2022العدد 192ملف إقليمي

دلالات التحركات التركية – السياسية والعسكرية – العابرة للتحالفات والحدود إقليميًّا و دوليًّا.

تشهد السياسة الخارجية التركية منذ حوالي السنتين حراكًا مغايرًا للاتجاه الذي سلكته على امتداد السنوات التي تلت ما سُمي بـ”الربيع العربي”؛ لتدخل هذه السياسة مرحلة جديدة هي الثالثة في عهد حزب العدالة والتنمية بعد مرحلة “صفر مشكلات -1″، التي اتبعت في السنوات الأولى لوصول الحزب إلى السلطة عام 2002، واستمرت حتى نهاية العام 2010، وبعد مرحلة “صفر علاقات” مع كل دول الجوار باستثناء قطر، والتي استمرت حتى أواخر العام 2020 وبداية العام 2021. ومن ثم عادت أنقرة لتدخل في المرحلة الثالثة التي يمكن أن نطلق عليها “صفر مشكلات-2″، التي تنسّمت بداياتها مع محاولات إعادة العلاقات مع إسرائيل في نهاية 2020، وحل المشكلات مع مصر في ربيع 2021.

ولقد تلت هاتين المحاولتين مصالحات فعلية، من حيث المبدأ، مع كل من (دولة الإمارات العربية المتحدة، والمملكة العربية السعودية، وإسرائيل). وكانت المحطة الأخيرة من مرحلة “صفر مشكلات-2” خطوات أولى وتصريحات تركية في صيف 2022  حول الرغبة في إصلاح ذات البين مع سوريا.

لا يمكن لأحد أن ينسب انفجار الخلافات بين تركيا وكل دول المنطقة كما مع الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي إلى مجرد رغبات شخصية لزعيم حزب العدالة والتنمية “رجب طيب أردوغان”، بمختلف مراحله من رئاسة الحزب فرئاسة الحكومة إلى رئاسة الجمهورية؛ ليكون زعيمًا مطلق الصلاحيات.

فتركيا بعد انفراط عقد الدولة العثمانية عام 1918، ومن ثم ظهور الجمهورية عام 1923، اختزنت في سياساتها الخارجية كمًّا هائلًا من المشكلات مع محيطيها القريب والبعيد كدولة – أمة بمعزل عن طبيعة السلطة الجديدة، ومع ذلك فإن نظام الحكم القومي- العلماني بقيادة “مصطفى كمال أتاتورك” ساهم بفضل شعار”سلام في الوطن، سلام في العالم” بتسوية الكثير أيضًا من الملفات العالقة. فلولا سياسة “ترتيب البيت الداخلي أولًا” التي اتبعها أتاتورك، لما أمكن قبوله لاحقًا التخلي عن مساحات واسعة من حدود “الميثاق الملّي” الذي أقره البرلمان العثماني، بحضور مصطفى كمال وتأييده في 28 كانون الثاني/يناير 1920، فخرجت مناطق شمال سوريا كما شمال العراق، في ما عرف بمسألة الموصل والعديد من الجزر في بحر إيجة، من الحدود الجديدة لتركيا.

التحديات العامة:

تتوزع التحديات التي تواجهها تركيا عمومًا إلى ثلاثة أنواع:

  1. القضايا التي لها علاقة بطبيعة الدولة وجغرافيتها السياسية، وهذه قضايا لا تتغير بتغير طبيعة نظام الحكم في أنقرة، وبالتالي كان على أنقرة أن تواجه في عهد حزب العدالة والتنمية المشكلات نفسها التي كانت سابقًا مثل: الخلاف مع اليونان حول الحدود في بحر إيجة والمجال الجوي والجرف القاري وحدود المناطق الاقتصادية الخالصة، والخلاف حول قبرص، والخلاف حول المسألة الأرمنية، وموقع تركيا من الصراع بين حلف شمال الأطلسي وحلف وارسو ومن ثم بين الغرب والشرق ممثلًا بـ(روسيا، والصين، وإيران)، والصراع على زعامة العالم الإسلامي- ولا سيما مع (مصر، والسعودية)، ومسألة انضمام تركيا من عدمه إلى الاتحاد الأوروبي، ويضاف إلى هذه المشكلات ما تعتبره أنقرة “تهديدات” سببها حزب العمال الكردستاني والأكراد عمومًا في شمال العراق وشمال سوريا. وإذا حاولنا التوقف قليلًا عند الداخل، هناك بعض القضايا “المشتركة” بين التيارات القومية، والعلمانية، والإسلامية في ما يتعلق بالمسألتين (العلوية، والكردية).

يمكن وصف هذه التحديات بأنها “وطنية” ولا تخص فريقًا دون آخر، وهذا يوجب ألا يصنف استمرار هذه المشكلات حتى الآن وطريقة التصدي لها في خانة المشكلات التي كانت نتيجة لوصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة.

  • النوع الثاني من المشكلات والقضايا التي تواجهها تركيا كانت مرتبطة مباشرة بوصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، كونه حزبًا ذا نزعة إيديولوجية تنتمي إلى عقيدة الإخوان المسلمين من جهة ويحمل من جهة ثانية نزعة عثمانية تتجاوز النزعة الإخوانية لتتصل بالبعد القومي التركي الصِّرف، ومن بين هذه القضايا مثلًا: محاولة حزب العدالة والتنمية بعد وصوله إلى السلطة بسنوات قليلة ومن ثم -وخصوصًا بعد العام 2010- نشر هيمنته، انطلاقًا من نزعة “العثمانية الجديدة” على الدول التي كانت جزءًا من الدولة العثمانية سواء باعتماد حركة الإخوان المسلمين للوصول إلى السلطة كما في (مصر، وتونس، والمغرب، وليبيا، والسودان، والأردن، وسوريا) أو من خلال محاولة الإطاحة بسلطات قائمة من طريق القوة المسلحة والانقلابات العسكرية كما في سوريا. وتتجلى محاولة فرض هذه الهيمنة  أيضًا باللجوء إلى احتلال أراضٍ في دول أخرى تحت ذريعة أنها كانت جزءًا من حدود الميثاق الملّي أو مصدرًا “للإرهاب”، كما حصل في احتلال تركيا أجزاء من سوريا بدءًا من العام 2016 ومن العراق على امتداد سنوات. كذلك تجلت النزعة العثمانية ببعدها القومي بانخراط تركيا في الحرب بين (أذربيجان، وأرمينيا)، ولا سيما في حرب الـ 44 يومًا في خريف 2020، وفيها تعرضت أرمينيا والأرمن لهزيمة مروّعة في قره باغ، وفي الأراضي الأذرية التي كانت سيطرت عليها أرمينيا بعد تفكك الاتحاد السوفيتي. أيضًا كان للنزعة العثمانية دور حاسم في مواقف الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان”، في صيف 2016، من اعتبار معاهدة لوزان “هزيمة” لتركيا والتلميح إلى إمكانية تعديلها بما يعني تغيير الحدود مع اليونان في ساحل إيجة والعودة إلى بعض ما كانت عليه قبل الحرب العالمية الأولى.
  • أما النوع الثالث من المشكلات التي تواجهها تركيا الآن فهو الذي لا علاقة له بالصفة”الوطنية” أو”العثمانية”، بل بمحاولات أردوغان تعزيز حضوره الشخصي في السلطة تشبّهًا بالسلاطين العثمانيين والسلاجقة، وهذا الطموح سبّب ولا يزال لتركيا مشكلات متعددة لجهة توظيف خلافاتها مع بعض الدول لمصالح شخصية مثل: توتير الوضع مع اليونان أو في قبرص أو القوقاز أو شن عمليات عسكرية في (العراق، وسوريا)؛ من أجل تعزيز رصيد أردوغان الشخصي بما يرفع من صورته ويزيد من شعبيته داخل تركيا من أجل الفوز،على سبيل المثال: في انتخابات رئاسية لا علاقة لها بالمصالح الوطنية أو حتى العثمانية الصرف.

العزلة الثمينة:

كان العام 2016 بداية فعلية لما سُمي في تركيا بـ”العزلة” العزيزة أو الثمينة، وهي في الحقيقة انفجار الخلاف على أوسع نطاق بين تركيا وعدد كبير من الدول، الأمر الذي أفقد أنقرة العلاقات الجيدة تقريبًا مع كل دول المنطقة، فضلًا عن الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي.

في 15 تموز/يوليو 2016، كانت محاولة الانقلاب الشهيرة ضد سلطة حزب العدالة والتنمية، وقد فشلت المحاولة واتهم أردوغان كلًا من: الولايات المتحدة، وإدارة باراك أوباما، وبعض الدول الغربية مثل (ألمانيا)، وبعض الدول العربية مثل (الإمارات العربية المتحدة، والسعودية) بتدبير وتمويل والوقوف وراء المحاولة الانقلابية التي نفذتها وحدات عسكرية موالية لجماعة الداعية “فتح الله غولين”.

وإذا كان من سؤال حول الدافع الأمريكي لذلك فهو أن واشنطن كانت تدعم قوات الحماية الكردية في سوريا، التي تعتبرها تركيا “إرهابية”، كما تعترض واشنطن على تعزيز أنقرة تقاربها مع موسكو بعد حادثة إسقاط الطائرة الروسية في نهاية 2015، وبدء التطبيع بينهما في حزيران/يونيو 2016. أما لجهة (الإمارات، والسعودية) فكان الهدف هو التخلص من تيار(حزب العدالة والتنمية)، قاد عبر الإخوان المسلمين حملة إضعاف التيار الوهابي ونافس على زعامة العالم الإسلامي. وقبل ذلك كانت أنقرة قد اختلفت مع مصر بعد الإطاحة بالرئيس الإخواني “محمد مرسي”، واعتراض أردوغان الهستيري على تولي الرئيس “عبدالفتاح السيسي” السلطة، ومن ثم كان انفجار الخلاف في ليبيا بين تركيا وكلّ من (مصر، والسعودية، والإمارات)، وكانت محاولة تركيا التسلل إلى السودان عبر اتفاقيات مع الرئيس عمر البشير، واستئجار شبه جزيرة سواكن لتكون قاعدة عسكرية تركية إذا أتيح المجال لذلك، ووقوف أنقرة إلى جانب قطر سياسيًّا وعسكريًّا بمواجهة مجلس التعاون لدول الخليج العربية، بحيث وجدت تركيا نفسها بعد سنوات قليلة معزولة عن معظم الدول في الشرق الأوسط ما عدا قطر، وعن الغرب عمومًا فضلًا عن (اليونان، وقبرص، وإسرائيل).

وقد نجحت تركيا، التخلص مما كان يعدّ من “ممر كردي” تابع لقوات الحماية الكردية المدعومة مباشرة من الولايات المتحدة الأمريكية، داخل الأراضي السورية على امتداد الحدود مع تركيا، وبالتالي التخلص من تهديد إضافي للأمن القومي التركي خصوصًا في حال كانت الإدارة الكردية المحتملة في شمال سوريا نموذجًا أو سابقة لكيان مشابه خاص بالأكراد يمكن أن ينشأ في جنوب شرق تركيا.

لكن تركيا بعمليات الاحتلال لبعض مناطق الشمال السوري، إنما كانت أيضًا تعدّ الأرضية لتتريك المنطقة وتغيير بناها (السكانية، والاقتصادية، والتعليمية)؛ لتكون بداية “لاستعادة” أجزاء من”الميثاق الملّي” وتحقيق أطماع تاريخية في إطار العثمانية الجديدة. ولا شك أن تركيا استفادت، لتسهيل احتلالها هذا، من حاجة روسيا لكسب تركيا إلى جانبها، ودق إسفين داخل حلف شمال الأطلسي بين أعضائه وإضعاف روابط تركيا الأطلسية.

في مرحلة “العزلة الثمينة” كان أردوغان يستغل حادثة الانقلاب لتصفية خصومه جميعًا، وبالتالي العمل على تغيير صيغة النظام البرلماني ليكون رئاسيًّا، مع منح رئيس الجمهورية صلاحيات مطلقة. وهو الذي حصل في استفتاء 17 نيسان/أبريل 2017 وتلاها في 24 حزيران/يونيو 2018، إجراء انتخابات نيابية ورئاسية مبكرة على النظام الجديد، حمل أردوغان مجددًا إلى الرئاسة لكن هذه المرة سلطانًا مطلق الصلاحيات، ومنح حزب العدالة والتنمية وشريكه حزب الحركة القومية الغالبية المطلقة في البرلمان.

غير أن الانتخابات البلدية التي حصلت في آذار 2019، قلبت المشهد السياسي رأسًا على عقب؛ إذ أن حزب العدالة والتنمية خسر أهم قلعتين له هما (بلدية إسطنبول، وبلدية أنقرة)، وهذا بث الثقة لدى المعارضة المحلية كما بعض القوى الخارجية في إمكانية الإطاحة بأردوغان وإخراج تركيا من تموضعها المثقل بالخلافات مع هذه الدول وتقاربها مع روسيا وإيران؛ من أجل إعادتها إلى موقعها الأطلسي والغربي الذي لم تخرج منه أساسًا. مع ذلك كان الغرب يريد لتركيا أن تخرج من علاقاتها  مع روسيا بشكلٍ شبه كامل.

في هذا الوقت كانت الانتخابات الرئاسية الأمريكية تحمل لأردوغان أنباء سيئة حين فاز المرشح الديموقراطي “جو بايدن” بالرئاسة، وهو الذي توعد خلال حملته الانتخابية بإسقاط أردوغان “ديموقراطيًّا”.

أيضًا كان من المؤشرات الخطيرة “للعزلة الثمينة”، هو استبعاد تركيا عن واحد من أهم التكتلات الإقليمية وهو “منتدى غاز شرق المتوسط”، الذي تأسس في مطلع العام 2019 وضم (إسرائيل، ومصر، وقبرص، واليونان، وإيطاليا، والأردن، والسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية،… وغيرها)، وهدف إلى التعاون بين أعضائه في استخراج الغاز ونقله إلى أوروبا عن طريق خط أنابيب ضخم يمتد لأكثر من ألفي كيلومتر من سواحل إسرائيل إلى (قبرص، واليونان، وإيطاليا) على عمق ألفي متر تحت سطح البحر وبكلفة تقارب التسعة مليارات دولار. ومثل هذا المنتدى هدف أيضًا إلى عزل تركيا عن أن يكون لها دور وتأثير في مسائل الطاقة في شرق المتوسط.

كانت استطلاعات الرأي المختلفة تعكس أيضًا أخبارًا سيئة للرئيس التركي عندما لم تمنحه فرصة للفوز في انتخابات الرئاسة، التي تجري في حزيران/يونيو من العام 2023، ومثّل هذا جرس الإنذار الأقوى والأخطر لأردوغان.

ومع ظهور وباء الكورونا والضغوط الاقتصادية الأمريكية على تركيا أصبح أردوغان في موقع أكثر صعوبة؛ فالعامل الذي كان مصدر قوة أردوغان ومصدر نجاحاته في الانتخابات المختلفة السابقة أي النمو الاقتصادي _بدأت مؤشراته بالتراجع وما قد يعكسه من تراجع على قوة وحضور أردوغان.

من هنا كان تحرك أردوغان على أكثر من خط من أجل النهوض بالوضع الاقتصادي في تركيا وإعادة تعويم شعبيته المتآكلة تدريجيًّا؛ لأن استمرار الوضع على حاله من التدهور يعني أن  فرص أردوغان في الفوز من جديد بالرئاسة ستكون ضعيفة جدًا.

انعطافات السياسة الخارجية:

بدأ التحول في السياسة الخارجية التركية على خطين،الأول: سياسي واقتصادي ،والثاني: عسكري.

  1. كانت فكرة المصالحات مع بعض الدول المركزية في المنطقة وذات الفائدة لتركيا تتقدم وتوضع على الطاولة في دوائر صناعة القرار التركي، ومع أن بداية محاولات المصالحات بدأت مع مصر في ربيع العام 2021، إلا أنها لم تصل إلى خواتيمها المرجوة رغم مرور أكثر من سنة ونصف على بدئها حتى الآن.

ثم كرّت سبحة المصالحات، حيث تمت تسوية العلاقات مع كل من (الإمارات العربية المتحدة، والسعودية)، وتبادل المسؤولون في هذه البلدان الزيارات مع وعود بالاستثمار بمليارات الدولارات في تركيا، وكانت تركيا مستعدة- مقابل إتمام هذه “المصالحات المالية”- طي صفحة ملف مقتل جمال الخاشقجي مع السعودية، وطي صفحة اتهام الإمارات بالوقوف وراء محاولة انقلاب 2016.

ثم كان تصحيح العلاقات مع إسرائيل أملًا في أن تستجلب تركيا رؤوس أموال يهودية من جهة، ومن أجل أن تكون تركيا هي الخط الوسيط لنقل غاز شرق المتوسط إلى أوروبا من جهة ثانية، ومن أجل أن تكون إسرائيل عامل وساطة لدى البيت الأبيض؛ لتخفيف الضغوط الأمريكية على الاقتصاد التركي من جهة ثالثة.

وفي سياق هذه المصالحات، المحاولات التي بدأتها تركيا للتطبيع مع سوريا بدءًا من مطلع آب/أغسطس 2022. وإذا كان الدافع المالي يقع خلف المصالحات مع (السعودية، والإمارات، وإسرائيل)، فإن التطلع هو أن يكون إرساء  انفتاح على سوريا مدخلًا للسلام والاستقرار، وبالتالي تسريع دوران العجلة الاقتصادية التركية. كذلك فإن مشكلة اللاجئين السوريين في تركيا ويُقدر عددهم بحوالي 3.5 مليون نسمة، بدأت في السنوات الأخيرة تُشكّل عامل ضغط على شعبية أردوغان؛ نظرًا لتأثيراتها السلبية في المجتمع التركي على كل الأصعدة -ولا سيما الاقتصادي والاجتماعي، وباتت هذه المشكلة ورقة بيد المعارضة ضد أردوغان، الذي بات يريد حلًا عاجلًا لها قبل الانتخابات الرئاسية المقبلة، وهذا لا يمكن أن يحصل إذا لم تتواصل أنقرة مع دمشق مباشرة، ولقد ساهم الضغط الروسي على تركيا في الدفع بالأخيرة؛ لفتح خطوط اتصال استخباراتية على أمل أن تُفتح لاحقًا خطوطًا سياسية وعلى مستوى رفيع بين (سوريا، وتركيا).

كذلك فإن تزايد الميل التركي لتكون عضوًا في منظمة شنغهاي للتعاون، ومشاركة أردوغان في اجتماع المنظمة في سمرقند، في 15 و 16 أيلول/سبتمبر 2022، كان يصب في اتجاه تعزيز الدور التركي وزيادة تحريك العجلة الاقتصادية. والأمر نفسه ينطبق على موقف تركيا “الحيادي نسبيًّا” من الأزمة الأوكرانية بأمل أن تحصد أنقرة مكاسب اقتصادية كما رضي الغرب -ولا سيما أمريكا، وليس عبثًا أن المزيد من التقارب التركي مع روسيا دفع الأخيرة لضخ استثمارات بمليارات الدولارات في تركيا.

  • أما على الصعيد العسكري والأمني، فإن استطلاعات الرأي التي تجمع على إمكانية خسارة أردوغان الانتخابات، تدفع به إلى استخدام كل الوسائل المتاحة للفوز بالرئاسة، وقد كان لافتًا أنه عشية كل انتخابات رئاسية أو نيابية كان الرئيس التركي يقوم بمغامرات عسكرية خارج الحدود سواء في (سوريا،أو العراق)؛ لرفع رصيده والظهور كبطل وطني وقومي.

ولا يختلف الوضع اليوم كثيرًا عن المرات السابقة، بل إن احتمال القيام بهذه المغامرات والحروب الخارجية يبدو أكبر في ظل مصيرية معركة الرئاسة المقبلة. ذلك أن خروج أردوغان من المعادلة سيقلب المعادلات الإقليمية في الشرق الأوسط، وعلى مستوى أوروبا والأطلسي، والعلاقة بين الغرب والشرق رأسًا على عقب.

وبالفعل خاضت تركيا حروبًا مباشرة أو بالوكالة، في رأسها أو أهمها حرب أذربيجان على أرمينيا في 27 أيلول/ سبتمبر2020، والتي أفضت إلى السيطرة على قره باغ وكل الأراضي الأذرية التي كانت أرمينيا احتلتها في مطلع تسعينيات القرن العشرين، وإذ اعتبرت نتيجة الحرب كارثة على أرمينيا، فإن تركيا لا تخفي دورها المهم في انتصار أذربيجان عبر مشاركتها القوات الأذرية بالعتاد، والعديد، والخبرات، والطائرات المسيّرة.

كذلك فقد ظهر خلال شهر أيلول/سبتمبر 2022 توتر تركي- يوناني؛ بسبب ما تقول تركيا: “أنه انتهاك يوناني لاتفاقيتي لوزان (1923)، وباريس(1947) بنشر أسلحة في العديد من الجزر في بحر إيجة، والتي تقضي-الاتفاقيتان المذكورتان- ببقائها منزوعة من السلاح”. ومع أن هذه القضية تعتبر في تركيا “وطنية” غير أن معظم المحللين الأتراك يربطون بين التوتر الحالي، والمحتمل أن يتجدد لاحقًا في كل لحظة، بقضية الرئاسة التركية وحاجة أردوغان إلى “معركة” تنتج كالعادة صورة البطل الوطني والقومي وتبقيه مجددًا في الرئاسة لمدة خمس سنوات قادمة. ولا تنفصل العمليات العسكرية التركية المتواصلة ضد حزب العمال الكردستاني في شمال العراق عن هدف تعزيز حظوظ أردوغان للفوز في انتخابات الرئاسة.

على الرغم من أن مجمل المصالحات، التي تمت أو ربما تتم، تصيب إيجابًا المصالح الوطنية الاقتصادية التركية (حتى الآن ليس من نتائج ملموسة!)، غير أن توقيتها، من الجانب التركي تحديدًا، عشية الانتخابات الرئاسية، يطرح علامات استفهام وتساؤلات عن جدية هذه الخطوات من عدمها في حالة فوز أردوغان بالرئاسة أو خسارته لها؛ لذلك نرى هذا الحذر أو التباطؤ أو التعثر وانعدام الثقة في مجمل الخطوات التي تبادر إليها أنقرة. ومع أن الوقت المتبقي إلى انتخابات الرئاسة  يمكن أن يحمل الكثير من المفاجآت غير المحسوبة، فإن المراوحة والتذبذب ربما تكون الغالبة في الأشهر المقبلة على علاقات تركيا الخارجية مع  معظم الدول.

اظهر المزيد

د. محمد نورالدين

أستاذ في الجامعة اللبنانية - بيروت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى