2020التطورات في ليبيا وشرق المتوسطالعدد 183

موقف روسيا من الأزمة في ليبيا وشرق المتوسط

مقدمة:

تُمثِل منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بما فيها شرق المتوسِط منطقة جوار ذات أهمية جيواستراتيجية لروسيا الاتحادية في ضوء محددات استراتيجية السياسة الخارجية الروسية تجاه هذه المنطقة، وقد ضاعف الحضور العسكري الروسي في “سوريا” من الأهمية الجيوسياسية والاقتصادية لمنطقة شرق المتوسط بالنسبة لـ”موسكو”. إذ بوسع روسيا استثمار وجودها في “سوريا”، وربما في ليبيا لاحقًا؛ لصياغة خطط للطاقة تخدم مصالحها، كما تمر أكثر من نسبة 50% من تجارة روسيا الخارجية عبر البحر المتوسط والأسود.

وحول مقاربتها للملف الليبي، لم تكن لـ”موسكو” مصالح حيوية _خاصةً هناك_ تجبرها على اتخاذ تدابير انفرادية فعَالة ومكلِفة، رغم رغبة الشركات الروسية العاملة في السوق الليبية قبل عام 2011 م في العودة؛ لاستئناف أنشطتها هناك، وفي سياق استراتيجيتها الواقعية في التعامل مع ملفات المنطقة، تحتفظ روسيا باتصالات منتظمة وتتفاعل مع كل الفاعلين الليبيين في الداخل ومع الأطراف الإقليمية والدولية ذات التأثير_ خاصةً مع تصاعد الاهتمام الدولي بالأزمة عقب قرار” تركيا” بالتدخل العسكري المباشر في ليبيا في (2من يناير الماضي ) ؛ لدعم ميليشيات حكومة الوفاق الوطني برئاسة “فايز السراج”، وهو قرار لم يكن مفاجئًا حيث قدمت “أنقرة ” لمليشيات الوفاق والمرتزقة الأجانب الأسلحة والمعدات العسكرية منذ النصف الثاني من عام 2014 م، وتعزَز هذا الدعم العسكري في إبريل 2019 عندما شنَ المشير “خليفة حفتر” هجومه على العاصمة “طرابلس”، وهكذا وبعد توقيع مذكرتي تفاهم ؛ لترسيم الحدود البحرية وللتعاون الأمني والعسكري مع السرَاج في( 27 نوفمبر الماضي)، تحوَل الدعم العسكري التركي إلى دعمٍ مفتوح، ورفعت “أنقرة ” مستوى انخراطها في الأزمة بشكلٍ كبير في محاولة لإبطاء تقدُم القوات المسلحة العربية الليبية بقيادة “حفتر”.

وقد طرحت مصر مبادرتها للحل في (6 يونيو الماضي)، والتي تقوم أساسًا على مخرجات مؤتمر “برلين”؛ لتسوية الصراع الذي عقد في (19 يناير الماضي)، وصدر عنه إعلان من 55 نقطة وأقرَه لاحقًا مجلس الأمن بقراره رقم 2510 في ( 12 فبراير 2020م)، وكان هدف المؤتمر تقليص التدخل الأجنبي في الحرب الليبية وضمان دعم الأطراف المعنية الأجنبية لعملية وساطة تقوم بها الأمم المتحدة على ثلاثة مسارات: (عسكري، سياسي ومالي) رفضتها كليًا “تركيا ” والقوى التي تدعمها في “طرابلس”، وهو ما عكس بوضوح رغبة تركية حثيثة في عسكرة الصراع وتصعيده بصورة أكبر في المرحلة القادمة، وذلك قبل أن يعلن الرئيس المصري “عبد الفتاح السيسي ” عن أن “”سرت والجفرة” خط أحمر لا يجوز تجاوزه”، واستجابة “مصر” عبر مؤسساتها الدستورية لطلب من مجلس النواب الليبي، الهيئة الوحيدة المنتخبة في” ليبيا” منذ عام  2014 م، بالتدخل العسكري ؛ لمواجهة الغزو التركي.

وتتناول هذه الورقة الأسباب وراء اهتمام روسيا بالملف الليبي واستراتيجياتها في هذا الشأن، ومدى انخراطها في الأزمة وردود الفعل الغربية على ذلك، وموقفها ممَا يجري في منطقة شرق المتوسط:

الأسباب وراء اهتمام روسيا بالملف الليبي:

يرجع اهتمام “روسيا” بالملف الليبي إلى محددات استراتيجية سياسة “روسيا” الخارجية في منطقة (الشرق الأوسط وشمال إفريقيا )عمومًا، والتي تتمثل في الآتي:

  1. مكافحة الإرهاب والتطرُف الديني والذي تتأثر به “روسيا” بحكم وجود نحو( 20 مليون) مسلم من مواطنيها يتفاعلون ثقافيًا ودينيًا مع ما يجري في الشرق الأوسط والشمال الإفريقي، وفي هذا السياق تتفق روسيا مع كلٍ من (مصر ودولة الإمارات العربية المتحدة ودول أخرى أوروبية) على ضرورة محاصرة وتقليص دور الإسلام السياسي، وبصفةٍ خاصة حركة الإخوان المسلمين والتنظيمات الإرهابية الأخرى، علمًا بأن الحركة مصنفة إرهابية من قبل الدول الثلاث.

وكانت المخاوف من انتشار الإرهاب والتطرُف الديني واضحة من الموقف الروسي إبَان ثورات الربيع العربية خلال عام 2011، خاصةً في مصر عندما تجاوبت “موسكو” بحماس مع رغبة القيادة المصرية الجديدة بعد ثورة (30 يونيو 2013 م) في تعزيز علاقات التعاون الثنائي في مختلف المجالات، وبالفعل دخل البلدان في شراكة استراتيجية حقيقية منذ ذلك الحين، ولا يخفى أنّه منذ سقوط القذافي أصبحت “ليبيا” ساحةً لجماعات الإسلام السياسي، التي لعبت دورًا مؤثرًا في إسقاط القذافي والتهيئة للتدخل العسكري من قبل قوات “الناتو في ليبيا”.

  • حرصت “روسيا” على الظهور بمظهر _القوة العظمى – في المنطقة، وهو ما يرجع أساسًا إلى كون علاقات” روسيا بالشرق الأوسط” بمثابة عامل مهم في معادلة العلاقات (الروسية، الأمريكية). فبعد انتهاء الحرب الباردة سعت “موسكو” إلى التقارب وإبداء التعاون مع الغرب، سواءً لتحقيق تسوية سلمية لقضية الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية من خلال عملية “مدريد”، أو التضامن مع” واشنطن” في حملتها لمكافحة الإرهاب بعد هجمات ( 11 سبتمبر 2001 م)، حيث كان الرئيس “بوتين” أول من بادر بالاتصال بنظيره الأمريكي لعرض تعاونه في هذا الشأن.

وقد عادت روسيا إلى المنطقة بوجهٍ مختلف عن الوجه السوفيتي، فلم تعد الأيديولوجية تلعب أي دور في توجهات سياستها الخارجية، وأصبح الشرق الأوسط منطقة تتمتع فيها هذه السياسة بميزة تكتيكية وطابع عملي براجماتي تجعلها مختلفة عن سياسات الغرب. ومع ذلك لا يجب تجاهل حقيقة أن العلاقات الوثيقة اليوم بين “روسيا” و”سوريا” مثلًا تعود إلى حقبة الحرب الباردة عندما وقَع البلدان اتفاق صداقة (1971 م) وآخر للدفاع المشترك (1980 م).

ويُمكن القول:” بأنّ “موسكو” نجحت بالفعل في خلق الانطباع في العالم العربي بأنّها والولايات المتحدة غريمان متنافسان في المنطقة وفي مناطق أخرى”.

  • تحقيق مكاسب اقتصادية وتجارية ممثلة في تأمين فرص لمبيعات “روسيا” من السلاح واختراق أسواق جديدة وتأمين مصالح شركات الطاقة الروسية في المنطقة. وفي هذا السياق، احتفظت “روسيا”_ ومن قبلها الاتحاد السوفيتي_ بعلاقات وثيقة بـ”ليبيا” إبَان حكم العقيد القذافي وظلت مصدرها الرئيسي للسلاح. كما وفَرت “ليبيا” بحكم أهميتها الجيواستراتيجية ومخزونها الضخم من النفط والغاز سوقًا واعدة للشركات الروسية التي حظيت بالفعل بعقودٍ مجزية في العقد الأخير من حكم القذافي.
  • ارتباطًا بما تقدم، ومنذ الأزمة الأوكرانية وضم القرم عام 2014  م، وما استتبعه ذلك من فرض عقوبات غربية عليها، تسعى “موسكو” إلى كسر عزلتها الدولية ومواجهة الضغوط الغربية من خلال تنشيط دورها في المنطقة. وبجانب “سوريا”، ترغب “روسيا” – من خلال البوابة الليبية- في ترسيخ دورها كلاعب إقليمي ودولي قوي في المنطقة، كما يسمح موقع ليبيا الجيواستراتيجي بالإطلالة على أوروبا، وبالتالي يمثل أي حضور عسكري روسي في هذه الدولة ورقة هامة يمكن أن تساوم بها موسكو على مصالحها_ خاصةً في جوارها القريب، مع أوروبا وحلف شمال الأطلنطي بصفةٍ عامة.

مدى الانخراط الروسي في الأزمة الليبية:

أدى تراجع الدور الأمريكي في منطقة المتوسط، والذي بدأ مع ولاية “أوباما” الثانية، إلى صعود النفوذ الروسي فيها على كافة المستويات، وجاء استقبال المشير خليفة حفتر على متن حاملة الطائرات الروسية “الأدميرال كوزنتسوف” في (يناير 2017 م) مؤشرًا لمشاركة روسية أوسع في الأزمة الليبية، إذ أنّه رغم انخراط الرُوس في الأزمة منذ عام  2015م، إلاّ أنّهم لم يستثمروا فيها سوى القليل. ومع الوقت زاد دور “موسكو” تدريجيًا وتوُج بنشر أفراد من مجموعة “ڤاجنر” القريبة من الكرملين لدعم قوات “حفتر”، وذلك وفقًا لتقديرات عديدة. ومن منظور عسكري، بات لـ”موسكو” نفوذًا متناميًا بفضل واقع أن تحالف “حفتر” المسلَح يفتقر إلى القوة القادرة على حسم المعركة نهائيًا، حيث يعلم الرُوس أكثر من غيرهم أن حرب المدن الطويلة الأمد ستفرض نفسها، حتى لو تمكن جيش “حفتر” من دخول “طرابلس”، وبالتالي ستظل هناك حاجة للدعم العسكري الروسي. وبجانب هذا الدعم، تقدِم روسيا دعمًا سياسيًا للمشير “حفتر”، حيث عرقلت “موسكو” صدور بيان عن مجلس الأمن في (إبريل 2019    م) يدعو “حفتر” لوقف هجومه على العاصمة “طرابلس”، وقد تكون” روسيا” لعبت دورًا – ولو محدودًا- في تحوُل الموقف الإيطالي، حيث انفتحت حكومة “كونتي” اليمينية الثانية على “حفتر” الذي زاره وزير الخارجية في( ديسمبر2019م)،  وباتت “روما” على تواصلٍ مستمرٍ مع “حفتر”.

والواقع أنّه رغم التماهي الروسي مع مبدأ وجود جيش نظامي وطني في ليبيا، فإنّ ذلك لم يمنع “موسكو” من التنسيق مع “أنقرة”، فيما نظر إليه على أنّه محاولة؛ لإعادة إنتاج التوافق النسبي بين الطرفين في الملف السوري، بل وتبنِى مبادرة مشتركة لوقف إطلاق النّار واستئناف المفاوضات، عندما أصدر الرئيسان “بوتين” ، و”أردوغان” دعوة مشتركة مفاجئة في (8 يناير الماضي) ؛ لوقف إطلاق النّار داعين الفصائل الليبية إلى وقف العمليات العسكرية بدايةً من (12 يناير الماضي ) ، والعودة إلى المفاوضات السياسية، وقد حاولت “موسكو” و”أنقرة” استعمال نفوذهما على حلفائهما في “ليبيا”، حيث رفض المشير “حفتر” التوقيع على اتفاق لوقف إطلاق النّار أعدَه البلدان بينما وقَع عليه “السراج” وحده، وبالتالي فشلت المبادرة نتيجةً للخلافات حول نقاطٍ جوهريَة، منها مطلب “السراج” بانسحاب قوات الجيش الوطني الليبي من مواقعه التي سيطر عليها في معركة “طرابلس”، وهو ما رفضه المشير “حفتر”، كما رفض “السراج” تسليم المليشيات سلاحها للجيش الليبي، وتجميد مذكرتي التفاهم الموقعتين مع “تركيا” مطالبًا بانسحاب قوات الجيش الليبي إلى ما قبل (4 إبريل 2019 م)، وتمسكه بمنصب “القائد الأعلى للقوات المسلحة”.

ويُقدِر البعض بحق أنّ فشل مساعي “موسكو” يرجع إلى سوء إدارة المفاوضات والنظر إلى الأزمة على أنّها تُوفِر صفقة مصالح بين “روسيا” و”تركيا”، وذلك دون النظر إلى تعقيداتها وتداخل مصالح الأطراف المعنية فيها وتحفُظ بعضها على أي نفوذ تركي والبعض الآخر على أي نفوذٍ روسي. وفي إطار سياستها المرنة والواقعية، دعمت “موسكو” مبادرة رئيس مجلس النواب الليبي المستشار “عقيلة صالح ” كأساس للتسوية في ليبيا، في( 3 يونيو الماضي)، رافضةً في الوقت ذاته استقبال رئيس حكومة الوفاق “فايز السراج”. إذ قال المتحدث باسم الرئاسة الروسية “ديمتري بيسكوف ” أنّه لا توجد على جدول أعمال الرئيس “بوتين” أي خطط لعقد لقاءات مع “السراج”، كذلك دعمت “روسيا ” إعلان القاهرة نافيةً على لسان وزير خارجيتها “سيرجي لافروف” في أعقاب زيارة لنظيره الجزائري لـ”موسكو حاول إعطاء الانطباع بعدها بأنّ هناك تنسيق روسي جزائري تونسي حول مبادرة للحل في “ليبيا”، أن تكون هناك أي خطط في هذا الشأن بين” روسيا والجزائر” وأن البلدين اتفقا على أهمية الحل السلمي. على أن كل ذلك لا يعني قطيعة بين “موسكو” و”طرابلس” بقدر ما هو ميل للاحتفاظ بمسافة من السلوك التركي الاستفزازي في النزاع والذي لقي إدانة أغلبية الأطراف الدولية.

وتُشير التطوُرات الأخيرة في ليبيا إلى ميل “موسكو” إلى التنسيق مع “واشنطن”  والدول الأوروبية أكثر من التنسيق مع “أنقرة”. وقد يرجع ذلك إلى تجربة “روسيا” مع” تركيا” في “سوريا” حيث باتت سياسة “أنقرة” تحديًا جديًا للرُوس هناك، وفي هذا السياق، أشارت “موسكو” مؤخرًا إلى قدرتها على ممارسة الضغط على “أردوغان” من خلال “إدلب” _تضم الآلاف من المقاتلين والإرهابيين المتطرفين المدعومين من “أنقرة” وهم أهداف سهلة للطيران الروسي والسوري_ وهو ما يُوحي بأن سياسة “روسيا” في “سوريا” باتت مرتبطة بسياستها في “ليبيا” على نحوٍ متزايد، وهنا لا يستطيع “بوتين” تجاهل حملة “أردوغان” الناجحة على_ ما يبدو_ في إقناع الولايات المتحدة و الاتحاد الأوروبي ؛ لدعمه في “سوريا” برفض تمويل إعادة الإعمار طالما لم يحدث انتقال سياسي حقيقي، فضلًا عن الدعم الدبلوماسي الغربي لـ”تركيا” في الأمم المتحدة، ولا ترى “أنقرة” مصلحة الآن في تسهيل عودة اللاجئين السوريين من تركيا وهو ما يصيب الروس ونظام الأسد بالإحباط.

ردود الفعل الغربية على الدور الروسي في ليبيا:

جاء التنسيق (الروسي، التركي) في ليبيا، وبصفةٍ خاصة مبادرة البلدين لوقف إطلاق النار والتي طُرِحت في قمة لرئيسي البلدين في “موسكو” في( 8 يناير الماضي)، ليُمثِل نقطة تحوُل كبرى في الموقف الغربي من الأزمة حيث أدى إلى قدرٍ كبير من التقارب في المواقف بين الدول الأوروبية على نحو ما تجسَد في التنسيق الوثيق والإعداد الجيد لمؤتمر” برلين” في (19 يناير الماضي)، وفي هذا السياق، يُؤكِد خبراء أوروبيين أنّ المؤتمر وإن لم يُقدِم حلًا جذريًا للأزمة، إلاّ أنّه أعاد موضع القوى الأوروبية في مركزها وقرَب مواقفها بعد طغيان النشاط الدبلوماسي (الروسي، التركي ) الذي تجسَد في قمة “موسكو” مهمِشًا الدور والمصالح الأوروبية، رغم ما أبداه “بوتين” من حرص على التنسيق مع المستشارة “ميركل”.

 وكانت العواصم الأوروبية، وأطراف أخرى معنية بالملف، أعربت عن مخاوفها من أن يكون هدف الاتصالات (الروسية، التركية) إقامة مناطق نفوذ للبلدين في “ليبيا”، وأنهما بصدد إبرام صفقة تهمش الأطراف الأخرى. كما شهد الموقف الأمريكي تحوُلًا ملحوظًا بعد أن قدَرت وزارة الدفاع والمؤسسات الأمنية أن الحراك العسكري الروسي يتطور باتجاهٍ يخلُ بثوابت الأمن الاستراتيجي للولايات المتحدة، وأن تُصبِح “ليبيا” مسرحًا جديدًا للتمدُد الروسي في شمال إفريقيا والمتوسط.

ومن الواضح أنّ “أردوغان” نجح في إثارة مخاوف( البنتاجون وحلف شمال الأطلسي) من التواجد الروسي في “ليبيا” وما يمكِن أن يمثله من خطر استراتيجي على المنظومة الغربية برمتها، وهو ما دفع القيادة الأمريكية في إفريقيا (أفريكوم) إلى أن تأخذ على عاتقها رصد تحركات الطيران الروسي في” ليبيا “عندما أعلنت في بيانٍ لها في( 26 مايو الماضي)، أن طائرات روسية وصلت من قاعدة جوية في “روسيا”، بعد عبورها “سوريا” وأعادت طلائها للتمويه، وأضاف البيان :”أنّ روسيا تحاول قلب الميزان لصالحها في ليبيا، مثلما فعلت في سوريا”.

وتشير التطورات الأخيرة إلى أن التوجس الأوروبي المتصاعد إزاء المشهد الليبي يرجع أساسًا إلى تزايد نفوذ ميليشيات الوفاق ونقل المرتزقة الأجانب من “سوريا” بدعمٍ تركي، ومحاولة تمديد نفوذها باتجاه “سرت” ثم منطقة الهلال النفطي، ممَا يؤثر بشكلٍ كبير على مصالح الأوروبيين في ليبيا ويتيح لـ”أنقرة” أغلب أوراق الضغط الرابحة في الداخل الليبي، وفي ضوء ذلك جاء الدعم الأوروبي الواضح لإعلان القاهرة.

وهكذا أصبح اهتمام المجتمع الدولي- وخاصةً القوى الكبرى_ مُنصبًا بالأساس على مراقبة التحركات التركية في ليبيا بقلقٍ متصاعد وعمليات نقل المرتزقة الأجانب والإرهابيين إليها. ومع ذلك لم تتبلور بعد إرادة سياسية غربية فاعلة قادرة على وضع حد للأطماع التركية في ليبيا أو في منطقة شرق المتوسط، بما يمثله ذلك من مخاطر أمنية على دول الجوار المباشر وأوروبا. وتُشِير التحرُكات الأمريكية الأخيرة في الملف إلى أنّ التدخُل الروسي في ليبيا يظلُ هاجساً جدياً لدى واشنطن الأمر الذي انعكس في مشروع قانون أمام الكونجرس، قيل إنه لدعم الاستقرار في ليبيا، خصَص جزءاً كبيراً لمعالجة التدخُل الروسي وماأسماه بـ”التجاوزات الروسية في ليبيا عسكرياً واقتصادياً”. ويطالب المشروع وزارة الخارجية والأجهزة الاستخباراتية ووزارة الدفاع بتقديم تقرير مفصَل حول الدور الروسي في ليبيا وطرح آلية للتصدي للتدخُل الروسي هناك.

الموقف الروسي من التطورات في شرق المتوسط:

ضاعف الحضور العسكري الروسي في “سوريا” من الأهمية الجيوسياسية لمنطقة شرق المتوسط بالنسبة لموسكو_ خاصةً في ضوء الإمكانات الواعدة لاحتياطيات الطاقة الأحفورية في المنطقة الاقتصادية الخالصة لـ”سوريا”، وهو ما يعزِز من مكانة “روسيا” كمصدِر رئيسي للطاقة لدول الاتحاد الأوروبي، بعد فشل قطر في الدفع بمقترحها (2009) ، وإنشاء خط أنابيب لنقل الغاز الطبيعي منها إلى أوروبا عبر “سوريا” و”تركيا”، وتُشِير تقديرات عسكريَة أمريكيَة حديثة إلى أنّه بالنظر إلى مكانة “روسيا” المتميِزة في “سوريا”. تمتلك “موسكو” حاليًا قوة غوَاصات دائمة في البحر المتوسط، ووفقًا لهذه التقديرات تستغل “موسكو” الثغرات الموجودة في اتفاقية “مونترو” (1936) من أجل إقامة وجود دائم لها في المتوسط، مَما يُؤثِر مباشرةً على “تركيا” وحلف” الناتو”_ خاصةً وأن الاتفاقية تُنظِم المرور البحري عبر المضائق التركية.

وينبغي التأكيد على أن اكتشافات الغاز في منطقة شرق المتوسط في السنوات الأخيرة، والتي تقدَر بما بين( 2.03 إلى 2.095 )تريليون قدم مكعب، وهو ما يكفي استهلاك جميع الدول الأوروبية لمدة أربع سنوات فقط، لن تؤثر بأي حال في حقيقة اعتماد الأوروبيين على الغاز الروسي لعقودٍ طويلة قادمة، حيث تمتلك روسيا ثاني أكبر احتياطيات للغاز الطبيعي في العالم، ولعلَ ذلك ما يُفسِر عدم اهتمام” روسيا” بالانخراط في سباق الشركات العاملة في منطقة شرق المتوسط، بجانب افتقاد شركاتها للتكنولوجيا المتقدمة للتنقيب والاستخراج من المياه العميقة، ومع ذلك استحوذت شركة “روسنفت” على حصة نسبتها 30% من امتياز حقل “ظهر” المصري العملاق والذي تقوم باستغلاله شركة “إيني” الإيطالية.

ومن المعروف أن هناك تعاونًا روسيًا تركيًا في مجال الطاقة، حيث تحصل “أنقرة” على حصة لا يُستهان بها من فاتورة استهلاكها من الغاز من” روسيا” والتي تُكلِفها نحو 30( مليار دولار) سنويًا، وقد افتتح رئيسي البلدين في( يناير الماضي )خط غاز “السيل التركي” الذي ينقُل الغاز الروسي (ينقُل حوالي 31.5 مليار متر مكعَب سنويًا) إلى” تركيا” وجنوب شرق “أوروبا” عبر “تركيا”.

ووفقًا لإحصاءات حديثة تراجعت “روسيا ” هذا العام (2020) إلى المركز الرابع من المركز الأول في توريد الغاز لـ”تركيا”، الأمر الذي فسَره المراقبون برغبة تركيَة في الحد من اعتمادها على الغاز الروسي.

وكان الرئيس “بوتين” قد عرض الوساطة الروسية ؛ لتخفيف التوترات بشأن التنقيب التركي عن النفط والغاز في شرق المتوسط، إلاَ أنَ الأطراف المعنية لم يصدُر عنها أي رد فعل على العرض الروسي.

 وفي تقدير المراقبين فإنّ ضعف استراتيجيات الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي في منطقة البحر المتوسط يفتح الباب أمام المزيد من الحضور الروسي والصيني في المنطقة، ويُشار في هذا الصدد، إلى أنّه بالرغم من أن الحلف وافق في عام 2016 م، في قمته في” وارسو” على استعادة التوازن والتركيز بشكلٍ أكبر على جبهته الجنوبية، إلاّ أنّ مثل هذا الجهد لم يُؤد إلاَ إلى نتائج قليلة، وكمثالٍ على الرؤى السياسية المتباينة للدول الأعضاء في الحلف وتأثيرها السلبي على وضع وتنفيذ استراتيجية مشتركة للبحر الأبيض المتوسط، يُشار إلى انسحاب “فرنسا” من عملية “حارس البحر” في (الأول من يوليو الماضي) بعد تصاعد التوترات مع “تركيا”.

والخلاصة:

 أنّ الدور الروسي في “ليبيا” يُلبِي احتياجات استراتيجية هامَة تُملِيها محددات سياسة “موسكو” الخارجية في المنطقة، بما فيها مواجهة الضُغوط الغربية التي تمارس ضدها ارتباطًا بالأزمة الأكرانية وضم “القرم”، وفي إطار سياستها الواقعيَة تُحافظ “روسيا” على اتصالات منتظمة بكل الأطراف، سواءً الداخلية أو الخارجية، وبالتالي لا ترتبط رهانات “موسكو” بطرفٍ بعينه- بما في ذلك “أنقرة”- فما يهم هو وجود دور روسي مؤثِر في الأزمة سواءً كان دبلوماسياً مباشراً أو عبر وكلاء، وهو ما لا يمنع من قيام “روسيا” بعقد صفقاتٍ مع أيٍ من الأطراف وفقًا لكل حالة على حدة بعيدًا عن الانخراط في مواجهة عسكرية مباشرة. ويُوفِر مثل هذا الدور لـ”روسيا “المزيد من النفوذ في المنطقة ومجالًا أوسع للمساومة على ملفات أزمات أخرى كـ”أوكرانيا وسوريا”.

اظهر المزيد

د.عزت سعد

سفير مصر السابق في موسكو ومدير المجلس المصري للشئون الخارجية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى