2023أحداث السودانالعدد 194

هل يمكن أن تسفر أحداث السودان عن عملية سياسية جادة؟

منذ اندلاع الاشتباكات العسكرية السودانية في الخرطوم منذ أكثر من شهر، تبدو هناك محاولات خارجية حثيثة لإنهاء الحرب، خصوصًا وأنه لم ينجح أيٌّ من الطرفين المتحاربين في حسم عسكري على الأرض، وذلك في حالة يمكن وصفها بتوازن الضعف، الأمر الذي ينتج عنه بالضرورة  اتساع نطاق العمليات العسكرية على المستوى الجغرافي، وفرص توافر داعميين لطرفي النزاع محليين وربما إقليميين، وطبقًا لذلك تسمح التفاعلات ببروز إمكانية الانزلاق لحرب أهلية شاملة، التي بدأت بالفعل ظهور بعض مؤشراتها.

ومع هذه المعطيات السلبية نناقش طرح فرضية إمكانية وقف شامل لإطلاق النار، وكذلك  الوصول إلى عملية سياسية جادة من المطلوب أن تحجِّم فرص انزلاق السودان إلى حالة  الحرب الداخلية  الشاملة التي هي بالضرورة مهددة للأمن الإقليمي، وكذلك المصالح الدولية، وذلك  في ضوء اتساع حالة الهشاشة المميزة لكل من: (دول شرق إفريقيا، ودول الساحل الإفريقي) بما يعني أنه في حالة الانهيار السوداني فإن منطقة جغرافية شاسعة ممتدة  من سواحل البحر الأحمر شرقًا  وحتى شواطئ المحيط الأطلنطي غربًا، سوف تكون غير قادرة على تحجيم ظواهر خطيرة كالإرهاب أو الجريمة المنظمة.

في هذا السياق تناقش هذه المقاربة الأوضاع السودانية الراهنة طبقًا للمحاور الآتية:-

١- حالة التفاعلات العسكرية ودلالاتها .

٢- موقف القوى السياسية والنُّخب المدنية من الاشتباكات.

٣- شروط استئناف العملية السياسية السودانية ودور المجتمع الدولي والقوى الإقليمية.

أولًا : حالة التفاعلات العسكرية وطبيعة دلالاتها.

تشير مسارات العمليات العسكرية الجارية في الخرطوم عن وجود مخططات مسبقة  لاندلاع العمليات العسكرية لطرفي النزاع فيما يتعلق بطبيعة الأطراف التي يمكن أن تكون مؤسسة للمعادلة السياسية السودانية بعد ثورة ٢٠١٨.

في هذا السياق تتجه بعض التقديرات الداخلية إلى أن اندلاع الاشتباكات هي تعبير عن مشروع انقلابي على التحول الديمقراطي من جانب رئيس المجلس السيادي السوداني، وبالتالي تحمل قائد الجيش مسؤولية إطلاق الرصاصة الأولى صبيحة ١٥ أبريل الماضي، بينما تتجه تقديرات مغايرة إلى أن من أطلق هذه الرصاصة هو قائد الدعم السريع “محمد حمدان دقلو”، الذي يمتلك مشروعًا سياسيًّا طموحًا على مستوى الإقليم، له أبعاد عرقية، ويملك حاضنة سياسية محسوبة على الثورة السودانية، وكذلك لديه تقدير موقف، أنه وقواته يستطيع أن يكون بديلًا للمؤسسة العسكرية الرسمية المدانة تاريخيًّا بممارسة فعل الانقلاب العسكري ضد القوى السياسية المدنية .

وطبقًا لذلك، فإن الفريق “عبد الفتاح البرهان” رئيس المجلس السيادي ينحاز إجمالًا لفكرة دور مركزي للقوات المسلحة السودانية في صناعة القرار، وتبعية لقوات الدعم السريع لمؤسسة القوات المسلحة مع إدماجها في المؤسسة العسكرية الرسمية في مدى زمني لا يتجاوز عامين، وكذلك عدم تسليم السلطة إلا لمكون مدني يعبر عن جميع القوى السياسية السودانية، وذلك في تصادم واضح مع رؤية البعثة الأممية برئاسة “فولكر بيرتس”، الذي كان مهتمًا بتنفيذ الاتفاق الإطاري، وذلك دون ضمان أن تشارك فيه كل القوى السياسية السودانية.

في المقابل، فإن “محمد حمدان دقلو” قائد قوات الدعم السريع تماهي مع الأطراف الدولية -خصوصًا البعثة الأممية- لتنفيذ الاتفاق السياسي المسمى بـ”الإطاري”، وهو الاتفاق الذي تم توقيعه في ديسمبر ٢٠٢٢ مبدئيًّا، ولكن اتسع الرفض له من أطراف سياسية وعسكرية فتعذر التوقيع النهائي عليه طوال الشهور اللاحقة، وأفضى هذا الموقف إلى اندلاع الاشتباكات العسكرية في ١٥ أبريل الماضي. وقد امتلك حميدتي تقدير موقف، أنه وقواته معادل موضوعي لقائد القوات المسلحة السودانية ولمؤسسته الرسمية على المستويين (العسكري، والسياسي)، فقاوم أولًا عملية الدمج في القوات المسلحة، واعترض ثانيًا على تراتبية القيادة والسيطرة، وطرح أن تكون فترة الدمج لقواته في المؤسسة العسكرية الرسمية ممتدة لعشرة سنوات . 

وقد كانت الحاضنة السياسية لرئيس المجلس السيادي “البرهان”، الفصائل المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا فضلًا عن جزء من الحزب الاتحادي، وكذلك قوى نظام البشير -خصوصًا حزب المؤتمر الوطني المنحل، الذي استطاع أن ينظم صفوفه مرتكزًا على تنظيم الجبهة القومية الإسلامية، وهما الطرفان اللذان ثارت عليهما جماهير الشعب السوداني، وشكل لهما الاتفاق الإطاري مهددًا وجوديًّا على المستويين (السياسي، والاقتصادي).

أما الحاضنة السياسية لحميدتي فقد كانت قوى الحرية والتغيير-المجلس المركزي، وهي جزء من القوى السياسية السودانية المحسوبة على الثورة السودانية والداعمة للتحول الديمقراطي، وهي الأطراف الموقعة على الاتفاق الإطاري، ورفضت مشاركة القوى السياسية والعسكرية الأخرى في هذا الاتفاق،  وأيضًا في ترتيباته السياسية- خصوصًا المشاركة في الهياكل الانتقالية المنبثقة عنه- وذلك  بتقدير موقف أنها قوى انقلابية ومعادية للديمقراطية ومنتمية للنظام الذي تمت الثورة ضده، فضلًا عن كونها متحالفة مع الجيش الذي مارس انقلابًا على المكون المدني في أكتوبر ٢٠٢١. ويبدو أن هذا التقدير من جانب الحرية والتغيير -المجلس المركزي، قد قاد إلى بلورة موقف لها مُعاد ٍللقوات المسلحة على اعتبار أنه قد تم أدلجتها لصالح الإخوان المسلمين في السودان، وطبقًا لذلك فقد تم تسويق قوات الدعم السريع كبديل عسكري للقوات المسلحة السودانية؛ للقيام بدور حماية مقدرات الدولة ودعم التحول الديمقراطي، وحماية القوى السياسية من الانقلاب عليها من جانب الجيش، وذلك على الرغم من أن التكوين البنيوي لقوات الدعم السريع وتاريخها في دارفور لا يدعم تقدير أنها قوى يمكن أن تدعم الديمقراطية -خصوصًا وأن قائدها يملك مشروعًا إقليميًّا طموحًا له أبعاد عرقية – كما أن الممارسات بانتهاكات ضد الإنسانية  في إقليم دارفور هي منسوبة لقوات الدعم السريع وجذرها القبلي “ميليشيات الجنجويد”، التي مارست نهبًا وحرقًا للقرى واغتصابًا للنساء على زمن البشير، وهي نفس الممارسات المنسوبة لقوات الدعم السريع حاليًّا في نطاق العمليات العسكرية الجارية بالعاصمة السودانية وعدد من المدن وذلك من جانب شهود عيان على الأرض أو متضررين من هذه الممارسات وصلوا إلى القاهرة وأدلوا بشهاداتهم.

وطبقًا لهذا المشهد نستطيع القول إن طرفي الصراع العسكري الراهن هما على نحو ما، وكلاء لقوى سياسية سودانية مدنية قد تقاطعت بينهما الرؤى والمواقف ومارسا انقسامات انعكست على المكونين العسكريين، وذلك  بالقدر ذاته الذي مارس المكون العسكري بطرفيه دورًا في تعقيد المشهد السياسي، خصوصًا بعد أن تحالف في ممارسة انقلاب أكتوبر ٢٠٢١.

وتحت مظلة انسحاب الشرطة السودانية من عمليات حماية المدنيين وحماية المنشآت العامة، انخرطت قوى النظام القديم من الجبهة القومية الإسلامية في الصراع العسكري الراهن بقوات ميليشياوية تمتلكها تاريخيًّا دعمًا للجيش.

وفي المقابل، انخرطت قوات الدعم السريع في ملاحقة رموز نظام البشير من الإسلاميين واعتقالهم ونهب منازلهم في سلوك عام مارسوه ضد ممتلكات المدنيين، وممتلكات بعض السفارات الأجنبية مثل: سفارة قطر .

في هذا السياق، بدأ المدنيون من غير السياسيين في حمل السلاح دفاعًا عن أنفسهم ضد عمليات نهب وسلب البيوت التي تمارسها قوات الدعم السريع، بل ومارسوا أعمالًا عسكرية بدأت في منطقة شرق النيل بالخرطوم، حيث تم تحرير أسرى كانوا تحت سيطرة قوات الدعم السريع، كما دعى “مني أركو منياوي” حاكم إقليم دارفور إلى انخراط المدنيين للدفاع عن أنفسهم ضد ممارسات قوات الدعم السريع، وذلك في الوقت الذي استدعى فيه الجيش قوى الاحتياط ودعى كل من هو قادر على السلاح صحيًّا إلى تسليم نفسه لأقرب وحدة عسكرية .

وهكذا، فإن المشهد العسكري في السودان بدا منزلقًا نحو حرب أهلية شاملة قد تكون مرشحة للتوسع الجغرافي -خصوصًا مع عدم وجود إرادة لطرفي الصراع في إنهائه ووضع أوزاره، وذلك طبقًا لتقدير كل طرف أنه يستطيع الحسم عسكريًّا ضد الآخر. 

ثانيًا : موقف القوي السياسية والمدنية من الاشتباكات العسكرية.

  بطبيعة الحال، لابد وأن يبرز اتجاه مُعادٍ للحرب واستمرارها بين السياسيين والمدنيين معًا في السودان، ولكن ذلك لم ينفِ المناخ الاستقطابي المستمر بين القوى السياسية حتى هذه اللحظة وذلك رغم اندلاع الحرب وطبيعة تكاليفها الإنسانية، بل إن هذا المناخ الاستقطابي قد امتد للقاهرة في بعض الفعاليات الداعمة للشعب السوداني والمتضامنة مع مصائبه، حيث نشط رموز لنظام البشير في محاولة نفي الأفراد المحسوبين على القوى الثورية السودانية من بعض الفعاليات.

في هذا السياق، انقسمت القوي السياسية الداخلية أيضًا كل طرف لصالح حليفه العسكري، ولكن وطأة عمليات النهب والسلب التي مارستها قوات الدعم السريع لعبت دورًا في جعل أحزاب سياسية تتخذ موقفًا رافضًا لقوات الدعم السريع مثل: الحزب الشيوعي السوداني من خارج تحالف الحرية والتغيير-المجلس المركزي، المتحالف مع حميدتي،  وحزب التجمع الاتحادي من ذات التحالف، وكذلك حزب الأمة الذي تم اقتحام مقره، وذلك في  إدانة أداء قوات الدعم السريع ضد المدنيين،  كما بدأ يتبلور تيارًا عامًا مناصرًا للقوات المسلحة السودانية من زاويتين، الأولى: أنها المؤسسة العسكرية الرسمية، والثانية: رفضًا لأداء قوات الدعم السريع التي يدعو هذا التيار إلى ضرورة التخلص منها أو المطالبة بما سُمي (تنظيف البلاد منها)، وذلك إلى حد الانحياز لخيار استمرار العمليات العسكرية مهما كان الثمن أو طرح خيار فصل دارفور في المجال العام باعتباره إقليم  المنشأ لقوات الدعم السريع، ولها فيه ظهير قبلي ممتد حتى النيجر مرورًا بتشاد.

أما على الصعيد السياسي، فقد تبلور موقف المدنيين في بيان صدر بعد أقل من أسبوعين من بداية الاشتباكات، حيث دعت عدة هيئات مدنية- من بينها نقابات وأحزاب سياسية وشخصيات عامة- إلى ضرورة إنهاء النزاع المسلح واستئناف العملية السياسية في سياق يسمح بتحول ديمقراطي مع الالتزام بأجندة سياسية بعيدًا عن أي نوع من الاستقطابات التي لها طابع إقليمي.

وقد نضجت محاولات القوى المدنية مع مجهودات مجموعات أكاديمية في وضع رؤى بشأن ضرورة وقف الحرب، ومناقشة متطلبات الحل السياسي السوداني.  وعلى الرغم من النوايا الطيبة في مجهودات هذه المجموعات التي أطلعنا على أدبياتها ووصلتنا من الخرطوم وبعض العواصم الأخرى، إلا أنه من المُلاحظ أنها منقسمة بشأن الموقف من الاتفاق الإطاري؛ إذ أن بعضها يدعو لعقد مؤتمر شامل لكل القوى السياسية والمجتمعية، وبحث مستقبل العملية السياسية بمنأى عن الاتفاق الإطاري الذي يرون أن التفاعلات بشأنه قد تسببت في الحرب، فيما يرى البعض الآخر في ضرورة استئناف العملية السياسية طبقًا للاتفاق الإطاري مع توسيعه ليشمل كل الأطراف، وهو خيار تنحاز له فيما يبدو بعض الأطراف الإقليمية، وذلك دون إدراك من الأطراف الداخلية والخارجية أن بعض بنود الاتفاق الإطاري هي مثيرة لقوى النظام القديم الذي استعاد قدراته التنظيمية، وربما العسكرية وأن هذا الاتفاق تفعيله لابد وأن يتطلب تغيير بعض بنوده؛ ليكون قادرًا على إنجاز نوع من أنواع التسوية التاريخية بين الأطراف المتصارعة في السودان .  

ثالثًا : شروط استئناف العملية السياسية ودور المجتمع الدولي والقوى الإقليمية.

منذ اللحظة الأولى لاندلاع الاشتباكات العسكرية نشط المجتمع الدولي في إدانة الاشتباكات العسكرية، والمطالبة بوقف إطلاق النار، وقدمت بعض الأطراف الإقليمية مبادرات بشأن إقرار هُدَن لوقف إطلاق النار ووضع نقاط بشأن عملية تفاوضية .

في هذا السياق، قدمت القاهرة في الأسبوع الأول من الاشتباكات مبادرتين: أحدهما بمشاركة دولة جنوب السودان، والأخرى بمشاركة دولة الإمارات، ولكن هذا المجهود واجه كوابح منها: تحرك النطاق الإفريقي بالتوازي؛ ليطرح مبادرة من جانب منظمة الإيجاد برؤساء كل من (كينيا، وجيبوتي، وجنوب السودان)، وفي المقابل تحركت القاهرة منفردة بزيارة من جانب وزير الخارجية “سامح شكري” لدولتي الجوار المباشر للسودان وهما (تشاد، وجنوب السودان) على اعتبار أن دول الجوار هي الأكثر تضررًا من حالة الحرب في السودان -خصوصًا على صعيد تدفق اللاجئين .

على أية حال، لم تفلح أي من هذه التحركات في ترتيب اختراق لوضع الاشتباكات العسكرية التي توقفت نظريًّا في هُدَن متعددة، ولكن على المستوى الميداني لم يلتزم الطرفان بأي من الهدَن الموقع عليها.

في الوقت الراهن، نجحت واشنطن في ممارسة ضغوطها على الطرفين، التي شملت التلويح بإقرار عقوبات ضد الأطراف المتصارعة في السودان، كما نجحت في تدشين منصة جدة كمنصة لوقف إطلاق النار، وهو أمر نجحت في إقراره كل من (واشنطن، والسعودية) مرتين حتى الآن، ولكن بمستوى التزام منخفض من الطرفين، حيث لم ينجح وقف إطلاق النار الأول لا في امتناع الطرفين النهائي عن ممارسة الاشتباكات ولا في خروج قوات الدعم السريع من تمركزها في المناطق المدنية -خصوصًا المستشفيات.

إجمالًا: يبدو أن الدخول في عملية سياسية جادة في السودان يتطلب مبدئيًّا عدة شروط، منها: تهيئة المناخ لها بما يعني أن يكون وقف إطلاق النار ممتدًا لفترة لا تقل عن شهر، وأيضًا أن تتلاشى حالة الاستقطاب السياسي بين قوى النظام القديم والقوى المحسوبة على الثورة، وأخيرًا فإن تغيير “فولكر بيرتس” رئيس البعثة الأممية يبدو ضروريًّا؛ نظرًا للأخطاء السياسية التي أقدم عليها من ناحية وتأثير صورته الذهنية على الحالة السودانية  من ناحية أخرى، ذلك أن الرجل كان منوطًا به مهمة مشابهة في سوريا نتج عنها، وبغض النظر عن مسؤوليته، تقسيم سوريا فعليًّا بين مناطق نفوذ إقليمية ودولية_ فإن ذلك يبدو أمرًا مؤثرًا على بعض القطاعات السودانية.

أيضًا التسوية السياسية تتطلب اختيار منهج من بين ثلاثة مناهج، الأول: المُضي قُدمًا في تنفيذ الاتفاق الإطاري مع توسيعه ليكون تعبيرًا عن توافق سياسي عام،  والثاني:  عقد مؤتمر دستوري شامل بين كافة القوى وهو ما يعني تمديدًا للفترة الانتقالية بكل مشاكلها، أما المنهج الثالث: فهو الذهاب إلى الانتخابات بعد فترة؛ لالتقاط الأنفاس، على اعتبار أنها المصدر الوحيد للحصول على الشرعية وحساب الأوزان السياسية التي صارعت على مدى الأربع سنوات الماضية بسببها.

اظهر المزيد

د.أماني الطويل

كاتبة وباحثة ،مديرة البرنامج الأفريقي بمركز الأهرام للدراسات الإستراتيجية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى