2020العدد 183العيد الماسي لجامعة الدول العربية

على هامش الأمن القومي العربي قراءة نقدية في أوراق عربية رسمية

مقدمة:

يستخدم مصطلح ” الأمن القومي العربي” ضمن أدبيات القاموس السياسي العربي الرسمي منه وغير الرسمي عند تناول أو وصف أمور تتعلق بمخاطر خارجية، أجنبية في غالب أحوالها، تهدد وجود دولة أو مجموعة دول عربية مثل احتلال أراضي عربية من طرف أجنبي، أو تؤثر سلبًا في قدرة دولة أو مجموعة دول عربية على اتخاذ قرارات وسياسات نابعة من إرادتها الحرة، أو تضر بحجم الموارد الطبيعية كالمياه والنفط التي بحوزة دولة أو دول عربية ،أو تصل إليها، وغيرها من الأمور التي تخرج عن حدود قدرة الدولة أو مجموعة الدول العربية على مواجهة أسبابها بالاعتماد فقط على قدراتها وأطرها الداخلية.

ويثير المفهوم_ بالمعنى الأكاديمي للمصطلح_ مجموعة جدليات من بينها، وعلى رأسها، الأمن القومي في مقابل الأمن الُقطْري، والعروبة كهوية ثقافية في مقابل هويات ثقافية ولغوية وإيديولوجية وإثنية أخرى متواجدة في حدود الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية، وكذلك جدلية مشكلات الزمن الماضي والقائم في مواجهة مشكلات وحلول الزمن القادم.

وسأتعرض فيما يلي لملامح تطور المفهوم على مدار بعض الفترات الزمنية في تاريخ جامعة الدول العربية، من خلال بعض القرارات والمقررات والأوراق التي تناولت المفهوم بالتعريف والمناقشة على المستوى الرسمي العربي أو شبه الرسمي – دون التعرض بشكل خاص للأدبيات الضخمة من كتب ودراسات وأطروحات علمية شديدة التميز تناولت المفهوم بالدراسة والتحليل- مبينًا في الوقت ذاته على بعض المفاهيم المرتبطة به والجدليات الثلاثة التي يثيرها، ويلزم التنويه بأنّه على الرغم من تحيز كاتب المقال للمدخل القومي في العمل العربي المشترك إلاّ أنّه لن يذهب في هذا المقال إلى تفنيد آراء المداخل الأخرى للتعاون من أمثال المدخل الواقعي أو المدخل الانعزالي، أو تعديد أهمية البعد القومي، حيث يجد أن ذلك ليس محله.

قرار مجلس الجامعة يطلب وضع دراسة عن الأمن القومي العربي.

 في (13 مارس 1990م ) وأثناء بحث موضوع إطلاق صاروخ إسرائيلي قبالة الساحل الليبي، اتخذ مجلس الجامعة قرارًا “كلف فيه الأمانة العامة بوضع دراسة شمولية عن موضوع الأمن القومي العربي وعرضها على الدول الأعضاء تمهيدًا لدراستها من قبل مجلس الجامعة في دورته العادية القادمة”. ويبدو أن المجلس كان يسعى في إطار بحثه لمسألة الاعتداءات الإسرائيلية إلى إيجاد تعريف للأمن القومي العربي يساعد الدول الأعضاء في فهم ما ينبغي أن تتخذه من خطوات عملية عند بروز تهديدات لهذا الأمن.

ولفت القرار الانتباه إلى غياب وجود تعريف متفق عليه للأمن القومي العربي، في الميثاق أو في معاهدة (الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي) لعام 1950 م، وهو أمر من شأنه أن يولد نقاشات مفيدة حول الارتقاء إلى مستوى أعمق من التعاون العربي بشرط توفر الإرادة السياسية أو الاستعداد المبدئي لهذه المناقشة.

ورقة الأمن القومي العربي المقدمة إلى قمة بغداد.

 بعد شهرين فقط من هذا القرار عُقدت القمة العربية في بغداد في( 28/5/1990 م) قدمت الأمانة العامة ورقة بعنوان “الأمن القومي العربي عرض للتهديدات والتحديات”. وهي الورقة الوحيدة التي ذهبت إلى وضع تعريف للأمن القومي العربي، وشرح لملابساته ومكوناته والتي جعلتها في شكل العناوين التالية “الأمن القومي السياسي” و”الأمن القومي الاقتصادي” و”الأمن القومي العسكري”، و”تنقية الأجواء العربية”، فبدأت بذكر تعريف للأمن القومي بشكل عام لأي دولة أو مجموعة من الدول عربية كانت أم غير عربية واعتبرت أنّه يعني استخدام مقومات وعناصر القوة الشاملة للمجتمع، (عسكرية كانت أو سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو علمية أو تكنولوجية)؛ لحماية المصالح الأساسية للدولة ومواجهة الأخطار والتهديدات التي تتعرض أو يمكن أن تتعرض لها، كما يعني أيضًا إيجاد الحياة الكريمة والمؤسسات المستقرة التي تكفل ارتباط المواطنين بالدولة، وتمكن الحكومة من تعبئة المواطنين وتوظيف طاقاتهم في مختلف الحالات، _خاصةً في لحظات الخطر، وقد وضع التعريف لَبِنات لا بأس بها لفكرة الحكم الرشيد التي ستنطلق في العالم بعد ذلك بسنوات قليلة، حينما عمد إلى تناول ضرورة إيجاد حياة كريمة تكفل ارتباط المواطن بدولته، وهو تعريف صالح إلى يومنا هذا بشكل عام، على أن يضاف إليه قواعد الحكم الرشيد والأمن “السيبراني” كمكونات رئيسية ؛ لتحقيق الأمن القومي.

مفهوم وسطي للأمن القومي العربي.

 ويمكن إيجاز الورقة بأنّها عرفَّت مفهوم الأمن القومي بأنّه “حماية مقومات الوجود العربي، وأهمها الأرض والهوية، وتطوير هذه المقومات، وصولًا إلى تحقيق الأهداف القومية، وذلك في مواجهة الأخطار الخارجية والداخلية القائمة والمحتملة”. وقد أوردت الورقة التعريف حين تناولها المكون السياسي للأمن القومي العربي ، واعتبرت أن الأخطار الخارجية تنبع من استراتيجيات الدولتين العظميتين، والتغييرات الجذرية الجارية على النظام العالمي، وأن الأخطار الإقليمية تتمثل في سياسات التوسع الإسرائيلي وسياسات بعض دول الجوار، ومن بين أهم الأخطار الداخلية_ الخلافات العربية – التي تشرف أحيانًا على حد المجابهة، وازدياد اعتماد الوطن العربي في الغذاء على الخارج، وعدم قيام صناعة سلاح عربية مشتركة، وأزمة المديونية وقضية المياه. وتناولت الورقة “دواعي الأمن القومي الاقتصادي” فوجدت أنّها تكمن أساسًا في طبيعة النظام الاقتصادي العالمي، وهيمنة القوى والتكتلات الاقتصادية، والعلاقات غير المتكافئة بين أطرافه، وتعاظم تدويل الحياة الاقتصادية في ظل السياسات الحمائية التمييزية الإغراقية مع ضعف مناعة الاقتصاديات العربية تجاهها، والتغييرات التكنولوجية وتزايد فجوتها بين الشمال والجنوب. وبالتالي تصبح أهداف الأمن الاقتصادي العربي هي تسريع التنمية الشاملة وتعظيم القدرة الاقتصادية العربية، وصيانة الموارد الطبيعية والبشرية وتحقيق الاستخدام الأمثل لهما، وتحقيق التشابك العضوي بين الاقتصاديات العربية؛ بما يوضح السقف المنخفض للأمن الاقتصادي العربي وغياب أي فكر حقيقي للتكامل الاقتصادي العربي، وربما غلبة النظرة القُطْرية على التحليل، وهو الأمر الذي تكرر عند تناول “الأمن القومي العسكري“، حيث انطلقت الورقة من توصيف الوضع _آنذاك_ بأنّ  الاستراتيجيات والخطط والأجهزة القومية العسكرية معطلة، وأنّ نصوص معاهدة الدفاع المشترك وقرارات مؤتمر القمة، وبخاصة القمة الحادية عشرة “1980 م ، توفر قاعدة جيدة ؛ لتأسيس الأمن القومي، وتحقيق أغراضه الرئيسية ولكن علتها الجوهرية تكمن في عدم التنفيذ، ولابد من البدء بالممكن المقبول صعودًا إلى الهدف على مراحل. ثم ذكرت الورقة تحت عنوان تطوير مفهوم الأمن القومي في المجال العسكري، بأنّ ميثاق الجامعة، ومشروع بروتوكول ضوابط العمل العربي المشترك، وميثاق العمل الاقتصادي، واستراتيجية العمل الاقتصادي المشترك “وثائق مؤتمر القمة الحادي عشر_ عمان  1980م” تتضمن المفاهيم التالية:  شمولية مفهوم الأمن القومي لمختلف جوانب العمل العربي المشترك (سياسيًا واقتصاديًا، واجتماعيًا، وفكريًا، وتكنولوجيًا، وعسكريًا). وشمولية مفهوم الأمن القومي ، وذلك بربطه عضويًا بالإنماء، على أساس أن العمل الاقتصادي والاجتماعي يشكل الأرض الصلبة للأمن القومي، وتوفير ضوابط تحمي الأمن القومي، وتيسر سبل التخطيط والتنفيذ. ثم تناولت الورقة في نهاية هذه المكونات “موضوع تنقية الأجواء العربية” مذكرًة بأنّ قدرة الدول العربية على تحقيق أمنها القومي ومواجهة التحديات التي تهدد هذا الأمن من مختلف جوانبه ترتبط ارتباطًا عضويًا بنقاء الأجواء ضمن الأسرة العربية، وتأسيس العلاقات بين دولها الأعضاء ( ثنائيًا وجماعيًا) على قاعدة الثقة والوفاق، وأن موضوع تنقية الأجواء العربية وتعزيز التضامن العربي لا يزال الشغل الشاغل للقادة العرب، وفي جميع قرارات مؤتمرات القمة العربية، بدءًا بقمة “أنشاص” عام 1946 م، وانتهاءً بقمة الدار البيضاء عام 1989 م، كما أن موضوع تنقية الأجواء العربية ودعم التضامن العربي ظل بندًا متكررًا في جداول أعمال مجلس الجامعة في دورات متعاقبة واتخذ بصدده قرارات عديدة تضمنت المعاني السابقة ذاتها.

السقف المتوسط للأمن القومي العربي … غير مقبول أم غير عملي.

 لقد سعت الورقة – كعادة الأوراق التي تقدمها المنظمات الدولية والإقليمية في موضوعات غير متوافق حولها- إلى أن تتشبث بالسقوف المتوسطة التي يمكن ألاّ تثير اعتراض الدول الأعضاء، فلم ترتق إلى سقف الرؤى القومية ودعوات الاتحاد انطلاقًا من وحدة المصير. كما لم تعمد الورقة إلى اقتراح آليات بل اقتصرت على شرح واقع حال معروف لدى الدول العربية من حكومات ومواطنين منطلقة في ذلك من فرضية وجود قوى تاريخية وجغرافية وثقافية دافعة نحو تحقيق درجة قوية من التعاون المؤسسي فيما بين الشعوب العربية على اختلاف مشارب الحكومات.                

وفي التقدير لا زالت هذه الفرضية حية لدى غالبية الرأي العام العربي، لم تهزم بعد أمام الضربات القوية التي تتعرض لها من تيارات” انعزالية” تؤمن من منطلق الواقعية السياسية أن مصالح دولها العليا تحتم عليها الابتعاد تدريجيًا عن الأطر الفكرية الداعية لمزيد من التعاون العربي المشترك والرهان على معادلات تجارية وأمنية مع قوى دولية وإقليمية غير عربية، والاكتفاء بالأفكار الأولية للتعاون العربي التي وضعها ميثاق الجامعة العربية والتي تكتفي بتنشيط التعاون بين الدول العربية دون المساس باستقلالية الدول وسيادتها، وهي الأفكار التي فضلتها أغلب الدول العربية ولا زالت تفضلها.

تغير المشهد العربي وتراخي المطالبات بوضع إطار للأمن القومي العربي:

 لم يصدر عن قمة “بغداد” أي قرار بشأن ورقة الأمانة العامة حول الأمن القومي العربي. وسرعان ما شهدت الأوضاع في الوطن العربي عقب هذه القمة تطورات عصفت بالإطار الذي انطلقت منه  فرضيات الورقة السابقة، فبعد قمة “بغداد” بثلاثة أشهر فقط أي في (أغسطس/آب1990م)، غزت القوات المسلحة العراقية دولة “الكويت” محدثة زلزال سياسي لأرضية النهج القومي _خاصةً مع تداعي فرص علاج الأمر عربيًا، وانفتاح المشهد الأمني على مصرعيه أمام تدخلات دولية عسكرية ضخمة؛ لتحرير الكويت من الغزو وضمان أمن الخليج من التهديدات العراقية _آنذاك_ ثم انطلاق مسار سلام عربي إسرائيلي في” مدريد” بعدها بعام ونصف تقريبًا في( أكتوبر/ تشرين أول 1991 م) برعاية دولية، وما أعقب ذلك من انهيار الاتحاد السوفييتي في (ديسمبر/كانون أول 1991م) وانفراد الولايات المتحدة الأمريكية بقيادة النظام الدولي، وصولًا إلى عقد مفاوضات سرية فلسطينية إسرائيلية في “أوسلو “عام 1991            م بعيدًا عن سلطة الأمم المتحدة وقراراتها، وصولًا إلى التوقيع على اتفاق سلام فلسطيني إسرائيلي عام  1993 م في” واشنطن”، وبدء تصاعد سرعة قطار الشرق أوسطية عام 1994 م وتطبيع العلاقات التجارية بل والدبلوماسية بين إسرائيل وعدد من الدول العربية.

ومن الجدير بالذكر، أن مجلس الجامعة في موازاة تغير المشهد العربي، اتخذ قرارًا في سبتمبر 1991 م بعنوان ” الأمن القومي العربي” طلب فيه من الدول العربية تقديم مقترحاتها حول الأمن القومي العربي إلى الأمانة العامة من أجل وضع دراسة شاملة عن موضوع الأمن القومي العربي وعرضها على الدورة التالية لمجلس الجامعة، وجدد طلبه هذا في (إبريل/نيسان 1992 م، ثم قرر في (سبتمبر/أيلول 1992 م) تشكيل لجنة وزارية ؛ لمناقشة الدراسة وإعداد الملاحظات التي تراها تمهيدًا لعرضها على مجلس الجامعة في دورة (سبتمبر/أيلول1993 م)، وعقد فريق عمل شكله الأمين العام لجامعة الدول العربية اجتماعين، وتلقت الأمانة العامة مجموعة اقتراحات من بعض الدول العربية، وناقشت اللّجنة الوزارية المكونة من عشر دول الدراسة وقرر المجلس المنعقد في( 21 سبتمبر/أيلول1993م)،  أي بعد أسبوع واحد تقريبًا من توقيع اتفاق السلام الفلسطيني الاسرائيلي في (13 سبتمبر/ايلول 1993 م) في “واشنطن”، وقررت تأجيل مناقشة الدراسة إلى الدورة التالية للمجلس، ولم يتم اعتماد الدراسة أبدًا بعد ذلك.    

أوسلو تدفع بالشرق أوسطية إلى السطح:

 لقد ارتبطت القضية الفلسطينية ارتباطًا وثيقًا بصعود أيديولوجية القومية العربية واعتبرت إلى حدٍ كبيرٍ نواة الأمن القومي العربي، ونظرت القومية العربية إلى أن الصراع مع إسرائيل هو “صراع وجود” وليس “صراع حدود”، واستحالة التوافق بين الصهيونية والقومية العربية. غير أن مفاوضات “أوسلو” وما أنجبتها من اتفاقات، جاءت في ظروف  الشرخ العميق في بنية العلاقات العربية العربية ،التي “كشفت عنه” أزمة الخليج”؛ لتعطي مساحة لأن تطغى أولوية التناقضات العربية العربية على ما سواها من تناقضات _بما في ذلك  التناقضات العربية الإسرائيلية_ مما سمح بالتبشير بالشرق أوسطية، وعقد  “مؤتمر الدار البيضاء لدول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا” عام 1994 م ؛ لخلق شبكات علنية لتحفيز العلاقات التجارية بين بعض الدول العربية وإسرائيل، بل الحديث بشكل علني عن هيكل مؤسسي للنظام الشرق الأوسطي مكون من: ( سكرتارية دائمة، ولجنة تسيير، ومجلس إقليمي للسياحة، وغرفة تجارية إقليمية، ومشروع لبنك شرق أوسطي).

ولعل من دلائل تغير البيئة العربية الرسمية المحيطة بمفهوم الأمن القومي العربي في أقل من أربع سنوات من تقديم دراسة عام 1990 م ، أن العلاقات العربية مع إسرائيل التي تلت الاتفاقات الفلسطينية الإسرائيلية استقبلت برد فعل رسمي مختلف تمامًا عن اتفاق السلام المصري الإسرائيلي، بما يوضح حالة من تفكك مفهوم الأمن القومي العربي بشكله التقليدي الذي ظلل المنطقة من عام 1945 م وحتى منتصف التسعينات_ أي على مدار نحو خمسين سنة من نشأة الجامعة العربية_ وفي التقدير يصعب لملمة مكونات الأمن القومي الشرق أوسطي ؛ لأنّه يحمل في طياته بذور فنائه، فلا يستوي الحديث عن أمن سياسي وعسكري واقتصادي دون الحديث عن تحرير الأراضي المحتلة وإلغاء سياسات الاعتداء والاستعلاء على مفردات الوطن العربي أو مجمله.

الانتفاضة ثم دورية انعقاد القمة العربية:

 غير أن القضية الفلسطينية عادت لتؤكد محوريتها في تشكيل مفهوم الأمن القومي العربي، فقد أشعلت انتفاضة الأقصى التي انطلقت في (سبتمبر/أيلول عام 2000 م) الرأي العام العربي، وأوضحت عبث ما يسمى “مفاوضات سلام فلسطينية إسرائيلية”، وقلبت المعادلات الطبيعية التي كان يتم الدفع إليها منذ 1993 م رأسًا على عقب، ومن المناسب التذكير بأن قمة “القاهرة” المنعقدة في (أكتوبر/ تشرين الأول عام 2000 م) اتخذت قرارًا ينص على مبدأ دورية انعقاد القمة وإدراجه في ملحق مكمل للميثاق بما يسهم في دعم العمل العربي المشترك في كافة المجالات، وهو قرار يصب في مصلحة تثبيت دعم مؤسسة التعاون العربي، ومنع انهيار نواة الجوامع المشتركة.

الحركات الإسلامية والشرق الأوسطية وهوية الأمن القومي العربي.

 ترتب على ما سبق أن الوطن العربي بدأ يعاني من أزمة تتعلق بهوية أمنه القومي، فقد اقترنت الضربات العنيفة المتتالية لجوامعه المشتركة، ‏ وأهدافه المشتركة، ومواقفه المشتركة، بتراجع في المعاني الكامنة في مفهوم الأمن القومي العربي والتي غلبت عليها منذ نشأتها أفكار تقدمية تحررية متناقضة مع المبادرات النابعة عن قوى الاستعمار، كما اقترنت بتصاعد ثاني للحركات الإسلامية _وبخاصةً الحركات ذات التوجهات التكفيرية المتطرفة ذات الرؤى شديدة السطحية لموضوعات الأمن القومي العربي، في مطلع التسعينات عقب سقوط الاتحاد السوفييتي وبدء زحف “ميليشيات طالبان “عام 1994، بتعاون مع حركة القاعدة التي وجدت في دعوات الحفاظ على الأمن القومي العربي تناقضًا مع ما يدعو إليه الإسلام من أممية تختلط فيه القوميات مع بعضها من دون تمييز بين عربي وأعجمي إلاّ في التقوى، ورأت أنّ نصرة “فلسطين” تتم بتديين القضية وأسلمتها وليس تعريبها. وهي جدلية مستمرة منذ منتصف القرن التاسع عشر، وتواصلت بقوة في الستينات، وعادت إلى السطح في التسعينيات، وهي جدلية تتعلق بنظرتنا _نحن العرب_ إلى أنفسنا وما نريده من علاقات فيما بيننا وبين الآخر. ومن المناسب التذكير بخطورة إسقاط الصبغة الدينية على قضايا ترتبط بالحقوق القانونية والسياسية لشعوب ذات ثقافة متشابهة، وتمثل وجود مؤسسة جامعة الدول العربية على ضعفها، رابطًا يجعل للدول العربية يدًا عليا على ما سواها من دول شرق أوسطية غير عربية، وانتماء كتل بشرية ضخمة متشابهة الثقافات ومتجاورة جغرافيًا شكل تهديدًا لنظام الشرق الأوسط الذي راهنت عليه الدول الغربية منذ منتصف القرن العشرين ؛ لأسباب مختلفة من بينها مواجهة الاتحاد السوفييتي، وتفادي إنشاء تكتلات ذات توجهات سياسية واقتصادية مغايرة، والملاحظ أنّ تيارات عربية تبدأ في المناداة بأهمية الشرق أوسطية حينما ترى أنّ ميزان القوى لم يعد يميل في مصلحتها داخل المنظومة العربية، فتبدأ في الدفع تارة بروابط المذهب والدين كما البعض مع “إيران” و”تركيا” _على سبيل المثال_ أو تارة أخرى بروابط التجارة والأمن والمال والتقرب من الولايات المتحدة كما مع إسرائيل، أو بروابط الجوار المشترك كما مع “أثيوبيا” مؤخرًا، وهو ما أسمته بعض الأدبيات العربية التنافس بين القومية العربية والجيواستراتيجية الشرق أوسطية، والذي يصب بقوة لصالح الأولى على الرغم مما يعتري مكوناتها من ضعفٍ كبيرٍ.

القوة العربية المشتركة وصيانة الأمن القومي العربي:

أصدرت القمة العربية في شرم الشيح قرارًا في 2015 م بإنشاء قوة عربية مشتركة، وتم تكليف الأمين العام بالتنسيق مع رئاسة القمة بدعوة فريق رفيع المستوى تحت إشراف رؤساء أركان القوات المسلحة في الدول الأعضاء لدراسة كافة جوانب الموضوع واقتراح الإجراءات التنفيذية وآليات العمل والموازنة وعقد اجتماعين لرؤساء الأركان المشتركة في( 22 إبريل/نيسان 2015م)، وفي (23 و24 مايو/أيار 2015 م) وبرز توجهان بشأن النقاط الثلاثة التالية، النقطة الأولى: هل يتم تشكيل القوة في كل دولة في الأوضاع العادية المستدامة قبل تنفيذ المهمة أم يتم تشكيلها أثناء طلب المهمة؟، والثانية: هل يتم تشكيل قيادة عامة للقوة المشتركة تعاونها هيئة أركان من جميع الدول الأطراف، أم الاكتفاء بمجموعة تخطيط وقيادة ميدانية في منطقة مهمة؟ والثالثة : هل يتم تخصيص موازنة بحصص مالية محددة مسبقًا أم أن تكون كل دولة مسؤولة عن تمويل قواتها؟ وتم الاتفاق في الاجتماع الثاني على أـن تكون مهام القوة العربية المشتركة كالآتي: مكافحة الإرهاب وصيانة الأمن القومي العربي، حفظ السلام في الدول الأطراف، المشاركة في عمليات الإغاثة والمساعدات الإنسانية، المشاركة في عمليات البحث والإنقاذ، تأمين الحدود البرية والبحرية والجوية. وقامت الأمانة العامة بإعداد مشروع بروتوكول وتم إرساله إلى الدول العربية لإبداء ملاحظاتهم. وتلقت الأمانة العامة ملاحظات من أربع عشرة دولة، وتم تضمين الملاحظات، وتم تحديد يوم (29/7/2015 م) موعدًا لإقرار البروتوكول، غير أن ست دول عربية رأت التأجيل لمزيد من التشاور.      

الرأي العام العربي والأمن القومي العربي:

تعبر الجامعة العربية والمؤسسات العربية المختلفة عن التيار القومي في الإرادة الشعبية التي أوجدتها وكانت نشأتها استجابة لها؛ بل إن كثير من أدبيات السياسة العامة العربية وجدت أن التيار القومي عادة ما تعبر عنه الطموحات الشعبية والتيار القطري تعكسه وجهات النظر الحكومية والرسمية، واستجابة الحكومات العربية للطموحات الشعبية والرأي العام جاءت بشرط المحافظة على استقلالية قرارها وسيادتها الوطنية والحيلولة دون التأثير على مكوناتها الشعبية، وعادة ما تنشأ جدلية فيما بين طموحات الشعوب من الانضمام إلى منظمات متعددة الأطراف ذات اتجاهات اتحادية، وبين ممارسات السلوك الرسمي الأكثر تحفظًا للحكومات، وهو أمر ينبغي تسليط الضوء عليه عند الحديث عن الأمن القومي العربي. فديباجة ميثاق الجامعة أشارت إلى الرأي العام وآماله، بل وإلى الاعتراف بأن هناك مجالًا مفتوحًا لتعاون أوثق وأقوى مما نص عليه الميثاق وأن للدول العربية الراغبة في ذلك أن تعقد فيما بينها ما تشاء ؛ لتحقيق هذه الأغراض.

يخضع تشكيل أجندة الأمن القومي العربي كما أي سياسة عامة خارجية، إلى تأثير أربعة أصناف من اللاعبين الرئيسيين داخل منظومة الوطن العربي،  وهم السياسيون، والرأي العام، والاحترافيون المختصون، وممثلو الإدارات العليا. والسياسيون هم أصحاب الكلمة العليا – أيًا كان شكل نظام الحكم – ؛ للتعبير عن طموحات الرأي العام لديهم. غير أن التأثير على الرأي العام العربي لم يعد أمرًا داخليًا يمكن التأثير فيه بوسائط داخلية أو محلية بل صار تابعًا في بعض منه إلى تأثيرات خارجية، مذهبية الهوى أو دينية الطابع أو إثنية الاتجاه أو داعية للاستسلام والانهزامية. وفي ظل ضعف الخطاب القائم على معاني القومية العربية بشكلٍ عامٍ، فمن المتوقع ألاّ تصمد بعض قطاعات الرأي العام أمام الإيحاءات الخارجية المضادة.   

ويستدعي ذلك التذكير بأنّ الثقافة الجمعية العربية ليست متناقضة بل متشابهة في معظمها، ولا يحتاج المرء إلى كثير من المجهود لتبيينه، كما تتشابه هذه الثقافة في مرتكزاتها الوجدانية لدى الرأي العام، وفي أغلب الأحيان تتشابه أهداف الشعوب العربية في طموحها نحو الحياة تحت مظلة سيادة القانون، ودولة المؤسسات الفعالة، والشفافية، والمساءلة، واحترام حقوق الإنسان، ومشاركة المواطنين في القرارات التي تؤثر على حياتهم، وترى أن أي تعاون عربي يجب أن ينصب على هذه المعاني بالإضافة إلى التعاون من أجل التخلص من الاحتلال الإسرائيلي الجاثم على صدور العرب جميعًا، والمساهمة في مشروع نهضوي يتناسب مع تاريخهم ويرضي طموحات مستقبلهم.

الدور المساعد للأمانة العامة لجامعة الدول العربية ومنظمات العمل العربي المشترك:

كما رأينا أعلاه، لقد ساهمت الأمانة العامة في صياغة تعريفات شاملة للأمن القومي العربي من واقع ممارستها وتجاربها وقربها وفهمها لمسار الأوضاع في المنطقة وآمال شعوبها, وكما أن الخدمات العامة تلعب دورًا مهمًا في تحقيق أهداف الدولة وصياغة وتنفيذ وتخطيط وتقييم السياسات العامة، تحتاج أي ترتيبات جيدة للأمن القومي العربي إلى جهاز قادر على تحقيق ذلك، وهو أمر يمكن تحقيقه من خلال توظيف كوادر جديدة ذات مؤهلات داخل الأمانة العامة، والأهم أن يتم اختيارهم للعمل في المؤسسات العربية من خلال خبرات قيادية مكتسبة في ممارسات أخرى، سواءً في القطاع الخاص، في منظمات غير حكومية، أو في مهن مختلفة بحيث يجلبون معهم أشكال مختلفة من الخبرة والرؤى للتفاعل مع التطورات السريعة التي تطرأ على شكل المؤسسية.  

تظل العلاقات فيما بين الشعوب العربية، بما في ذلك مكوناتها المختلفة، مترابطة ثقافيًا دون إقصاء أو استعلاء أو إلغاء، بما يسمح بأن تتشبث هذه الشعوب بأحلامها الكبيرة، فمطالبها عادلة، والظلم الواقع عليها في “فلسطين” أو في غيرها جلي لا تخطئه عين، والمستقبل لصالحها بكل معنى الكلمة حتى وإن كان الحاضر قاسيًا. وسيبقى الأمن القومي العربي في نواته انعكاسًا لتطلعات هذه الشعوب إلى مستقبل مشترك تستحقه.  

اظهر المزيد

زيد الصبان

وزير مفوض- الامانة العامة لجامعة الدول العربية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى