العام 2002 وما بعدها.

ذلك أن السياسات الخارجية التركية بعد الحرب العالمية الثانية، كانت تقوم على أساس التعامل مع الدول الأخرى من دولة إلى دولة، حتى في سنوات التوتر مع الدول الأخرى مثل سوريا في عامي  1957 و1998، لم تكن أنقرة العلمانية تحاول أن تمد اليد إلى داخل تلك الدول وتشبك علاقات جانبية مع الأحزاب أو الجمعيات أو الأعراق والمذاهب وفئات المجتمع المدني، ولم يكن لدى أنقرة العلمانية همّ تغيير الأنظمة للهيمنة، حتى في الصراع مع مصر في عهد الرئيس الراحل “جمال عبدالناصر”، كانت تركيا تسعى إلى إضعاف حركة التحرر الوطني العربية بالتعاون مع “الدول” أو “الأنظمة” الأخرى مثل: (العراق، وإيران) في مرحلة حلف بغداد وليس مع تيارات داخلية بعينها. بينما كان سلوك تركيا في مرحلة ما بعد العام 2002- ولا سيما بعد 2011- نموذجًا للدولة التي تمعن في التدخل في الشؤون الداخلية للدول وصولًا إلى تحريك القوات المسلحة لاحتلال أجزاء من هذه الدول مثل: (سوريا، والعراق)، أو التغلغل عسكريًّا تحت غطاء اتفاقيات ومذكرات تفاهم ملتبسة مثل: العلاقة مع ليبيا، أو إقامة قواعد عسكرية في دول أخرى مثل: (قطر، والصومال، وجيبوتي)، ومحاولة ذلك في السودان، ومن هنا كان انفجار الخلافات مع (سوريا، ومصر، والعراق، وتونس، والسعودية، ودول الخليج).

منذ سنتين ونيف وتركيا ترفع شعار المصالحة مع الدول التي حولتها إلى أعداء؛ تركيا هي التي تختار اللحظة التي تناسبها سواء في خلق العداء أو محاولة استعادة الصداقات، ومع أن الميل العام الذي يتكون هو الترحيب بفكرة استعادة سياسة تصفير المشكلات من جديد، غير أن البحث عن الدوافع  لذلك من جانب أنقرة يطرح علامات استفهام وشبهات حول جدية أنقرة في هذا الطرح هذه المرة.

لم تسع أنقرة إلى تصفير جديد للمشكلات بين أعوام 2011 و 2019؛ لأن المشروع العثماني لأنقرة كان سائرًا قدمًا على قدمين وساقين، وكان يوفر لها السيطرة على النظام في مصر ومن ثم احتلال أجزاء من الأراضي السورية تحت مسمى العودة إلى حدود الميثاق الملي، والتغلغل في ليبيا، والتوسع في القوقاز على حساب أرمينيا.

فقط بعد خسارة حزب العدالة والتنمية للانتخابات البلدية في المدن الكبرى الرئيسة في تركيا عام 2019، وبدء تأكيد استطلاعات الرأي إن شعبية أردوغان في تراجع نتيجة الانهيار الاقتصادي وإمكانية أن ينهزم في انتخابات الرئاسة في العام 2023_ تحرك النظام التركي للمصالحة مع بعض الدول مثل: (السعودية، والإمارات) من أجل المال وتحسين الوضع الاقتصادي، ومع إسرائيل على أمل أن تضغط على الولايات المتحدة لتخفيف ضغوطها عن الاقتصاد التركي. أما مصر فعلى الرغم من أن أولى محاولات المصالحة التركية بدأت معها لكن هذه لم تنجح حتى الآن رغم مرور سنتين ونيف؛ لأن أردوغان كان يريد فقط صورة المصالحة من دون تقديم تنازلات ولأنه ليس في مصر مال تعطيه لتركيا.

الأمر نفسه ينطبق على سوريا التي رفع أردوغان تجاهها فخ المصالحة فيما هو لا يريد سوى “صورة” مع الرئيس السوري “بشار الأسد” يوظفها في المعركة الانتخابية الرئاسية، فشلت المحاولات مع سوريا؛ لأن دمشق أدركت اللعبة التركية والفخ الذي أرادت أنقرة جر دمشق إليه.

في خلاصة لمحاولات المصالحة التركية، فإنها كانت مع (الإمارات، والسعودية، وإسرائيل) من أجل غايات مرحلية ولم تكن جدية، ومع مصر في الأساس لم تكن جدية أما مع سوريا فكانت ذروة عدم الجدية.

وكمثال على عدم إمكانية تجديد سياسة “تصفير المشكلات” بالأداة نفسها نتوقف عند ثلاث حالات:

  1. مذكرتا التفاهم اللتان وقعتهما تركيا في  3 تشرين الأول / أكتوبر 2022 مع حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبدالحميد دبيبة في طرابلس، التي تتيح لتركيا وشركاتها التنقيب عن النفط والغاز في المياه الليبية، كما التعاون في المجال الأمني والعسكري. وقد تشكل الوفد التركي من وزير الخارجية “مولود تشاووش أوغلو”، ووزير الدفاع “خلوصي آقار”، ووزير الطاقة “فاتح دونميز”، والناطق الرسمي باسم رئاسة الجمهورية “إبراهيم قالين”، ووزير التجارة “محمد موش”، وآخرين ما يدل على الأهمية التي توليها تركيا لليبيا وتصميمها على عدم التفريط بالنفوذ الذي أحرزته هناك.

وقد جاء التوقيع بعد ثلاث سنوات(27 تشرين الثاني 2019) من توقيع أنقرة اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع حكومة فايز السراج، والتي أثارت امتعاضًا شديدًا من مصر واليونان.

وقد أعلن رئيس البرلمان الليبي “عقيلة صالح”: “إن مذكرة التفاهم لاغية وباطلة وغير قانونية؛ لأن حكومة الدبيبة انتهت ولايتها في 24 كانون الأول/ديسمبر 2021، كما إن توقيع الاتفاقيات ومذكرات التفاهم الدولية من صلاحيات رئيس الدولة والبرلمان، وأي تعامل مع ليبيا يكون عبر حكومة فتحي باش آغا، التي نالت ثقة البرلمان”، كما رأى 73 من أعضاء البرلمان الليبي أن توقيع المذكرة هو “انتهازية سياسية من الأتراك”.

وإذا كان الانزعاج المصري مثلًا من توقيع ترسيم الحدود البحرية بين أنقرة وطرابلس مفهومًا إذ أتى في ظروف كانت العلاقات المصرية – التركية متوترة جدًا بسبب التدخل التركي في ليبيا التي تعتبر جزءًا من الأمن القومي المصري، فإن الامتعاض المصري الجديد من مذكرتي التفاهم بين أنقرة وحكومة الدبيبة جاء بعد مرور سنة، ونيف على بدء أولى خطوات المصالحة بين (القاهرة، وأنقرة) في ربيع 2021، إذ كان يفترض مسار المصالحة بين مصر وتركيا أن يرتفع مستوى الحساسية في كل منهما تجاه القضايا الخلافية وإبداء حسن النية، لكن توقيع تركيا مذكرة التفاهم اُعتبر تحديًا واستهتارًا بإمكانية توفير ظروف جديدة ملائمة لمواصلة مسار المصالحة بين تركيا ومصر، ولا شك أن الاعتبارات الأيديولوجية التي حكمت تحديد التوجهات الخارجية لأنقرة في كل الملفات، والتي يحملها حزب العدالة والتنمية، لعبت دورًا رئيسًا في تخريب مسار المصالحة مع مصر.

  • على الرغم من أن المسألة السورية تشكل التحدي رقم واحد للأمن القومي التركي من العديد من الجوانب، فقد أبقت تركيا مسألة المصالحة مع سوريا خارج أولوياتها، وساد انطباع قوي بأن الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” لم يشعر بضرورة المصالحة مع سوريا إلا بعدما تبين له أن مشكلة اللاجئين السوريين في تركيا تضغط على الرأي العام وتنعكس سلبًا على شعبية أردوغان، يحتاج إلى مصالحة مع سوريا لبدء حل مشكلات بدأت تضغط عليه في الداخل التركي وتؤثر سلبًا في شعبيته. استطلاعات الرأي التي كانت تشير إلى تصاعد النقمة على أردوغان دفعت أخيرًا أنقرة في مطلع آب/ أغسطس 2022 وعلى لسان وزير الخارجية “مولود تشاووش أوغلو” للقول إنها راغبة في المصالحة مع سوريا لبحث مسألة اللاجئين والمشكلات الأمنية وغيرها.

وانعقد لأجل ذلك وبضغوط من روسيا وإيران  لقاء بين وزراء دفاع (روسيا، وتركيا، وسوريا) في 18 كانون الأول/ ديسمبر 2022 في موسكو من دون التوصل إلى أية نتيجة وتكررت الاجتماعات على مستوى وزراء الخارجية في 10 أيار/مايو 2023 دون نتيجة، وأعلن الرئيس السوري بشار الأسد في منتصف آذار/مارس 2023 إلى أن سوريا تطالب تركيا بانسحاب جيشها من سوريا وضرب الجماعات الإرهابية مقابل تفعيل المسار السياسي ولقاء الرئيسين أردوغان والأسد. مع ذلك وعلى الرغم من حاجة أردوغان لتحريك المسار السوري لأهداف انتخابية وتعزيز حظوظه في انتخابات الرئاسة التي جرت في أيار/مايو 2023، فإنه لم يكن مستعدًا لتقديم أي تعهد خطِّيٍ للانسحاب ووفق جدول زمني محدد، وبدا أن أردوغان كان يقصد في دعوته المصالحة مع سوريا إلى استدراج دمشق  للقاء على مستوى الرؤساء دون أي خطوات عملية وهو ما رفضه الرئيس السوري. وهنا من الطبيعي أن يُعزى التمنع التركي عن التقدم خطوة إلى أن الاعتبارات الأيديولوجية التي لا تزال تحاول الاحتفاظ بشمال سوريا سواء مباشرة أو عبر وكلاء محليين، لا تزال تحدد توجهات السلطة التركية برئاسة أردوغان- خصوصًا أن (الشمال السوري، والعراق) تعتبره حكومة حزب العدالة والتنمية ضمنًا جزءًا من حدود الميثاق الملي التركي لعام 1920 ولها مطامع تاريخية فيه.

إن وجود سلطة أخرى في أنقرة تابعة للمعارضة بدلًا من سلطة أردوغان، يفترض العودة بالأولويات إلى المحددات العلمانية الأتاتوركية في السياسة الخارجية، وبالتالي بدء حل المشكلة السورية وانسحاب الجيش التركي من المناطق السورية المحتلة تمامًا، كما حدث بعد ظهور مشكلة “عبدالله أوجالان” زعيم حزب العمال الكردستاني عام 1998، وإخراج سوريا له في خريف ذلك العام، ومن ثم توقيع اتفاقية “أضنة” في 20 تشرين الأول/أكتوبر 1998، التي ضمنت الأمن على الحدود بين البلدين بعد ذلك إلى أن تدخلت تركيا في سوريا في العام 2011، ولا تزال. أما استمرار أردوغان في السلطة فإنه وفي ظل ما يحمله من رواسب تاريخية وأثقال أيديولوجية وأطماع قومية لا يتيح التوصل وبسلاسة إلى حلول جدية للمشكلة مع سوريا.

ولا يجب أن ننسى أن مصطلح تصفير المشكلات انطلق أولًا ليصحح العلاقات مع سوريا قبل أي بلد آخر، ومن ثم مع (دول أخرى عربية، واليونان، وأرمينيا، وقبرص،… وغيرها)، ومع أن العلاقات مرت بظروف هادئة ومريحة في السنوات ما بين 2002 و 2010، ومع أن سوريا قدمت كل ما تستطيع لتركيا وأحيانًا على حساب صناعاتها وزراعاتها من أجل تصحيح العلاقات، فإن تركيا عادت وانقلبت على العلاقات الجيدة مع دمشق عند أول فرصة جاءت في العام 2011. وقد استغلت تركيا بوضوح ظروف اندلاع الحرب في سوريا لتنقلب على سياسة صفر مشكلات مع دمشق، وتسعى لتحقيق أطماع تاريخية بدوافع قومية وأيديولوجية، وإذا كانت أنقرة مستعدة وبالتطبيق العملي الانقلاب على سياسة صفر مشكلات في المرة الأولى عام 2011، فليس مستَغربًا ألا تكون أنقرة مستعدة لانتهاج سياسة صفر مشكلات جديدة مع سوريا في العام 2023، ما لم تطرأ ظروف ترغم أنقرة على التراجع والانسحاب أو أن تتغير السلطة وتأتي أخرى متحللة من الأثقال الأيديولوجية التي أدخلت تركيا في صراعات ليس فقط مع القوى الداخلية بل مع معظم دول المنطقة، باستثناء قطر.

  • كذلك يمكن تقديم مثال آخر على استمرار حزب العدالة والتنمية في سياساته القديمة، وهو الحكم الذي أصدرته محكمة التعويضات في محكمة التجارة الدولية في باريس في 25 آذار/مارس 2023، حيث قضت المحكمة بتغريم تركيا مبلغ مليار و 400 مليون دولار نتيجة استيراد تركيا، عبر شركة ترانس باوور التي يديرها صهر الرئيس التركي “برات البيرق”، النفط من حكومة كردستان العراق من دون موافقة الحكومة العراقية المركزية، وهو شرط كانت تنص عليه اتفاقية العام 2010 بين أنقرة وبغداد، ومع ذلك لم تلتزم أنقرة بالاتفاقية واستوردت النفط المهرب خارج الأطر القانونية، ومع أن بغداد أبلغت أنقرة ذلك منذ العام 2014 بأن استيرادها للنفط هو شراكة في التهريب ونهب الثروة العراقية، غير أن أنقرة لم تتجاوب وقررت الاستمرار في سياسة التهريب مع إقليم كردستان، فكانت الشكوى العراقية التي طالبت بتعويض قدره 30 مليار دولار خسائر من جراء التعاون التركي مع إربيل، وبالتالي فإن تركيا كانت ماضية في انتهاكها للقانون الدولي ولا تعير احترامًا لتطبيق الاتفاقيات مع بغداد حتى صدور حكم محكمة باريس، على الرغم من أن المصالحات مع الجوار بدأت قبل عامين ونصف. ولو لم تلزم محكمة التجارة في باريس أنقرة بوقف التهريب لما كانت تركيا توقفت عنه. فهل يمكن إدراج استمرار التهريب حتى شتاء 2023 ضمن سياسة تصفير المشكلات من جديد؟.

إن ما يمكن أن نصل إليه أن محاولات تركيا المصالحة أو تصفير المشكلات من جديد مع دول أخرى ليست جدية، ولا تنبني على أساس التخلي عن المشروع الذي أطاح أصلًا بسياسات صفر مشكلات السابقة أي مشروع العثمانية الجديدة.

ولا يمكن في هذا السياق تغييب أو التقليل من أهمية الضغوط الأمريكية على أنقرة في العديد من القضايا، واضطرار تركيا للأخذ بعين الاعتبار عدم الذهاب بعيدًا في “معاندة” الإدارة الأمريكية كون تركيا “شريكا” لها في حلف شمال الأطلسي، وبالتالي فإن اعتراض واشنطن على محاولات التقارب التركية مع سوريا مثلًا أحد النماذج التي تجعل سلطة العدالة والتنمية تتردد في المصالحة الكاملة مع دمشق حتى لا تتعرض للغضب الأمريكي، وفي قضايا كثيرة لها أبعاد “غربية” معقدة العلاقة مع (أرمينيا، واليونان، وإسرائيل).

إذا تجاوزنا هذه الحيثية الأمريكية، فإن تصفير المشكلات من جديد بين تركيا والدول الخارجية لا يمكن أن يتم مع الأدوات نفسها التي أطاحت بمشروع التصفير السابق، خصوصًا أنه لم يبدر أي استعداد لدى أنقرة لتغيير نهجها والتخلي عن أطماعها وركائزها الأيديولوجية في المنطقة. إن طبع العلاقات مع بعض الدول بطابع أكثر سلمية قد يكون أمرًا واقعًا، ولكنه لا يُخرج عوامل التوتر ومسبباته الأصلية من أن تكون كامنة ما دام حزب العدالة والتنمية في السلطة، ويمكن لهذه العوامل أن تكون سببًا لانفجارات جديدة تبعًا للظروف المتاحة، وهو ما يجعلنا نقول إنه لا يمكن بناء الجديد إلا بهدم القديم.

اظهر المزيد

د. محمد نورالدين

أستاذ في الجامعة اللبنانية - بيروت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى