2019العدد 180المحاولات العربية لإرساء نماذج ديمقراطية

نتائج الانتخابات التونسية وتداعياتها على النموذج الديمقراطي

تعيش تونس منذ ثماني سنوات تحت وقع تجربة الانتقال الديمقراطي. وجاءت الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الأخيرة لتقلب المشهد السياسي رأسا على عقب. فبعد أن ظن التونسيون بأن القوى التي برزت ومارست السلطة أو المعارضة طيلة الخمس سنوات الماضية قد استقرت أوضاعها واستتب لها الأمر، إذا بالنتائج التي أفرزتها هذه الانتخابات تنسف ذلك كله، وتعيد البلاد من جديد إلى البحث عن توازنات مختلفة بين الأطراف التي دخلت مجلس النواب لأول مرة وبين كيانات حزبية بعضها قديم لكن تراجع حجمه، وبعضها غيرت مظهرها وأسماءها وخطابها، إلى جانب أحزاب عقائدية أصابها الزلزال السياسي فغادرت المشهد السياسي، وتراجع وزنها السياسي والاجتماعي.

أسفرت الانتخابات الرئاسية والتشريعية التي نظمت في سنة 2014 عن حزبين كبيرين. كان الفائز الأول هو حزب نداء تونس، الذي أسسه المرحوم الباجي قايد السبسي وبفضله أصبح رئيسا للجمهورية. أما الحزب الثاني الكبير فهو حركة النهضة التي تراجع وزنها لكنها حافظت على قوتها. ورغم الصراع الذي كان قائما بين الحزبين، إلا أن التقارب الذي حصل بين قائديهما، وأدى إلى ما عرف باتفاق باريس بين الشيخين الذي قلب النزاع إلى توافق، وأسس ” زواجًا سياسيًا” دام خمس سنوات، وطبع المرحلة الماضية، ومهد لمختلف التحولات التي كشفتها الانتخابات الأخيرة. ورغم الصراعات والاختلافات التي شهدتها تلك الفترة، إلا أن البلاد شهدت نوعا من الاستقرار السياسي والأمني.

انهيار المنظومة السابقة

أكدت نتائج الانتخابات الرئاسية والتشريعية انهيار التحالف الذي دفع إليه ورعاه الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي. وتعود أسباب هذا الانهيار إلى عوامل عديدة من أهمها:

أولا : انفجار حزب نداء تونس بسبب الصراعات المتتالية التي شقت صفوفه كان محورها نجل رئيس الدولة حافظ قايد السبسي الذي سعى نحو بسط نفوذه على الحزب دون أن يملك مقومات القيادة. وقد أدى هذا النزوع نحو الانفراد بقيادة الحزب إلى انسحاب المؤسسين للحزب والكوادر الرئيسية والفاعلة فيه. حاول والده إنقاذ هذا الصرح الحزبي الضخم الذي جمع جزءًا هامًا من روافد النخبة السياسية في البلاد المنحدرة من النظام القديم والنقابيين والليبراليين وعديد اليساريين، إلا أن جميع محاولات السبسي منيت بالفشل.

أثرت تلك النزاعات على الدولة وأدائها بعد أن أصبح رئيس الحكومة يوسف الشاهد في قطيعة مع قيادة نداء تونس رغم أنه كان من ضمن كوادره الأساسية، وانتهى به الأمر إلى تشكيل حزب جديد يحمل اسم ” تحيا تونس ” الذي كان يفترض فيه أن يكون الوريث الأكثر حظا للحركة الأم.   

ثانيا : العامل الثاني الذي أضعف المنظومة السابقة وجعلها غير قادرة على الصمود في الانتخابات الأخيرة هو فشل حكومة يوسف الشاهد في تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وهو ما أفقد التونسيين ثقتهم في الطبقة الحاكمة عموما، ودفعهم نحو البحث عن لاعبين يفضل أن يكونوا من خارج العائلات السياسية التي حكمت البلاد طيلة المرحلة السابقة. لهذا أقدم الناخبون سواء في الرئاسية أو في التشريعية على معاقبة المنظومة الحاكمة بمختلف مكوناتها، وإن كانت آثار هذه العقوبة قد اختلفت من حزب لآخر.

ثالثا : وفاة قايد السبسي الذي كان الراعي الأساسي لهذا التوافق، والذي سعى جاهدا للدفاع عن المنظومة السابقة. كان بحكم سنه وتجربته الطويلة الحلقة التي ربطت بين مختلف الأجيال، ونجح إلى حد ما في إنقاذ الجيل الذي عمل مع بورقيبة وحتى مع الرئيس بن علي، ومرر جزءا من مشروعه الخاص بالمصالحة الوطنية. لهذا خلف موته فراغا واسعا في البلاد، وتبين أنه من الصعب تعويضه بشخصية وازنة تتمتع بخبرته وتجربته الطويلة، وتحظى بتقدير جميع الأطراف بما ذلك خصومه.

في ضوء هذه المعطيات، جاءت الانتخابات التونسية لتقلب المشهد العام، حيث أزاحت أطرافا كانت في السلطة وكانت تطمح نحو البقاء والاستمرار في مسك خيوط اللعبة. في المقابل وفرت الانتخابات فرصة لصعود قوى أخرى، بعضها لم يكن موجودا، أو كان في حالة كمون. لهذا جاء البرلمان الجديد مختلفا عن البرلمان السابق اختلافا كاد أن يكون جذريا.

ملامح البرلمان الجديد

يتسم البرلمان الجديد بالتشتت وعدم الانسجام بين مكوناته. يقوده حزبان رئيسيان هما حركة النهضة من جهة التي تحتل المرتبة الأولى، يليها من حيث الترتيب والوزن ” حزب قلب تونس ” الذي تأسس على عجل قبل ثلاثة أشهر من انطلاق الحملة الانتخابية. مؤسسه هو صاحب قناة ” نسمة ” نبيل القروي الذي سطع نجمه في استطلاعات الرأي على إثر إعلانه دخول السباق الرئاسي بسبب الجمعية الخيرية التي تحمل اسم ابنه الذي مات في حادث مرور. وقامت هذه الجمعية بمساعدة الآلاف من التونسيين المقيمين في المناطق النائية من تونس، مستفيدا من ضعف الدولة وغيابها في معظم هذه الجهات. وتبين فيما بعد أن هذا العمل الخيري ليس سوى جزء أساسي من خطة سياسية ترمي إلى استعمال هؤلاء في الحملة الانتخابية بهدف الوصول إلى موقع رئاسة الجمهورية.

  ضم حزب “قلب تونس” عددا مهما من كوادر حزب نداء تونس المنحدرين من المنظومة القديمة السابقة لمرحلة الثورة، إلى جانب عناصر جديدة رأت في هذه المبادرة فرصة لإعادة التوازن مع حركة النهضة بعد انهيار ميزان القوى السابق. فحزب “قلب تونس” ليس سوى محاولة أخرى لإنقاذ المنظومة القديمة، وحماية الدولة العميقة.

إلى جانب هذين الحزبين، صعد تكتل جديد تحت عنوان “ائتلاف الكرامة ” الذي يضم عددا من الأشخاص والمجموعات التي رغم استناد بعض مكوناته على الأرضية الدينية وتمسك الائتلاف بشعارات الثورة، إلا أنه مستقل عن حركة النهضة ومختلف معها حول عديد المسائل والملفات منها ما هو جوهري ومنها الظرفي والتكتيكي. لكن مع هذا الاختلاف هناك أرضية مشتركة جعلت الكثير من المراقبين يعتبرون ” ائتلاف الكرامة ” تجمعا سياسيا يقف على يمين حركة النهضة.

أما التيار الديمقراطي الذي حصد 21 مقعدا فهو حزب مدني نشأ بعد الثورة، يختلف مع حركة النهضة حول السياسات العامة، ويتهمها بالخلط بين الدين والسياسة. ونظرا لكونه حزبا عرف بنظافته ويتمتع قائده المحامي محمد عبدو بقدر واسع من الاحترام فإن حركة النهضة تسعى بعد الانتخابات نحو محاولة إشراكه في الحكومة القادمة. كذلك الشأن بالنسبة لحركة الشعب ذات التوجه القومي الناصري التي لا تخفي خلافها التاريخي مع النهضة ضمن رؤيتها لحركة الإخوان المسلمين، خاصة بعد اغتيال محمد البراهمي وتوجيه أصابع الاتهام إليها من قبل زوجته وبقية مكونات الجبهة الشعبية. فاليسار والقوميون يتهمون حركة النهضة وزعيمها راشد الغنوشي بالضلوع في هذه الجريمة السياسية التي هزت البلاد بعد حادثة تصفية الزعيم اليساري شكري بلعيد، لكنهم لا يملكون الدليل القاطع لإثبات ذلك.

بالنسبة لبقية المشهد البرلماني يلاحظ تراجع حجم حزب ” تحيا تونس” الذي يقوده يوسف الشاهد، إلى جانب انهيار حزب نداء تونس الذي لم يبق له من تمثيل في البرلمان سوى مقعدين فقط بعد أن كان ممثلا ب 86 مقعدا. كما شهد البرلمان الجديد التحاق “الحزب الدستوري الحر” لأول مرة. ويعتبر ذلك حدثا لا يخلو من دلالة لأنه الحزب الوحيد الذي يعلن عدم إيمانه بالثورة، ويصر على كونه مواليا للرئيس بن علي الذي يرى فيه ” رئيسا وطنيا تم الانقلاب عليه بدعم قوى خارجية “. لكن الحزب فشل في الحصول على أغلبية المقاعد كما ادعت مؤسسته المحامية عبير موسى، وزعمت بكونها ستشكل الحكومة بمفردها وستعيد قادة النهضة إلى السجون، غير أنها عمليا لم تظفر إلا بنسبة ضئيلة من المقاعد لم تتجاوز خمسة عشر، وإن كان ذلك الحضور يعتبر هاما من الجانب الرمزي.

 أخيرا تعرض اليسار التونسي لزلزال ضخم حيث لم يبق له داخل البرلمان سوى شخصيتين ينتمي كل منهما إلى حزب مختلف عن الآخر، بعد خسارته لثلاثة عشر مقعدا. وتعتبر هذه الهزيمة الثقيلة لقوى اليسار دليلا آخر على العجز التاريخي الفادح الذي عانى منه طويلا هذا التيار الذي نشأ قبل قرن من الزمان، وواكب تأسيس الدولة، وأثر بنسب متفاوتة في ترسيخ الحداثة وشكل رافدا من روافد الحركة الإصلاحية التونسية ببعديها الاجتماعي والفكري.

حركة النهضة وتحدي تشكيل الحكومة  

في ضوء المعطيات السابقة، وجدت حركة النهضة نفسها أمام مهمة صعبة تتمثل في تشكيل حكومة في وقت قصير لا يتجاوز الشهرين حسبما ينص عليه الدستور. وبما أنها غير قادرة على تحقيق ذلك بمفردها نظرا لكونها لا تملك الأغلبية بالبرلمان، فهي مضطرة إلى التفاوض مع عدد من الأحزاب التي يمكن أن تتوافق معها على الحد الأدنى سياسيا واقتصاديا.

في البداية سارعت هذه الأحزاب نحو الإعلان عن كونها غير معنية بالمشاركة في حكومة تقودها حركة النهضة نظرا لاختلافها معها حول أكثر من مسألة جوهرية. ثم وضعتها أمام شروط صعبة. ويخشى أن يؤثر ذلك على الحكومة القادمة ويجعلها ضعيفة وهشة وبدون هوية سياسية واضحة، مما قد يجعلها عرضة للسقوط خلال أشهر قليلة.

من جهة أخرى خيم على البلاد احتمال أن تقود الاختلافات بين الأحزاب إلى التفكير في حل البرلمان المنتخب واللجوء إلى تنظيم انتخابات تشريعية سابقة لأوانها حسبما يقتضيه الدستور في حال عدم التوصل إلى تشكيل الحكومة ، مما يهدد بدخول البلاد في مرحلة تتسم بعدم الاستقرار السياسي والمؤسساتي.

الانتخابات الرئاسية وأزمة الديمقراطية التمثيلية

أزاحت الانتخابات الرئاسية من السباق 25 مرشحا من بينهم ثلاثة رؤساء حكومات ورئيس دولة سابق، إلى جانب فشل مسؤولين عن معظم الأحزاب الفاعلة في البلاد  بمن في ذلك مرشح حركة النهضة، وتم الإبقاء على اثنين فقط هما نبيل القروي وقيس سعيد.

أما الأول، فقد شككت أغلب الأحزاب الحاكمة وغيرها في مصداقيته نظرا لكون القضاء قد وجه له تهما عديدة من بينها تبييض الأموال والتهرب الضريبي،  وسارعت نحو صياغة مشروع قانون يهدف إلى منع توظيف العمل الخيري لتحقيق أغراض سياسية. وكان الهدف من ذلك القانون هو منع القروي من المشاركة في الانتخابات الرئاسية. ورغم أن هذا المشروع حظي بموافقة أغلبية نواب البرلمان، إلا أن الرئيس السبسي رفض التوقيع عليه قبل وفاته بحجة كونه قانونا إقصائيا يتعارض مع قواعد اللعبة الديمقراطية، ولهذا تم وضعه بعد انطلاق الحملة الانتخابية.

 تم اعتقال القروي رغم كونه مرشحا للرئاسة، وهو ما أثار اعتراض منظمات تونسية حقوقية وأحزاب محلية، إلى جانب هيئات دولية وحكومات غربية بذلك، وطالب جميعها بإطلاق سراحه وتمكينه من المشاركة في الانتخابات. وقبل أيام قليلة من يوم الاقتراع قررت محكمة التعقيب بطلان الإجراءات، فغادر السجن إلا أنه رغم ذلك مني بهزيمة قاسية أمام منافسه، خاصة بعد نشر وثيقة تفيد بلجوئه إلى شركة كندية مختصة في الدعاية السياسية، يديرها مستشار سابق لدى الموساد، وذلك بهدف مساعدته للوصول إلى منصب رئاسة الجمهورية، وتمكينه قبل الانتخابات التونسية من مقابلة كل من الرئيس الأمريكي ترامب والرئيس الروسي بوتين. وقد أدى نشر تلك الوثيقة إلى تحويل المعركة إلى صراع ضد الفساد ودفاع عن استقلالية القرار الوطني.

أما المرشح الثاني فهو الجامعي المتقاعد قيس سعيد والمختص في القانون الدستوري. شخص بعيد عن الأضواء، ليس له ماض سياسي، لم يعرفه الرأي العام إلا بعد الثورة عندما ظهر في وسائل الإعلام كمعقب على الأحداث الوطنية. لم ينتبه له الجميع عندما كان يتجول بين المدن، يتحاور مع الشباب، يستمع إلى آرائهم ومقترحاتهم. وعندما قرر الانخراط في السباق الرئاسي، لم يكن حريصا على الظهور الإعلامي، ولم يطلب أي سند مالي أو سياسي من أية جهة داخلية أو خارجية. لقد حافظ على غموضه وعلى نقاوته السياسية.

كان سعيد ينتقد النظام السياسي الذي تبنته تونس بعد الثورة والقائم على الديمقراطية التمثيلية. وركز بالخصوص على إخفاق الأحزاب في دفاعها عن مصالح الشعب، وتمسك بضرورة مراجعة القانون الانتخابي حتى يصبح الاقتراع على الأفراد وليس على القائمات سواء أكانت حزبية أو غيرها.

كما شدد على أن يكون القرار بيد الشعب، وأن يتم ذلك من خلال العودة إلى انتخابات أخرى لاختيار أعضاء مجالس محلية تنبثق عنها مجالس جهوية، وتختار هذه الأخيرة من بين أعضائها من يشكلون البرلمان المركزي. هؤلاء مطالبون بنقل مطالب الشعب وطرحها على السلطة التنفيذية من أجل تنفيذها. وكل من يخفق في الدفاع عن هذه المطالب أو يفشل في تجسيدها على أرض الواقع تسحب منه ما يسميه قيس سعيد ب ” الوكالة “.

لم يكتف قيس سعيد بنقد الأحزاب، ولم يتوقف عند محاولته التخفيف من هيمنتها على البرلمان، وإنما سيسعى أيضا إلى تغيير النظام السياسي الحالي بتحوله من نظام برلماني على نظام رئاسي. وذلك من خلال تمكين رئيس الدولة من صلاحيات إضافية تجعل منه صاحب القرار الأعلى مقارنة برئاسة الحكومة والبرلمان. ورغم أن الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي تمنى تغيير الدستور في اتجاه إقامة نظام الرئاسي إلا أن غالبية القوى السياسية متخوفة من حصول انتكاسة من شأنها أن تعيد الحكم القائم على الفرد القائد.

في البداية لم تأبه النخب في الداخل والخارج لهذا الجامعي المتمرد على الطبقة السياسية، واعتبره كثير من المثقفين والسياسيين رجلا حالما وطوباويا ورأوا في أفكاره ” نسخة من مشروع القذافي الخاص باللجان الشعبية “، لكن استطلاعات الرأي أبرزته بشكل واضح وأكدت أن شعبيته في تصاعد وذلك قبل أن يعلن ترشحه للانتخابات الرئاسية بفترة طويلة، بل وجعلته متقدما كثيرا عن بقية المرشحين. وجاءت النتائج لتؤكد بكونه الرئيس الجديد لتونس، متقدما على منافسه بنسبة عالية قاربت 73 بالمائة من أصوات الناخبين بعد أن صوت له قرابة الثلاثة ملايين ناخب، وهي نسبة عالية جدا فاقت بكثير ما حصل عليه الرئيس السابق المرحوم السبسي بفارق كبير وتجاوزت أيضا ما جمعه كل أعضاء البرلمان من أصوات سواء المنتمين إلى أحزاب أو مستقلين.

اعتبر هذا الإقبال  غير المسبوق على انتخاب قيس سعيد بمثابة ثورة جديدة وصفت بكونها ” ثورة الصندوق “. فالديمقراطية التونسية مكنت المواطنين من معاقبة الطبقة السياسية بمختلف مكوناتها سواء الحاكمة منها أو التي وجدت نفسها في المعارضة، كما وضعت على رأس الدولة شخصية مستقلة تتميز بالنظافة والصدق وعدم تورطه في لعبة الأحزاب ولم يتلوث بأجواء السلطة ومراكز القوى. فالرأي العام لم ينتخبه لوزنه السياسي بقدر ما اختاره للتعبير عن رفضه للفساد الذي استشرى بعد الثورة وزاد في إرهاق المواطنين اقتصاديا واجتماعيا.

تشكيل الحكومة : المأزق وما بعده

أكدت نتائج الانتخابات أن تونس في حاجة إلى نخبة حاكمة جديدة تكون نظيفة وغير فاسدة. فرفض معظم مكونات الأطراف الحزبية يؤكد أزمة هذه الأحزاب ونخبها. وما يخشى في حال عجزت حركة النهضة عن تكوين حكومتها الثالثة بعد الثورة أن يعلن رئيس الدولة الجديد عن حل البرلمان والتوجه نحو تنظيم انتخابات تشريعية سابقة لأوانها. وسيمثل ذلك نكسة للمسار الانتقالي، لأن إعادة الانتخابات في السياق الراهن، وبنفس قواعد اللعبة سيعيد فرز نفس الأطراف إلى الواجهة.

التوصل إلى صيغة توافقية حول تشكيل الحكومة مع حركة النهضة احتمال ليس مستبعدا كليا إلى حدود كتابة هذه الورقة. لكن الأهم من ذلك هو مدى قدرة الحكومة القادمة على معالجة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية القائمة. وهل أن الأحزاب، وفي مقدمتها حركة النهضة، تملك حلولا جذرية لتغيير الأوضاع ؟. هنا مربط الفرس، وإذا استمرت الأزمة كما هي عليه الآن سيعود الجدل من جديد حول ما يقترحه الرئيس سعيد ودعوته إلى تعديل النظام السياسي. فما هي السيناريوهات المحتملة للمرحلة القادمة، وما هي أبرز التحديات التي ستواجهها تونس في المستقبل القريب ؟.

التحديات السياسية والاقتصادية

تقف تونس في مفترق الطرق بعد ثماني سنوات من ثورتها، وذلك رغم نجاح شعبها في تنظيم انتخابات ديمقراطية ونزيهة إلى حد كبير. فبناء الديمقراطية في بلد كان محكوما بنظام مركزي مستبد ليس بالأمر الهين. لهذا تواجه الدولة حاليا صعوبات عديدة للتكيف مع مقتضيات التحولات السياسية الجارية بنسق سريع دون أن تتوفر الدعائم الضرورية التي من شأنها أن تضمن القدرة على إدارة الخلافات والمصالح بشكل فعال وسلمي.

تنقسم تحديات المرحلة القامة إلى ثلاثة أقسام:

الأول تحديات سياسية:

تشكيل حكومة ائتلافية ومدعومة بحزام برلماني وسياسي واسع. وأن تنجح هذه الحكومة في إقناع الرأي العام والدول ذات المصالح المشتركة مع تونس إلى جانب مؤسسات التمويل الدولية التي أصبحت فاعلة خلال هذه المرحلة أكثر من أي وقت مضى على استقرار الدولة وضمان توازناتها. وقد تتوصل حركة النهضة إلى تشكيل حكومتها بعد مفاوضات صعبة مع شركائها المحتملين، وبعد أن تضطر إلى تقديم تنازلات قد تكون مؤلمة بالنسبة لها، لكن هذه الحكومة ستكون عرضة للتهديد المتواصل من قبل مناوئيها أو حتى من داخلها نظرا للتناقضات التي تشقها، وهي تناقضات سياسية وفكرية. وما يخشى في هذا السياق أن تكون الحكومة الجديدة ضعيفة وهشة ومترددة في الإقدام على الإصلاحات العميقة والضرورية. وهي الإصلاحات التي تصر عليها مؤسسات التمويل الدولية. فإذا فقدت الحكومة قدرتها على الصمود فإن ذلك سيحرمها من إمكانية تحقيق مكاسب فعلية على الأرض. وهذا من شأنه أن يؤدي إلى احتمال سقوطها وبالتالي تعميق حالة عدم الاستقرار في تونس. أما في حال أن نجحت الحكومة في تحسين أوضاع التونسيين، وإنقاذ الدينار من مزيد الانزلاق، وتمكنت من التخفيف من ارتفاع الأسعار فإنها ستشيع مناخ الثقة، وتعيد الأمل لدى المواطنين في مستقبل أفضل. أما في حال الفشل فذلك سيدخل البلاد في مأزق خطير.

الثاني تحديات اقتصادية أهمها:

التصدي للأزمة الاقتصادية: يعتبر المشكل الاقتصادي التحدي الرئيسي خلال المرحلة المقبلة. وستكون المعضلة الأولى بعد تشكيل الحكومة النظر في الميزانية الجديدة لسنة 2020 التي تشكو عجزا يستوجب تعبئة قروض بقيمة 11248 مليون دينار (م د) منها 2400 م د اقتراض داخلي والبقية باللجوء إلى الاقتراض الخارجي.

ويتوقع أن يبلغ حجم الدين العمومي 74 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي نهاية السنة القادمة وهي أعلى نسبة تداين تبلغها تونس 70 بالمائة منذ حصولها على الاستقلال. ويعتقد الكثيرون بأن البلاد في حاجة إلى شخصية اقتصادية فعالة وذات نظرة ثاقبة لتقود الحكومة بوعي ودراية وحزم. وهذا يقتضي مراجعة الاختيارات والسياسات الاقتصادية التي تم اعتمادها قبل الثورة واستمرت إلى الآن، والبحث عن منوال تنموي جديد يحد من تفاقم نسب الفقر التي لا تزال عالية، ويشغل مئات الآلاف من العاطلين عن العمل من الشباب خاصة حاملي الشهادات الجامعية، ويقرب الفجوة بين المدن الساحلية وبقية أطراف البلد، ويستدرك الأوضاع الصعبة التي تمر بها الطبقة الوسطى التي كانت في تاريخ تونس المعاصر العمود الفقري للنظام الاجتماعي والسياسي للدولة. وهذا يتطلب وضع برنامج حكومي يتميز بالجرأة والواقعية، ويحظى بدعم جميع الأطراف المعنية خاصة النقابات ورجال الأعمال والمزارعين والتجار.

الثالث تحديات أمنية:

مواصلة التصدي للإرهاب: وهو تحد لا يمكن الاستهانة به رغم الإنجازات التي حققتها الأجهزة الأمنية خلال السنوات الأربعة الأخيرة. فبلد مثل تونس يستند اقتصاده على عدد من المرتكزات الأساسية من بينها السياحة لن يتمكن من حماية توازنه الاقتصادي إذا لم ينجح في القضاء على المخاطر التي تمثلها جماعات التطرف العنيف التي لا تزال تحتمي بالجبال والكهوف، والتي تعتمد أساسا على استراتيجية ما يسمى بالذئاب المنفردة.

في ضوء ما تقدم، تدل مؤشرات كثيرة على أن تونس مقدمة على مرحلة شديدة الصعوبة. فالتحديات الاقتصادية ضخمة، وإمكانات البلاد لا تزال ضعيفة ومحدودة وهو ما يجعلها عرضة للضغوط الخارجية. كما أن بنية الأحزاب هشة، ولم تتحول إلى جهة فاعلة ومتماسكة، وقادرة في الآن نفسه على أن تتحول إلى قوة اقتراح، وأن تصبح في وقت قريب مهيأة فعلا لإدارة شؤون البلاد والنهوض باقتصادها المتعثر. لا يعني ذلك أن تونس تسير نحو الأسوأ كما يعتقد البعض، فما يجري يؤكد أن ترسيخ الديمقراطية مسار طويل وصعب، ولكنه يبقى الخيار الأصوب لبناء مستقبل أفضل.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى