2020التطورات في ليبيا وشرق المتوسطالعدد 183

ماذا تريد تركيا من تجاذباتها وممارساتها وتدخلاتها وتحالفاتها الملتبسة في المنطقة

بنت “تركيا” في العقدين الأخيرين، الدولة الإقليمية الأكثر حيوية إن كان على الصعيد الداخلي أو على الصعيد الخارجي، وكان وصول حزب العدالة والتنمية عام 2002 م إلى السلطة، الرافعة التي دفعت في اتجاه إحداث متغيرات في بنية الدولة والمجتمع، وفي اتجاه تحولات جذرية في سياساتها الخارجية، وكان الطابع العام الذي تمظهر تدريجيًا، استعادة تركيا هويتها الثقافية الدينية إلى ما كانت عليه ما قبل ثورة “مصطفى كمال أتاتورك ” عام 1923 م من جهة، وتفعيل الدور الخارجي في “المجال الحيوي التركي” من (البلقان إلى القوقاز ومن البحر الأسود إلى الشرق الأوسط والعالم العربي وشمال إفريقيا ) من جهة أخرى، وفي كلا المجالين الداخلي والخارجي كان العنوان الأبرز هو “طي مرحلة العلمانية ” ؛ للانطلاق إلى فضاءات، ومغامرات، محددة الأهداف لكن غير واضحة النهايات.

بتقديرنا أن ما يحكم فلسفة التحرك التركي في مجالاتها الحيوية ،لا سيما في سنواتها الأخيرة هو ثلاثة عناوين:

1- الموروث التاريخي:

وهو ما يعرف بـ “العثمانية الجديدة”، وهو مفهوم ينظر إلى أنّ كل المناطق والدول التي كانت سابقًا تحت مظلة الدولة العثمانية هي ساحات قابلة؛ لتنخرط من جديد تحت النفوذ التركي بطريقةٍ مباشرةٍ أو غير مباشرة، وليس هذا المفهوم جامدًا بل مرن وقابل للتمدد أو التقلص وفقًا للظروف وللقدرات ومدى استجابة الأنظمة أو الشعوب في هذه الساحات. لذا كان السعي في البداية إلى أن تكون هذه العثمانية شاملة وحيث أمكن لسنابك الخيل أن تطأ، فشهدنا تدخلات تركية واسعة خصوصًا مع بدء ما سمي بـ “الربيع العربي” في كل من: (سوريا، العراق، مصر، اليمن، الأردن، ليبيا، تونس، المغرب والصومال). وأوصلت تركيا في بعضها أنظمة موالية لها ترتكز على دعامة تنظيم الإخوان المسلمين من( مصر إلى تونس فالمغرب). لكن حركة الارتداد على هذا المتغير ، لاسيما في (مصر، وتونس) نجحت خصوصًا بعد ثورة (30 يونيو 2013 م)، في كسر ركيزة أساسية من المشروع التركي في المنطقة، رفدها في ذلك نجاح “سوريا” بكلفة بشرية واقتصادية مرتفعة في وقف تمدد المشروع من البوابة السورية.

لكن انكسار المشروع التركي في بعض محطاته لم يكن ليعني أن أصحابه قد تخلوا عنه أو أنّهم قد غيروا من حجم الأهداف التي كانوا وضعوها، ومن دون الغوص طويلًا في التفاصيل الكثيرة لما جرى في السنوات السابقة، فإنّ ما شهدته” تركيا” في النصف الأول من العام الجاري(2020) يعكس أن المشروع التركي في الداخل والخارج استعاد زخمًا كبيرًا له حساباته وتداعياته.

فعلى الصعيد الداخلي كان “قطار العثمنة” يتقدم سريعًا كما لو أّنه يسابق الوقت قبل أنّ تدهمه المفاجآت. و”العثمنة الداخلية” هي الركيزة الفكرية والنفسية للتوسع الخارجي على أساس عثماني.

 في( العاشر من يوليو 2020 م )أصدر الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان”_ بناء لقرار مجلس الشورى قبل ذلك بيومٍ واحدٍ_ مرسومًا يلغي قرار الحكومة التركية عام 1934م باعتبار” آيا صوفيا “متحفًا، وإعادته إلى الوضع الذي كان عليه قبل ذلك العام أي جامعًا. وفي 24 يوليو كان افتتاح الجامع بصلاة جمعة حاشدة تولاها رئيس الشؤون الدينية (ما يعادل شيخ الإسلام) “علي أرباش” بحضور” أردوغان ” وسائر مسؤولي الدولة وعشرات الآلاف ممن وفدوا إلى الجامع ومحيطه.

خطوة إعادة “آيا صوفيا” جامعًا كانت أساسية في سلسلة خطوات أخرى سبقتها وتلتها، وبمعزل عن حساباتها الداخلية المرتبطة بكسب أصوات إضافية من فئات متدينة أو متشددة قوميًا، فإنّ خطوة “آيا صوفيا” داخليًا كانت محطة في سياق استهداف العلمانية بشخص مؤسسها وباني” تركيا” الحديثة “مصطفى كمال أتاتورك” وتهميش صورته أمام الرأي العام. أما خارجيًا فكانت رسالة قوية إلى العالم بـالدور “العالمي” الجديد ل”تركيا” المستند إلى خلفية عثمانية واضحة.

كذلك فإن اعتماد يوم (24 يوليو) موعدًا لافتتاح “آيا صوفيا” لم يكن صدفة فهو يصادف ذكرى توقيع معاهدة “لوزان” بين تركيا والحلفاء التي تعتبر الوثيقة المؤسسة للجمهورية. ما يعني الانقلاب على كل منجزات “أتاتورك” ولا سيما” لوزان ” التي يعتبرها “أردوغان” هزيمة فيما وصفها “أتاتورك” حينها بأنّها نصر مجيد ل”تركيا “الجديدة.

 حرصُ رئيس الشؤون الدينية “علي أرباش” خلال خطبة الجمعة  كما في خطبة عيد الأضحى الذي صادف أيضًا نهار الجمعة التالية، أن يحمل سيفًا بيده يحركه ذات اليمين وذات الشمال. وبمعزل عن المبررات وبأنّه تقليد عثماني، فإنّ هذه الحركة في بلد علماني يسعى للدخول إلى الاتحاد الأوروبي، رسالة سلبية جدًا للعالم الخارجي ذات أبعاد دينية وقومية واستعراض للقوة الخشنة ومظهر آخر من مظاهر التعبئة الدينية لخطوات سياسية ومنح الشرعية الدينية للسلطة السياسية في خطواته الخارجية.

كذلك لعن “أرباش” “أتاتورك” الذي ألغى صفة الجامع عن “آيا صوفيا” وحولها إلى متحف. ووُجه اللعن هذا غير المسبوق بانتقادات واسعة.

 تسارع الخطى من أجل استكمال بناء “جامع تقسيم الكبير” الذي يقارب على الانتهاء وهو يقع مباشرة عند ساحة تقسيم وعلى بعد أمتار من “نصب حرب التحرير الوطنية” الذي يمثل “أتاتورك و”عصمت اينونو” بحيث أن النصب ،قياسًا لحجم الجامع الكبير، يكاد لا يبين. ويعكس الجامع مظهرًا دينيًا للساحة يمحو مظهرها العلماني السابق.

 كذلك تتواصل الخطط؛ لإعادة بناء “ثكنة المدفع” العثمانية التي هُدمت في الأربعينات لضرورة تحديث ساحة تقسيم، ما يضفي على الساحة المزيد من الطابع العثماني محاولات الحكومة للخروج من اتفاقية “اسطنبول الدولية ” الخاصة بالمرأة والطفل وحمايتهما والمساواة الاجتماعية ، وتغليب (الحقوق العثمانية على الحقوق العلمانية)، بما يمهد لإلغاء القانون المدني _الدعامة الأساسية للعلمانية_ الذي أقر عام 1924م.

 وفي سياق “العثمنة  وضرب العلمنة” والكلام على التفكير بنقل العاصمة من (أنقرة إلى اسطنبول ) على قاعدة “تصحيح الخطأ” ، الذي ارتكب في عام 1923 م باعتماد “أنقرة ” عاصمة بدلًا من “اسطنبول”.

 حتى تغيير الحرف من العثماني إلى اللاتيني في عام 1928 م ، كان محل انتقاد “بلال بن أردوغان” الذي قال:” إنّ تغيير الحرف ليس شرطًا للتقدم مستشهدًا بـ(اليابان والصين والهند )التي لم تغير أبجديتها كمبرر للدخول في عالم الحداثة، ومع أن كلام “بلال أردوغان” محق لكن من باب “كلام حق يراد به باطل”، أي أنه يستهدف خطوة أخرى قام بها “أتاتورك” في مجتمع كانت نسبة الأمية فيه تتعدى التسعين في المئة، وكانت ثورة في اللغة والثقافة التركية.

 كانت ذروة الحملة النفسية والإعلامية لمحو عهد “أتاتورك” واستعادة الزخم العثماني هو الدعوة لاستعادة الخلافة العثمانية وإعلانها من جديد من اسطنبول . إذ خرجت مجلة “الحياة الحقيقية” الأسبوعية الصادرة في نهاية “يوليو””، والتي يملكها مصطفى البيرق ” العضو في مجلس إدارة صحيفة “يني شفق” التابعة للعدالة والتنمية، بعدد خاص عن الخلافة كتب على غلافه بالعربية وبحرف كبير “لا إله إلا الله، محمد رسول الله” وتحتها بالعربية والتركية: “إن لم يكن الآن فمتى؟، وإن لم تكن أنت  فمن؟ تهيؤوا من أجل الخلافة”. وإذ تبنى الكتّاب الإسلاميون هذه الدعوة فقد وجهت بانتقادات كثيرة من جانب مسؤولي أحزاب المعارضة.

وفي إطار” العثمنة” الجديدة كانت كل التدخلات التركية في( شمال سوريا ،وفي شمال العراق ، ليبيا ، اليمن وحتى في غزة(.

2- الصراع على النفوذ والثروات في شرق المتوسط:

كشف العديد من الخبراء الأتراك أن تركيا بمقدورها إطفاء دينها الخارجي الذي يكاد يلامس عتبة الخمسمائة مليار دولار، من خلال التنقيب عن النفط والغاز في المنطقة البحرية الليبية كما في البرّ الليبي. من هنا كان توقيع الاتفاق التركي مع حكومة” فايز السراج ” (في 27 نوفمبر 2019  م) خطوة متقدمة نحو هذا الهدف. فليبيا البلد الغني بالنفط والغاز والقريب إلى السواحل الأوروبية يشكل بثرواته معينًا استراتيجيًا للقوى التي يمكن أن تسيطر عليه وتستفيد من ثرواته. لذا كانت الاندفاعة التركية تجاه ليبيا أكبر وأكثر إصرارًا من تحركها في جبهات أخرى. لا سيما أن ليبيا تكاد تكون البلد الوحيد في الشرق الأوسط وشرق المتوسط الذي لم يعرف بعد نعمة النفط والغاز، وتمكنه من سدّ هذه الثغرة سيمنحه قوة استراتيجية كبيرة تتيح له أن يتقدم خطوات على منافسيه والتخلص من الضغط الذي  تمارسه القوى الخارجية  على الاقتصاد والليرة التركية والانطلاق لدور يتعدى المجال الإقليمي.

إن اكتشاف النفط والغاز في شرق المتوسط يدفع تركيا للتفاؤل بالعثور عليهما في حدود منطقتها الاقتصادية الخالصة، لكن في الوقت نفسه تسعى تركيا إلى محاولة إرباك خصومها وعرقلة الاستفادة من الثروات البحرية المكتشفة ومنع تصديرها إلى الخارج ، ولا سيما إلى أوروبا، وذلك من خلال التنقيب في مناطق متنازع عليها أو حتى داخل الجرف القاري اليوناني، ولا تمانع تركيا من استخدام سياسة حافة الهاوية وصلًا إلى الاشتباك العسكري؛ لتحقيق مكاسب اقتصادية في الصراع على ثروات شرق المتوسط. وأخر مظاهر هذا التوتر كان خلال شهر( أغسطس 2020م) والحشد العسكري لكل من (تركيا واليونان) ، ومن ثم (للولايات المتحدة وفرنسا ) تحسبًا لأي احتمالات، ولقد نجحت “تركيا “في استغلال التناقضات بين القوى الإقليمية والكبرى ؛ لتنسج تحالفات هجينة تبعًا لمعطيات وظروف كل قضية، فنسقت مع روسيا في سوريا وحاربتها في ليبيا وفي القوقاز، ونسقت مع الولايات المتحدة في ليبيا وحاربتها في سوريا ضد الأكراد ومن ثم نسقت معها ضدهم، وتجري معها مناورات مشتركة في البحر المتوسط.

3- الصراع على زعامتين: شرق المتوسط والعالم الإسلامي

تقدم المتغيرات التي يبادر إليها “إردوغان” في الداخل جرعة دعم وتحفيز؛ لمواصلة اندفاعته الخارجية التي تهدف إلى العودة إلى حدود الميثاق الملي في شمال “سوريا” وشمال “العراق” وفي بحر” إيجة”، وإذ يبدو “لأنقرة” أن وضعها مستقر في” سوريا” مع تقاسم النفوذ بينهما “وروسيا والولايات المتحدة “وعدم رغبة” روسيا ” في ممارسة أي ضغط ؛ لتغيير الواقع الحالي السوري، فقد كثفت من عملياتها العسكرية البرية والجوية في العراق لمزيد من إضعاف “حزب العمال الكردستاني”، لكن أيضًا لمزيد من قضم الأراضي  في شمال العراق وفي ظل ضعف السلطة المركزية في “بغداد” وارتهانها للإملاءات الأمريكية التي تحدّ من أي محاولة؛ لمواجهة الأطماع التركية، فكان اكتفاء بغداد بمواقف الاحتجاج وبيانات التنديد التي لا تسمن ولا تغني من جوع.

لكن التحرك التركي الخارجي كان في أحد جوانبه يستهدف مواجهة خصومه في الساحتين الدولية والعربية، وفي مقدمتها” فرنسا ومصر والسعودية والإمارات”، وقد كان لبنان نموذجًا لهذا الصراع الذي قد يكون عاملًا إضافيًا لعدم الاستقرار في هذا البلد الصغير الذي يعاني أصلًا من مشكلات  اقتصادية وسياسية وأمنية عميقة.

لبنان:

تتقدم “لبنان” إلى الواجهة منذ الرابع من( أغسطس 2020م) عندما هزّ انفجار ضخم “مرفأ بيروت” أدى إلى تدمير معظم المرفأ وإلحاق الضرر الكبير بغالبية أحياء مدينة بيروت خصوصًا تلك المواجهة له، وتحولت الحادثة إلى نقطة تقاطع إضافية للصراع بين” تركيا” وكل من: ( فرنسا ومصر والسعودية والإمارات).

في منتصف( أيلول 2011 م) ، وكان نظام معمر القذافي قد إنهار، وتسابقت الدول التي شاركت في قصف “ليبيا” إلى زيارة “طرابلس الغرب” من أجل اقتطاع حصة لها من الكعكة الليبية.

وإذ أعلن رئيس الحكومة التركية حينها “رجب طيب أردوغان ” عزمه زيارة” طرابلس” في (17 أيلول)، فاجأ الرئيس الفرنسي “نيكولا ساركوزي” ورئيس وزراء بريطانيا “دايفيد كاميرون”، بزيارة مشتركة إلى “طرابلس” في (15 أيلول ) أي قبل يومين من زيارة “أردوغان” . كان واضحًا أن “ساركوزي” تحديدًا لم يكن يريد أن يسبقه “أردوغان” إلى هناك.

تكرر السيناريو نفسه في لبنان عندما قام الرئيس الفرنسي” مانويل ماكرون” بزيارة صاخبة إلى” بيروت” بعد أقل من 48 ساعة على الانفجار، وبعد يومٍ واحدٍ على زيارة “ماكرون”، أعلن الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” نيته لإرسال نائبه “فؤاد أوكتاي ” ووزير الخارجية “مولود تشاووش اوغلو” اللذين وصلا فعلا في اليوم التالي في زيارة رسمية لعدة ساعات.

ولا شك أن “أنقرة” قد شعرت أنّها في مرمى الاستهداف الفرنسي المباشر من لبنان هذه المرة، فكان الرد على زيارة “ماكرون” بزيارة “أوكتاي”،” تشاووش أوغلو”، وهو مبدأ أقره رئيس الحكومة التركية السابق “أحمد داود أوغلو” الذي قال مرة: أنّه حيث يرفرف علم فرنسي ستجدون قبالته علم تركي ، ولا سيما في “أفريقيا”، ولسان حال “تركيا” اليوم أنه إذا كانت فرنسا استعمرت لبنان 25 سنة فإن تركيا حكمته أربعمائة سنة.

تكرر السيناريو الليبي عام 2011 م في لبنان عام 2020م،مع ملاحظات المعطيات التالية:

  1. فاجأ “ماكرون” في لقائه مع زعماء الأحزاب اللبنانية مساء الخميس في السادس من أغسطس في قصر الصنوبر(مقر إقامة السفير الفرنسي) بتحذيرهم من خطورة التحرك التركي في لبنان . جاء مثل هذا التحذير الرسمي من خارج السياق العام للزيارة التي جاءت للتعبير عن التضامن مع لبنان بعد انفجار المرفأ.
  2. قبل حادثة انفجار المرفأ، كثر الحديث عن  طبيعة الدور التركي في لبنان، فوزير الداخلية  اللبناني “محمد فهمي” تحدث رسميًا عن مجموعات تحرّضها “تركيا” ورئيس تكتل” لبنان” القوي الموالي لرئيس الجمهورية “ميشال عون ” والأكبر في البرلمان “جبران باسيل” ، أشار إلى تدخل تركي أمني وتعاون حتى بعض الأجهزة الأمنية اللبنانية مع هذا التدخل.

منذ سقوط الدولة العثمانية لم تكن “لبنان” تاريخيًا ساحة لنفوذ تركي لا بعد إعلان “لبنان الكبير” ولا بعد الاستقلال، لكن اعتماد سياسة “صفر مشكلات” و”العثمانية الجديدة” بعد العام 2002 م، حرك أحجار الصراع التركي في “لبنان” ليس فقط مع “فرنسا” (الأم الحنون) لكثير من اللبنانيين، بل مع القوى السنّية في الساحة العربية أيضًا، وفي هذا الإطار تقاطرت المساعدات العربية إلى لبنان كما المساعدات التركية، مع عرض إماراتي ببناء “مرفأ بيروت” مقابل عرض تركي مماثل.

مع ذلك، فإن الحركة العربية، التي كان يفترض أن تكون الراجحة والأكثر تأثيرًا، تجاه “لبنان” اتسمت بالبطء والتردد والارتباك مقارنة بالحركة التركية، فضلًا عن الفرنسية، فبعيدًا عن  حجم المساعدات العربية وطبيعتها، وفي وقت كان الاهتمام الفرنسي على مستوى رئيس الجمهورية، والتركي على مستوى نائب الرئيس ووزير الخارجية وخلال يومين أو ثلاثة بعد الانفجار، وخارج زيارة أمين عام جامعة الدول العربية “أحمد أبو الغيط” إلى بيروت، والتي اكتسبت بعدًا معنويًا ليس أكثر، لم يزر “لبنان” أي مسؤول عربي رفيع المستوى لا على مستوى الرئاسة ولا رئاسة الحكومة. بينما زار وزيرا خارجية (مصر والأردن) بعد أسبوع على الانفجار.

ليبيا وشرق المتوسط:

المحاولات التركية الحثيثة ؛ لبسط النفوذ والسيطرة في شرق المتوسط وفي ليبيا تلقت ضربتين موجعتين تعكسان تحولًا في طريقة مواجهة الأخطار التركية والانتقال من الدفاع السلبي إلى المبادرة والهجوم، وقد تجلى ذلك في خطوتين  في غاية الأهمية:

1- الدبلوماسية والقوة المصريتان:

اندفعت “تركيا” بقوة وسرعة في الملف الليبي منذ توقيع اتفاقية “أردوغان”( السراج في نوفمبر 2019م)، وعرفت الساحة الميدانية تطورات لصالح قوات السراج والقوات التركية ومرتزقتهما. بحيث درأوا الخطر عن طرابلس وتقدموا وصولًا إلى خط (سرت- الجفرا(.

في هذه اللحظة كانت الأنظار تتجه إلى المحور العربي المعارض لـ”تركيا” وتحديدًا إلى” مصر” لما ستفعله تجاه الخطر التركي الداهم على الأمن القومي المصري والعربي.

في (السادس من يونيو 2020 م)، بادر الرئيس المصري” عبد الفتاح السيسي” إلى طرح مبادرة سلام في” ليبيا” ووقف للنار وبدء حوار بين الأطراف الليبية المتنازعة وسحب كل القوات الأجنبية من ليبيا(التركي وغير التركي)، ومثل هذه المبادرة تسحب البساط من تحت أقدام تركيا وطموحاتها في التقدم نحو الهلال النفطي وربما نحو بنغازي. وأعقب” السيسي “مبادرته بتحذير غير مسبوق، في (20 يونيو)، لتركيا بأن أي تقدم نحو (سرت- الجفرا) هو “خط أحمر” سيستدعي تدخل مصر العسكري، وقد شكلت المبادرة المصرية وتهديدها بالتدخل العسكري انعطافه في مجريات الأمور حالت حتى الآن، دون المزيد من تفاقم الوضع في” ليبيا”، وبذلك كانت “مصر”، رغم تأخرها في ذلك، ترفع سدًا في وجه الطموحات التركية في “ليبيا”.

2- الاتفاقية المصرية اليونانية:

سجلت تركيا هدفًا في مرمى خصومها في شرق المتوسط كما في العالم العربي بتوقيعها اتفاقية “ترسيم الحدود البحرية” مع” ليبيا “في (خريف 2019م) ، وفي ضوئها تدخلت مباشرة في “ليبيا” باعتبار أن حكومة “فايز السراج” هي المعترف بها دوليًا، وقد وصّفنا حينها خريطة المنطقة البحرية التركية- الليبية كما لو أنها سيف يقطع البحر المتوسط من الشمال إلى الجنوب ويكسر خطط مد أنابيب الطاقة من شرق المتوسط إلى غربه وإلى أوروبا.

لكن الاتفاقية على ترسيم الحدود البحرية بين (مصر واليونان ) التي وقعت في (السادس من أغسطس 2020م) في القاهرة، أعادت قلب الأمور رأسًا على عقب وكانت بمثابة كسر للسيف التركي المسلول من الشمال إلى الجنوب عندما رسمت اتفاقية “القاهرة” حدود المنطقة المصرية – اليونانية بما يحول دون تقاطع الحدود البحرية التركية – الليبية. ومع أن الاجتهادات القانونية  في ما خص ترسيم الحدود البحرية تبقي الباب مفتوحًا على توترات ومخاطر، فإن “مصر”، بالتعاون مع “اليونان”،  نجحت في  توجيه ضربة ثانية، بعد مبادرة “السيسي” وتهديد قوي جدًا لمحاولات “أنقرة ” مد نفوذها في شرق المتوسط وفي ليبيا.

تُظهر” تركيا” المزيد من الإصرار على تحقيق مشروعها العثماني والبحث عن موارد جديدة ؛ لدعم اقتصادها متوسلة في ذلك للقوة العسكرية والتغلغل بين تناقضات القوى الإقليمية والدولية، وبقدر ما تزداد المناعة العربية وتوحّد دولها يتراجع الخطر التركي والعكس أيضًا صحيح.

اظهر المزيد

د. محمد نورالدين

أستاذ في الجامعة اللبنانية - بيروت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى