2019العدد 180المحاولات العربية لإرساء نماذج ديمقراطية

نموذج الديمقراطية السوداني وتحديات المرحلة الانتقالية

انتصرت الثورة السودانية لتحقق ولو مبدئيا نموذجا ديمقراطيا يُحتذى به، بعد أن نجحت بصورة دراماتيكية في تغيير نظام عسكري حكم لعقود انتصرت بأقل الأضرار وأكبر المكاسب ، والشرط هنا لتحقيق الانتصار الكامل للثورة، حتى يتحقق بالتالي النموذج الديمقراطي المنشود الذي يمكن أن يُحتذى به، هو نجاح هذه الثورة في تخطي التحديات الجسام التي تواجهها خلال المرحلة الانتقالية.

كان الشعب السوداني قد تحرك في التاسع عشر من ديسمبر/كانون الأول من عام 2018، وهو يوم ذكرى قبول البرلمان السوداني عام 1955 بالاستقلال عن دولتي الحكم الثنائي مصر والسودان، منطلقا من مدينة عطبرة، مطالبا بتوفير الخبز والوقود والسيولة المالية سواء كرواتب للموظفين، أو للحصول على المدخرات البنكية، لكن سرعان ما تحولت هذه المطالب الاقتصادية إلى مطالب سياسية، تنادي بتغيير النظام السياسي، والمطالبة بنهاية حكم الإنقاذ.

وقد اتسم الحراك الاحتجاجي، بطابع شعبي عام، ومشاركة أطياف واسعة من المعادلة السياسية السودانية.

وفي الحادي عشر من أبريل/نيسان من عام 2019، تمكن هذا الشعب من إسقاط النظام الحاكم الذي تربع على الحكم لمدة ثلاثين عاما.

وكان من أهم أسباب امتداد فترة الحراك الشعبي، يرجع إلى وزن الحركة الإسلامية السودانية، وطبيعة وجودها في مفاصل الدولة، الأمر الذي كان له دور كبير في تحجيم تأثير الحراك الاحتجاجي لصالح تغيير سياسي فوري، يضاف إلى ذلك أن النُخب السياسية الحاكمة عبر ثلاثين عامًا كانت مدانة بممارسات متشددة على المستوى السياسي والديني، بجانب فساد مالي كبير، كما أن طول مدة حكم الإنقاذ جعل هذه القيادات تشعر بثقة كبيرة في قدرتها على احتواء هذه الحركات الاحتجاجية، كما حدث في احتجاجات سابقة تمت في عام 2013.

فتمرست هذه القيادات في السلطة خشية المحاسبة من جانب باقي القوى السياسية السودانية في حالة نجاح الحراك في إزاحة نظام الإنقاذ الحاكم، بجانب خوف النظام المفرط من الإدانة لتجربة حكم الإسلام السياسي، خاصة أن هذا النظام قد أتيحت له فرصة غير مسبوقة ليحكم لمدة ثلاثين عامًا.

وبالرغم من كل ذلك، تمكن الحراك الشعبي من إسقاط النظام، وكان من أهم أسباب نجاح الحراك في إسقاط النظام، أن هذه الثورة كانت موضع شبه إجماع شعبي كبير جدًا، كما أنها كانت ثورة سودانية بحتة، انطلقت من أرضية الفساد والجوع والحرمان، في مواجهة نظام ديكتاتوري انفصل عن الشعب، وهي أيضا ثورة سلمية لم تسمح لأي تدخل خارجي فيها سواء كان إقليميًا أو دوليًا، يضاف لذلك أن الحراك الجزائري الحضاري، قد نجح في الإطاحة بحكم عبدالعزيز بوتفليقة مما أعطى زخمًا قويًا لنظيره السوداني، وفي نفس الوقت انحاز الجيش السوداني للمتظاهرين، ومنع قوات الأمن من استخدام القوة ضدهم.

كما أن الدرس الذي تلقاه حلف الناتو من تدخله في ليبيا جعله لم يتدخل عسكريًا لنصرة الحراك السوداني، وكان لهذا أثر إيجابي لصالح الثورة، وهنا يمكن القول “يحسب للشعب السوداني أنه طوال فترة الحراك والتي امتدت إلى مائة واثني عشر يومًا، حتى إسقاط النظام قد مارس خلالها كافة وسائل وأشكال الاحتجاجات والنضال السلمي من التظاهر والإضراب والاعتصام والعصيان المدني، في مواجهة كافة أشكال العنف بل والعنف المفرط الذي مارسه النظام والذي وصل حد القتل”.

سقط البشير، فأراد نائبه ووزير دفاعه أن يتمثله ليستمر النظام، فعاد الحراك سريعا لتتم إزاحته في اليوم التالي مباشرة، ويضطر الجيش إلى تشكيل مجلس عسكري مؤقت.

وحين تلكأ المجلس العسكري المؤقت في تنفيذ مطالب الثورة والتي تمحورت في مطلب رئيسي وهو سرعة التحول والانتقال إلى الحكم المدني خوفا من انقلاب مضاد، إذا لم يتم التوصل مع المجلس العسكري المؤقت إلى اتفاق بشأن انتقال إدارة البلاد إلى المدنيين، عاد الشعب السوداني تحت قيادة ما عُرف في وقتها باسم إعلان الحرية والتغيير، وهو يتكون من تجمع للمهنيين، يضم سبع عشرة نقابة، بما فيها أساتذة الجامعات وهو عبارة عن تنظيم معبر عن جيل الوسط السوداني، بجانب الجبهة الثورية السودانية التي تضم عددًا من الحركات المسلحة من عدة أقاليم، وتضم أيضًا عددًا من ممثلي الأحزاب السياسية، وتنظيمات للمجتمع المدني، ويضم إعلان الحرية والتغيير أيضا تحالف قوى الإجماع الوطني، وكذلك قوى نداء السودان والذي يتميز بأنه يضم الحركات والأحزاب ذات الأيديولوجيات المختلفة من إسلامية ويمينية ويسارية وقومية وشيوعية وغيرها، ويضم الإعلان أيضًا التجمع الاتحادي المعارض، وبمعنى أكثر وضوحًا فإن إعلان الحرية والتغيير كان الممثل الحقيقي لكافة طوائف وفئات وأيديولوجيات الشعب السوداني، لذلك اضطر المجلس العسكري المؤقت أن يعترف بأن إعلان الحرية والتغيير هو الممثل للشعب السوداني، ومن هنا أيضًا كانت قوته أمام المجلس العسكري المؤقت.

وبهذا التلكؤ من جانب المجلس العسكري المؤقت عاد الشعب السوداني لخوض نضاله مرة ثانية، عن طريق الاجتماعات والتفاوض مع المجلس العسكري، وحين كانت تفشل هذه الاجتماعات والمفاوضات كان يعود الشعب السوداني إلى وسائل النضال السلمي، التي اعتاد عليها وسبق أن مكنته من إسقاط نظام الإنقاذ وهي التظاهر والإضراب والاعتصام والعصيان المدني.

لذلك استقرت الجماهير في اعتصام دائم حول مقر القيادة العامة للقوات المسلحة السودانية، واستمرت في ذلك حتى اقتحمت قوات الدعم السريع التي يقودها نائب رئيس المجلس العسكري المؤقت مقر الاعتصام في محاولة لتفريق المعتصمين بالقوة، مستعملاً كافة وسائل العنف مما تسبب في مقتل أكثر من مائة من المتظاهرين وجرح مئات أخرى، واستمرت الأمور تتأرجح بين الشد والجذب بين الشعب السوداني ممثلاً في قوى الحرية والتغيير وبين المجلس العسكري المؤقت، حتى تمكن الشعب من فرض إرادته في أغسطس بالتوقيع على إعلان دستوري بعد أكثر من ثمانية أشهر من الحراك الشعبي، هذا الإعلان أو الوثيقة الدستورية التي ألغت العمل بدستور السودان الانتقالي لعام 2005 وكذلك دساتير الولايات، واعتبرت السودان جمهورية مستقلة ذات سيادة، ديمقراطية، برلمانية، تعددية …. إلخ، وكذلك نصت على أسس الانتقال إلى الحكم المدني، وآليات تقاسم السلطة بين المجلس العسكري المؤقت وبين المدنيين، والاتفاق على مرحلة انتقالية تستمر 39 شهرًا على أن تُجرى الانتخابات في نهايتها، وأن أجهزة الحكم الانتقالي هي:

  1. مجلس للسيادة مكون من 11 عضوًا، ستة مدنيين، وخمسة عسكريين، وتتولى شخصية عسكرية رئاسته لمدة الـ 21 شهرًا الأولى، ثم تترأسه شخصية مدنية يتفق عليها من الطرفين لمدة الـ 18 شهرًا الباقية من المرحلة الانتقالية.
  2. مجلس للوزراء يتكون من كفاءات وطنية، على أن تشكله قوى الحرية والتغيير، بشرط أن تُمثل به كل أقاليم السودان، لمعالجة مشكلة المركز والأطراف، تلك المشكلة المزمنة تاريخيًا في معظم الحكومات السودانية السابقة، مع ضمان تمثيل النساء بشكل مناسب (تم تعيين أول سيدة وزيرا للخارجية، وأيضا تم تعيين سيدة على رأس السلطة القضائية).
  3. مجلس تشريعي اتفق على تأجيل تشكيله لما بعد تشكيل مجلس السيادة ومجلس الوزراء.

وبالمتابعة الدقيقة لأحداث ثورة الشعب السوداني نجد أنه منذ سقوط البشير وتابعه بن عوف، وتشكيل المجلس العسكري المؤقت وحتى توقيع الوثيقة الدستورية وتشكيل كل من المجلس السيادي ومجلس الوزراء كان الشعب السوداني مثالا للتحضر والرقي سواء في تظاهره أو إضرابه أو اعتصامه أو حتى عصيانه المدني.

وكان الملفت للنظر هو الدور المحوري الذي لعبته المرأة السودانية، رغم ذلك المجتمع المحافظ الذي جذره حكم الإنقاذ لمدة ثلاثين عامًا، فمنذ توليهم السلطة تم وضع العديد من القوانين التمييزية للحد من مشاركة المرأة في الشأن العام وحصرها في المجال الخاص ومجال الأسرة والتحكم بحياتها وجسدها، ففجرت الثورة فيهن كل عذابات السنين، فكانت المرأة تقف على خط المواجهة الأمامي، يدا بيد مع الرجال خاصة في ساحة اعتصام القيادة العامة، يصددن هجوم المليشيات، يعددن الطعام، يعالجن الجرحى والمرضى ويخططن لاستمرار المقاومة حتى أطلق البعض أن ثورة السودان هي ثورة النساء بامتياز.

إذا كان الشعب السوداني قد نجح في اقتلاع نظام الإنقاذ بثورته السلمية، فإن هذا الشعب يتطلع إلى نجاح حكومته الانتقالية في اجتياز التحديات التي يدرك الجميع مدى جسامتها وذلك حتى يمكن الوصول إلى دولة مدنية تتمكن من حل الأزمات والكوارث التي خلفها نظام الإنقاذ، وليصبح أيضا السودان فعلاً نموذجًا للديمقراطية التي يمكن أن تتطلع إليها الشعوب.

وقد وصلت الأمور في السنوات الأخيرة من حكم الإنقاذ إلى تردٍ كبير في الأوضاع المعيشية للشعب، بل إن السنة الأخيرة تحول ثالوث الخبز، الوقود، السيولة النقدية إلى كابوس أقلق مضاجع الناس، وهذه كانت أعلى تجليات الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي مر بها السودان، ومن هنا يمكن القول بأن التحدي الأول الذي يواجه الحكومة الانتقالية بل والتحدي الأبرز هو التحدي الاقتصادي والذي يتلخص الحل لمواجهته في تحول كمي في بنية الاقتصاد السوداني، من اقتصاد ريعي طفيلي يقوم على العطايا والجبايات والمضاربات السوقية إلى اقتصاد تنموي إنتاجي يعتمد بشكل أساسي على الأعمال الإنتاجية والخدمية، وبالتالي يتطلب ذلك توفير المدخلات الإنتاجية ووضع سياسات وإجراءات اقتصادية تشمل كل القطاعات الاقتصادية، وأن ذلك يتطلب ثمانية مليارات من الدولارات في رأي معظم الخبراء الاقتصاديين وهنا يمكن أن يصل الاقتصاد السوداني إلى تحسين ظروف الحياة المعيشية للشعب والقضاء على الفقر المدقع الذي يعيشه معظم السودانيين.

وبالإضافة للحل الاقتصادي الذي سبق ذكره، فإنه حتى يمكن للحكومة الانتقالية التغلب على هذا التحدي الاقتصادي الضخم فإن الأمر يتطلب ضرورة إنهاء الحروب الداخلية وبناء سلام دائم يمكن المواطنين في مناطق الإنتاج من مزاولة نشاطهم الإنتاجي دون خوف أو حاجز، وهو ما يمكننا أن نطلق عليه التحدي الثاني أو تحدي السلام الداخلي، فنتيجة لاستيلاء عمر البشير على حكم السودان، بالتآمر مع حسن الترابي، زعيم الجبهة القومية الإسلامية، وهي أحد أفرع تنظيم الإخوان المسلمين منقلبا على الحكومة الديمقراطية المنتخبة برئاسة الصادق المهدي عام 1989، ونتيجة للتميز العنصري والديني والقبلي والمناطقي الذي مارسته حكومات الإنقاذ المتعاقبة، وأيضًا نتيجة لانتشار الفساد بشكل منهجي كبير، بالإضافة لعادة سودانية متأصلة في تهميش الأطراف لصالح المركز، ظهرت في البلاد حركات متمردة من بينها منشقون دأبوا على تأسيس أجنحة مسلحة، ومنها حركات تحولت إلى أحزاب مسلحة حاربت هذه الحركات حكومة الخرطوم لسنوات طويلة، وبالتالي انتشرت حالة الاحتراب التي طالت معظم الأقاليم، وراح جراء ذلك الكثير من الضحايا من الجانبين، بالإضافة إلى الخسائر الاقتصادية الكبيرة، وكان أحد أهم نتائج ذلك انفصال الجنوب الذي أفقد السودان أهم موارده النفطية وذلك بعد أن اعتبرت حكومة الإنقاذ الإسلامية ” أن القتال في الجنوب جهاد إسلامي للدفاع عن الثغور ضد حركات التمرد التي تستند إلى القوى المعادية للمشروع الإسلامي لحكومة الإنقاذ”.

والمثال الصارخ الثاني هو إقليم دارفور والذي يشهد نزاعًا مسلحًا بين القوات الحكومية وحركات متمردة أودت بحياة حوالي 300 ألف شخص، وتشريد نحو 2.5 مليون آخرين، وفقا لإحصائيات الأمم المتحدة، وذلك بعد أن حاول نظام الإنقاذ أن يخترق النسيج الاجتماعي في دارفور لصالح أيديولوجيته الإسلامية، وتعامل مع القبائل من منطق الموالاة للنظام من عدمها، إذًا فالتحدي الذي تواجهه الحكومة الانتقالية هنا هو تحقيق السلام العادل الشامل الذي يخاطب جذور المشكلة السودانية، ويعالج آثار الحروب وبواعث التهميش، مع بذل كل الجهود لإحلال السلام بالتضافر بين الحكومة الانتقالية وكل هذه الحركات المسلحة أو المتمردة على أن يكون ذلك بموقف تفاوضي واحد، وبوفد مشترك واعتماد التشاور وتوحيد المواقف السياسية تجاه كل القضايا الوطنية حتى يمكن أن تصل السودان إلى مرحلة وقف كل مظاهر الحرب والعدائيات لتحل محلها مظاهر الأمن والاستقرار.

نتيجة لممارسات حكومات الإنقاذ المتعاقبة، ونتيجة لعلاقات أقامتها ووثقتها تلك الحكومات مع تنظيمات وعناصر إرهابية حتى وصُفت الخرطوم في تسعينات القرن الماضي بأنها قبلة لكل التيارات المتطرفة وأيضا نتيجة لما مارسته في مناطق وأقاليم داخل البلاد من ممارسات إرهابية مثل دارفور وغيرها، فقد أُدرجت السودان على القائمة السوداء كدولة داعمة وراعية للإرهاب، بل أصبح الرئيس السوداني نفسه مطلوبا للمحاكمة أمام المحكمة الجنائية الدولية، فدخل السودان في عزلة دولية قاسية، ومن هنا أصبحت الحكومة الانتقالية بعد الثورة، مواجهةً بتحدي العمل على رفع اسم السودان من قائمة الإرهاب، حتى يمكن أن تتدفق الأموال والتحويلات للاستثمار، مما يصب في صالح النمو الاقتصادي، هذا وقد ترتب على إدراج السودان على قائمة الإرهاب، أن فرضت عليها عقوبات اقتصادية، شلت الاقتصاد وهو ما يتطلب من الحكومة الجديدة ضرورة العمل على رفع هذه العقوبات، والتي تحتاج إلى عام على الأقل من العمل الدؤوب طبقًا لما قاله رئيس الحكومة الانتقالية.

من هنا صار التحدي الأهم لمعالجة مظاهر الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تمر بها البلاد، وكذلك رفع العقوبات الاقتصادية، يتمثل في إعادة بناء الصورة الذهنية للسودان بشكل عام من دولة راعية وداعمة للإرهاب ومفروض عليها عقوبات اقتصادية، وترزح تحت حكم جماعة متشددة متطرفة إلى دولة ديمقراطية تعددية، تقوم على أساس المواطنة، تسعى إلى بناء علاقات خارجية متوازنة تقوم على أساس الاستقلال والمصالح المشتركة بعيدًا عن العنف والإرهاب، والتدخل في شئون الغير.

ويرى الثوار والمفكرون والسياسيون السودانيون وغيرهم أن الثورة لن تكتمل وتنجح ويقطف الشعب ثمارها دون تمكين الحكومة الانتقالية من تفكيك الدولة العميقة والموازية التي صنعها ويهيمن عليها الإسلاميون، هذه الدولة التي وجدت في كل جهاز وموقع ومارست الترهيب والتعذيب وكرست سياسة الإقصاء والإبعاد والتعسف، واستنزاف ميزانية وأموال الدولة، وشرعنت للفساد وأدخلت البلاد في دوامة الفقر والتخلف وذلك من خلال إنشاء قوات أمنية متعددة وميليشيات ظل، حتى أنهم أسسوا الجيش ومؤسسات الدولة الأخرى على هذا النمط، ومكنوا المطلعين على أسرار النظام من السيطرة على القطاعات والشركات الرئيسية في الاقتصاد، فقد صنعت حكومات الإنقاذ سوقها الموازي من شركاتها وبنوكها ورجال أعمالها كما صنعت بجانب المنظمات الحكومية القائمة والوزارات منظمات أخرى، وهيئات ومؤسسات كتلك التي في الدولة لتعمل ذات عملها.

وبالتالي فإن هذه الدولة العميقة والموازية هي التي صنعت طبقة الأثرياء فجأة دون ممارسة عمل منتج وتركت الشعب يتسول ثمن الغذاء والدواء.

إذا كانت التحديات الكبرى سواء الأزمة الاقتصادية أو رفع اسم السودان من قوائم الإرهاب لإمكان رفع العقوبات الاقتصادية وكذلك سرعة التخلص من الدولة العميقة والموازية وتغير الصورة الذهنية عن السودان التي صنعتها حكومات الإنقاذ، فإنه ونتيجة للخوف من ارتدادات التعبير عن الحرية الزائدة التي قد تتجاوز الحد المعقول فتنقلب الأمور رأسًا على عقب، فإن البلدان التي مرت بتجارب من الظلم جراء حكم الأنظمة القمعية المماثلة، طبقت نظام العدالة الانتقالية لتجنيب البلاد هذه الارتدادات وهي عبارة عن حزمة من الترتيبات تشمل الشق القانوني والاجتماعي والنفسي والمالي بجانب تحديد الظلم كممارسة وليس كأفراد أو جماعات وهو ما تسعى الحكومة الانتقالية لتطبيقه.

أيضًا تواجه دبلوماسية الحكومة الانتقالية الجديدة اختبارًا شديد التعقيد حول كيفية التعامل مع قضية المحاور الإقليمية في السياسة الخارجية واتباع سياسة أكثر استقلالية في العلاقات الدولية، وتغيير السياسات التي كانت متبعة في عهد نظام الإنقاذ فقد أعلن رئيس الحكومة الانتقالية بأن حكومته ستنتهج سياسة النأي بالنفس والبعد عن المحاور والاستقطابات في المنطقة، وتحرص على مراعاة احترام الآخر وحسن الجوار في علاقتها الخارجية، من هنا فوجود قوات سودانية خارج البلاد يمثل أحد التحديات الهامة التي تواجه الحكومة وكذلك الانخراط فيما يسمى القوى العسكرية الأمريكية بأفريقيا المعروفة باسم “افريكوم”.

ويتبقى أمام الحكومة الجديدة إشكالية اتفاق سبق للبشير وحكومة الإنقاذ أن أبرماه مع تركيا فيما يتعلق بإقامة قاعدة تركية بجزيرة سواكن على شاطئ البحر الأحمر، في إطار محور (قطر- تركيا- التنظيم الدولي للإخوان المسلمين) مما قد يصطدم بالوثيقة الدستورية التي تؤكد على استمرار الاتفاقات والتفاهمات الدولية، بما فيها الأحلاف السياسية والعسكرية.

وقد ظهر بشكل واضح تصميم الحكومة الجديدة، على العبور بالسودان إلى عالم جديد حيث أكد “عبدالله حمدوك” رئيس الوزراء أننا نرسل للعالم رسالة تبشر بالسلام والتغيير، وأننا ثورنا من أجل سودان ديمقراطي يحترم حقوق الإنسان والحكم الرشيد، لذا كانت كلمته في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة الأخيرة خير معبر عن ما يتمنى الشعب السوداني تحقيقه والحصول عليه من ثورته، فالشعب السوداني يمضي بخطى واثقة وثابتة في طريقه نحو المستقبل صديقًا وشريكًا مع كل شعوب العالم المحبة للسلام، وهو يبدأ حقبة جديدة ومختلفة عن نهج الأعوام الثلاثين الماضية في علاقة السودان مع دول العالم من خلال الالتزام بكافة المواثيق والعهود الدولية والدبلوماسية لحسن الجوار واحترام المبادئ الأساسية للصداقة والتعاون بين الشعوب.

إذًا إذا ما تحقق بالفعل كل ذلك من تخطي هذه التحديات الجسام خلال المرحلة الانتقالية وبالتالي تم إجراء الانتخابات النزيهة والشفافة في نهايتها فإننا سنكون بالفعل أمام سودان جديد يحقق أحد النماذج الديمقراطية التي يمكن أن يُحتذى بها خاصة إذا ما تحقق بالفعل تطبيق الفصل الخاص بالحقوق والحريات من الوثيقة الدستورية التي تشدد على حماية الحريات الشخصية للمواطنين وحقوقهم في الحرية والأمان واحترام كرامتهم الإنسانية وعدم توقيفهم عشوائيًا أو إخضاعهم للتعذيب أو لمعاملة قاسية أو مهينة، كما تؤكد الوثيقة على ضمان حرية المعتقد، وحرية التعبير ونشر المعلومات وحرية التجمع والتنظيم والمشاركة السياسية، وحقوق المرأة والمساواة بين الرجل والمرأة.

كل ما تقدم كان فيما يختص بالسودان كبلد عانى من نظام جَثمت الأيديولوجيات المتطرفة على صدره وأعاقت تنميته ودمرت مكاسبه عقودًا من الزمن، ومارس أساليب الإقصاء والإبعاد وشن الحروب في جسد السودان وحصد الفشل الذريع في التعاطي مع القضايا الدولية حتى استطاع الشعب بثورته السلمية من  التخلص منه.

أما على المستوى الإقليمي والدولي فإن ما حدث بالسودان وأيضا ما يحدث بالجزائر الآن، سوف يُلقي بتأثيراته على الاستقرار والأمن الإقليمي بل والأمن الأوروبي بحكم تداخل قضايا الإرهاب واللاجئين والهجرة غير النظامية وشبكات الإجرام المنظم.

اظهر المزيد

عصام عاشور

كــاتب وبـــاحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى